الفصل السابع

العلوم الطبيعية

تتصف العلوم الطبيعية الحديثة بتطبيقها للرياضيات على معرفة الطبيعة، تبعًا لفكرةٍ عبَّر عنها ديكارت، وإن كان تحقيقها يرجع إلى كبلر وجاليليو. وفيما بعد طبَّق «لافوازييه» هذه الفكرة على الكيمياء.

ومن الممكن رد مناهج هذه العلوم إلى ثلاث عمليات متتالية:
  • (١)

    تحديد الوقائع، الذي لا ينحصر في مجرد ملاحظتها بدقة، حتى لو كان ذلك من طريق آلات التحليل، والتكبير، والتسجيل، بل ينطوي على قياس وقائع مختارة، وتفسير هذا القياس وتصحيحه.

  • (٢)

    البحث عن القوانين، أي عن العلاقات الضرورية التي تصدُق بصفة عامة، والتي تربط الوقائع بعضها ببعض، وليس هذا البحث قراءة بارعة للوقائع، كما ظن (جون استيوارت مل) بل هو إبداع حقيقي. ومن الممكن تصنيف الأنماط الرئيسية للإبداع التجريبي.

  • (٣)
    التحقق من صدق القوانين، أو التجريب، وهو اختبار الفكرة عن طريق وقائع ينتجها المرء أو يتنبأ بها، ويقال عن هذا التحقيق — تبعًا لاصطلاح بيكن — إنه حاسم cruciale إذا كان يتخذ صورة برهان الخلف، الذي نصل إليه بحذف الفروض الباطلة، ولكن هذا الحذف لا يؤدي أبدًا إلى نتيجة دقيقة منطقيًّا.

وأخصب أجزاء المنهج التجريبي هو «الفرض»، الذي يُخترَع من أجل تفسير الوقائع بقانون سوف نتحقَّق من صدقه تجريبيًّا. والطبيعة الرياضية فرضية استنباطية، شأنها في ذلك شأن العلوم الرياضية، وكل ما في الأمر أن البرهان في هذه العلوم الأخيرة يأتي عن طريق الإثبات الاستنباطي، أما في الأولى فالاستنباط يبحث عن البرهان في الوقائع.

أولًا: نظرة إجمالية

(١) ضرورة التفرقة بين الجانب النظري والجانب العملي، وبين العالِم والمهندس

تقوم حضارتنا المادية على أساس الصناعية العلمية، وهي تحقق بذلك حلمًا طاف بذهن «ديكارت».

فقد أكد ديكارت أنه «بدلًا من هذه الفلسفة النظرية التي تُعلَّم في المدارس، يمكن الاهتداء إلى طريقةٍ تُتيح لنا — متى عرفنا قوة وآثار النار والماء والهواء والنجوم والسماوات وجميع الأجسام الأخرى المحيطة بنا، بمثل الدقة التي تُعرَف بها مختلف مِهن الصُنَّاع لدَينا — استخدام جميع هذه القوى في كل الاستعمالات التي تصلح لها. وبهذا نصبح سادةً مُسيطرين على الطبيعة.»١

ولكن من الضروري أن نميز في ضروب التقدم التي أحرزها عصرنا بين دور العلوم بمعناها الصحيح، ودور الأساليب الفنية (التكتيك)، ولهذا الفصل بين المجالين أهمية بالنسبة إلى مناهج البحث العلمي أولًا، وبالنسبة إلى الأخلاق ثانيًا وعلى وجه أخص. ذلك لأن من الجائز أن يكون الحكم الذي نُصدره على مدنيتنا إذا تأمَّلنا النتائج العلمية التي وصلت إليها، مختلفًا كل الاختلاف عنه إذا تأمَّلنا التطبيقات الصناعية التي استخلصتها من العلم، وخاصة لأن هذه التطبيقات الصناعية لم تصدُر كلها عن العلم مباشرةً؛ بل الأمر أبعد من أن يكون كذلك.

وعلى أية حال، فالعلم يستهدف المعرفة؛ إذ يحصي العالِم الذرات ويقيس أبعاد النجوم، ويحسب عمر الأرض. أما القائم بالتطبيق الفني، أي المهندس، فيحاول الوصول إلى كشوفٍ تزيد من رخاء الإنسان وقوته، وذلك باستخدام النتائج التي توصَّل إليها العلماء في معامِلهم في أغلب الأحيان. فالتمييز بين الاثنين واضحٌ كل الوضوح.

والذي يُهمِّنا وحدَه هنا هو العلم بمعنى الكلمة.

حقًّا أنَّ من العسير أنْ نفصله عن الأساليب الفنية فصلًا تامًّا؛ إذ إن المصنع يشتغل من أجل المعمل، بمعنى أنه يزوده بأجهزة عديدة (كالآلات الكهربائية والعدسات الفلكية) وهي أجهزة يحتاج صُنعها إلى مقدرةٍ صناعية غير ضئيلة. وفضلًا عن ذلك فالمصنع هو — بمعنًى ما — معملٌ ضخم للتحقيق التجريبي، وللكشف في كثيرٍ من الأحيان. فإذا كنا على يقينٍ من صحة العلم، فإن قدرًا كبيرًا من ذلك اليقين يرجع إلى أن ذلك العلم قد ثبتت صحتُه بالتطبيقات الصناعيَّة. فالقوة تثبت العلم؛ ولكن العلم ليس هو القوة.

(٢) الفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء

سوف نُفرِّق، بناءً على المصطلحات التقليدية، بين علم الفلك وعلم الطبيعة والكيمياء، وإن يكن من المحال أن تُنسَب إلى هذه التفرقة قيمة مطلقة، فنحن نعلم أن هذه العلوم الثلاثة قد أصبحت متداخلةً في أيامنا هذه.

ومع ذلك فسوف تصبح نظرتنا إلى علم الطبيعة الرياضي أكثر وضوحًا إذا ما عُدنا بها إلى الوراء قليلًا، أي إلى العهد الذي كان علم الفلك وعلم الطبيعة والكيمياء فيه علومًا مُتميزة. وكما قال ديكارت، «فإننا نُدرك طبيعة هذه العلوم على نحوٍ أكثر يسرًا إذا تأمَّلناها، وهي تظهر على هذا النحو شيئًا فشيئًا، مما لو تأمَّلناها وهي تامةٌ كاملة.»

  • (١)
    فعلم الفلك الرياضي قد كشفه اليونانيون، وقد أراد أفلاطون نفسه أن يحوِّله إلى نوع من الميكانيكا السماوية.٢ والواقع أن مشكلة التفسير الفلكي بالنسبة إلى اليونانيين كانت تقتصر على افتراض وجود حركات «حقيقية» أرادوا أن تكون دائريةً مُطردة، حتى يمكن تفسير المظاهر البادية في السماء، لأن الدائرة التي تُعبر بحركةٍ مطردةٍ كانت تبدو في نظرهم الشكل الميكانيكي الوحيد الذي يمكن أن يعقل حقيقة. ولا شك أن ميتافيزيقا (الفرجار) هذه — إذا أجيز لنا هذا التعبير — كانت ضيقة الأفق إلى حدٍّ ما، ولكن توجيهها كان صحيحًا إلى حدٍّ بعيد. ثم أدَّى تقدُّم الهندسة إلى تقدُّم علم الفلك، فعندما أصبح الشكل البيضاوي معقولًا تمامًا، على غرار الدائرة، وعندما أمكن تحويل عددٍ كافٍ من الأقواس بعضها إلى بعض، عندئذٍ حدث ما يُسمَّى بانقلاب «كبرنك» وأمكن الاهتداء إلى قوانين كبلر. وإنا لنعلم أن كبرنك (١٤٧٣–١٥٤٣م) قد اقترح في كتابه المسمَّى بالدورات السماوية Les révolutions célestes (والذي ظهر في نفس العام الذي تُوفِّي فيه) تغيير أساس ملاحظتنا الفلكية، وذلك بأن تُصبح الشمس مركزًا رياضيًّا للكون بدلًا من الأرض، وقد صاغ كبلر القوانين الثلاثة التي تخضع لها حركة كوكب المريخ حول الشمس، ثم طُبقت هذه القوانين خلال القرن السابع عشر على جميع النجوم وتوابعها. كما استغلَّ كبلر الملاحظات الدقيقة التي قام بها أستاذه «تيكوبراهي Tycho Brahé».
  • (٢)
    كان اليونانيون لا يكادون يعلمون شيئًا عن علم الطبيعة الرياضي (بمعناه الضيق)، هذا إذا استثنينا علم الصوت الرياضي الذي درسَه الفيثاغوريون باسم «علم توافق الأصوات»،٣ وكانوا يعتقدون أن عالَم ما فوق القمر هو وحده الذي يتمثل فيه النظام والقوانين والحكمة، وأن العالَم الأرضي أقرب إلى الفوضى، ومن هنا كان لدَيهم علم فلك عقلي ولم يكن لديهم علم طبيعي.
    ولقد تفرَّع علم الطبيعة الحديث عن الميكانيكا القديمة، وعلم الفلك أدَّى لدى كبرنك، في آنٍ واحد. وكان جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) هو الذي حدد صورته عندما وضع قوانين سقوط الأجسام، ووضع «ديكارت» أُسس علم الضوء عندما صاغ (في وقتٍ واحد مع الأستاذ الهولندي سنليوس Snellius) قانون الانكسار (في بحثه: انكسار الضوء Dioptrique عام ١٦٣٧م)، وأصبح علم الكهرباء، الذي كانت تدخله عناصر الدجل والتهويش، وربما التصوُّف في القرن الثامن عشر، علمًا عقليًّا رياضيًّا في القرن التاسع عشر على يد كولومب Coulomb.
  • (٣)
    أما الكيمياء الحديثة فقد بدأت على يد لافوازييه (١٧٤٣–١٧٩٤م)، وكثيرًا ما يُظن أن «الانقلاب الكيميائي» الذي قام به لافوازييه ينحصر في تحليله للهواء والماء، ولكنَّ في هذا غَبنًا له، إذ لن يرفع ذلك من قدره فوق «شيله Scheele» أو «بريستلي Priestly» مثلًا، وإنما يرجع إليه الفضل في الكشف عن الوسيلة التي تصبح بها الكيمياء رياضية، ولهذا عرَّف العنصر الكيميائي تبعًا لثبات الوزن فحسب.

ثانيًا: منهج علم الطبيعة

(٣) قواعد «جون استيوارت مل» لا تفسر هذا المنهج

سيطر على منهج علوم الطبيعة — مدةً طويلة — وصفٌ خاطئ يرجع إلى جون استيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣م)، الذي عرضه في كتابه عن المنطق (١٨٤٣م).٤ فلنوضح عنصر البطلان فيه، لكي نستخلصَ وجه الصواب في ذلك المنهج العلمي.

فلقد نشأ «مل» في جوٍّ عقلي مشبع بروح المذهب التجريبي الإنجليزي، على أن خطأ المذهب التجريبي يكمُن في اعتقاده أن التجربة تقوم على أساس الإحساس الذي هو سلبي تمامًا. ولكنا سبق أن أوضحنا أن الإدراك الحسي بعيد عن الإحساس كل البعد، إذ هو ينطوي على قدرٍ غير قليل من التنظيم العقلي، فماذا تقول عن التجربة العلمية؟ إن هذا الخطأ يرجع إلى خطأ آخر، ينحصر في اعتقاد أن الإحساس أو، بعبارةٍ أدق، الواقعة المحسوسة، تنطوي في ذاتها على المعارف التي سنستخلصُها منها.

ونتيجة ذلك أن منهج علم الطبيعة، في نظر المذهب التجريبي، هو مجرد اقتطاع من سلسلة التجربة، مع الاحتفاظ بمعالمها الطبيعية، فماذا يكون التفسير؟ إنه الكشف عن علة الظاهرة، والعلة هي «السابقة المطردة غير المشروطة» ومعنى ذلك أنها الظاهرة التي تسبق تلك التي نحن بصدد تفسيرها، والتي تسبقها دائمًا وتكفي لإيجادها، وبهذا يُمكننا استخدام المنطق لاستنباط الطرق والقواعد (canons) التي يجب اتباعها في عملية الاقتطاع هذه:
  • (أ)

    طريقة الاتفاق: فما دامت العلة هي السابقة المطردة غير المشروطة، فمن الممكن الاهتداء إليها إذا أدركنا أنها هي التي تسبق الظاهرة المراد تفسيرها بإطراد مهما تغيَّرت الظروف.

  • (ب)

    طريقة الاختلاف: ولهذا السبب عينه، يمكن الاهتداء إلى العلة أيضًا إذا أدركنا أنها هي التي تختفي إذا لم تُوجَد الظاهرة، وظلَّت جميع الشروط الأخرى على حالها.

  • (جـ)

    طريقة التلازُم في التغير: كذلك يمكن التعرف على العلة إذا كان تغيرها يؤدي إلى الظاهرة باطراد مع بقاء كل الشروط الأخرى على ما هي عليه.

  • (د)

    طريقة البواقي: إذا أمكن عزل مجموعة من السوابق والنتائج، وأمكن ربط كل واحدةٍ من النتائج، فيما عدا واحدة، بكل واحدة من السوابق فيما عدا واحدة، كانت السابقة الباقية هي علة النتيجة الباقية، أي أن باقي السابقة هو علة باقي النتيجة.

فتفسير ظاهرة الندى، في نظر التجريبي، هو أن نعمد إلى مجموعة الظواهر المتشابكة فنعزل منها بمهارةٍ التي تكونها الظاهرة (مثل تجمع قطرات الماء على حجر، أو على عشب، إلخ)، والسابقة المطردة غير المشروطة (تباعد درجة الحرارة بين الحجر أو العشب الذي ظلَّ أو أصبح أكثر برودةً وبين الجو، الذي يحمل قدرًا كافيًا من الماء ويُصبح، أو يظل أكثر حرارةً) وهنا نرى كيف يمكن تطبيق المناهج الأربعة على هذه الظاهرة.

ومن المؤكد أن اليأس من الوصول إلى العلة قد يدفع المرء إلى أن يسلك هذا المسلك عندما يكون أكثر حاجةً إلى العمل منه إلى الفهم، وعندما تكون الظروف مواتيةً لذلك، إذ تكون الصدف، أو التقاليد قد وجهت العالم نحو السابقة الواضحة التي أحدثت النتيجة؛ وهذا المسلك شبيه بما يفعله من يحاول إيجاد تفاعل معدني في بوتقة.

العلم «والتجربة التائهة» ولكن العلم لا يتكوَّن بهذه الطريقة. فالطرق التي وضعها ستيوارت مِل هي طرق التجربة التائهة experientia vage (على حد تعبير بيكن نفسه). ونجد الدليل على ذلك في نفس التجربة التي أشرنا إليها من قبلُ، وهي تجربة الندى، فتفسير الندى لا ينحصر في عزل سلسلةٍ متتابعة من الظواهر؛ بل هو أن نتصوَّر من وراء الظواهر، القوانين الرياضية الخاصة بالضغط المشبع لبخار الماء في درجات الحرارة المختلفة، وهذه القوانين قد وضعها جاي لوساك Gay Lussac ورينيو Regnault إلخ، بعد تجارب عدة في المعمل. فالظاهرة التي استخدمها ستيوارت مل لتوضيح نظرياته وتطبيقها ظاهرةٌ مزيفة؛ وهي لم تُقرر ولم تبحث في واقع الأمر على النحو الذي تقضي به قواعده؛ بل كانت النظرية الرياضية هي الأساس الضمني لها منذ البداية.
والخطأ الذي وقع فيه مل هو اعتقاده أن الظواهر تنطوي في ذاتها على التفسير، والحقيقة أن الواجب هو جلب التفسير إليها، فالتفسير يخترع أكثر مما يكتشف، ثم يحقق بعد ذلك، وأساس الرياضية هي الأساس الضمني لها منذ البداية.٥

(٤) أمثلة لبحوث في العلوم الطبيعية تكشف عن عملية ذات ثلاث مراحل

أول مثالٍ نُقدمه هو أنبوبة توريشيلي، فقد استشار صنَّاع النافورات في فلورنسا، جاليليو، في ظاهرةٍ لاحظوها، وهي أن الماء الذي يستخرجونه من الآبار بالمضخَّات الماصة لا يصعد أكثر من ٣٦ ذراعًا٦ (١٠ أمتار و٣٣سم) بأية حال من الأحوال، فما سبب هذه الظاهرة؟ يقول علماء الطبيعة إن ارتفاع الماء في الأنبوبة يرجع إلى أن الطبيعة تفزع من الفراغ، ولكن كيف نفسر أن هذا «الفزع» يتوقف عندما يصل الماء إلى ارتفاع ٣٦ ذراعًا؟ أجاب جاليليو إجابةً لا قيمة لها لأنها سطحية، ولا تفسر شيئًا في واقع الأمر، ولكن ظهرت عبقريته في علم الطبيعة الرياضية في نقطةٍ معينة؛ فقد تنبَّأ بأن هذا الحد الأعلى من الارتفاع يتناسب عكسيًّا مع كثافة السائل.
  • (أ)

    وهنا يبدأ عمل توريشيلي، الذي كان تلميذًا لجاليليو، فهداه خياله إلى إجراء تجربةٍ يستخدِم فيها أثقل السوائل، أي الزئبق. فإن كان جاليليو على حقٍّ فإن الزئبق سوف يرتفع في أنبوبة مفرعة إلى ارتفاعٍ أقصى ما تكون نسبته إلى الست والثلاثين ذراعًا كنسبة كثافة الزئبق إلى كثافة الماء، أعني أنه سوف يرتفع قدر ذراعَين على وجه التقريب، وبدلًا من تفريغ الأنبوبة مما فيها من هواء باستخدام مضخة، يُلحم أحد طرفيها وتُملأ زئبقًا حتى حافتها، ويُصب هذا الزئبق من الطرف الآخر، وتُحمل الأنبوبة وهي مليئة بالزئبق مع تغطية الطرف المفتوح، ثم تُقلب في إناء من الزئبق. ثم يُنزع منها الغطاء تحت زئبق الإناء، فيُلاحظ أن الأنبوبة إذا كانت طويلة بقدرٍ كاف فإن الزئبق يهبط فيها قليلًا، ولكنه يظل مرتفعًا حتى المستوى المتوقع، وهو «ذراعان وقيراط» (٧٦سم) تلك هي الظاهرة (حوالي ١٦٤٤).

  • (ب)
    وقد ابتكر توريشيلي تفسيرًا لها، وينحصر هذا التفسير في أن نتصور الأنبوبة وإناء الزئبق على أنهما الفرع الأول والقرار لوعاء على شكل الحرف U يحتوي على سائلَين متوازيَين أحدهما هو الزئبق، فما هو الآخر؟ إن الآخر هو الهواء الذي يجبُ اختراعه بالمعنى الصحيح، إذ إنه لم يكن من العناصر التي يُلاحَظ وجودها في هذه التجربة. ولكنَّا نعلم أن الهواء موجود، وأن له وزنًا. ثم إن جاليليو كان هو الذي حدَّد كثافته بمقدار ١/ ٤٠٠ من كثافة الماء، ونحن نعلم أيضًا، عن طريق الملاحظات الجوية، أن الغلاف الجوي حول الأرض يبلغ سمكه ما بين «٥٠، ٥٤ ميلًا» على حد قول توريشيلي: فجميع هذه الظواهر يمكن ربطها بعمليةٍ رياضية. فبضرب ارتفاع الغلاف الجوي المعروف في كثافة الهواء المعروفة، نحصل على ناتجٍ يعادل إلى حدٍّ بعيد، الناتج الذي نحصل عليه إذا ضربنا كثافة الزئبق في ارتفاعه العمودي فوق سطح الوعاء، وتلك هي الفكرة التي تتخذ صورة رياضية دقيقة.
  • (جـ)
    هذه الفكر تبدو من الآن راسخة، بفضل ما تتصف به من مطابقتها للعقل. وهي فكرة رائعة، ولكنها لن تصبح صحيحةً إلا إذا تحقَّقنا من صدقها، ولم ينجح توريشيلي في الوصول إلى طريقة مقنعة للتحقيق، تثبت بها صحة فكرة الأنبوبة التي تتَّخذ شكل U. وكان باسكال هو الذي اهتدى إلى هذه الطريقة، وربما كان ذلك بإيعاز من ديكارت، الذي قابلة باسكال في باريس عام ١٦٤٧م. ولقد كان الصالون الباريسي لأبيه «إتين باسكال Étienne Pascal» يكاد يكون نظيرًا لمدرسة جاليليو في فلورنسا. ولما ترامت أنباء ظاهرة توريشيلي إلى أسرة باسكال في ١٦٤٦م، أعادوا إجراء التجربة، وفي ١٦٤٧م عرفوا فكرة توريشيلي، وبعد شهرَين من مقابلة بليز باسكال لديكارت، أرسل إلى صهره «فلوران برييه Florin Périer»، في كليرمون–فيران، الإرشادات اللازمة لإجراء التحقيق: فعليه أن يعمل على تقصير ما كنا نُسميه بالفرع الهوائي للأنبوبة U، والصعود على جبلٍ عال إلى حدٍّ ما (هو جبل بوي ديدوم Puy de Dôme). وهناك يجب ملاحظة انخفاض الزئبق في الفرع الآخر، وأجرى «بيريه» التجربة في نهاية صيف ١٦٤٦م، فنجحت نجاحًا باهرًا، وشجَّع ذلك النجاح باسكال على مواصلتها على نطاق أضيق، إذ انخفض عمود الزئبق انخفاضًا محسوسًا (درجتَين) عندما صعد باسكال فوق برج «سان جاك دلابوشري» البالغ ارتفاعه ٢٥ قامة، كما انخفض الزئبق نصف درجة في أعلى بيت يبلغ ارتفاعه ثمانين قدمًا.٧

وهكذا تم إثبات فكرة توريشيلي:

أما المثال الثاني فسنقتبسه من نيوتن:

(أ، ب) خلال فترةٍ أقامها نيوتن في بلدته الأصلية، متجنبًا فيها حركة النجوم الثانوية حول النجوم الرئيسية (كالكواكب حول الشمس، والتوابع أو الأقمار حول الكواكب) بحركة السقوط.

ويزعم بعضهم أن الظاهرة الأصلية هي سقوط التفاحة، وأن الفكرة عندئذٍ كانت تنحصر في تشبيه حركة القمر حول الكرة الأرضية بسقوط التفاحة على الأرض، والقول بأن القمر يسقط بدوره على الأرض بلا انقطاع، وإن كانت له سرعة أصلية تؤخر سقوطه إلى ما لا نهاية، فإذا كان للقذائف في سقوطها سرعة مبدئية تُبعد نقطة سقوطها، أفلا يمكننا أن نتصوَّر أنه إذا كانت هذه السرعة كبيرة إلى حدٍّ ما (ونحن نعلم اليوم أنه يكفي أن تبلغ هذه السرعة ٨كم في الثانية) فإن القذيفة تهبط حول الأرض، إذا جاز هذا التعبير؟

(ﺟ) وظل نيوتن عشرين عامًا يُعد وسائل التحقيق من هذه الفكرة (١٦٦٦–١٦٨٦م). وكان ذلك ينحصر في أن نُبين أنه لو كان القمر على مسافةٍ قليلة من الأرض، لسقط بنفس السرعة التي يسقط بها جسم سقوطًا حرًّا في باريس مثلًا (٤٩٠سم في الثانية الأولى). على أنَّ نيوتن قد برهن بنظريتَين في الميكانيكا، على أن القوة التي تحفظ النجوم في مداراتها البيضاوية هي قوة «مركزية» أي تتَّجِه نحو الجسم الذي يشغل أحد مركزي الشكل البيضاوي، وهي تتناسَب تناسبًا عكسيًّا مع مربع المسافة، وإذن فلكي تحقق الفكرة يكفي أن يكون ارتفاع السقوط الحقيقي للقمر على الأرض خلال ثانيةٍ واحدة مضروبًا في مربع المسافة الفاصلة بينه وبين الأرض، مساويًا لارتفاع سقوط جسم يسقط حرًّا في باريس في نفس هذا الوقت.

على أننا نعلم مقدار سقوط القمر على الأرض في الساعة مثلًا، وهي المسافة التي يبتعد بها القمر، أثناء سيره في مداره، عن مماسِّ هذا المدار، خلال ساعة من الزمن، فإذا ما عرفنا الزاوية التي سار بها، أمكن الحصول على تلك المسافة دون صعوبة، عن طريق جدول حساب المثلثات. ولقد اتضح أن المسافة التي تُقطع خلال ساعة تعادل بالضبط الارتفاع الذي يسقط فيه جسم سقوطًا حرًّا في باريس، خلال ثانية واحدة. وإذن فالبرهان يكون قد تحقق إذا كانت النسبة بين المسافتَين على النحو الذي يقتضيه القانون، وانتهى الأمر بنيوتن إلى الحصول على تقديرٍ للمسافة يحقق فِكرته بالضبط: إذ إن القمر على بُعد ٦٠ درجة أرضية و(٦٠٣) هي بالضبط العلاقة بين الساعة والثانية، وهي في الوقت ذاته مربع المسافة المطلوبة من أجل التحقق. ولقد كان التطابق تامًّا إلى حدِّ أن نيوتن عندما تلقَّى رقم مسافة القمر، لم يجد لدَيه على ما يُقال، من رباطة الجأش ما يُمكِّنه من إعادة الحساب، فاضطر أن يعهد به إلى أحد أصدقائه.

وهنا تمَّ التحقُّق بالأرقام، إذ اتضح أن الأرقام مساوية للظواهر التي كان على النظرية أن تُفسِّرها وتتنبأ بها.

(د) وفي نفس هذا الاتجاه، يمكننا أن نصل إلى نتائج أفضل من تلك. فإذا كان القمر يسقط على الأرض، وإذا كانت الكواكب بوجهٍ أعم، تسقط على الشمس … إلخ فلا بد أن تسقط الكواكب بعضها على بعض، وأن تسقط الأجسام الأرضية هي الأخرى، بطريقٍ ما، على الشمس بل على القمر ذاته، والنتيجة الأولى تُسمَّى بالانحراف perturbation. فالكواكب الكبيرة تؤثر في الكواكب الصغيرة وتجعلها تنحرف في مسارها قليلًا عن المدارات التي حدَّدها كبلر لها. ولقد كانت تلك الظاهرة معروفة قبل نيوتن، وها هي ذي قد فُسِّرت، وبالمثل فإنه يمكن التحقُّق من صدقها، أما الظاهرة الثانية فهي ظاهرة المد والجزر، فكتلة البحار تتَّجِه نحو الشمس ونحو القمر (الذي هو أصغر منها، ولكنه أقرب كثيرًا)، ويمكن التحقُّق من ذلك أيضًا.
ولنلاحظ أن هذه التحقيقات الثانوية، التي ظهرت متفرقةً تمامًا، والتي لم تخطر على بال نيوتن في مبدأ الأمر، هي أفضل التحقيقات وأكثرها إقناعًا٨ وسوف نأتي بمثال ثالث، نعرضه عرضًا مبسطًا إلى أبعد حدٍّ.٩
  • (أ)
    كان لوفرييه Le verrier، وهو فلكي في مرصد باريس، يعلم أن الكوكب أورانوس، الذي كان عندئذٍ (في سنة ١٨٤٦م) أبعد الكواكب المعروفة في المجموعة الشمسية، ينحرف انحرافات مُعينة، وباتباع المنهج الذي وضعَه نيوتن، والذي عرضنا مبدأه العام من قبل، تفسر هذه الانحرافات بعوامل معترضة، هي الكواكب المجاورة عندما تقترِب من أورانوس اقترابًا كافيًا، وبعد أن قدَّرَ تأثير كلٍّ من المشترى وزُحَل، ظلَّ هناك باقٍ من الانحراف لم يتم تفسيره.
  • (ب)
    وخطرت بذهن لوفرييه فكرة تفسير هذا الباقي بعاملٍ معترض ثالث، خارجي، وبعيد إلى الحد الذي جعل الفلكيين لا ينتبهون إليه. وترجم لوفرييه هذه الفكرة بصيغة رياضية: فحسب كتلة الكوكب، ومسافته، وبالتالي حجمه (أو عظمه magnitude كما نقول في اليوم)، أعني الضوء البادي منه، وحدَّدَ موقعَه في أكثر اللحظات ملاءمةً.
  • (جـ)
    ويقف بعض علماء المناهج بالعرض التاريخي عند هذا الحد، زاعِمين أن لوفرييه لم يكن في حاجة إلى السماء لكي يوقِن بوجود الكواكب. على أن في هذا خطأ. فلا بد أن ينتهي الحساب إلى ملاحظة، وهي دون ريبٍ ملاحظة تدخَّل فيها الذهن إلى حدٍّ بعيد، وأدى الحساب دورًا كبيرًا في التمهيد لها، ولكنها ملاحظة في نهاية الأمر. ودليل ذلك أن منهج لوفرييه قد طُبق من بعده مرتَين أُخريين: الأولى من أجل تفسير انحرافات الكوكب الذي اكتشفه «بالحساب» والذي سُمي باسم نبتون، وبهذه الطريقة كشف الكوكب «التالي لنبتون» وهو بلوتون. والمرة الثانية كانت لتفسِّر انحرافات عطارد. ولما كانت الطريقة قد نجحت في حالة نبتون وبلوتون، ما دام الكوكبان قد رُئيا، فقد تعجَّل الباحثون وأطلقوا اسم «فلكان» على الكوكب الجديد، ولكن لم يرَ أحد فلكان هذا أبدًا، وظل أسطورةً رياضية. هذا إلى أن أينشتين قد فسَّر انحرافات عطارد بطريقةٍ أخرى مختلفة عن هذه كل الاختلاف.١٠

وقد ثبت وجود الكوكب «نبتون» عندما شوهد، وسرعان ما تمت هذه المشاهدة، وإن كان لوفرييه قد اضطُر إلى الاستعانة بمرصد «برلين» المزود بآلاتٍ أدق، للكشف عن الكوكب. ولقد ظنَّ بعضهم، من تقسيم العمل هذا، أن لوفرييه كان واثقًا من وجود هذا العامل المعترض بمجرد أن قام بحساب عناصره، ولكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق، إذ إن حساب لوفرييه حدَّد النقطة التي كان يجب أن يُوجَد فيها، ومرصد «برلين» قد قرَّر أنه يُوجَد هناك بالفعل.

ولعلَّ القارئ قد لاحظ أننا أسمينا الظاهرة التي بدأ منها لوفرييه باسم باقي الانحراف. وتُذكِّرنا كلمة «الباقي» هذه بالطريقة الرابعة من طرق مل، ولكن الواقع أنها إذا كانت تُذكِّرنا بها، فما ذلك إلا لكي تكشف عن الخطأ الذي وقع فيه «استيوارت مل». فطريقة لوفرييه مثالٌ ممتاز لطريقة البواقي الصحيحة؛ وذلك هو باقي النتيجة، أما باقي العلة، فلا يُعطى أبدًا، بل هو يُخترَع بتمامه، وفي هذا المثال، كان هذا الباقي هو نبتون (أو بلوتون) الذي لا يعدو أن يكون فكرةً محضة.

(٥) مراحل المنهج ثلاث: من الواقعة إلى الواقعة عن طريق الفكرة

ينحصر المنهج في الصعود من مجال التجربة إلى عالَم العقل، أي عالَم الصيغ والمعادلات، ثم نعود فنهبط إلى عالَم الواقع لكي نضمن الصِّلة بين المعقول والواقع. ونحن في ذلك أشبه بسجين الكهف عند أفلاطون؛ إذ يصعد من المحسوس إلى الأفكار، ومن الكهف إلى العالَم الحقيقي الذي يغمره ضوء الشمس، ثم يعود فيهبط إلى الكهف لكي يهتدي فيه إلى المحسوس من جديد، وليُفسره بالأفكار.

وإذا شئنا، قلنا بعبارةٍ أفضل من هذه، إن التفكير في علم الطبيعة الرياضي يرسم دائرة، ولكن هذه الدائرة ليست «دورًا فاسدًا» على حدِّ تعبير المناطقة، ويُرجِع ديكارت ذلك إلى أنه «لما كانت التجربة تُضفي يقينًا كبيرًا على معظم نتائجها، فإن الأسباب التي استخلص منها هذه النتائج لا تُستخدَم في إثباتها بقدْر ما تُستخدَم في تفسيرها. وإنما الأمر على عكس ذلك، فالنتائج هي التي تفسِّر الأسباب.»١١ ولنعبِّر عن هذا النص عظم التركيز، الذي صيغ في لغةٍ تخالف اللغة الشائعة إلى حدٍّ ما، بتعبيرٍ آخر فنقول: إن التجربة تُضفي اليقين على نتائج الأفكار التي نبتكرها (أو معلولاتها)، وبهذا لا تكون الأفكار (الأسباب) التي استنبطت منها هذه النتائج برهانًا على الوقائع؛ بل هي تفسيرٌ لها، بينما البرهان يأتي على عكس ذلك، من الوقائع. ولنقل بعبارةٍ أخرى، إن الفكرة تفسِّر الوقائع، والوقائع تُثبت صحة الفكرة. وكان من الممكن أن يكون في هذا دور، لو أن كلًّا من الفكرة والوقائع يبرهن على الآخر.

(٦) المرحلة الأولى: تحديد الوقائع: قياس الوقائع المختارة وتصحيحها وتفسيرها

يبدأ العمل باتصال أوَّلي مع الواقعة، وكل ما في الأمر أن الواقعة التي نبدأ منها قد سبق أن أعدَّها العقل إلى حدٍّ كبير، وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة، فالملاحَظ أولًا أن الإدراك الحسِّي ذاته يتضمَّن إعدادًا عقليًّا، فعندما نتحدَّث مثلًا عن «القمر» — وهو موضوع إدراك حسِّي شائع، يبدو مباشرًا تمامًا — فإننا نستعين في الواقع بتجربة إنسانية ترجع إلى ألوف السنين، تُبنى على التقريب بين ظواهر مختلفة، ونستطيع تقريب فكرة الإعداد العقلي هذه إلى الأذهان إذا فكرنا مثلًا في تعبير مثل «القمر الجديد» الذي يفترض إيمانًا بموت «القمر القديم» وظهور آخر أحدث منه. فالقول إن القديم هو ذاته الجديد، اكتساب حديث العهد.١٢

وفضلًا عن ذلك، فإذا كان العلم يكمل الإدراك الحسي بمعنًى ما لأنه يُفسره، فإن العلم يُنكر الإدراك الحسي بمعنًى آخر، وتلك هي حركة الرفض التي عبَّر عنها ديكارت بكلمة «الشك المنهجي»، فديكارت يرفض أولًا عالَم الإدراك الحسي، ثم يعود مرةً أخرى إلى العالَم، ولكنه ليس نفس الذي رفضه، فهو ليس عالَم الإدراك الحسي؛ بل عالَم الطبيعة الرياضية.

والسبب في ذلك غاية في اليسر، وهو في أيامنا هذه قد أصبح أوضح مما كان في أيام «ديكارت» ولقد سبق لنا أن ذكرنا عنه شيئًا في معرض الحديث عن مبدأ النسبية؛ فالملاحِظ الساذج لا يتصف بأية صفة تؤهله لملاحظة الواقع؛ فحواسُّه هي حواس حيوان أرضي، قد تكيَّفت، بعد تطوُّر طويل جدًّا، بالحياة الأرضية، واتجهت نحو الفعل أكثر منها نحو المعرفة، وهذا ما أكَّده «برجسون» بعدَه حين قال: «إن الإدراك الحسي ينظم المكان بنفس النسبة التي ينظم بها الفعل الزمان.»١٣ وهذا ما أثبتته في آنٍ واحد بحوث التشريح المقارن، وعلم النفس التجريبي، وتحليل الإدراك الحسي، وتاريخ العلوم.١٤
قياس الواقعة: في هذه الظروف كانت النتيجة الضرورية هي أن نيأس من المعرفة البشرية، وأن تُصبح النسبية شكًّا، لو لم تكن عبقرية الإنسان قد تغلَّبت على الصعوبة بالتوسُّع في استخدام الأداة الرياضية، ولقد بيَّن «فولتير» بكل وضوح في روايته الفلسفية «ميكروميجاس Micromegas» كيف أن القياس الرياضي ذو قيمة موضوعية شاملة.١٥ فقياس الشيء هو في ذاته معرفة له، والتعبير عن الواقعة التي نقيسها بصيغ رياضية، هو في ذاته فهمٌ لها.

فالواقعة العلمية إذن واقعة حورتها الرياضيات فلنوضح باختصار العمليات التي تمر بها:

(١) إن الواقعة، كما قلنا، تقاس أولًا. ولا جدال في أن العلم قد أحرز تقدمًا كبيرًا باختراع الآلات التي تزيد من قوة الإدراك الحسي، كالمنظار الفلكي والمجهر، أو تلك التي تُسجل هذا الإدراك، كجهاز التصوير الفوتوغرافي والسينما، أو تلك التي تحلله، كجهاز تحليل الطيف، وهو الذي خلَف، وكمَّل المنشور (prisme) الذي حلل به نيوتن ضوء الشمس. ولكن ليس هذا هو الأمر الأساسي. إذ إن هذه الآلات إذا كانت تزيد من قُدرة حواسِّنا، فإنها لا تُغيِّرها، والمهم هو اختراع الطرق الفنية للقياس، الذي تطور فأصبح علمًا للقياس métrologie. فعلم الحرارة يقتضي استخدام ميزان الحرارة (الترمومتر)، وقد ظهر علم الكهرباء عندما حلَّ محل علم الطبيعة المسلِّي الخاص بالآلات التي تداعب الجسم بهزات كهربائية، علم صارم مبنيٌّ على استخدام الكشاف الكهربائي ومشتقَّاته.

(أ) تصحيح الواقعة

(٢) كذلك تصحح الوقائع. والحق أن محال الحديث عن وسائل التصحيح التجريبي واسع جدًّا. فمن المعروف أن أية قراءة لأي جهاز، مهما كانت أمينة، لا تُقبل أبدًا على علاتها؛ بل يجب أن تمر بعمليات حذف متعددة، تعدلها على نحوٍ لا يظل فيه سوى باق residu واحد. ذلك لأن الإدراك الحسي المعتاد محدد بطريقة غير شعورية، وهو يزودنا بمعلومات عن جسمنا، وعن شخصيتنا المعنوية، وعن المؤثرات التي نخضع لها من جميع المصادر، مثلما ينبئنا تمامًا بمعلومات عن الموضوع. ولنضرب لذلك مثلًا: فإذا أرجعنا ملاحظةً فلكية إلى أبسط مظاهرها، وأردنا فقط أن نُحدد الساعة التي عبر فيها نجم بمحور المنظار المكبر، وجدناها تتوقف على سرعة استجابتنا، ثم إنها تنصب على شعاع من الضوء يصل إلينا من النجم، ويستغرق وقتًا حتى يصل إلينا، ويتعرض لكل أنواع التحوير والانكسار. ولكي يكون لنا الحق في تشبيهه بخطٍّ هندسي مستقيم يربط فورًا بين عيننا وبين الموقع الحقيقي للنجم في اللحظة المطلوبة، يجب أن نقوم بسلسلةٍ من الحسابات هي في حقيقة الأمر استدلالات، تبدأ من الواقعة وتنتهي إلى الفكرة. فتصحيح الملاحظة يعني استبدال فكرة معينة عن الواقعة بالواقعة نفسها.

(ب) تفسير الواقعة

(٣) كذلك تفسر الواقعة. وقد بيَّن بوانكاريه في تحليلٍ رائع ذاعت شهرته، كيف يمكن القول في التجربة الكهربائية إن «التيار يمر».١٦ فذلك لا يكون إلا بالاستعانة بكل المعلومات المكتسبة، بحيث تقف هذه المعلومات حول الملاحظ مؤيدةً له، وتُقرِّر هذه الملاحظة معه، إن جاز هذا التعبير. ففي المثال الذي أورد «بوانكاريه» يكون الشيء الذي يراه الملاحظ، هو تغير موضوع النقطة المضيئة، وهذا التغير يعني أن الجلفانومتر ذا المرآة يؤدي عمله، وبالتالي أن المغناطيس والملف الكهربائي قد أثَّر كل منهما في الآخر … إلخ. فتفسير ملاحظة هو بدوره، وعلى نحوٍ آخر، الاستعاضة عن الواقعة بفكرة.

(ﺟ) اختيار الواقعة

(٤) ثم إن الواقعة تختار: إذ إن عددًا ضئيلًا من الوقائع التي تحدث حولنا بلا انقطاع هو وحده الذي يدخل في مجال العلم. وليس ذلك راجعًا إلى أن عدد هذه الوقائع أكبر من اللازم؛ بل يرجع أيضًا إلى أنه يندُر أن تكون لهذه الوقائع أهميةٌ في الموضوع. فالواقعة هي واقعة معملية أو واقعة ملاحظة، أي أنها واقعة منتقاة، فما شروط استبقائنا لها؟ إننا نستبقيها إذا كانت تتمُّ عن فكرة، وعندئذٍ توصف بأنها «بسيطة»، والحق أنه إذا كان علم الطبيعة الرياضي قد بدأ بالفلك، فذلك لأن النجوم — لحسن الحظ — قد بسطها بُعدها عنَّا، فلا نُدرك منها في بداية الأمر إلا نوعًا من العلاقات الهندسية.١٧
والكثيرون يدهشون عندما يجدون العلماء يرفضون معظم الوقائع التي تُعرض عليهم، فالمؤمنون بتحضير الأرواح مثلًا يكدسون وقائع الاتصال الروحي عن بُعدٍ télépathie، ويدهشون لانصراف العلماء عنها، فيستخلصون من ذلك حجةً يحملون بها على «العلم الرسمي» كما يقولون ولكن الواقع أن المسألة مسألة علمٍ فحسب، أعني علمًا يهتم أولًا، وقبل كل شيء، بما هو بسيط ومعقول.

(٧) المرحلة الثانية: البحث عن القوانين هو إبداعٌ بمعنى الكلمة

يطلق اسم القانون على العلاقة التي تربط برباط الضرورة الشاملة واقعتَين أو أكثر من الوقائع المتعاقبة أو المقترنة في الزمان، أو بين عنصرَين أو أكثر في الظاهرة الواحدة. فقانون الأوتاد المشدودة مثلًا يربط بين طول الوتر ومقدار توتره وكثافته، وبين ارتفاع النغمة التي يحدثها، وقانون الجاذبية العامة يربط الكتلتَين والمسافة بالقوة الجاذبة، وقوانين الاصطدام تنظم توزيع السرعات بين الكرات التي تتقابل، تبعًا لكتلتها، وقوانين سقوط الأجسام تحدد المكان الذي يقطعه الجسم في السقوط في علاقته بالزمان وعجلة السرعة، ولكل القوانين التي ذكرناها صورةٌ رياضية، وهي كلها تؤيد أن العلاقة هي تحديد دقيق، وهي قوانين عامة، بمعنى أنها تصدُق على كل زمان وكل مكانٍ.

فكيف اهتدى العقل إلى هذه القوانين واخترعها؟ ذلك هو سر الخلق العقلي، أو بعبارةٍ أدق، معجزة حرية العقل في التصرف. إذ إن بين شروط الخلق، والخلق ذاته، هوة سحيقة على الدوام. وهذه الهوة قد تبدو أشدَّ أو أقل عمقًا، تبعًا لمدى سهولة الخلق، وتاريخ العلم يُقدِّم إلينا عدة حالات نموذجية.

(أ) الحالات المختلفة للإبداع

  • (١)
    حالة التجريبية الظاهرة: عندما تقاس الوقائع وتُترجَم بالأرقام ثم تُرتَّب في قائمة (tabula بلغة بيكن) فإنها تنمُّ عن علاقة بسيطة، كالتناسب الطردي أو العكسي مثلًا. وعلى هذا النحو كشف «ماريوت Mariotte» القانون المعروف باسمه حين قارن بين الأحجام والضغوط المختلفة لكتلةٍ واحدة من الغاز الذي يتوازن مع عمودٍ سائل يتفاوت ارتفاعه.
  • (٢)
    وقد تزداد الحالة تعقدًا: إذا كان هناك شخص مُعين هو الذي أجرى التجارب التي جمع بها الملاحظات وأعدَّ بها القوائم. ثم أتى عالِمٌ آخر فقام، معتمدًا على مجهود الأول، بقراءة القانون الذي خفِيَ عنه. ومن المحتمل أن تكون هذه هي الطريقة التي اهتدى بها ديكارت إلى قانون جيوب الزوايا خلال دراسته لكتاب كبلر المسمَّى «انكسار الضوء Dioptrique» (١٦٠٠) فكبلر لم يكن قد اهتدى إلى القانون، ولكن يمكن القول بأنه أشار إلى الاتجاه الموصِّل إليه.
  • (٣)
    حالة النظرية أو التمثيل الضمني Analogie Latente: لسنا نعلم كيف اكتُشف قانون انعكاس الضوء على يد إقليدس المزعوم، الذي اقتصر على عرض ذلك القانون في كتابه: انعكاس الضوء Catoptrique بوصفه إحدى المصادرات، ولكن مجرد عرضه له على هذا النحو، يوحي بأنه كان يرى فيه نوعًا من البداهة المسلَّم بها، والأغلب أن تكون هذه البداهة راجعةً إلى مجاز أو تمثيل. هو مقارنة شعاع الضوء المنعكس بِكُرةٍ تصطدم بجدار، إذ يبدو أن مبدأ التمثيل يوجب أن تخضع الكرة في مجال حركتها لقانون تَساوي الزوايا.
  • (٤)
    حالة التركيب الرياضي المحض: أثبت هجنز Hygens رياضيًّا قوانين اصطدام الأجسام، في الحالة التي تكون فيها الكتل متساوية، ويتم الاصطدام في نفس خط الحركة، وذلك بأن بدأ بأبسط حالة، وهي تلك التي تُحذف فيها كل مظاهر عدم المساواة، فيكون للجسمَين أ، ب نفس السرعة س. وفي هذه الحالة سوف نُسلِّم، بناءً على مبدأ التماثل Symétrie، بأن الجسمَين يرجعان في اتجاه عكسي، محتفظَين بسرعتهما. ولنفرض الآن أن شخصًا يلاحظ، قد انتقل بنفس السرعة س، (مع بقاء كل الظروف الأخرى على حالها)، وسار في نفس اتجاه أ، فبالنسبة إليه تكون أ ساكنه وب آتية تجاهه بسرعة ٢س. ولما كان الملاحِظ يُواصل سيره في نفس الاتجاه بعد أن يقابل ب، فإن ب هي التي تبدو الآن ساكنة، و أ هي التي تبتعِد عنه إلى الوراء بسرعة ٢س، وإذن يمكننا أن نستنتِج أنه إذا قابل جسم متحرك جسمًا ساكنًا له نفس الكتلة، فإن الجسم المتحرك يتوقَّف، ويرث الجسم الآخر حركته بنفس السرعة وفي نفس الاتجاه، وذلك ما تُحقِّقه التجربة.
  • (٥)

    حالة البساطة التي نُسلم بها على أساس احتمال الصدق: من الحقائق المعروفة أن الأجسام التي تسقط تزداد عجلة سرعتها، وأبسط صفات هذه العجلة هو اطرادها. وذلك هو ما يُسلِّم به جاليليو.

  • (٦)
    حالة تجاوز نطاق التجربة extrapolation: صيغ قانون تذبذب الأوتار، أو صيغ الجزء الأساسي منه على الأقل (أعني ذلك الذي يتعلق بالطول والوتر) لأول مرة في سنة ١٦٣٦م على يد الأب مرسين بمدينة مينيم Minime، وكان مرسين صديقًا لديكارت.
على أنه لم يكن في متناول يد مرسين، لإثبات ذلك القانون، أية وسيلةٍ لإحصاء المتوسط لذبذبات التردد التي يناظرها مثلًا صوت «لا»، والذي يحدث عن ٤٣٥ ذبذبة في الثانية، وغاية ما كان يستطيع أن يفعله هو أن يحصي ما بين ٨، ١٠ ذبذبات في الثانية، ومثل هذا التردُّد لا يُحدث صوتًا، ولكن ما يعجز عنه السمع، يقدر عليه الإبصار، وعلى ذلك فقد بدأ يجربه بوترٍ منفرد طوله ١٧٫٥ قدمًا (حوالي ٥٧٠سم) مصنوع من أمعاء الخروف وشُدَّ هذا الوتر بأوزانٍ تتراوح ما بين ٢/١ رطل و٤ أرطال، ولم يكن هذا الوتر المنفرد يُحدث أي صوت، ولكن كان من الممكن حساب ذبذباته، وهكذا كشف قانونه بإحصاء هذه الذبذبات، وبالبحث عن كيفية تفاوت عددها عندما يقل الطول ويتغيَّر الثقل الذي يشد الوتر، وقد بلغ من ثقته بالنتيجة التي وصل إليها على هذا النحو أنه حدد بواسطة قفزةٍ عقلية تخرج عن حدود التجربة (وذلك ما يُسميه بتجاوز نطاق التجربة extrapolation) التردد المناظر لما يُسمَّى «بنغمة الكنيسة» أي النغمة التي يرجع إليها المغنُّون الذين تصدر عنهم، في قداس الكنيسة، أكثر الأنغام انخفاضًا (وهذه النغمة تصدر عن أنبوبة للأرغن ذات طول معلوم).

وهكذا نرى أن كشف القوانين يتطلَّب ثقةً مُطلقة في معقولية الطبيعة، وفي إخلاصها للقوانين، وفي خضوعها للرياضيات بمعنًى ما، ولا شك أنه ليس للمرء أن يؤمن بأن الطبيعة ستظل مخلصةً للقانون الذي تُوصِّل إليه. فقد يكون هذا قانونًا غير صحيح، ولكن يظلُّ المرء على ثقةٍ من أن هناك قانونًا، وأن لهذا القانون صورة رياضية.

هذا إلى أن مجرد الملاحظة العلمية التي تحول الظاهرة إلى رقم تفترض مثل هذه الثقة ضمنًا. وإذن فكشف القوانين يفترض مبدأ صاغه الميتافيزيقيون بصيغ مختلفة، بدأ معظمها في صورة مجازية، ومن قبيل ذلك قول أفلاطون: «إن الله يسلك دائمًا سلوك عالِم الهندسة» وقول ليبنتز: من حساب الله صنع العالم Dum Deus calculat fit mundus.

(٨) المرحلة الثالثة: التحقق من صدق القوانين أو التجريب، اختبار الفكرة بواسطة الوقائع

وإذن فليست هي التأكد من وجود قانون؛ بل التأكد من أن القانون هو ذلك الذي كشف. والتحقق هو ملاحظة الوقائع التي أحدثها المرء أو تنبأ بها، والتي حدَّد صورتها سلفًا بطريقةٍ رياضية، بناءً على القانون الذي اهتدى إليه، ونقول: أحدثها أو تنبَّأ بها، إذ إن من الممكن، من حيث المبدأ، أن نخلق الوقائع وأن نركبها تركيبًا تامًّا في أجزاء معينة من علم الطبيعة بمعناها الخاص، وفي الكيمياء. أما في العلوم الأخرى، كعلم الفلك، فليس ذلك الخلق ممكنًا، وعندئذٍ يقتصر المرء على التنبؤ بها.

  • (١)

    ومبدأ التحقيق ليس عسيرًا في علم الطبيعة الرياضية، ما دامت نتائج القانون الذي نهتدي إليه تنطوي ضمنًا على صور جميع الوقائع التي نُريدها، وتكفي عملية حسابية لتحديدها.

    ولكن يجب أن تكون النتيجة قابلةً للتحقُّق من صحتها، ومتفقةً مع الإمكانيات المادية للمعمل أو المرصد.

  • (٢)

    ينبغي أن تنطبق الشروط الفنية العملية للملاحظة على مشاهدة الواقعة التي سوف نحدثها، وهذه مسألة ينطبق عليها ما قلناه عن الواقعة العلمية في الفقرة السادسة من هذا الفصل.

  • (٣)

    وأخيرًا، ينبغي ألا يرتكز التحقُّق على الملاحظة التي اكتشف القانون على أثرها. فعلى المرء، إن استطاع، أن يوسع الحدود التي تمت فيها الملاحظات الأولى، أو أن يُغير المجالات التي أُجريت فيها.

    • (أ)
      مثال لتوسيع الحدود: من الممكن أن تُعدَّ التجاربُ الصوتية التي أجريت بها طريقة تسجيل الأصوات على أسطوانة ماري Marey محققةً للقانون الذي اهتدى إليه مرسين.
    • (ب)
      مثال لتغيير المجالات: إن قانون نيوتن، الذي اكتشف بدراسة مدارات الكواكب، يُتيح لنا أن نُفسِّر ونتنبأ بما يلي: انحرافات مدارات الكواكب، والمد والجزر، وهو أيضًا يفسر حقيقة عُرفت في وقت نيوتن ذاته، وهي اختلاف الجاذبية الأرضية تبعًا لخط العرض، إذ إن الأرض منبعجة عند خط الاستواء، كما يثبت من قياس درجة من درجات خط الطول في أماكن مختلفة من خطوط العرض. وعلى ذلك يكون الجسم أبعد عن المركز الذي يجذبه، أي إن وزنه يقل، تبعًا لقانون نيوتن. ولم يستطع نيوتن أن يقيس الجاذبية المتبادلة لكتلتَين على سطح الأرض؛ بل توصَّل العلماء إليها فيما بعدُ (تجربة يوتفوس Eotvos) وكان في ذلك تحقيق آخر.

(٩) التجربة الفاصلة experimentum crucis وهي المعادل التجريبي لبرهان الخلف

يرجع هذا التعبير إلى «فرنسيس بيكن» وقد ورد ذِكره في كتابه «الأورجانون الجديد».١٨ والصور الصحيحة التي يضفيها عليه هي «مثال الصليب instantia crucis»؛ والمقصود بالصليب هنا الإشارة التي تُحدِّد مفرق الطرق. «فالمثال» أي الواقعة، يهدف إلى وضع الطبيعة في مفترق الطرق، لنرى أي الطرق سوف تسلك: أي أنها، بتعبيرٍ مجازي آخر، هي أن نُرغم الطبيعة على الاختيار.

وهذا التعبير يدل على نوع حاسم من التجريب، يوصف بأنه قاطع، ويتيح لنا أن نختار بين فرضين، لأننا قد تصورنا التجربة وأجريناها بحيث أنه إذا صح أحد الفرضين أصبحت قيمتها مختلفة كل الاختلاف عنها إذا صح الفرض الآخر؛ بل تُصبح مضادةً لها.

وفيما يلي مثال مشهور: ففي مستهل القرن التاسع عشر، انقسم العلماء إلى فريقَين يُعضِّد كل منهما فرضًا مضادًّا عن طبيعة الضوء:
  • (١)
    الفرض المسمى بالفرض الجسيمي corpusculaire، والذي يؤكد أن الضوء هو بثُّ الجسيمات. وفي هذا الفرض يفسر انكسار الضوء عندما ينتقل من الهواء إلى الماء بالجاذبية التي يمارسها الماء بحيث يكون انتقال الضوء في الماء أسرع.
  • (٢)
    والفرض الثاني هو التموجي ondulatoire؛ فالضوء هو انتقال اهتزازات في الأثير، دون أن يصحبه انتقال مادةٍ. وفي هذا الفرض، يكون الانكسار نفسه راجعًا إلى تعطيلٍ ناتج عن الماء، فيسير الضوء في الماء أبطأ مما يسير في الهواء.١٩ وفي ١٧٣٠م تخيل فوكو Foucault تجربةً تسمح بالمقارنة بين سرعة الضوء في الهواء وسرعته في الماء؛ فيَقسِم شعاعًا ضوئيًّا إلى حزمتين، تمر إحداهما بأنبوبة مليئة بالماء، ويختلف الشعاعان عند وصولهما باختلاف صورة النقطة التي يسقطان فيها على شاشة. وفي الجزء المشترك من مسارهما توضع مرآة تدور حول نفسها بسرعةٍ تصل إلى حدِّ أن الشعاع الضوئي، بعد أن يصطدم بالمرآة التي تدور ثم ينعكس على مرآة أخرى ثابتة تردُّه إلى المرآة الدائرة، لا يرتدُّ إلى نفس الموضع من المرآة التي تدور وإذن فالضوء قد انحرف، ويزداد انحرافه كلما ازداد بطئًا، ويُبين الموقع النسبي لنقطتي الوصول، بطريقة مباشرة وفاصلة، أيُّ الشعاعَين هو الأبطأ، وبالتالي أي الفرضَين هو الصحيح. والواقع أن الفرض التموُّجي هو الصحيح.

    وفي مبدأ الأمر تُثير القدرة الإقناعية لهذا النوع من الأمثلة دهشة المرء. ومع ذلك فإن هذه الأمثلة نادرة، ويبدو أن التجربة الفاصلة تزوِّدنا بنوعٍ من برهان الخلف على الفرض الذي تثبت صحته.

(١٠) ولكن ليس هناك تجربة فاصلة بالمعنى الصحيح

يبين بيير دوهم٢٠  Pierre Duhem أنه ليس ثمة تجربة فاصلة بالمعنى الصحيح، وذلك لسبب عرفناه من قبل؛ فالواقعة العلمية التي يراد أن تكون دليلًا للإثبات، تُفسَّر عن طريق معارف سبق اكتسابها، أي أن لها في ذاتها مضمونًا نظريًّا كاملًا، بحيث إن الفرضَين لا يتمثلان في صورتهما الخالصة. فالشيء الذي يحقِّقه المرء عندئذٍ هو العِلم كاملًا، وقد أضيف إليه محتوًى جديد هو الفرضان المتضادان. فإن كان جواب التجربة عن أحد الفرضَين بالسلب، فلن نعلم على وجه الدقة إن كان ما تُكذبه هو الفرض الذي نحن بصدده، أو كان مسألةً أخرى في ذلك العلم يجب علينا معاودة بحثها. ونقول بعبارةٍ أخرى، إن العلم في جملته هو الذي يكون صوابًا أو خطأ، لا الفرض الواحد.

(١١) هناك تشابه عميق بين العلوم الرياضية والعلوم التجريبية

تبيَّن لنا أن منهج الطبيعة الرياضية نصف رياضي ونصف تجريبي. فهو رياضي من حيث أنه يستبدل بالواقعةِ المشاهَدَةِ واقعةً ذات صورة رياضية، ويُدخل هذه الواقعة في صيغة رياضية، هي الدالة. وهو تجريبي من حيث إنه يبدأ بمشاهدة أمرٍ ما، أي بإدراكٍ حسي، تدخَّل فيه الذهن على نطاق واسع حقًّا، ولكنَّه إدراك حسي على أيَّة حال. ثم إن العلم يعود في نهاية الأمر إلى ذلك الإدراك الحسي الذي بدأ منه. وفضلًا عن ذلك، فالإدراك الحسِّي الأخير هو الذي يحكم على القانون، فإما أن يؤكد صحته، وإما أن يرفضه مؤكدًا بطلانه.

ومن ثَم فإن قوام منهج الطبيعة الرياضية هو الفصل بين العمليتَين اللتَين كان يجمع بينهما البرهان الرياضي، واللتَين لا يستطيع منهج علم الطبيعة أن يجريهما مجتمعتَين: أي العملية التي يتم بها الفهم، والعملية التي يتم بها التحقُّق.

فهناك إذن شَبهٌ عميق — مع وجود اختلافٍ واضح — بين المنهج الرياضي ومنهج الطبيعة الرياضية، أي بعبارة أعم، منهج العلوم «التجريبية» أعني العلوم الخاصَّة للتجريب.

المعاني المختلفة لكلمة الفرض: التشابه والاختلاف السابقان يدلُّ عليهما تشابُهُ واختلافُ المعاني التي تُفهَم بها كلمة الفرض التي تُستخدَم في الرياضة وفي العلوم التجريبية معًا.
فالكلمة اليونانية hypothesis تعني الأساس المنطقي أو المبدأ (أي ما يوضع تحت supposé أو ما يفترض).
  • (أ)

    ومن هنا كان المعنى الأول لكلمة الفرض: إذ يشير إلى المبادئ المعترَف بها (كالتعريفات والبديهيات والمصادرات) والتي تُستخدَم نقطة بدءٍ في الرياضيات. غير أن هذا المعنى قد أصبح قديمًا.

  • (ب)

    ويقرب من ذلك معنًى آخر يُستخدَم بدوره في الرياضة، وفيه يكون الفرض هو الحالة المعطاة للشكل أو العلاقة المعطاة. (كالفرض في النظريات الهندسية).

    وكثيرًا ما يستخدِم معلمو الرياضيات كلمةَ الفرض بهذا المعنى الثاني الذي يرتبط بالأول، لأن حالة الشكل أو العلاقة إذا ما أُعطيت، فإنها تضمن في الوقت ذاته، الخصائص التي عُرفت من قبل، وبالتالي تضمن المبادئ بالتدريج.

    ولنُلاحِظ العنصرَين اللذَين ينطوي عليهما هذا المعنى؛ فالفرض هو ما يُسلَّم به، ويُعطى ويوضع على نحوٍ ما وما يُتَّفَق عليه، وهو أيضًا ما يُستخدم أساسًا نتقدَّم من بعده.

  • (جـ)

    والفرض، في علم الطبيعة الرياضية وفي العلوم «التجريبية» بوجهٍ عام، هو القانون الذي يخترع، والذي سوف يتحقَّق المرء من صدقه. وعلاقة هذا المعنى بالمعنيَين السابقَين واضحة؛ إذ يظل الفرض نقطة بدءٍ لتقدُّمٍ تال، وهو نقطة بداية تُعدُّ مبدأً، أعني أنها أكثر وضوحًا من نتائجها، وكل ما في الأمر أن الفرض هنا لا يعود مبدأً يوضَع بطريقة حَمليةٍ مطلقة وتنتقل حقيقته إلى نتائجه؛ بل هو مبدأ مؤقت لا زال مشكوكًا فيه، يسعى إلى البحث عن الحقيقة باستخلاص ما ينطوي عليه من نتائج. فما يأتي به الفرض هو المعقولية، ومن الواجب أن يذهب إلى الحقيقة باحثًا عنها، ومن هنا أتى التخمين الذي أصبح في نهاية الأمر مرتبطًا بالفرض.

  • (د)
    سوف نعرض فيما بعد٢١ لمعنًى رابع لكلمة الفرض، وفيه يكون الفرض هو النظرية، أعني أنه تفسير للظواهر يتصف بأنه أكثر عمقًا وتخمينًا في الوقت نفسه، وفي هذا المعنى الرابع، يكون التخمين أشدَّ وضوحًا، غير أن المعقولية بدَورها تُصبح فيه أعظم. فالعنصر المشترك بين العلوم الرياضية والتجريبية هو أنها تستخدِم «الفروض» مع فارقٍ واحد، هو أن الفرض يكفي للتحقُّق من صدق النتائج في الرياضة وحدَها، ولكنه هو الذي يقوم بالتفسير في كل هذه العلوم.

ومن المحتمل أن تكون العلوم الرياضية قد بدأت بمرحلةٍ تجريبيَّة. ومن ناحيةٍ أخرى فقد أشرنا إلى الأصول التجريبية التي يُرجَّح أنها كانت أساس الهندسة والميكانيكا. وفي مقابل ذلك بيَّنَّا أن البحوث الأولى في الطبيعة الرياضية تتمثَّل في صورةٍ إقليدية، تبدأ بمصادرات ونظريات. والخلاصة أن العلوم الرياضية هي علوم تجريبية تأكَّدَ طابعُها العقلي وأصبح ثابتًا.

ولكن؛ لمَ كانت كذلك؟ وما أصل هذه الميزة التي تنفرد بها؟ أو لنتساءل على عكس ذلك فنقول: ولماذا لا تصِل العلوم الأخرى إلى هذه المرتبة؟

في نهاية الفصل السابق أجبنا عن هذا السؤال إجابةً جزئية. فقد قُلنا إن نشاطًا عقليًّا معينًا، أعني ذلك النشاط الذي يُحصي، ويضع العلاقات ويرسم الأشكال، قد وصل في الرياضيات إلى مرحلة الاستقلال الذاتي، أعني إلى الشعور التام بذاته، والاكتفاء الكامل بنفسه؛ ذلك لأن الوقائع التي بدأ منها بسيطة، أعني أنه أمكن استخلاصها للوصول بسهولة إلى الأفكار التي استطاع الذهن إنشاءها، والتي تؤدي إلى فهْم هذه الوقائع. ففي الرسم مثلًا أمكن الانتقال بسهولة من الخط المرسوم إلى المستقيم، وفي نظرية الآلات (الميكانيكا) أمكن الانتقال من الآلة المادية إلى عناصرها العقلية (ذراع الرافعة، انحدار السطح المائل، نقطة التطبيق، الاتجاه، قوة الشد). وعندئذٍ تبين أن الأفكار التي أُنشئت على هذا النحو تفسر الوقائع التجريبية التي بدأنا بها في أول الأمر تفسيرًا كاملًا. فالخصائص الهندسية للدائرة تُفسِّر كون الخط الذي يقيس محيط حلقة، أيًّا كان حجمها، هو في جميع الأحوال أكبر قليلًا من ثلاثة أمثال الخط الذي يقيس قطرها. والخصائص الهندسية للشكل البيضاوي تفسر كون الحلقة التي يُنظر إليها من زاوية تبدو دائمًا في شكل بيضاوي.

ولكن الموضوعات التي تدرسها العلوم التجريبية معقدة، وربما كانت كما قال ليبنتز، معقدةً إلى حدٍّ لا نهاية له، بحيث يستحيل استيعابها، فالضوء والحرارة مثلًا يتكشفان في كل لحظة عن خصائص غير متوقعة (وأعقد منهما بكثير الحياة، وهي موضوع العلم الذي سوف نتحدث عنه في الفصل التالي).

إن الضوء يُنشر في خط مستقيم، وينعكس تبعًا لقوانين هي في ذاتها بسيطة إلى حدٍّ ما، وطالما اقتصر البحث على هذه المسائل، كان من الممكن تصوُّر علم «هندسي» للضوء يكون ملحقًا بعلم الهندسة، وذلك لو أضفْنا عددًا من المصادرات المكملة، ولكن كشفت بعد ذلك الوقائع المعقدة الغامضة التي يشتمل عليها علم الضوء «الطبيعي» وهي التي بدأت بالخصائص الضوئية العظيمة التعقيد للبلورات، مثل بلور «سبات Spath» في أيسلنده،٢٢ ومنها إلى الانعطاف أو الزيغ diffraction٢٣ وإلى تلون الشرائح المعدنية الرقيقة بلون قوس قزح٢٤ إلخ.
ومع ذلك، يظل بين العلوم الرياضية والعلوم التجريبية علاقة مزدوجة:
  • (١)

    فالأولى هي المثل الأعلى للثانية، التي تسعى إلى التشبه بها، على نحو ما أمل ديكارت.

  • (٢)

    والأولى هي صورة الثانية، فكل ما هو معقول في المجال التجريبي، له تركيب أو صورة رياضية.

(١٢) العلوم الرياضية وعلم الطبيعة الرياضي فرضية استنباطيَّة

يمكننا أن نُعبر عن التشابُه بين العلوم الرياضية وعلم الطبيعة الرياضي بقولنا إن كلًّا منهما علوم «فرضية استنباطية»، ونعني بهذه الكلمة أن مناهجهما المشتركة تنتقل من الفرض إلى نتائجه عن طريق الاستنباط، وفي علم الطبيعة الرياضي يبدأ التحقق بعد أن يتم الاستنباط. ففي الأولى ينزل البرهان من الفرض إلى النتائج، وفي الثانية يصعد من النتائج إلى الفرض.

١  Discours de la méthode, 6e partie, édition scolaire, Gilson, p. 122.
٢  Republique, livre VII, 529 d, Bibliothéque de la pléiade, 1, p. 1122–1123 et la note 54 de, Robin.
٣  Ibid 350–351 (pp. 1124–1125).
٤  John Stuart Mill: System of Logic, deductive and inductive, chap. VIII and IX, Book 111.
وقد رأينا أن نبسط عرض ما فيه آراء ونزيدها إيضاحًا وإيجازًا مع مراعاة عدم الإخلال بها.
٥  فند رينوفيه Renouvier أولًا نظرية ستيوارت مل، وذلك في كتابه (المنطق العام) (الفصل الرابع والثلاثون، توضيح رقم ب) Logigue générale (Colin) وفندها ثانية، وفي أيامنا هذه برنشفيك في كتابه: التجربة الإنسانية والعلية الطبيعية.
L’experience humaine et la causalité physique.
(ألكان ١٩٢٠م) الجزء الأول، الكتاب الثالث.
٦  في الأصل الفرنسي 18 brasses وهو مقياس يساوي ذراعَين تقريبًا . (المترجم)
٧  انظر في هذا المثال كتاب:
Pensées et opuscules, éd. Scolaire Brunschvicg (Hachette) p. 66 et suivantes Lalande: Lectures sur la philosophie des sciences (Hachette), pp. 140–144.
وانظر أيضًا للمؤلِّف هذا الكتاب:
La développement de la physique cartésienne (Vrin), (1934 p. 38–42).
٨  في كتاب المؤلف الذي سبقت الإشارة إليه نجد لهذه المسألة عرضًا أوسعَ وأدقَّ من الناحية الفنية (أي الفصل الثالث، قسم ٢، فقرة ٣).
٩  يمكن الاهتداء إلى معطيات هذا المثال في كتاب لوران Laurent المشار إليه من قبل، بعد الإشارة التي تحدث فيها عن لوفرييه Le verrier.
١٠  انظر الفصول ٩، ١٠، ١١ من كتاب بيرهومبير.
Pierre Humbert “De Mercure à Pluton” (Albin Michel).
١١  في كتاب لوكريس Lucrèce: في طبيعة الأشياء De Rerum Natura (الكتاب الخامس سطور ٥٦٤–٧٧٠) يمكن الاهتداء إلى أمثلة لمعتقدات فلكية قديمة عرضُها هو صورة نظريات صحيحة. وانظر أيضًا في مجموعة الحكايات التي كتبها أناتول فرانس بعنوان: Sous l’invocation de Clio (Calmann Lévy) نصًا من قصة «كوم لاتريبات» يفصح عن الإيمان بوجود أقمار عديدة دولية (ص١٨٥).
١٢  في كتاب لوكريس Lucréce في طبيعة الأشياء de rerum Nature (الكتاب الخامس سطور ٥٦٤–٧٧٠) يمكن الاهتداء إلى أمثلة لمعتقداتٍ فلكية قديمة عرَضَها هو في صورة نظريات صحيحة وانظر أيضًا في مجموعة الحكايات التي كتبَها أناتول فرانس بعنوان Sous l’Invocatio de Clio (Calmann Lévy) نصًا من قصة «كوم لاتريبات» يفصح عن الإيمان بوجود أقمار عديدة محلية (ص١٨٥).
١٣  Matière et mémoire (Alcan), p. 14.
١٤  انظر في هذه المسألة، الملاحظات الغريبة الطريقة التي أبداها باشلارد Bachelard في كتابه القيم La formation de l’esprit scientifique, Paris, vrin, chap. 1.11.111.
١٥  يرجع القارئ في هذا إلى المنظر الطريف الذي تقابَل فيه ساكن شيروس Sirus بساكن زُحَل وساكن الأرض في كتاب فولتير:
Romans et contes de Voltaire, Bible de la Pléiade, p. 114–115.
١٦  H. Poincaré: La Valeur de la science (Flammarion) XI et III.
١٧  H. Poincaré: Science et Méthode (Flammariou 1900) livre 1, chap. 1.
١٨  11, 36.
١٩  انظر فيما بعد (الفصل العاشر قسم ٥٥٤) شروحًا أكثر تفصيلًا لهذَين الفرضَين، ونحن نفترض أنهما معروفان بالقدْر الكافي، عن طريق الكتب المدرسية في الضوء.
٢٠  La Théorie physique, son objet et sa structure, Paris (Chavalier et Riviére) 1906, seconde partie, chap. V1,5 111: “l’experimentum crucis” est impossible en physique.
والواقع أن التطورات التالية أثبتت صحة رأي دوهم؛ فقد اضطر العلماء إلى العودة إلى فرض الجسيمات (انظر الفصل العاشر، قسم ٥). فالأمر الذي أثبتته التجربة «الفاصلة» التي قام بها «فوكو» لا يعدو أن يكون التدليل على أن الضوء أبطأ في الماء منه في الهواء. ومن الممكن أن يكون الفرض التموُّجي صحيحًا في نواحٍ أخرى كما سنرى فيما بعد، وعندئذ يضطر المرء إلى التوفيق بين الفرضَين.
٢١  الفصل العاشر.
٢٢  الفصل الخامس من كتاب Traité de lumière تأليف هيجنز Huygens (١٦٧٩م) عنوانه: «الانعكاس الغريب لبلور أيسلنده».
٢٣  عرض هذه الصفة جريمالدي اليسوعي Grimaldi في ١٦٦٣م في كتابه: في الضوء والألوان وقوس قزح.
٢٤  كشفه نيوتن في كتابه «علم الضوء» (١٧٠٤م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤