الفصل السادس

منهج العلوم الرياضية

رأينا في الفصل السابق أن العلوم الرياضية الأساسية (الهندسة والميكانيكا والحساب) قد عملت تدريجيًّا خلال تأريخها على تحديد موضوعها بدقة. فأصبح تركيبها يتَّسِم بانضباط يتزايد دون انقطاع، وهي تُعد اليوم بحق، بناء محكمًا إلى حدٍّ بعيد، ومما له أهميته، حتى من وجهة نظر الفيلسوف، أن نفحص سبب هذا الإحكام، وأن نتبين بوضوح دقة تسلسل التفكير الرياضي.

ولقد حدث بالفعل، منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، أن أخَذ كثير من الرياضيين على عاتقهم مهمة القيام بتحليل نظري لذلك العلم بعد نشأته. ففكروا في مبادئ علمهم، أي في البديهيات والمعاني التي تعد أساسًا للرياضيات. ولفكرة البديهية axiome معنى حديث مختلف عن المعنى التقليدي لهذه الكلمة كل الاختلاف فالمبادئ تكون مشروعةً في نظر التفكير الرياضي الحديث إذا كانت تسمح بتشييد علمٍ متماسِك منتج، لا لأنها تنطوي في ذاتها على بداهة مطلقة.
والاستدلال الرياضي دقيق منتج، وهو في أساسه تعميمي كما أثبت ذلك بوانكاريه، متخذًا من الاستدلال الترديدي Par recurrence نموذجًا للاستدلال الرياضي، ويؤدي كل من الحدس والتفكير الشكلي إلى تزويد العلوم الرياضية بقدرة هائلة على التعميم.

وفي نهاية الفصل ندرس الهندسات غير الإقليدية، وامتدادات فكرة العدد.

أولًا: المبادئ

(١) فكرة المبدأ. ميَّز إقليدس في المبادئ بين البديهيَّات والمصادرات والتعريفات

إذ قُلنا إن الاستدلال الرياضي يتكوَّن من استنباطات دقيقة، وإنه هو الاستدلال الاستنباطي على الحقيقة، ففي قولنا هذا تكرار لصفةٍ أوضح من أن تستحِقَّ مزيدًا من التأكيد، حتى بالنسبة إلى أبسط أنواع التعليم. فصحة النظرية الرياضية تتوقَّف على صحة الفروض، على أن تكون قواعد الاستنباط قد طُبقت، بطبيعة الحال، تطبيقًا صحيحًا. ولكي تصدُق هذه الفروض يجب أن يكون قد سبق البرهنة عليها، وهكذا دواليك. غير أننا لا نستطيع أن نتابع هذه الحركة الراجعة إلى ما لا نهاية، متعقبين سلسلة البراهين في الاتجاه العكسي. فليس ثمة استدلال دون معطيات أولية. ونقطة البداية هنا قضايا ليست نتائج لأي برهان، وتُسمى هذه القضايا الأولية بالمبادئ — وهي تستخدم أساسًا لبراهين النظريات الرياضية — ويميز إقليدس، في هذه المبادئ بين البديهيات والمصادرات والتعريفات. فلنتساءل إذن إن كانت كل هذه القضايا الأولية لها قيمة واحدة من حيث البداهة.

(٢) البديهيات (Axiomes)

كثيرًا ما نرى البديهية تُعرَّف بأنها قضية بلغت في ذاتها حدًّا من البداهة يجعلنا نعجز عن الاهتداء إلى قضايا أشدَّ بداهةً منها ليبرهَن بها عليها. ولقد اشترط «باسكال» للبديهيات أن تفي بهذه القاعدة «يجب ألا نتطلَّب من البديهيات سوى أمورٍ واضحة بذاتها كل الوضوح.» وأضاف، تبعًا لذلك، أنه «ليس علينا أن نحاول البرهنة على الأمور التي تبلغ بذاتها حدًّا من الوضوح يستحيل معه على المرء أن يجد ما هو أوضح منها ليبرهن به عليها.»

وإليك أمثلة لهذه القضايا: المقداران المساويان لمقدار ثالث متساويان. الكل أكبر من الجزء.

فنحن نجد في هذه القضايا مبادئ واضحة وضوحًا مطلقًا، وتصلح لكل الاستدلالات والتجارب.

(٣) الصادرات: Postulats

غير أن هناك قضايا أخرى لا يبرهن عليها، وتُتخذ بدورها أسسًا للرياضة، وذلك إلى جانب البديهيات التي تتصف بالوضوح التام، وتلك الأسس الأخرى تُسمى بالمصادرات، ومن أمثلتها مصادرة إقليدس المشهورة: لا يمكن أن يُمَدَّ من نقطة خارج مستقيم إلا خط واحد وواحد فقط، مواز لهذا المستقيم، ولقد حدث كثيرًا خلال التاريخ أن حاول بعضهم «البرهنة» على هذه القضية، أعني أن يجعل منها نظريةً تُستنبط من نظريات أخرى أو من بديهيات واضحة بذاتها ولكن لم ينجح أحد من الإتيان بمثل هذا البرهان.

ومع هذا فلو لم «يسلم» المرء بهذه القضية، لتوقفت الهندسة الإقليدية عن المسير، ولهذا طالَبَنا إقليدس بأن نُسلِّم بها. فهي إحدى «مَطالبه». فالمصادرة إذن «مطلب» يتقدم به العالِم الرياضي، كما يدل على ذلك أصلها الاشتقاقي، (يُطالب = postulare) فالرياضي يقول «سلِّموا لي بنقطة البداية هذه، وسوف يُضطر ذهنكم طوال الاستدلال إلى قبول ما أستنبطه منها.» ويبدو، كما نبَّه إلى ذلك العالِم الرياضي فردينان جونست Ferdinand Gonseth أن في ذلك مظهرًا من مظاهر العجز بالنسبة إلى الفكر الدقيق. فإذا كنا نستطيع البرهنة على شيء، فلن نقول أبدًا إنه من الواجب علينا التسليم به. فضرورة القبول تعادل استحالة البرهنة.١
فلنقر إذن بأن المصادرات المختلفة تُقدَّم في العلوم الرياضية بوصفها فروضًا. ومع ذلك ينبغي ألا تُشبَّه هذه الفروض بفروض العلوم الطبيعية التي تخضع دائمًا للتحقيق «التجريبي». فالفروض الرياضية هي الأساس الذي يبدأ من بعده التفكير الرياضي في القيام بمهمة الاستنباط. وإذن يجب علينا القول بأن العلوم الرياضية فرضية استنباطية hypothético déductives. وسوف نرى فيما بعد أن العلوم الرياضية إذا كانت فرضيةً استنباطية فليس ذلك دليلًا على نقصانٍ في قيمتها؛ بل هو بعكس ذلك الشروط الأساسية لاتساقها ولتنوعها الخصب.

(٤) النظرة الحديثة إلى فكرة «البديهية»

ولكن يجب علينا الآن أن نلحَّ في بيان مسألة فلسفية خاصة جدًّا تقوم الرياضة على أساسها. فقد رأينا من قبلُ أن بين البديهية والمصادرة اختلافًا كبيرًا في «الطبيعة». ولكن عندما يشرع الرياضي في استخدام هذه المبادئ في البرهنة على مختلف النظريات، متبعًا قواعد الاستنباط، فإنه لا يُشير إلى هذا التمييز بين طبيعتي المصادرات والبديهيات. فالمصادرة، وإن كانت تُفرض على ذهننا بوضوح مطلق، فإنها تؤدي دور «نقطة البداية المطلقة» بمثل اليقين الذي تؤدِّيه به البديهية. ويبلغ الأمر في ذلك حدًّا يجعل من الممكن البدء، في نظريات معينة، بمصادرات تصدم الحدس الساذج لأول وهلةٍ. وسوف نورد في هذا الفصل مثلًا لمصادرة كهذه، تصدم الحدس. ولكن، متى سلَّمنا بالمصادرة يجب اتخاذها أساسًا مؤكدًا: أي أننا نستخدِمها تمامًا كما لو كانت قضية بديهية في ذاتها. وبالاختصار، فالبديهيات والمصادرات تؤدي نفس الدور بعينه، وعلى أساس هذا الدور تبني نظريةً للبديهيات والمصادرات.

وما دامت المصادرات والبديهيات تؤدي نفس الدور، فلِمَ نتمسَّك إذن بتفرقةٍ لا تأثير لها البتة في تركيب النظريات الرياضية؟ إن التفكير الرياضي الحديث يرى أن نقطة البدء تكون مشروعةً إذا كانت تتيح لنا تشييد علم متسق منتج، لا إذا كانت تنطوي في ذاتها على بداهة مطلقة. وإذن فلماذا نحتفظ بكلمتَين لكي نُشير بهما إلى قضايا تؤدي عملها بطريقةٍ واحدة؟ الواقع أن اسم «البديهية» هو الذي يُستخدَم عادة، حتى لو كنا إزاء إحدى المصادرات تبعًا للنظرة القديمة. وكما لاحظ بوليجان Bauligand فاستخدام لفظ البديهية يتَّجِه إلى أن يفرض نفسه، وذلك عن طريق مجموعة من الألفاظ المشتقة منه، مثل نسق البديهيات axiomatique، ووضع البديهيات axiomatisation، وتكوين البديهيات axiomatiser، وهي كلها كلمات لا نجد لها مقابلًا إذا بدأنا بكلمة المصادرة.٢
ولكن إذا كانت التسمية تنطوي على قدْر من الغموض، فإن المعنى الذي يُضفيه الفكر الحديث على فكرة البديهية لم يعد حوله ظل من الشك. فليس المهم أن تكون القضية التي نُسميها بديهية واضحة بذاتها أو لا تكون؛ بل سيظل أستاذ الرياضة يستخدم في محاضراته كلمة البديهية، دون أن يتجاوز مطلقًا معنى القضية المبدئية التي لا يقوم عليها أي برهان، والتي تمكن من البرهنة على قضايا أخرى، ولن يشير الرياضي إلى أية بداهة كامنة في تلك القضية. وأقصى ما سوف يحدث، هو أنه لو كتب مقالًا موجهًا إلى الفلاسفة. فسيشعر بأن من واجبه أن يُذيِّل الصفحة بهامش يقول فيه: «لسنا في حاجة إلى أن نُذكِّر القارئ بأنه ليس ثمة أي عنصر مشترك بين هذا المعنى لكلمة البديهية، وبين المعنى التقليدي، أعني معنى الحقيقة الواضحة.»٣

ولقد أطلنا الحديث عن هذا التغير الذي طرأ على معنى كلمة البديهية لأنه يلقي ضوءًا على صفة مميزة للتفكير الرياضي الحديث، فقد استبدلت بالأبحاث الدائرة حول طبيعة الفكرة، أبحاث حول «وظيفة» أو دور هذه الفكرة، وذلك تغيير هام في وجهة النظر يمكننا أن نجد له في فلسفة الرياضيات أمثلةً أخرى متعددة.

ولكن إذا لم يكن يتعيَّن تحقق شرط الوضوح الأولى في البديهيات، بمعناها الواسع، وإذا كانت تكتسب وضوحها من أمر يقرره الرياضي الذي يتخذ إحدى القضايا نقطة بدءٍ له، فمعنى ذلك أن من الممكن تنويع النظريات الرياضية، بأن نختار مبادئ أساسية مختلفة، وسوف نضرب لهذا التعدد مثلًا عندما ندرس، خلال هذا الفصل، تكوين الهندسات غير الإقليدية، ولكن علينا الآن أن نبين أن هذه الاختيارات المبدئية لا تقوم على أساس الفوضى أو التعسُّف، وأن مجموعة بديهيات نظرية رياضية تخضع لشروطٍ دقيقة كل الدقة، وكل هذه المجموعة من البديهيات تُسمَّى «نسق البديهيات».

(٥) صفات «نسق البديهيات»

ما صفات نسق البديهيات السليم؟

  • (١)

    ألَّا تكون أية بديهية مناقضة للأخرى، أي يجب أن تكون على وفاق مع البديهيات الأخرى.

  • (٢)

    أن تكون البديهيات كلها مُستقلَّةً بعضها عن بعض.

  • (٣)
    وهناك صفات تخضع لها نظريات مُعينة، ولكنها لا تتمثَّل في كل النظريات الرياضية مثل صفة التشيع Saturation (وسوف نشرح معنى هذا اللفظ بعد قليل).
فلنستعرِض هذه الشروط التي سوف تؤدي بنا، فيما بعد، إلى ملاحظات ذات دلالات فلسفية عميقة حول علاقات التفكير الرياضي بالتفكير المنطقي:
  • (١)

    يبدو أن الشرط الأول في غير حاجة إلى دليل. فنحن لا نتصور أن يبدأ الرياضي نظريته من قضيتين متناقضتين، ولكن قد يتفق أن يكون التناقض بين القضيتين مستترًا، وعندئذٍ يجب الكشف عنه، وإقامة البرهان عليه. والحق في إثبات عدم تناقض نسق البديهيات قد يكون أحيانًا مهمةً عسيرة. غير أن الرياضي يستعين على ذلك بمعيار، فقد ثبت أن نسق البديهيات إذا كان يحتوي على بديهيتَين متنافيتَين، فمن الممكن إثبات نظرية وضدها. فقبول مجرد تناقض «واحد» يُمكِّننا من البرهنة على كل شيء، ولننتبِه جيدًا إلى أننا نجعل لهذه الصفة معيارًا نظريًّا لا صِلة له بأي انطباع نفسي مباشر.

  • (٢)

    أما شرط الاستقلال، فقد يُفهم على أنه مجرد حرص على التميُّز الخالص والأناقة، ذلك لأن من البديهي أن المرء لا يفيد شيئًا إذا كرر، بصورة تتفاوت غموضًا، إحدى البديهيات التي ينبغي أن تصاغ بأكبر قدرٍ ممكن من الوضوح. ولكن وضع بديهيتَين تعتمد إحداهما على الأخرى، في مرتبة واحدة، فيه مخالفة لماهية نسق البديهيات ذاته. فإذا افترضنا أن نسقًا من البديهيات يتألف من أ، ب، ﺟ، د فإننا نقول إن البديهية «د» تكون مُستقلةً عن البديهيات أ، ب، ﺟ إذا لم يكن من الممكن استنتاجها منها. وعلى العكس من ذلك، تكون البديهية «د» متوقفةً على الباقيات إذا كان من الممكن إثباتها عن طريق البديهيات الأخرى، ولكن «د» تُصبح عندئذٍ نظرية، لا بديهية.

    ويستخدِم الرياضيون معيارًا للاستقلال يفيدنا بحثه أشدَّ الفائدة في فهْم فكرة نسق البديهيات؛ وإليك هذا المعيار:

    فلنفرض أن نسقًا من البديهيات يشكل على أربعة بديهيات: أ، ب، ﺟ، د فلكي نوقن أن البديهية «د» مثلًا مستقلة عن الأخريات، نفحص قائمة جديدة من البديهيات تشتمل على البديهيات أ، ب، ﺟ وعلى بديهية مناقضة للبديهة «د» تناقضًا تامًا ولنسمِّها (لا – د) فلو كانت «د» متوقفة على البديهيات أ، ب، ﺟ لكان معنى ذلك أننا نستطيع البرهنة على «د» عن طريق أ، ب، ﺟ غير أننا جعلنا (لا – د) بديهيةً بدورها، وبهذا نكون قد كوَّنا نظريةً متناقضة. فإذا كانت النظرية المؤلفة من البديهيات أ، ب، ﺟ، لا – د خالية من التناقض، فمعنى ذلك أن البديهية «د» مستقلة بالفعل عن الأخريات، وبالطريقة ذاتها يبرهَن على كل بديهية أخرى. وهكذا نجد أن معيار الاستقلال بدوره أبعد عن أن يكون مجرد شرط يوضع فحسب؛ بل هو يحتاج في تطبيقه إلى قدر غير قليل من البراعة، ويستطيع الرياضي أن يبحث عن «أنموذج» أعني عن نظرية خاصة سبق اختيارها، تحقَّق فيها كل البديهيات فيما عدا تلك التي يراد إثبات استقلالها.

  • (٣)
    وأخيرًا فالتحليل العقلي للنظريات الرياضية المحكمة البناء قد حاول الإتيان من البديهيات الكاملة، وهذه الصفة تعبر عنها بوضوح كلمة «التشبُّع saturation»، فنسق البديهيات يكون مُتشبعًا إذا لم يكن من الممكن أن تضاف إلى بديهياته بديهيةٌ تُكمله (مستقلة عن الأخريات) دون أن تؤدي إلى تناقض النظرية. غير أن هذه الصفة مُلزمة من أجل تركيب نسق البديهيات تركيبًا سليمًا (إذ يلاحظ أن هناك نظريات عديدة لا تنطوي على هذه الصفة)، والحق أن إيضاح مدى ما تنطوي عليه هذه المشكلة من تعقيد، يحتاج إلى تفاصيل فنية مطولة، ولكن لا شك في أن ما قلناه يكفي في بيان أن التفكير في نسق البديهيات هو في الحق شعور واضح بما يتصف به التفكير الرياضي من دقة بالغة.
ولقد كان أول من فتح باب الأبحاث في أنساق البديهيات هو الرياضي الألماني دافيد هلبرت D. Hilbert (١٨٦٢–١٩٤٣م) الذي نشر في سنة ١٨٩٩م كتابًا مشهورًا هو: أسس علم الهندسة٤Die Grundlagen der Geometrie، وقد تجمَّعت حول «هلبرت» مدرسة كرست جهودها لما يُسمى بمشكلة الأسس في الرياضيات؛ أعني لتبرير النظريات الرياضية عن طريق دراسة عدم تناقضها، ودراسة صفات أخرى أتينا من قبل على ذكرها، وسوف نعود مرةً أُخرى إلى الكلام عن فكرة «هلبرت» عندما نفحص مشكلة المفاهيم الأولى في العلوم الرياضية.

(٦) المفاهيم الأولى

والواقع أننا لم نتحدث حتى الآن إلا عن القضايا الرياضية. وعلينا الآن أن ندرس المفاهيم التي يرِد ذكرها في هذه القضايا (مثل مفاهيم النقطة، المستقيم، المسطح، والعد). وفي دراستنا للمفاهيم سوف نهتدي إلى خطوةٍ شبيهة بتلك التي أدت بنا إلى وضع المصادرات. فكما أن القضية لا تكون سليمة إلا إذا برهن عليها، فكذلك لا يمكن الانتفاع بالمفهوم إلا بعد تعريفه، ولكي يُعرِّف الرياضي أحد المفاهيم، يستخدم مفاهيم أخرى، وهذه المفاهيم الأخرى لا بد أن تكون مما سبق تعريفه. ولكن هذا معناه أن الرياضي يضطر إلى التوقف في حركة الرجوع إلى الوراء، بحيث يتخذ لنفسه نقطة بدءٍ هي مفاهيم لا تردنا إلى أي مفهوم آخر. وهذه المفاهيم الأولى يُطلِق عليها كثيرٌ من المناطقة اسم اللامعرفات indéfinissables مثلما تُسمى البديهيات «باللامبرهنات Les indémontrables».

ولكن نفس الملاحظة التي أبديناها بشأن القضايا الأساسية تنطبق أيضًا على المفاهيم الأساسية؛ فالمفاهيم التي تُختار على أنها مفاهيم أولى وأساسية، ليست «بطبيعتها» غير قابلة للتعريف، وإنما هي تقرر، كما لو كانت غير قابلة للتعريف. (ومن الجائز جدًّا أن أحد المفاهيم الذي يقرر كمفهوم أول في نظرية معينة، وبالتالي لا يُعرَف، يصبح في نظرية أخرى مفهومًا مستمدًّا من غيره، ويعرَّف تبعًا لذلك).

وفيما يلي مثال لهذا التحول، في مستوى الهندسة الأولية، وهو مثال يستطيع المرء إدراكه بالحدس؛ فمن الشائع أن يُتَّخذ مفهوم النقطة مفهومًا أول، وعندئذٍ يُعرَّف مفهوم الخط المستقيم بأنه يتحدَّد عن طريق نقطتَين، أي أنه توصيل نقطتين. ومن وجهة النظر هذه تكون النقطة مفهومًا أول، والمستقيم مفهومًا مُستمدًّا منها.

ولكن في خلال القرن التاسع عشر، نُظر إلى الأمور نظرةً عكسية، فأصبح المستقيم هو الذي يُنظر إليه بوصفه مفهومًا من وجهة النظر الجديدة هذه، وأصبحت النقطة «تعرَّف» بأنها تقاطُع مستقيمَين.

على أن هذا التحول ليس مجرد لهوٍ ذهني؛ بل إن وجهة النظر المزدوجة هذه كانت نقطة بدء الأبحاث التي كوَّنت ما يُسمَّى بمبدأ الثنائية principe de la dualité. فمثلًا لو ألقَينا نظرة على كتاب «ألفريد كلبش Alfred Clebsch» المسمى «دروس في علم الهندسة Leçons sur la géometrié»٥ لوجدنا الصفحات فيه مقسمةً إلى عمودين تُرتب فيهما النظريات بحيث تُناظر كل منها الأخرى بدقة. ففي العمود الأيمن نجد النظريات مُعبرًا عنها «بإحداثيات الخطوط»، حيث يكون المستقيم هو العنصر غير المعرَّف، وفي الأيسر نجد النظريات مُعبرًا عنها «بإحداثيات النقط» حيث تكون النقطة هي العنصر غير المعرف. وفي ممارسة مثل هذه المتناظرات التي يلعب فيها الخيال دوره يكتسب التفكير الهندسي مرونةً كبيرة.
وفضلًا عن ذلك فإن المرء يستطيع أن يرى أن تعديل نقط البدء على هذا النحو يجعل الطابع العيني للمفاهيم ذا قيمةٍ ثانوية. فالمفاهيم الرياضية لا تُفرض علينا في تجربة عينية يكون لها أصل تجريبي؛ إذ قد يوحى إلينا العالَم المحسوس بضروب من الحدس، غير أن هذه الضروب يجب أن يتمَّ إعدادُها في مستوًى فكري لا يعود مدينًا بشيءٍ لحقائق العالَم المحسوس. فالمفاهيم الرياضية لا تكتسب قيمتُها إلا خلال التنظيم التجريدي الذي يدرس علاقاتها. وقد لاحظ «بوريل Borel»٦ أنه إذا كان هناك مفاهيم «أوحت بها في بدء الأمر أوجهُ شبهٍ خاصة بالأشياء الحقيقية» (كالخط المستقيم، والدائرة …) «فإن الأعداد الخيالية، والأعداد غير المتناهية، وكثيرًا غيرها من الكيانات الرياضية هي مجرد ابتكارات عقلية.»

(٧) التعريفات

وكما أننا نستطيع تصنيف القضايا الرياضية إلى فئتين: قضايا يبرهَن عليها كالنظريات، وقضايا أوليَّة يسلَّم بها دون برهان، كالبديهيات، كذلك يمكن تصنيف المفاهيم إلى مفاهيم معرفة، ومفاهيم أولى يسلَّم بها دون تعريف. وهنا قد يخطر اعتراض بالذهن. فكيف حدث أن أدخلنا التعريف ضمن المبادئ، مع أن التعريف كما رأينا لا يبدو نقطة بداية؟ إن علة هذا الغموض ترجع إلى أن المرء ينظر إلى فكرة المبدأ من خلال نظرة إجمالية أكثر مما ينبغي. فالقضية يمكن أن تؤدي دور المبدأ، أعني يمكن أن تؤدي دور قضية يسلَّم بها دون برهان، وتمكن من البرهنة على غيرها من القضايا، دون أن تكون، رغم ذلك، هي الأولى زمنيًّا. ففي العلوم الرياضية ذات التركيب المعقد، لا يستطيع المرء أن يُقنن بصفةٍ نهائية كل المستلزمات الضرورية لبناء نظرية. فتعريف مفهومٍ ما هو نقطة نهاية على نحوٍ ما، ما دام سيستخدِم أحيانًا مفاهيم متعددة «سبق» تعريفها، ولكنه يستخدِم مبدأ من أجل التوسع «التالي» في النظرية. فتعريف الشكل البيضاوي مثلًا هو نقطة بداية بالنسبة إلى كل برهنة على نظريات الشكل البيضاوي.

ومن العسير أن نحدد على وجه السرعة خصائص التعريفات الرياضية؛ فطُرق التعريف متباينة،٧ ودراستها مرتبطة بدراسة عميقة لموضوع الرياضة. وسنرى في نهاية هذا الفصل عرضًا لطرُق معينة في التعريف (مثل إدخال مفهوم المجموع، ومفهوم العدد الحقيقي، ومفهوم العدد التخيلي، ومفهوم القوة).

(٨) النزعة الشكلية Formalisme

بيَّنَّا من قبلُ أن الرياضي يجد نفسه مستغرقًا في القيام بعملية تجريد أساسية، وسنرى أن هذا الجهد الذي يقوم فيه الرياضي بعملية التجريد هذه، يصل إلى أقصى حدوده في عرض «هلبرت» لهندسة إقليدس.

ولنقل باختصار، إنه ما دام الرياضي ينفصل عن الطبيعة العينية للكيانات الرياضية، فمن الواجب أن نفحص عن كثبٍ دور هذه الكيانات الرياضية، أو بعبارةٍ أدق، العلاقات التي تُوجَد بينها، ولكي نكون على ثقةٍ من أننا نفحص «علاقات» الكيانات الرياضية، تاركين «طبيعتها» جانبًا. يجب أن نكون قادرين على التحرُّر من اللغة ذاتها، وعلى فهْم القيمة العميقة للمناهج التي تغلِب الطابع الشكلي، المجرد، للتركيبات الرياضية. ولقد ألقى الرياضي «جان ديودونيه Jean Dieudonné» ضوءًا ساطعًا على المعنى العميق لمنهج «هلبرت»، فقال: «لم يستطع أحد، مثل هلبرت أن يُحقق هذا البرنامج بمثل هذا القدر من العزم والوضوح ولم يبرر أحد قبله ذلك المبدأ الأساسي القائل بأن «طبيعة» الكيانات المدروسة لا أهمية لها في الرياضيات، وأن العلاقات الموجودة بين هذه الكيانات هي وحدَها الهامة. فبدلًا من كلمات «النقطة»، «والمستقيم»، «والسطح»، ينبغي أن يكون في وسع المرء أن يقول دائمًا، دون أن يخشى الوقوع في الخطأ، «منضدة» و«مقعد»، وكأس من الجعة». ذلك ما عبَّر عنه «هلبرت» منذ ١٨٩١م بدعابة تكرَّرت في ذلك الاستهلال المشهور (والذي عُد في وقته انقلابًا) لكتاب أسس الرياضيات.٨
فلو رجعنا إلى الصفحات الأولى من كتاب «الأسس»، لقرأنا فيها تحت عنوان «الاصطلاح convention» السطور الآتية: لنتصور ثلاث مجموعات مختلفة من الكائنات، ونقسم كائنات المجموعة الأولى نقطًا، ونشير إليها بالحروف أ، ب، ﺟ … وكائنات المجموعة الثانية «مستقيمات»، ونشير إليها بالحروف أَ، بَ، ﺟَ. وكائنات المجموعة الثالثة سطوحًا ونشير إليها بالحروف أ٨، ب٨، ﺟ٨.

وبعد هذه التسميات الشكلية الخالصة، يُبيِّن «هلبرت» البديهيات التي تحدد علاقة هذه الكيانات. ولنذكر منها اثنتَين على سبيل المثال. فلِكي نقول إن النقطتين تحدان مستقيمًا، نكتب الآتي:

أ ب = أَ. ولكي نقول إن ثلاث نقط ليست على استقامة واحدة تحدد مسطحًا، نكتب ما يلي أ ب ﺟ = أ٨.

وإذن فها نحن أولاء تجاه نوعٍ من الشكلية المفرطة. فإذا تذكرنا أن مجموعة البديهات تتألف من افتراضات ليس من الضروري أن تكون متفقةً مع بداهات مطلقة، أو مع تجارب العالَم المحسوس، وإذا لاحظنا أن «هلبرت» قد أدخل الكيانات الرياضية تحت صفة «الاصطلاح»، فهمنا عبارة «برتراند رسل» التي يلجأ إليها الكثيرون في المناقشات الفلسفية، دون أن يدركوا أحيانًا أهميتها على وجه الدقة: «إن الرياضيات علم لا يعلم المرء فيه أبدًا عمَّ يتكلم (إشارة إلى الشكلية المحضة) ولا يعلم إذا كان ما يتكلم عنه صحيحًا.» (إشارة إلى الاصطلاحات المبدئية، التي يعلن المرء فيها صلاحية بعض القضايا والمفاهيم، دون إشارة إلى بداهة عقلية أو إلى خبرة تجريبية).

والواقع أن هذه الشكلية، التي تغض الطرف عن الطبيعة الحسية المحددة للموضوعات الرياضية، لا يمكن أن تنمو إلا في جوٍّ من المعاني الدقيقة المجردة، ومن الطبيعي أن تعجز عن وصف النشأة التاريخية للعلم الرياضي. وهي لا تظهر إلا في تفكير نظري في العلم بعد تكوينه، غير أن المرء لو أغفل الجهد الضخم الذي بذله الرياضيون المعاصرون من أجل بناء علمهم وتنميته بأكبر قدرٍ من الدقة، لكان في ذلك تجاهُل لصفةٍ من أبرز صفات الرياضة المعاصرة.

هذا، وسنعود مرةً أخرى، في هذا الفصل ذاته، إلى العلاقات بين الدقة والحدس، وسنحاول، بعد الدراسة الطويلة التي قُمنا بها للمبادئ الأساسية في النظريات الرياضية، أن نُحدد خصائص الاستدلال الرياضي من خلال مجموعة من عملياته تتَّسِم بأكبر قدرٍ من البساطة.

ثانيًا: الاستدلال الرياضي

(٩) خصوبة الاستدلال الرياضي ودقته

الرياضيات كما قُلنا من قبل تركيبات فرضية استنباطية يؤدي فيها الاستنباط دورًا رئيسيًّا، وكثيرًا ما يوصف الاستنباط بأنه عملية تحليلية تنتقل من العام إلى الخاص، ويُتَّخذ القياس (Syllogisme) أوضح أنموذج للاستدلال الاستنباطي. فإذا ما قبلنا أوجه النقد التي وُجهت إلى الاستدلال القياسي، أمكننا القول بأن نتيجة البرهان في الاستنباط، إن هي إلا نتيجة سبق أن احتوت عليها المقدمات. وهكذا يكون الاستنباط عمليةً استدلالية دقيقة، ولكنها عقيمة. وعلى العكس من ذلك يبدو أن الاستقراء هو الطريق الوحيد الذي يتبعه التفكير المنتج حقيقة؛ إذ هو امتداد للمعرفة وتعميم لها، وإن كان لا يزعم لنفسه ما للاستنباط من دقةٍ مطلقة؛ فلنضع المشكلة أولًا في هذه الصورة العامة جدًّا، لكي نفهم الجدل المشهور الذي نشب في مُستهل القرن العشرين بين الرياضي بوانكاريه، والفيلسوف جوبلو، حول طبيعة الاستدلال الرياضي.

ففي مُستهل هذا القرن، قال «بوانكاريه» في كتابه «العلم والفرض» (ص٤) «ما طبيعة الاستدلال الرياضي؟ أهو حقًّا استنباطي كما يُعتَقد عادة؟ إن المقارنة العميقة تُبين لنا أن الأمر بخلاف ذلك، وأنه يشارك بقدرٍ معين في طبيعة الاستدلال الاستقرائي، وهذا هو السبب في أنه مُنتج. ومع ذلك، فإنه لا يفقد شيئًا من طابع الدقة المطلقة.»

فكيف نُفسر جمع الاستدلال الرياضي بين صفة الخصوبة، وصفة الدقة في آنٍ واحد؟

(١٠) الاستدلال الترديدي.٩ فكرة التعميم

يأخذ بوانكاريه على عاتقه أن يثبت أن الاستدلال الرياضي لا يمكن إرجاعه إلى القياس «الذي لا يأتي إلينا بجديد.» وإنما هو في أساسه «تعميمي؛ مما يفسر طابع الخصوبة الذي لا سبيل إلى إنكاره في العلوم الرياضية.» ويكشف بوانكاريه عن هذا التعميم في صورةٍ من صور الاستدلال الدقيق تتميز بها الروح الرياضية. هي الاستدلال الترديدي raisonnement par recurrence، وسوف نبين عن طريق مثال، كيف ينمو هذا النوع من الاستدلال؛ فلنقترح مسألةً في حاجة إلى حلٍّ، هي إثبات عدم تساوي الطرفين الآتيين:
(١) (١ + ١) ن > ١ + ن أ

حيث أ عدد حقيقي أكبر من −١ ومختلف عن الصفر، وحيث إن أي عدد صحيح أكبر من ١.

وللبرهان على هذه المسألة مرحلتان، حسب الترتيب التالي:١٠
  • (أ)

    نبرهن على أنه إذا كان عدم التساوي الذي تُعبر عنه هذه المسألة صحيحًا بالنسبة إلى قيمةٍ معينة (ن)، ولتكن ك، كان أيضًا صحيحًا بالنسبة إلى القيمة ك + ١ (ولنقل على وجه الدقة إننا لا نعلم إذا كان يصح بالنسبة إلى قيمة ك هذه).

  • (ب)

    نبرهن على أن عدم التساوي يصح بالنسبة إلى ن = ٢.

ومن هذين البرهانَين يمكننا أن نستدلَّ على أن عدم التساوي صحيح لكل قيَمِ ن ابتداء من ٢. والواقع أننا قد أثبتنا في البرهان (ب) أن الصيغة تصح إذا كانت ن =٢. على أننا أثبتنا في (أ)، بصفة عامة، أنه إذا كان عدم التساوي صحيحًا بالنسبة إلى قيمة معينة ﻟ ن هي ك، فإنه يصح أيضًا بالنسبة إلى ك + ١.

ولما كانت الصيغة (١) صحيحة عندما تكون ن = م، فإنها تكون أيضًا صحيحةً عندما تكون ن = ٣. ولما كانت صحيحةً عندما تكون ن = ٣ فإنها تكون صحيحةً عندما تكون ن = ٤. وفي وسعنا أن نكرر هذا الاستدلال ذاته إلى ما لا نهاية، ما دام البرهان (أ) قد أثبت أن الصيغة إذا صحَّت بالنسبة إلى أية قيمة ﻟ ن، فإنها تصح بالنسبة إلى القيمة التالية. وبدون البرهان (أ) كان يمكننا أن نحقق الصيغة (١) عندما تكون ن = ٢، ن = ٣، ن = ٤، على التوالي … ولكننا لا نستطيع عندئذٍ أن نؤكد أنها تصح على ذلك العدد اللامتناهي من قِيم ن، ابتداء من ٢، فعن طريق البرهانَين أ، ب معًا، يمكننا أن نؤكد صحة عدد لا نهاية له من الصيغ.

وهكذا يمكننا أن نفهم السبب الذي قال من أجله بوانكاريه: إن «الاستدلال الرياضي يشارك بقدرٍ معين في طبيعة الاستدلال الاستقرائي.» فالاستقراء الترديدي يسمح لنا أن نؤكد صحة صيغةٍ في عددٍ لا نهاية له من الحالات، بينما كان يمكننا عن طريق براهين مماثلة للبرهان (ب) أن نؤكد الصيغة (أ) في عدد «متناهٍ» من الحالات فحسب، ولكن علينا أن نفهم كل فكرة في تفاصيلها الدقيقة، لهذا أشرنا بوجهٍ خاصٍّ إلى كلمة «بقدْر معين». فبعد عدة صفحات، يُعبِّر بوانكاريه عن رأيه بوضوح تام يمكِّن من توقِّي كل خلط، فيقول: «لا يستطيع المرء أن يتجاهل أن في الاستدلال الترديدي تشابهًا ملحوظًا مع عمليات الاستقراء المعتادة، ومع ذلك، فلا زال بينهما اختلاف جوهري. فالاستقراء حين يُطبَّق على العلوم الطبيعية يكون على الدوام غير مؤكد، لأنه يرتكز على الإيمان بنظامٍ عامٍّ للكون … أما الاستقراء الرياضي، أعني البرهان «الترديدي» فإنه يفرض ذاته بضرورة محتومة …» وإذن فقد أراد بوانكاريه أن يُقرب الاستدلال الترديدي من الاستدلال الاستقرائي كما يتمثَّل في العلوم الطبيعية لأنهما «يسيران في نفس الاتجاه، أعني ينتقلان من الخاص إلى العام.» ولكنه إذ يقربهما على هذا النحو يؤكد أيضًا بوضوح أنهما «يرتكزان على أسس مختلفة.»

فما الاعتراضات التي وجهها عالِم المنطق «جوبلو» إلى بوانكاريه؟ إنه يقول له: لقد وصفت «الاستدلال الترديدي» بأنه الاستدلال الرياضي على الحقيقة. غير أنه استدلال خاص إلى أبعدِ حدٍّ، ولا يمكن أن ينطبق إلا على مجالات مُعينة في الرياضة، وهي المجالات التي يتبدَّى فيها تعاقب الأعداد الصحيحة.

ولكن الشيء الذي أراد بوانكاريه أن يبيِّنه، ليس هو القول بأن «الاستدلال الترديدي» هو أكثر الاستدلالات استعمالًا؛ بل هو الاستدلال النموذجي للتفكير الرياضي؛ فهو استدلال صالح كل الصلاحية للكشف عن الخصائص التي يتميز بها الاستدلال الرياضي؛ إذ إن الاستدلال الرياضي هو، في الواقع، «أداةٌ تمكِّن من الانتقال من المتناهي إلى اللامتناهي» بدقة كاملة «وهذه الأداة نافعة دائمًا، لأنها متى أتاحت لنا اجتياز ما نشاء من الخطوات بقفزةٍ واحدة، فإنها توفر علينا القيام بالتحقيقات المطولة، المملة، التي تسير على وتيرةٍ واحدة، والتي سرعان ما يُصبح من المستحيل تنفيذها عمليًّا. غير أنها تصبح لازمةً عندما يكون هدف المرء هو الوصول إلى النظرية العامة، التي نقترب على الدوام من تحقيقها تحليليًّا، دون أن نتمكن من الوصول إليها.» والواقع أن عملية التحقيق تصبح مستحيلةً في مجال اللامتناهي. فقد نستطيع التحقُّق من أن الصيغة (أ) صحيحة في عددٍ متناهٍ من الحالات، ولكن البرهان الدقيق للاستدلال الترديدي يُمكِّننا من تأكيد صِحتها بالنسبة إلى القِيَم اللامتناهية التي يمكن أن تُعزى إلى ن. وإذن فقد أراد بوانكاريه أن يثبت أن الرياضيات لا يمكن أن ترجع إلى سلسلةٍ من الأقيسة، وأنها تقوم على التعميم في أساسها، وأنها تسمح لنا بأن نؤكد، بكل دقة، صحةَ صفةٍ معينة في عدد غير متناهٍ من الحالات. «هذا إلى أنه من الضروري أن يكون في وسع المرء إثبات خواص الجنس دون أن يضطر إلى إثباتها بالنسبة إلى كلٍّ من الأنواع على التوالي.» (العلم والفرض ص٢٧)، فبالاستدلال الترديدي، تكتسب قضايانا صفة العموم فورًا.

ولكن هل يجب القول، كما قال بوانكاريه بتعجُّل، بأن الاستدلال الرياضي ليس استنباطًا على الإطلاق؟ كلَّا بالتأكيد. ذلك لأن «بوانكاريه» قد سوَّى بين الاستدلال الاستنباطي والعملية القياسية التي تنتقل من العام إلى الخاص، وكان في ذلك متبعًا منطق عصره. ولكن الحقيقة أن الاستدلال الاستنباطي يلجأ إلى عمليات فكرية معقدة، تختلف كل الاختلاف عن القياس، كما أثبت ذلك المنطق المعاصر. وحسبنا أن نذكر تلك الحقيقة البسيطة، وهي أن في وسع الرياضي أن يستبدل، في الصيغة الرياضية وبشروط معينة، مجموعةً من الرموز بمجموعة أخرى من الرموز؛ نقول حسبنا أن نذكر هذا، لنكون قد فهمنا مدى تقدُّم البرهان، وفضلًا عن ذلك فالمنطق يُدخل عمليات التعميم، إن لم يكن في مراحله الأولى. ففي نموِّه التالي على الأقل.

فأهمية القياس قد أصبحت ضئيلة في العمليات الاستنباطية التي يقوم بها المنطق المعاصر.

(١١) فكرة التركيب

فلنفحص الآن وصف جوبلو للاستدلال الرياضي. إنه يقول: «البرهان هو التركيب»١١ على أن هذا التعبير الواضح جدًّا يُخفي وراءه أكثر التفسيرات تباينًا. والواقع أن كلمة «التركيب» تعني في نظر جوبلو التركيب المرسوم. والعملية الجبرية، والعملية الذهنية (التي يميزها جوبلو عن عملية العقل)، وتركيب النتيجة مع الفرض، ولنحتكم إلى النصوص. إنه يقول: «إن أهمية التركيبات المرسومة في الهندسة لم تخفَ على أحد، ولكن المناطقة يميلون إلى أن يَرَوا فيها مجرد عملياتٍ مساعدةٍ أو مُمهِّدة للاستدلال، في حين أنها هي الاستدلال نفسه.» (ص٢٧٣)،كما يقول: «ليس ثمة قضية حسابية أو جبرية لا يُبرهَن عليها عن طريق «عملية» أو سلسلة من العمليات.» (ص٢٦٩)، كذلك يقول «ليست العمليات التركيبية عمليات عقلية، وإنما هي عمليات تنفذ ذهنيًّا.» (ص٢٧٣). وفي فقرةٍ أخرى يقول جوبلو: «لكي نبرهن على أن فرضًا ما يستتبع نتيجةً ما، نركب النتيجة مع الفرض.» (ص٢٧٢)، ويريد جوبلو أن يؤكد على وجه التحديد، أن «النشاط التركيبي للعقل هو الذي يُظهر النتيجة الجديدة.» (ص٢٦٤).

غير أن هذه الاستعانة بالنشاط التركيبي للعقل تظلُّ تفسيرًا على جانبٍ غير قليلٍ من الغموض، وليس هناك مَن يُنكر نشاط العقل الرياضي وإبداعه، ولكن الواقع أنَّ من العسير وصف الاستدلال الرياضي بصفةٍ واحدة، وكل محاولة لفهْم عملية الاستدلال الرياضي عن طريق تفسيرٍ واحد فريد، تظلُّ محاولة غير دقيقة، وإنما الواجب تحليل البراهين الرياضية المتعددة، والرجوع إلى أكثر الأمثلة تنوعًا. ومن الضروري، بوجهٍ خاص، ألا يقف المرء عند حدِّ الأمثلة الأولية؛ بل الواجب أن يدرُس الاستدلالات التي تكونُ تعريفاتُ موضوعاتها الرياضية نتيجةَ إعدادٍ وئيد، ونتيجةً للتأليف بين أكثر اتجاهات الفكر تباينًا. وعندما نفحص دور الحدس والصياغة الشكلية، سنُصبح أقدَرَ على إدراك طابع التعميم والتركيب الذي يتميز به نشاط التفكير الرياضي.

ثالثًا: الفكر الحدسي والفكر المقالي

(١٢) الحدس الرياضي والحدس الحسي

رأينا من قبل في الجزء الخاص بالمفاهيم (notions) أن المفاهيم الرياضية، حتى وإن كانت من أصلٍ تجريبي بالفعل، فسيظلُّ من الصحيح أن الرياضيات قد انفصلت عن ذلك الأصل التجريبي، وأنها قد أصبحت عِلمًا بريئًا من الصفات المحسوسة. فعندما يفكر الرياضي في الخط المستقيم، فهو لا يفكر في خيط البناء، وعندما يُثبت أن المنصِّفات تتلاقى في المثلث، فإن برهانه يكون مُستقلًّا عن التحقيق المادي لهذا الشكل. ومن المحال أن يحلَّ البيان بالرسم محلَّ برهان بالاستدلال؛ إذ ليس للرسم من عمل سوى أن يكون دعامة للانتباه، دون أن يكون عنصرًا مكونًا للبرهان «فالتصورات الهندسة تصورات فكرية.» كما أكد الفيلسوف الألماني هوسرل Husserl، الذي كان عالمًا رياضيًّا في الوقت ذاته، وهي تعبر عن شيء لا يمكن «رؤيته»، وعلى ذلك فليس من المستطاع المقارنة بين الحدس الرياضي والحدس الحسي بأيَّة حال.

(١٣) التفكير الحدسي والتفكير المقالي (Discursive)

لكن هل سنهتدي في الحدس الرياضي إلى تلك الصفات التي اعتاد المفكرون أن يصفوا بها الحدس بمعناه الفلسفي؟

إن الحدس يمكن أن يوصف في هذه الحالة بأنه اتصال مباشر، فوري، عيني، بموضوعه، وهذا الاتصال المباشر يُحقق في الوقت ذاته أوثق فهْمٍ لهذا الموضوع؛ إذ يصل إليه في جوهره ووجوده الفردي. وبهذا يكون الحدس مضادًّا لكل تفكير مقالي، أو «سلسلة من الحجج» أو خطوات للبرهان، أو تنظيم شكلي، أو تطبيقٍ دقيق لمنهجٍ ما.

ويبدو أنه من الممكن أن نهتدي إلى مثال للتقابل بين هذَين النوعَين من التفكير، عندما نقارن بين الهندسة والجبر الأولِيَّين. فقد قال ليبنتس (Leibniz) في بحثه «فن الاختراع Ars inveniendi» إن علماء الهندسة يستطيعون البرهنة بكلماتٍ قليلة على قضايا يصعب إثباتها عن طريق الحساب إلى حدٍّ بعيد. فالطريق الجبري يؤدي دائمًا إلى الهدف، ولكنه ليس على الدوام أفضل الطرق. فمن الممكن أن نُقابِل بين البراهين السريعة اللمَّاحة للفكر الهندسي، وبين بطء الحساب الجبري وخطواته المتدرِّجة، وأن نُقابِل بين رشاقة البرهان الهندسي وثقل الحساب الجبري، وبين عبقرية الحدس الهندسي وآلية المناهج الجبرية.

غير أن هذه المقارنة بين الهندسة والحساب لا تُمكِّننا من تقدير دور الحدس في الرياضة حق تقديره. والواقع أننا نهتدي إلى التمييز بين الحدس والانضباط الدقيق حتى في الجبر ذاته. فعالِم الجبر يهتدي أحيانًا بالحدس السريع إلى منهج للحل، ويشعر بالنتيجة مقدمًا، ويكون مجهودُه في البرهان موجهًا بوضوح في هذه الحالة، وهو لا يأخذ على عاتقه مهمة اختبار دقة برهانه إلا في المرحلة الثانية من بحثه.

وفي هذا الاختبار الدقيق يبدو أن الرياضي يدعو كل الآخرين إلى التحقق من فكرته الخاصة، فلا يعود الحدس الرياضي الذي يتحقق منه على هذا النحو، فكرًا فرديًّا بالمعنى الصحيح؛ أي لا تتمثل فيه صفة طالما طالب بها أنصار الفكر الحدسي في الفلسفة. وقد تبدو هذه الملاحظة مرتبطةً بعلاقة فرعية وظاهرية، للتفكير الرياضي. ولكن إذا كان الحدس الفردي في حاجةٍ إلى التحقُّق من صدقه حتى يمكن قبوله؛ ففي هذا ما يكفي لبيان طبيعته الحقيقية. فالحدس الرياضي لا بد من أن يُتداول، ومن الضروري أن يقبله مجموع الرياضيين قبولًا تامًّا، ومن الواجب أن يُحكم عليه من خلال نقط اتصاله وارتكازه على النظريات الرياضية القائمة بالفعل.

وإذا كان من ضروب الحدس ما هو أساس لظهور بعض المشاكل الرياضية، وإذا كان منها ما يوحي بحلولٍ لمشاكل معينة، فلا يمكن من ذلك تصور تفكيرٍ حدسي يستغني عن الصياغة الشكلية الدقيقة. والحق أن بين النظرات الحدسية والمناهج الدقيقة تأثيرًا متبادلًا. فالتفكير القائم على الحدس في حاجة إلى أن يؤكد ذاته، وإلى أن يشيد بناءه عن طريق التفكير المقالي، وهذا التفكير الأخير في حاجة إلى استعادة صلته بالتأكيدات الحدسية، فإذا اقتصرنا، كما فعل أحد الفلاسفة، على القول بأن «التفكير الشكلي يستمدُّ حياته من التفكير الحدسي.» لما عبَّرنا بهذا إلا عن نصف الحقيقة. فمن الواجب أن يضاف إلى ذلك، أن التفكير الحدسي يظل في الوقت ذاته مرتبطًا بالتفكير الشكلي المقالي الذي يُضفي عليه اليقين والدقة.

وليلاحظ بوجه خاص أن «هناك بداهات تكون في بعض الأحيان خادعة إلى أبعد الحدود.» على حد تعبير بوليجان Bouligand ولذلك ينبغي أن تكون الروح الجبرية algebrisme مرشدًا للتفكير الذي يستند متسرعًا إلى البداهة الحدسية.
ولكن لا ينبغي أن يُوصف الحدس عمومًا بأنه قبول مباشر لكل بداهة تعرض للعقل. فهناك حالات يكون فيها الحدس «صادرًا عن الروح النقدية بحق». إذ قد يكون لدى المرء أداةٌ جبرية موثوق منها، ومنهج دقيق، ومع ذلك قد يأتي حدس خصب فيُشككنا في إمكان تطبيق المنهج «تطبيقًا آليًّا»، وعندئذٍ يُصبح الحدس دليلًا على حذرٍ بالغ وعلى تفكير يقِظ لا يثِق بالحجج الاستدلالية التي تتشابك بطريقةٍ آلية مفرطة. وقد اقترح بوليجان أن تُسمى هذه الحدوس باسم «الحدوس المضادة contre-intuitions» ومن قبيلها حدوس الدالات المتصلة التي لا تحل محلَّها قيم.
ولكن إذا كانت هناك «حركة ذهاب وإياب بين ضروب الحدوس والروح الجبرية Algebrisme» كما يقول بوليجان، فمعنى ذلك أننا لا نستطيع القول بأن الحدس هو الخطوة الأولى حقيقة. فمن الممكن القول بأن إنشاء النظريات الرياضية يقوم «على أساس» حدوس، ولكن هذه الحدوس ترتبط «بمعرفة» رياضية، وكلما اتَّسع نطاق المعرفة المكتسبة، ازداد الحدس وضوحًا، فالحدس الرياضي هو حدس أناس عارفين. والواقع أن ذلك الحدس الذي يبدو أنه يفرض علينا آفاقًا أو موضوعاتٍ «جديدة» إنما ينتُجُ في حقيقة الأمر عن ألفة طويلة الأمد مع مفاهيم أعدَّها التفكير الشكلي الدقيق إعدادًا طويلًا، ومع نظرياتٍ أحكم هذا التفكير بناءها. فالحدس لا يتدخل ابتداءً من مُعطيات عينية فحسب … بل سرعان ما يكتسب لدى الرياضي فاعليةً في ظروفٍ أوسع نطاقًا من ذلك بكثير … فعالِم الهندسة، إذ يصبح أكثر «ألفةً» بالكيانات التي يدرسها، ينتهي به الأمر إلى أن يكوِّن لنفسه عنها فكرةً تعادل في وضوحها فكرته عن الأشياء الحقيقية التي يحفل بها العالَم الخارجي. وعلى هذا النحو يتكوَّن في بعض مناطق العالم الرياضي ميل إلى إدراك علاقات، عظيمة الدقة في أغلب الأحيان، وذلك عندما يكون كشف هذه المناطق قد بلغ حدًّا معينًا من التقدُّم.١٢ ونحن نؤكد هذه العبارة الأخيرة بوجهٍ خاص، لكي نلحَّ في بيان الطابع «الفني» للحدس الرياضي، الذي يظلُّ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتمكُّن الرياضي من المناهج، وإلمامه الواسع بالتفكير المقالي.

(١٤) حدس البديهيات

حاولنا أن نبيِّن مدى الارتباط والتكامل بين جوانب الحدس والإجراءات المنضبطة في الرياضة، ولكن قد يخطر اعتراض بالذهن، هو: هل يؤدي ظهور التفكير المرتكز على مبدأ «البديهيات» إلى رفض الحدس رفضًا تامًّا؟ إنه ليبدو أن وجود مجموعة من البديهيات معناه أن المرء قد بلغ مرحلةً من التجريد لم يعُد فيها أي مجال للحدس. والحق أن الرياضيين قد تصدر عنهم تصريحات توحي إلى الأذهان الساذجة بمثل هذا الاعتقاد، وذلك كقولهم: «إنا لا نُنكر أن معظم الصور الرياضية كانت تحتوي في أصلها على عناصر حدسية محددة، ولكن من المحقَّق أنها لما جُرِّدت من كل محتوى فقد أمكنها أن تكتسب هذا التأثير العظيم الذي كانت تنطوي عليه في ذاتها بالقوة، وهكذا أصبحت قابلة للتعبير عن تفسيرات جديدة، ولأداء وظيفتها في إعداد النظريات الرياضية.»١٣

فلنرجع لحظةً إلى هذا التفكير الذي يعتمد على البديهيات، والذي سبق أن أشرنا إليه؛ أن مهمة البديهيات لا تنحصر في مجرد تقنين الفروض والقواعد في نظرية رياضية خاصة؛ بل إن نسق البديهيات لا يقتصر في الواقع على عرض البديهيات والمعاني الأولية الخاصة بنظريةٍ ما، وعلى دراسة مدى اتساق هذه البديهيات فيما بينها، واستقلال كل منها عن الأخرى، وإنما يسعى إلى فهْم «السبب العميق» للاستدلالات المتسلسلة، والكشف عن هيكل الاستدلال، بغضِّ النظر عن «طبيعة» الموضوعات التي تتدخَّل في النظريات الرياضية. وهو يجمع النظريات لا لأنها تُعالج موضوعاتٍ رياضية لها طبيعةٌ واحدة، وإنما لأنها تكشف عن بناءات واحدة.

وكما يقول هنري كارتان:١٤ «لنفرض أن بديهيات نظريةٍ رياضية ما قد اختبرت بصفةٍ نهائية، وعندئذٍ ينبغي ألا تقتصر نظريتنا الرياضية على أن تكون تجميعًا جامدًا للحقائق، أعني لنتائج البديهيات … فلكي تكون الرياضة أداةً فعالة، ولكي نستطيع نحن علماء الرياضة، الاهتمام بها من أعماق نفوسنا، فلا بد أن تكون تركيبًا حيًّا، ولا بدَّ أن نرى فيها بوضوح تسلسُل النظريات، وأن نجمع فيها النظريات الجزئية، وفي هذه المحاولة بدَورها نستعين بمنهج البديهيات الذي يُزودنا بمبدأ للتصنيف.»
وفي هذا المجهود الذي يبذله الرياضي لاستخلاص بناءات النظريات، حتى يقارن هذه النظريات فيما بينها، ويكوِّن منها مجموعات، نجده يقوم بعمل «تجريدي» تمامًا، فعليه أن يتجرد من الحدوس العينية، التي تجعل تفكيره خاضعًا للمجالات الفردية الخاصة، وعليه ألا يقتصر على ثقافة محدودة تكتفي بأمثلةٍ جزئية، أو حتى بنظرياتٍ خاصة؛ بل يجب أن يصل إلى فهْم «التركيب الهندي» للرياضيات ذاتها، ولكن دراسة الصور المجردة تدفعنا عندئذٍ إلى استخلاص أفكارٍ عامة «موجهة». وإذا كان في منهج البديهيات خروج على الحدوس العينية فمن المحقق، مع ذلك، أنه يكشف عن طبيعة الأشياء، ويجعلنا نُجيد فهْم ماهية النظريات الرياضية ونحسن «رؤيتها» بوضوحٍ كامل. فالآن لم تعُد الرياضة على الإطلاق، كما كانت فيما مضى، تأليفًا آليًّا محضًا بين صيغٍ منعزلة، وقد أصبح الحدس الآن — أكثر من أي وقتٍ مضى — يسيطر تمامًا على نشأة الكشوف الرياضية، غير أنه أصبح منذ الآن يمتلك الوسائل القوية التي تمدُّه بها نظرية الأنواع البنائية الكبرى، وهو يسيطر بلمحةٍ واحدة على مجالاتٍ هائلة وحَّد بينها منهج البديهيات l’axiomatique، وهي المجالات التي يبدو أنه لم يكن يسودُها من قبل سوى الاضطراب الشامل. فمنهج البديهيات المبني على المنطق البحت، لم يكتفِ بأن جعل لعِلمنا أساسًا راسخًا؛ بل إنه يُتيح لنا إجادة تنظيمه وإجادة فهمه، ويجعله أكثر فاعلية، ويستبدل بالحسابات أفكارًا عامة،١٥ ولكن أليست هذه علامة حدس أصيل يمكننا أن نُسمِّيه حدس التنظيم المجرد؟

إذن نرى الآن إلى أي حدٍّ تكون التفرقة بين التفكير المقالي والتفكير القائم على الحدس في الرياضيات تفرقةً مصطنعة، فحتى في المجال الذي يبدو فيه أن الحدس قد استُبعد، نراه يعود إلى الظهور بصورةٍ قد تكون غير مألوفة، ولكنها قوية إلى حدٍّ بعيد، وهكذا فبناء أكثر الأساليب الفنية الرياضية تجريدًا يقتضي الالتجاء إلى أكثر ضروب الحدس خصوبةً وعمقًا.

(١٥) الحدس والنزعة الحدسية

ينبغي ألا نُطلق اسم «النزعة الحدسية» على كل نظرية في نقد المعرفة تؤكد دور الحدس في التفكير الرياضي، إذ إن هذه الكلمة أصبحت اليوم مقتصرةً على المذهب «الرياضي» لعالِم رياضي هولندي معاصر هو «بروفر Brouwer»، وكما يقول «جونست Gonseth»: «إن النزعة الحدسية تقترح نظريةً جديدة وتطبيقًا عمليًّا جديدًا للتفكير الرياضي.» وتعترف النزعة الحدسية بمعطيات، هي بضعة مفاهيم ذات وضوحٍ بديهي، وبضع عمليات أساسية للفكر، وهي لا تقبل سوى المفاهيم الرياضية التي يمكنها أن تبين بالفعل عملية «تركيبها عن طريق هذه المعطيات»، ويرى «بروفر» أنه لا يكفي أن نثبت عدم تناقض أحد المفاهيم حتى نسلم بصحته؛ بل يجب أن نكون قادرين على تركيبه، وذلك على حدِّ التعبير الذي نصادفه على الدوام في كتابات بروفر. فمذهب بروفر لا يكون إذن سوى «جزء» من الرياضيات الكلاسيكية فحسب. ففي بعض الحالات الخاصة المعقدة جدًّا والخاصة باللامتناهي، قد يجد المرء قضايا ليست متناقضةً (وبالتالي ليست باطلةً) ولكنه لا يستطيع الجزم بصحتها؛ أعني بما إذا كان من الممكن تركيبها بالفعل. في هذه الحالات لا يمكن تطبيق مبدأ الثالث المرفوع، وعلى ذلك فلا يمكن في رأي بروفر الاعتراف بصحة مبدأ الثالث المرفوع بصفةٍ مطلقة، وإذن فهذا الموقف مرتبط برفض المنطق التقليدي، ويقتضي منطقًا جديدًا (صاغه تلميذ لبروفر هو: هيتنج Heyting) ولكن النزعة الحدسية ليست منطقًا بحسب جوهرها وإنما هي مذهب رياضي، وفضلًا عن ذلك فالمنطق في نظر بروفر، شأنه شأن كل لغة، ليس دقيقًا في التعبير عن النشاط الرياضي الذي هو حدسي في أساسه.

غير أن مذهب بروفر يظلُّ مذهبًا خاصًّا جدًّا، وهو على هامش الرياضيات الكلاسيكية تمامًا.

رابعًا: الهندسات اللاإقليدية

(١٦) المصادر الخامسة لإقليدس. هندسة لوباتشفسكي

إذا أردنا توضيح بعض خصائص منهج البديهيات، فلن نجد في ذلك خيرًا من القيام بعرضٍ سريع للهندسات اللاإقليدية. ولقد ذكرنا من قبلُ المحاولات المتعددة التي بُذلت طوال عصور عديدة للبرهنة على مصادرة إقليدس القائلة بوجود خطٍّ مواز، وخطٍّ واحد (وهي المصادرة الخامسة) وفي مُستهل القرن التاسع عشر «أدى الإخفاق العام إلى إثارة فكرة جديدة لدى علماء الهندسة، بصورة تبلغ قدرًا غير قليلٍ من الدقة، هي أن مُسلمة إقليدس لا يمكن البرهنة عليها، ومن الضروري أن نُسلِّم بها دون برهان، أو أن نُسلِّم بأخرى تعادلها.»١٦ وبالتدريج أخذت الآراء تتجه إلى رفض الفِكَر القائلة إن قضية إقليدس هي نظريةٌ لم يكشف بعدُ برهانها، فاعتبرت مصادرة حقيقية لا يمكن استنباطها من المصادرات الهندسية الأخرى، ولو تذكَّرنا معيار استقلال المصادرات الذي أشرْنا إليه في القسم «٥» لفهِمنا معنى محاولة العالِم الرياضي الروسي لوباتشفسكي Lobatchevski (١٧٩٣–١٨٥٦م). فلوباتشفسكي قد بدأ بمصادرةٍ مرتبطة ببقية مصادرات الهندسة الإقليدية، وهي تنحصر في قضية تناقض مصادرة إقليدس؛ إذ تفترض أنَّ من الممكن مدَّ مُستقيمَين لا مستقيم واحد، من نقطة خارج مستقيم، ومن هذا الأساس الأول، استنبط نظريات عدة، ونشر نتائج أبحاثه باللغة الروسية في مطبوعات جامعة قازان Kazan في عام ١٨٣٠م. ثم نشرها باللغة الفرنسية في مجلة Journal de Grelle ١٨٣٧م، ولا شكَّ في أن النظريات التي تكوَّنت على هذا الأساس الجديد كانت تناقض نتائج الهندسة التقليدية. فقد تبيَّن مثلًا أن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث لا يساوي قائمتَين؛ بل هو دائمًا أقلُّ من قائمتَين، ولكن لوباتشفسكي لم يعثر على تناقصات «داخلية» في البناء الذي شيَّده على أساسٍ معدل، ولو وُجد تناقض داخلي لكان في ذلك برهانٌ على أن مصادرة إقليدس لم تكن مُستقلةً عن المصادرات الأخرى في الهندسة، وأنه يمكن البرهنة عليها.

ولا شك أن اعتراضًا يخطر بالذهن ها هنا: فمن الجائز أن لوباتشفسكي لم يسِر في التركيب الذي شيَّده إلى الحد الذي يجعله يصادف التناقض الذي كان كفيلًا بهدم نظرياته، وكان في الوقت ذاته كفيلًا بأن يأتي أخيرًا ببرهانٍ على مصادرة إقليدس بطريق «الخلف».

غير أن هذا الاعتراض قد وجد الإجابة عنه في مؤلفات الرياضي الألماني «فيليكس كلاين Felix Klein» (١٨٤٩–١٩٢٥م) والعالِم الرياضي «بوانكاريه Poincaré» (١٨٥٤–١٩١٢م). فقد وضع كلاين «أنموذجًا إقليديًّا» للهندسة اللاإقليدية، ووضع بوانكارية «معجمًا» يمكِّن من ترجمة نظريات لوباتشفسكي بلغةٍ إقليدية، وعلى ذلك، فإذا كان من الممكن الاهتداء إلى تناقض في بناء هندسة لوباتشفسكي، فإن «المعجم» يُتيح تحديد هذا التناقض في بناء الهندسة الإقليدية. فمجال صحة الهندسة اللاإقليدية يُعادل في عُمقه تمامًا مجال صحة الهندسة التقليدية، أي الهندسة الإقليدية القديمة.١٧
وإذن فقد بيَّن بوانكارية التكافؤ التام بين الهندسة الإقليدية والهندسة اللاإقليدية عند لوباتشفسكي، من حيث الصدق. ومن هنا يكون السؤال عما كانت إحداهما أصدقَ من الأخرى، سؤالًا أُسيء وضعه. ولندع بوانكاريه يتكلم: «فما قولنا في هذا السؤال: هل الهندسة الإقليدية صحيحة؟ ليس لهذا السؤال أي معنى؛ بل هو لا يختلف عن التساؤل عما إذا كان نظام القياس العشري صحيحًا والمقاييس القديمة باطلة، وعما إذا كانت إحداثيات ديكارت صحيحةً والإحداثيات القطبية باطلة. إن أية هندسة لا يمكن أن تكون أصدق من الأخرى، وكل ما يمكنها هو أن تكون أكثر يسرًا Plus Commode على أن الهندسة الإقليدية أكثر يسرًا من غيرها، وستظل كذلك دائمًا:
  • (١)

    لأنها هي الأبسط …

  • (٢)
    ولأنها تتفق إلى حدٍّ غير قليل مع خصائص الأجسام الطبيعية، وهي الأجسام التي تقترب منها أعضاء جسمنا، وعيننا، والتي نصنع منها ما لدَينا من أدوات للقياس.»١٨

ولقد كان لهذه الإشارة إلى اليُسر دورٌ كبير في بداية هذا القرن، فرأى البرجماتيون فيها تأييدًا لمبدئهم الفلسفي القائل إن الحقيقة تتَّصِف بأنها قيمة للمنفعة، ولليسر.

والحقُّ أنه مهما كان لهندسة إقليدس من قيمةٍ عملية تكاد تكون شاملة، فمن الممكن فعلًا أن تظهر حالات تُصبح فيها الهندسة اللاإقليدية أكثر مناسبةً لأحد البحوث الخاصة. فعندما بدأت النظرية النسبية العامة لأينشتين تُطبَّق، تبين أن من الممكن التعبير عنها عن طريق هندسة أخرى لا إقليدية (هي هندسة ريمان) بطريقةٍ أكثر يسرًا منها في هندسة إقليدس. وعلى هذا فالإشارة إلى اليسر لا يمكن أن تمدَّنا بمعيار للقيمة «العقلية» «والتجريبية» المطلقة لهندسةٍ من الهندسات.

(١٧) هندسة «ريمان»

لقد أشرنا منذ قليل إلى الهندسة اللاإقليدية عند ريمان Riemman (١٨٢٦–١٨٦٦م) وهذه الهندسة بدورها لا تقبل قضية إقليدس القائلة بوجود موازٍ واحد. وتتَّخذ هندسة «ريمان» بدلًا من مصادرة إقليدس مصادرةً أخرى تقول إنه لا يمكن رسم أي خطٍّ موازٍ لمستقيم. فأي مُستقيمين على سطحٍ معين يمكن أن يتقابلا. والواقع أن سطح أية كرة (حين ننظُر إليه دون أية إشارة إلى بُعدٍ ثالث) يتمثَّل فيه مجال صالح للتوسُّع في هندسة ريمان ذات البُعدَين. فعلى مثل هذا السطح تكون الفكرة المناظرة للخط المستقيم في المسطح١٩ الذي عرَّفه إقليدس، هي دائرة كبيرة (وكما أن الخط المستقيم هو أقصر مسافةٍ بين نقطتَين على سطحٍ واحد، فكذلك الحال في الكرة، حيث يكون الجزء من الدائرة المحصورة بين نقطتَين هو أقصر مسافةٍ بين هاتين النقطتين)، وواضح أن «المستقيم» عند ريمان (أعني الدائرة الكبيرة) لا يمكن أن يكون له خط مواز (أي دائرة كبيرة أخرى) من نقطة على «السطح» (الكرة) خارجة عن هذا المستقيم، وفي هندسة ريمان يكون مجموع زوايا المثلث أكبر من قائمتَين (إذ إن مجموع زوايا المثلث الكروي أكبر بكثير من قائمتين).

(١٨) هل تتعارض مصادرة لوباتشفسكي مع الحدس؟

في هذه الإشارة إلى هندسة السطح الكروي نرى دعامةً «لأنموذج» هندسة لا إقليدية في نظر الحدس. على أن معارضة الحدس الشائع قد تكون أعظم في بعض الأحيان، فكثيرًا ما يُسيء المرء تصوُّر التعارُض مع تجربةٍ شائعة، ومع حدسٍ معتاد.

ومع ذلك فيبدو من الممكن تبرير المصادرات الجديدة على أساس الحدس، وسنُقدِّم فيما يلي تخطيطًا سريعًا لهذا العمل الذي يقوم به الحدس بالنسبة إلى مصادرة لوباتشفسكي القائلة إن من الممكن أن يُمَدَّ من نقطةٍ خارج مستقيمٍ مستقيمان موازيان لهذا المستقيم.

فكيف يُحاول المعلم، في مرحلةٍ تعليمية مبكرة، أن يُقدِّم فكرة الموازي؟ نفرض نقطة م خارج المستقيم س ص، ونمدُّ منها قاطعًا قابَلَ س ص في أ، ونتصوَّرُ أننا نُغير موضع هذا القاطع في نقطة أ، أَ، أً … وهي نُقَط تتباعد إلى اليسار بالتدريج، ثم نقول إنه في النهاية، عندما تبعُد النقطة أ، إلى ما لا نهاية، يُصبح القاطع موازيًا للمستقيم س ص.

وغنيٌّ عن البيان أننا لو كنا قد تناولنا القاطع م ب، ومجموعة من النقط بَ، بً متباعدة نحو اليمين، لأصبح لدَينا خطٌّ موازٍ في النهاية عندما تبعد النقطة ب إلى ما لا نهاية في جهة اليمين.

وإليك الآن ما اختاره إقليدس وما اختاره لوباتشفسكي، ففي رأي إقليدس أن الموازي المكوَّن من نهاية القواطع على اليمين والموازي المكون من نهاية القواطع على اليسار، هو موازٍ واحد. أما لوباتشفسكي، فيرى أن هذين المستقيمَين النهائيَّين هما موازيان يظلَّان متميزَين في النهاية، كما تميز مجموع القواطع اليُمنى من مجموع القواطع اليسرى.

وبالاختصار فإن إقليدس يفترِض فرضًا زائدًا على لوباتشفسكي، وفي نهاية الأمر يتَّضح أن حدس لوباتشفسكي كان هو الأكثر حرصًا، وهو الذي يُضيف إلى الحدس الأصلي أقلَّ إضافةٍ ممكنة. وهكذا، فمتى أقلعنا عن الخلط بين الحدس وبين إحدى العادات، ومتى تركنا للعقل حريته التامة في الحدس، فلن نستطيع القول إن مصادرة لوباتشفسكي أقل اتفاقًا مع طبيعتنا من مصادرة إقليدس.

(١٩) تعدد الهندسات

وهناك دوافعُ أخرى متعددةٌ للإكثار من الهندسات، ولكن قد يُسيء المرء فهْم الازدهار الحالي في المذاهب الهندسية، إذا أغفل ما يتصف به التفكير الهندسي من وحدة وثيقة.

فالهندسات التي تتباين فيما بينها تبايُنًا هائلًا، يمكن أن تتلاقى معًا على نحوٍ ما، وأن تتَّحِد في مجموعةٍ محكمة متَّسقة من المذاهب. ولكي نُعطي فكرة عن هذا التنظيم المتسق للهندسيات، نُعلق على لوحةٍ ظهرت في الكتاب القيِّم الذي ألَّفه لوسيان جودو Lucien Godeaux.٢٠

فلنبدأ بالهندسة الأولية، وهي تنظيم نوعَين من الأفكار: أفكار يدخل فيها معنى المسافة، وأخرى يدخل فيها معنى الخط المستقيم. فإذا استبعدْنا أحد هذَين المعنيَين أو الآخر عن طريق التجريد، استطعنا الوصول إلى نظرتَين أكثر عموميةً.

فإذا جردنا معنى المسافة، وصلنا إلى هندسة المساقط، وإذا جردنا معنى الخط المستقيم، وصلنا إلى علم القياس العام، فإذا قمنا بعد ذلك بتجريد معنى الخط المستقيم من هندسة المساقط وصلنا إلى علم المواضع topologie.
كما نصل إلى علم المواضع هذا أيضًا إذا جردنا القياس العام من معنى المسافة، وهكذا يتمثل لنا علم المواضع — الذي كان يُسمى من قبل بتحليل الموضع analysis situs — في صورة نظرية غاية في العمومية، لا تتدخل فيها سوى الخصائص الترتيبية الأساسية ordinales (فلما كانت الطوبولوجيا لا تُدخل معنى المسافة في اعتبارها، في مكانٍ فيها للقياس mesuré). وكما يقول جودو Godeaux «فالطوبولوجيا من وجهة النظر الحدسية، دراسة المسطحات والمنحنيات المرنة.» ويكون المسطحان أو المنحنيان متكافئَين في الدراسة الطوبولوجيَّة، إذا أمكن تطبيق أحدهما على الآخر عن طريق تغيير شكله، ولكن دون تمزيقٍ أو تغطية. والطوبولوجيا، رغم ما يبدو عليها من بساطة مردِّها إلى تلك التجريدات التي أوضحناها، علم رياضي عظيم الصعوبة، لهذا كانت تجتذب كثيرًا من المشتغِلِين بالرياضة.

(٢٠) فكرة المجموعة

من بين الأُسس التي يقوم عليها تصنيف النظريات، نجد أن لاعتباراتِ «المجموعات» الرياضية أهميةً خاصة. فلنوضح بإيجاز فكرة المجموعة هذه.

المجموعة هي طائفة من العناصر يمكن أن «تؤلَّف» مثنى مثنى، على نحوٍ يعيد تكوين أحد عناصر المجموعة، ولهذا التأليف ثلاث خصائص:
  • (١)
    أُولاها أنه ترابُطي associative: فإذا تأمَّلْتُ ثلاث عناصر أ، ب، ﺟ، ففي وسعي أولًا أن أُؤلِّفَ بين أ، ب، ثم أؤلف بين نتيجة هذا التأليف الأول وبين ﺟ، ولكنني أستطيع أيضًا التأليف بين أ وبين نتيجة تأليف ب، ﺟ؛ وفي الحالتين أحصل على نتيجة نهائية واحدة.
  • (٢)

    يُوجَد في المجموعة عنصرٌ محايد (ويُسمى أيضًا عنصر وحدة)، وتأليف عنصر محايد مع أي عنصر في المجموعة يؤدي إلى تكوين هذا العنصر.

  • (٣)

    لكلِّ عنصر في المجموعة عنصر مناظر له (ويُسمَّى أيضًا مقابلًا له)؛ والتأليف بين العنصر ونظيره يؤدي إلى العنصر المحايد. فلنضرب لذلك مثلًا: هو نقلات أحد المسطحات، فإذا ألَّفنا بين نقلتَين أ ب، ب ﺟ (أعني إذا أجرينا النقلتَين بالتعاقُب) أصبحت لدَينا نقلة هي أ ﺟ (التي تؤدي بالنقطة أ إلى النقطة ﺟ).

  • (١)

    فإذا أجرينا ثلاث نقلات أ، ب، ﺟ بحيث تصل أ إلى د فإنه يستوي عندنا أن نبدأ من أ إلى ﺟ ثم إلى د، أو من أ إلى ب ثم إلى د.

  • (٢)

    النقلة المحايدة هي التي يمكن تسميتُها بالنقلة المنعدمة، التي تترك كل الأشكال ساكنةً على ما هي عليه.

  • (٣)

    كل نقلة تناظرها نقلة مُتماثلة معها: فلو تأمَّلنا أ ب، لوجدنا النقلة المناظرة هي ب أ، والتأليف بين هاتَين النقلتين المتناظرتَين يؤدي بنا إلى النقطة أ، التي كنا قد بدأنا منها، فنتيجة هذا التأليف هي النقلة المحايدة كما عرفناها من قبلُ.

وإذن فتنقلات المسطَّح تكوِّن مجموعة.

ولتلاحظ — على هامش هذا الموضوع — أننا قد عرفنا خلال العرض نظامًا للبديهيات بطريقةٍ مجردة تمامًا؛ وهو نظام البديهيات الخاص بالمجموعات، والذي ضربنا له مثلًا ملموسًا، هو مجموعة نقلات المسطح.

أما الهندسة الأولية، فتخضع لمجموعة التغيرات والتشابهات، وهذا التعبير المجرد يفسر تجربة شائعة. فمن الممكن تغيير موضع شكلٍ دون تغيير الشكل ذاته، ومن الممكن زيادة أو إنقاص أبعاد شكلٍ بنسبةٍ واحدة، دون تغيير خصائصه الهندسية، والذي يُدهش في الأمر أن هذه الأوصاف المعتادة تكفي للدلالة على ماهية الهندسة الأولية، فإذا ما انتقلنا من الهندسة الأولية إلى مذهبٍ هندسي آخر، كالطوبولوجيا مثلًا، وجدنا مجموعةً أخرى. ففي حالة الطوبولوجيا، يجب فحص مجموعة تُسمَّى بالمجموعة «المتماثلة الأشكال» groupe des homéomorphes وتلك هي مجموعة التغيرات الزوجية المتناظرة والمتصلة، أعني مجموعة التغيرات التي تجعل شكلَين يتناظران نقطةً نقطةً مع بقاء جوارهما مستمرًّا.
وفكرة المجموعة لا تكفي بأن تسود الهندسة؛ بل إن الميكانيكا التقليدية تخضع لمجموعة معادلات لورنتس Lorentz.
وهذه الفكرة، التي تبدو بمثل هذه البساطة في ظاهرها، قد اهتدى إليها شاب فرنسي عبقري قُتل في مبارزةٍ وهو في العشرين من عمره، هو إفارست جولوا (Évariste Galois) (١٨١١–١٨٣٢م) وقد طبق «جولوا» هذه الفكرة على حل المعادلات الجبرية، وثبت من بحثه الأخير الذي كتب في الليلة السابقة على المبارزة، أن جولوا قد أدرك ما في استخدام المجموعات في الجبر من خصوبة عظيمة. والواقع أن فكرة المجموعة، ومعها بعض المعاني الأخرى المتشابهة (مثل معنى الجسم والحلقة الدائرية …) فكرة أساسية في الرياضيات الحديثة: «فنظرية المجموعات هي، بمعنًى ما، الرياضة مجردة من مادتها ومردودة إلى صورتها المحضة.»٢١

خامسًا: امتدادات مفهوم العدد

(٢١) تعاقب الأعداد الصحيحة لا ينتهي

أوضحنا في الفصل السابق كيف نشأت فكرة العدد، فرأينا أن العدَّ كان ينحصر في إيجاد تناظر بين مجموعتَين (بحيث يرتبط شيء من إحدى المجموعتين بشيء من المجموعة الأخرى). فإذا أمكن إيجاد مثل هذا التناظر حتى تستنفد كل الأشياء في المجموعتَين في وقتٍ واحد، أمكن القول إن عدد الأشياء في المجموعتين واحدٌ.

ولكن لا يمكن معرفة العدِّ معرفة صحيحة، إلا إذا استطاع المرء الوصول إلى التناظر بين الأشياء وأسماء الأعداد، ثم إلى المعنى المجرد للعدد، وسرعان ما تتكون في الذهن فكرة السلسلة غير المحددة من الأعداد الصحيحة، ويفهم المرء كيف يستعمل النظام الرقمي دون أن يقف عند حدٍّ، عندما يُدرك أن عملية الوصول إلى الرقم التالي لعدد معين بإضافة واحد، يمكن أن تستمر على ما هي عليه، إلى ما لا نهاية. لهذا يمكن القول إن السلسلة غير المتناهية للأعداد الصحيحة الموجبة تتبدَّى لدينا في حدس بسيط.

(٢٢) الأعداد السالبة والأعداد الكسرية

لنفحص سلسلة غير محددة من الأعداد الصحيحة الموجبة ١، ٢، –ن فإذا أخذنا أي اثنين من هذه الأعداد، أمكننا دائمًا أن نجمعهما فتكون النتيجة التي نحصل عليها هي دائمًا عدد في السلسلة م. ولكنا إذا نظرنا إلى حالة الطرح، وجدنا أنَّ هناك حالات لا يعود فيها الطرح ممكنًا. لهذا أدَّت الرغبة في المضي في عملية الطرح دون أي عائق، إلى وضع مفهوم الأعداد السالبة، وبالتالي إلى زيادة سلسلة الأعداد عن طريق الأعداد السالبة، كما أدت استحالة إجراء عملية القسمة دون باقٍ بين الأعداد الصحيحة في حالاتٍ معينة، إلى التوسُّع في فكرة العدد، عن طريق خلق الأعداد الكسرية، وكما يقول الرياضي بول ديبرل Paul Dubreil في بحثه عن الجبر «إن لمشاكل الامتداد التي تثار عن طريق مجرد تحليل لفكرة العملية، أهمية قصوى.»٢٢

(٢٣) الأعداد الجذرية rationnels والأعداد الصماء irrationnels

فلنفحص الآن امتدادات العدد كما تظهر عندما نستخدِم العدد للتعبير عن نتائج القياس mesure فقياس بُعدٍ معين (وليكن قياسه، على بُعدٍ آخر يُتخذ وحدةً. وعندما حاول الفيثاغوريون قياس طول المربع، متخذِين وحدة القياس من طولٍ نحصل عليه بتقسيم ضلع المربع أقسامًا متساوية، أدركوا أن القياس في هذه الحالة لا يمكن أن يتم «بدقة» وكذا تبيَّن أنه لا يوجد قياس مشترك بين طول الضلع وطول القطر … فلم يكن من الممكن الاهتداء إلى «مقياس مشترك commune mesure» بين هذين المستقيمين اللذين يتمثلان في شكل بسيط جدًّا.
ولقد كان في ذلك «إخفاق» لتطبيق العدد على قياس الأبعاد، ومع ذلك، كان من الضروري البحث عن «كيان» رياضي للتعبير عن «العلاقة» بين هذين الطولَين اللذين تبيَّن عدم وجود مقياسٍ مشترك بينهما. ولما كان الرياضيون قد نظروا دائمًا إلى الأعداد الصحيحة، على أنها واضحة جلية أمام العقل، ولما كان من الممكن القول بأن الأعداد الكسرية ترجع إلى الأعداد الصحيحة (بوصفها علاقة بين عددَين صحيحين) فقد كان من الطبيعي أن يُطلق على مجموع الأعداد الصحيحة والكسرية (الموجبة والسالبة) اسم الأعداد الجذرية.٢٣ أما الكيانات الجديدة التي لا يمكن التعبير عنها بأعداد جذرية، فقد سُميت «صماء».
فإذا رجعنا إلى النظرية الأساسية في قُطر المربع، لوجدنا أن العدد الأصم الذي صادفناه كان ، إذا اتخذنا من ضلع المربع وحدة٢٤ ولنقل ثانية إن هذا العدد لا يمكن أن يوضع في صورة كسرٍ (ومن الممكن حسابه باستخراج الجذر التربيعي ولكن الحساب يظل تقريبيًا على الدوام).
وبهذه الإشارة إلى الجانب التاريخي، وضحنا كيف ظهرت فكرة الأعداد الصماء في الهندسة، ولكن دورها في الجبر واضح، فالجذر هو جذر المعادلة س٢ – ٢ = صفر ونستطيع كتابة عدد لا متناهٍ من المعادلات تكون جذورها كلها أعدادًا صماء.
وهكذا نرى أننا إذا أردنا حل كل المعادلات الجبرية، وجب علينا التوسُّع في عتادنا العددي. فهناك حلول معينة لمعادلات جبرية تعبر عنها أعداد صحيحة وكسرية. وهناك حلول أخرى تعبر عنها أعداد صماء (ووجود هذه الأعداد الصماء راجع إلى أن الأعداد الصحيحة والكسرية ليست كلها مربعات كاملة)، وإذن فلضمان وحدة التفكير الجبري، يجب أن نجمع في نسقٍ واحد بين مجموعة الأعداد الصحيحة، والكسرية والصماء، مثل ، ولما كانت كل الأعداد الصحيحة والكسرية والصماء، كما عرفناها الآن، يمكن تصوُّرُها حلولًا لمعادلات جبرية، ترتَّب على ذلك أنها تندرج جميعها تحت اسمٍ واحد هو الأعداد الجبرية.

(٢٤) الأعداد العالية

ومع كل ذلك فما زلنا بعيدِين عن الوصول إلى كل الكيانات الضرورية لدراسة الكم دراسةً عامة. فهناك نقط على محور السينات لا يمكن تحديد نقطها البيانية عن طريق أي عددٍ من الأعداد التي أشرنا إليها حتى الآن، وهنا أعداد ليست حلًّا لأية معادلة جبريَّة، وتُسمى بالأعداد العالية transcendants (العدد مثلًا عدد عال: إذ ثبت أنه لا يمكن أن يكون حلًّا لمعادلة جبرية). ولما كانت كل الأعداد الجبرية (الصحيحة أو الكسرية) حلولًا لمعادلات جبرية، فقد وجب أن تكون الأعداد العالية أعدادًا صماء. فالأعداد الصماء إذن نوعان: أعداد صماء مثل ، وهي أعداد جبرية، وأعداد صماء مثل ليست جبرية، ومن ثم كانت عالية حسب تعريفها.
والأعداد الجبرية والأعداد العالية تكوِّن مجموع الأعداد المسماة بالحقيقية réels، ومن الممكن وضعها كلها مرتبة في مُستقيم واحد، فيكون مجموع هذه الأعداد هو مجموع كل نقط المستقيم، وهي كلها تتساوى في أنها أحوال للمقدار، وهكذا رأينا كيف ازداد عالَم التفكير الرياضي ثراء بهذه الموضوعات الجديدة.٢٥

(٢٥) الأعداد الخيالية

يبحث الجبر في الأعداد الخيالية إلى جانب الأعداد الحقيقية؛ وهي تظهر بدورها لتعميم القضايا. فإذا تأمَّلنا مثلًا المعادلة س٢ + س + ١ = صفر كان علينا أن نستخلص الجذر التربيعي لعدد سالب، وعندئذٍ نقول إن المعادلة ليس لها جذر حقيقي، ومع ذلك ففي وسعنا أن نتصوَّر إمكان حلِّ هذه المعادلة إذ قُلنا بفكرة العدد الخيالي. غير أن المسألة في هذه المرة ليست امتدادًا لفكرة العدد بالمعنى الصحيح؛ إذ لا يمكن تصوُّر العدد الخيالي بأنه نقطٌ على خطٍّ مستقيم تُرتَّب عليه كل الأعداد الحقيقية؛ بل إن العدد الخيالي هو في الواقع تنظيم لعددَين حقيقيَّين، ويجب ألا يُعبَّر عنه بأنه نقطة على مُستقيم فحسب؛ بل على أنه نقطة على مسطح، وهنا تغيير كامل للمعنى الأساسي للعدد، وهو تغيير يزيدنا شعورًا بحقيقة مجموع الأعداد الحقيقية (أي الأعداد الجبرية والأعداد العالية).

(٢٦) فكرة اللامتناهي–فكرة القوة

وبعد هذا العرض السريع للامتدادات المتعاقبة لمعنى العدد، يجب علينا أن نُفسح مكانًا لامتدادٍ متطرف، وأن نختبر بإيجاز مسألة «العدد اللامتناهي». والواقع أن الرياضة الحديثة قد أدركت ضرورة استبدال فكرةٍ جديدة بفكرة العدد لحل مسائل تتعلق بمجموعاتٍ من الأشياء «لا نهاية لعددها»، وتلك هي فكرة «القوة»؛ فتُسمى الفئات اللامتناهية من الأشياء باسم المجموعات ensembles. ودراسة المجموعات مبحث أصبحت له أهمية قصوى منذُ ما يقرب من قرنٍ من الزمان، ويُسمَّى الرياضيون الباحثون فيه باسم المجموعيِّين ensemblistes.

فعلى أي نحوٍ تبدو فكرة قوة مجموعة لا متناهية؟ يُقال عن المجموعتين أن لهما نفس القوة إذا أمكن وضع تناظُر بينهما عنصرًا عنصرًا (أي تناظر فردي بين كل زوج).

فكما أن العدد قد استمدَّ معناه من أن فئتَين متناهيتَين تتفقان في العدد، فكذلك تستمدُّ القوة معناها من أن مجموعتَين لا متناهيتَين لهما نفس القوة.

ونقول بعبارة أخرى إن معنى العدد لا يصلح لدراسة مجال اللامتناهي؛ بل ينبغي أن نستعين في هذه الدراسة بفكرة القوة، وهي فكرة تُوسِّع معنى العدد، وتستخدِم مع ذلك فكرة التناظر واحدًا واحدًا، التي نجدها في أساس بناء الحساب ذاته.

فلننظر بالأمثلة إلى تطبيق فكرة القوة، ولنفحص مجموع حواصل الضرب في ٣، ومجموع حواصل الضرب في ٥. فإذا كنا بصدد عددٍ متناه، أي الأعداد المائة مثلًا، كان عدد حواصل الضرب في ٥ أقل بطبيعة الحال من عدد حواصل الضرب في ٣. ولكن إذا قارنا المجموعات اللامتناهية عن طريق فكرة القوة، وجدنا أن المجموعَين (حواصل الضرب في ٣ وحواصل الضرب في ٥) لهما نفس القوة، التي تساوي بالضبط قوة مجموع الأعداد الصحيحة، وهي القوة الأساسية بقوة «المعدود dénumerable». ويكفي أن نضع ٣، ٥ «بوصفهما عوامل» لكي نُبين أن من الممكن إيجاد تناظر بين هذه المجموعات الثلاث حدًّا حدًّا:
١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٠ ٠ ٠
٣ ١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٠ ٠ ٠
٥ ١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٠ ٠ ٠
وليس من العسير أن نثبت أن مجموع الأعداد الكسرية يساوي هو الآخر قوة المعدود؛ بل من الممكن أن نثبت بها أمرًا آخر أصعب، وهو: أن مجموع الأعداد الجبرية (التي تشتمل إلى جانب الأعداد الصحيحة والكسرية على أعداد مثل ، ، ) له هو الآخر قوة المعدود.

ولقد كان لاستبدال فكرة القوة بفكرة العدد قيمة تنظيمية كبرى في بحث مشاكل اللامتناهي العددي، وعلينا أن ننتبه جيدًا إلى هذه القيمة. والحق أن الفكرة هنا ليست عسيرةً؛ بل إن كل فيلسوف يريدُ أن يظلَّ على صلةٍ بالمشاكل الحديثة يستطيع أن يفهمها دون عناءٍ كبير.

أما مجموع الأعداد الحقيقية (وبالتالي مجموع نقط المستقيم) فيجب أن نبحث له عن قوة أخرى. فهذا المجموع ليست له قوة المعدود، بل قوة الكمِّ المتصل التي سوف نفحصها الآن.

فلنفحص جزءًا من مستقيم طوله أ ب، وجزءًا طوله مضاعف هو أَ بَ ففي كل منهما بطبيعة الحال عدد لا مُتناهٍ من النقط، ومع ذلك فإذا أردنا مقارنة هاتَين المجموعتَين اللامتناهيتَين من النقط، كان الجواب المتسرِّع هو أن نقط أَ، بَ ضعف نقط أ ب، ما دام طول أَ بَ ضعف طول أ ب. ولكن لنتصور المستقيمَين كما في الشكل التالي. فمن الممكن أن تؤدي قواطع م د دَ إلى إيجاد تناظرٍ بين كلٍّ نقطة من أَ بَ وبين نقطة واحدة فحسب من أَ بَ، وبالعكس وهكذا نجد أن مجموع أَ بَ ومجموع أَ بَ لهما نفس القوة، وهي القوة المسمَّاة بقوة المتصل. وليس هذا البرهان حديثًا بل إنه يظهر في كتاب أويلر Euler٢٦ «رسائل إلى أميرة ألمانية».

على أن فكرة القوة هذه، التي ثبت أن لا غناء عنها في دراسة المجموعات اللامتناهية، قد تُحير الحدس. ولنضرب لذلك مثلًا، فنتصور جزءًا من خطٍّ مستقيم أ ب، ونُقسِّمه إلى ثلاثة أجزاء متساوية، ثم نمحو الجزء الأوسط ثم نُعيد عملية التفريغ في الجزأينِ، ثم في الأجزاء الأربعة الباقية، وهكذا دواليك. قد تظنُّ أن عمليات البتر هذه، التي تتوالى إلى ما لا نهاية، تؤدي إلى تناقُص عدد نقط أ ب بسرعة كبيرة، ولكن لنقل مرةً أخرى إن فكرة العدد لا تصلح للتعبير عن عناصر المجموعات اللامتناهية، ويثبت الرياضيون أنه على الرغم من هذا التناقض غير المحدود، يتبقى من المجموع الأول أ ب نقط تكفي لكي يكون المجموع الباقي مساويًا على الدوام لقوة المتصل.

ويصادفنا أمرٌ آخر يدعو إلى الدهشة إذا تابعنا الرياضي في تقديره لقوة مجموع نقط المسطح. فقد أوضح الرياضي الإيطالي «بينانو Pane» «تركيب المنحنى» الذي يمر بجميع نقط المربع، ولما كان مجموع المنحنى له قوة المتصل، فلا بد أن نستنتج إذن أن مجموع نقط المسطح له نفس القوة بالضبط.

والحق أننا إذا أردنا توضيح أهمية فكرة القوة هذه من الأبحاث الدائرة حول ظواهر اللامتناهي، فربما وجب أن نأتي بأمثلة أخرى متعددة.

ولكن الأمثلة التي أوضحناها تكفي في بيان العمل الضخم لضروب الحدس، التي تظل تُصحَّح على الدوام عن طريق إنتاج العقل لأفكار جديدة أخرى، وهي أفكار أصلح من الصور الأولى التي كُوِّنت في حدس متسرع.

١  Ferdinand Gonseth: Les fondements des mathématiques, Blanthard, 1926, P. 11.
٢  G. Bauligand: Les méthodes mathématiques, centers de documentation universitaire, p. 43.
٣  Nicolas Bourbaki: L’architecture des mathématiques, p. 4. in: les grands courants de la pensée mathématique ولقد جمع هذا الكتاب F. Le Lionnais في ١٩٤٨م. فقد نشرت جماعة من علماء الرياضة، باسم Nicolas Bourbaki عدة أبحاث رياضية معروضة بصورة تتَّسِم باتباع منهج البديهيات وبالتجريد الخاص.
٤  تولى لوجل Laugal ترجمة هذا الكتاب إلى الفرنسية باسم Les fondements de la géometrié ونشر في مكتبة Gauthier-Villars عام ١٩٠٠.
٥  ترجم إلى الفرنسية في ١٨٧٩م (نشر في Gauthiers Villars).
٦  “La définition en mathématiques,” article dans “Le grands courants de la pensée mathématique” (Cahiérs du Sud) p. 24.
٧  انظر مقال بوريل عن «التعريف في الرياضيات».
٨  Jean Dieudonné: David Hilbert, in “les grands courants de la Pensée mathématique”, p. 295.
٩  أخذنا بهذا اللفظ في الترجمة نظرًا لأن الفكرة الأساسية في هذا الاستدلال هي الترديد والتكرار، ومن هنا قرَّب بوانكاريه بينه وبين الاستقراء. (المترجم)
١٠  هناك الاستدلال بتفاصيله.
«لنفرض» أن (١ + ١) ك < ١ + ك١ صحيحة، وفي وسعنا أن نضرب الطرفين غير المتساويين هنا، دون تغيير معناهما في العدد ١ + أ، فما دامت أكبر من −١، فإن ١ + أ موجب دائمًا وعندئذ نجد أن (١ + أ) (١ + أ) ك < (١ + أ) (١ + ك أ).
أي (١ + أ) ك + ١ < ١ + (ك + ١) أ + ك أ٢.
ولما كانت ك أ٢ موجبة دائمًا (ما دام ك موجبًا، أ مختلفة عن الصفر).
فبالأحرى يكون (١ + أ) ك + ١ < ١ + (ك + ١) أ.
وبهذا نكون قد برهنا على أنه إذا كان عدم تساوي الطرفين في (١) صحيحًا حيث ن = ك فإنه أيضًا صحيح حيث ن = ك + ١
فلنحقق الآن عدم تساوي الطرفين في (١) حيث ن = ٢، أي حيث يصح القول إن (١ + أ)٢ > ١ + ٢أ (١ + أ)٢ = ١ + ٢أ + أ٢، ١ + ٢أ + أ٢< ١ + ٢أ.
(١ + أ)٢   < ١ + ٢أ.
١١  Traité de logique p. 272.
١٢  G. Bauligand: Les méthodes mathématiques, Centre de documentation universitaire, 1948.
١٣  Nicolas Bourbaki: L’architecture des mathématiques in “Les grands Courants de la pensée mathématique”, p. 47.
١٤  Sur le fondement logique des mathématiques, in “Revue scientifique”, Janvier 1943, p. 11.
١٥  H. Cartan, ibid.
١٦  P. Barbarin: La géométrie non–euclidienné Gauthiers–Villars, p. 12.
١٧  نستطيع أن نهتدي إلى أطرافٍ من هذا المعجم في كتاب بوانكارية المشهور: العلم والفرض La science et l’hypothyése ص٥٧.
١٨  المرجع نفسه ص٦٦–٦٧.
١٩  يلاحظ الفرق بين سطح الكرة عند ريمان (surface) والمسطح عند إقليدس plan (المترجم) (م١٠، المنطق).
٢٠  Les Géométries, éd, Colin, p. 185.
٢١  أورده فرييه Gustave Verriest في كتابه:
Les nombres et les espaces, éd, Colin, p. 94.
٢٢  Paul Dubreil: Algébre, Gauthiers–Villars, 1946, p. 24 ومطلب التطبيق دون استثناء، يتمشَّى مع الفكرة الحديثة عن العملية المجردة: فتعريف العملية المجردة ينطوي على القول بأن هذه العملية ممكنة دائمًا، أعني أن كل زوج، بلا استثناء، من العناصر أ، ب، في مجموع معين، تُناظره النتيجة ﺟ (التي تنتمي إلى نفس هذا المجموع).
٢٣  يلاحظ أن ترجمتها الحرفية هي: الأعداد «المعقولة» كما يلاحظ أنه أشار في مُستهل هذه الجملة إلى أثر هذه الأعداد على «العقل»، وذلك لتوضيح اشتقاق اللفظ. (المترجم)
٢٤  وتر المربع هو وتر المثلث قائم الزاوية ضلعاه هما ضلعا المربع، ولما كان مربع الوتر في المثلث القائم يساوي مجموع المربعَين المنشأين على الضلعين الآخرين، فإننا إذا افترضنا أن طول ضلع المربع (١)، كان مربعه (١) أيضًا، وكان مجموع مربعَي الضلعَين (المتساويين) (٢) الذي يساوي مربع الوتر، فيكون طول الوتر نفسه هو . (المترجم)
٢٥  إذا عدنا إلى استخدام تعبيرات هلبرت ذاتها، أمكننا أن نُسمِّي منهج إدخال معنى العدد الحقيقي بالمنهج التكويني génetique ما دام أعم معنًى للعدد الحقيقي ينتج عن طريق امتدادات متعاقبة لمعنى العدد الصحيح، ولكن من الممكن إدخال معنى العدد الحقيقي مباشرة عن طريق البديهيات الحديثة فنُحدد هذا المعنى عن طريق خصائص تذكر في نسق من البديهيات.
٢٦  ليونادر أويلر (١٧٠٧–١٧٨٣م) عالم رياضي وفلكي سويسري مشهور ظهرت له أبحاث عظيمة القيمة خلال القرن الثامن عشر . (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤