الفصل الثامن

علوم الحياة

علم الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء) هو دراسة الوظائف التي تتألف منها الحياة، وهو يقتصر في بحثه للمادة الحيَّة على النظر إليها من حيث ما فيها من حتميَّة، وعلى تفسير الوظائف عن طريق البيئية الداخلية. وهكذا فإن منهجه هو في أساسه منهج العلوم الطبيعية والكيميائية، أي أنه منهج ثلاثي يشتمل على ملاحظة الظواهر، والكشف عن الفرض، والتحقق من صحته. ولكن يبدو أن الأحياء تتمثل فيها غائية توجِّه الأجزاء نحو المجموع الكلي للكائن العضوي، وهذا التوجيه هو موضوع دراسة أبحاث حديثة.

وقد نشأ علم الحياة عن مذهب التطور، الذي يرجع إلى «لامارك» و«دارون». ومذهب التطور في أساسه تفسير للأشكال الحية عن طريق البيئة الخارجية، والسلالات السابقة، أعني أنه تفسير لها عن طريق ظروفها وعِللها، لا عن طريق مرتبتها في التصنيف؛ ومن هنا كانت هذه الأشكال قابلةً لأنواع من «التحول»، ولكن تفسير «لامارك» لهذه التحولات بوساطة صفات مكتسبة عن طريق تكيف الأعضاء أو الوظائف تحت تأثير البيئة، ونقل هذا الاكتساب بالوراثة، وكذلك تفسير دارون لها عن طريق تغيرات موروثة تحدد الانتقاء الطبيعي، نقول إن هذه التفسيرات لم تعُد مقبولة لدى باحثي علم الحياة المعاصرين.

ومع ذلك، فالمذهب التطوُّري يظلُّ منهجًا للبحث والتفسير، ويوجِّه علم الحياة الحديث جهوده نحو بحث مشاكل علم الأجنة (Embryologie) وعلم الوراثة.

علم وظائف الأعضاء

(١) الفسيولوجيا هي دراسة الوظائف التي تتألف منها الحياة

موضوع علوم الحياة هو الخصائص التي تتميز بها الكائنات الحيَّة، ولقد كانت هذه العلوم في الأصل مختلطة بالطب، غير أن النمو المعتاد للمعارف، وتأثير العلوم المتصلة بالطب، أدَّيا إلى الفصل بين النظرية المحضة وبين التطبيق العملي، وإلى تمييز علم العلاج Thérapeutique أو فن الشفاء، وهو الطب بمعناه الصحيح، من «العلم» النظري المحض، وهذا العلم النظري ينقسم إلى:
  • (١)

    علم التشريح: وهو علمٌ قديم جدًّا، ينحصر في وصف «الأعضاء» التي يتكوَّن منها الكائن العضوي، ويقتضي مجموعة من العمليات لاقتطاع الأعضاء (أي تشريحها) ثم إعدادها تمهيدًا لحفظها، أو ملاحظتها دون مشقةٍ.

  • (٢)
    الفسيولوجيا: وعلى العكس من ذلك، فإن العلم المُسمَّى بهذا الاسم حديث إلى حدٍّ ما، ورغم أن الكلمة التي تدلُّ عليه ترجع إلى القرن السادس عشر، فإنه لم يُصبح علمًا محددًا إلا في القرن التاسع عشر، بفضل جهود كلود برنار، وهو ينحصر في دراسة «الوظائف» أي القوانين التي تؤدي الكائنات الحية وظائفها تبعًا لها، والمنهج المميز له هو «التشريح الحي vivisection» أي ملاحظة طريقة عمل الأعضاء «الحية» التي يجري عليها التجارب بوساطة عمليات مختلفة ذات طبيعةٍ جراحية: كالبتر التجريبي، أو عمليات الفصد التي تهدف إلى فحص السوائل التي يُفرزها العضو أثناء أدائه لوظيفته … إلخ. ولقد أصبح علم وظائف الأعضاء أهمَّ العلوم التي تفرَّعت عن الطب القديم وأكثرها نفعًا.

(٢) الفسيولوجيا ليس لها أن تفسر الحياة

وهنا يعرض سؤال أولي، فهل تستطيع علوم الحياة أن تفسر لنا كنه الحياة؟ لا شكَّ في أن المرء يميل إلى الثقة بقدرة هذه العلوم ثقةً لا حد لها، ولكن للمرء أن يخشى من أن الحياة بطبيعتها لا تخضع خضوعًا مطلقًا لمناهج العلم.

فما الكائن الحي إذن؟

(أ) الحياة والفردية

(١) لقد قيل إنه هو الفرد، أي هو حقيقة تنطوي على طابع مزدوج، هو أنها: محددة المعالم، منعزلة في المكان قائمة بذاتها، أي بمعنًى ما حقيقة لا ينفذ إليها غيرها، كما أنها مزودة بوحدة داخلية، بحيث تفنى الأجزاء إذا انحلَّ الكل، أي إذا أصيب الكائن العضوي في مقتل، ولا شك في أن فردية الحيوان أو النبات ليست مطلقة؛ إذ يتفق أحيانًا أن يُعاد تركيب الكائن العضوي عن طريق أحد أجزائه المنفصلة؛ بل إن هذه الظاهرة هي المعتادة في أنواع مُعينة من التكاثر، كما هي الحال في تكاثر النباتات بانفصال بعض أجزائها. ولكن الذي نستنتجه من ذلك، كما قال برجسون في عبارته الدقيقة، هو «أن الفردية لا تكون كاملةً أبدًا، وأنه كثيرًا ما يكون من العسير؛ بل من المحال أحيانًا، أن نفرق تفرقةً واضحة بين ما هو فردي وبين ما هو غير فردي، ولكن هذا لا يحول دون القول بأن الحياة تسعى إلى تحقيق الفردية، بطبيعتها.»١ ولقد كان علماء الكيمياء القدامى يقولون إن الكائن العضوي كونٌ مصغر microcosme. وإذا كان من سوء الفهم أن نتصوَّر الكون المصغر على مثال الكون الحقيقي، وعلى أنه مكوَّن من أجزاء تُناظر أجزاء الكون، فمن المؤكد مع ذلك أن الكائن العضوي الحي يُشبه الكون إلى حدٍّ معين، يتمثل في أنه هو الآخر كل ما يبدو موجودًا لذاته.

(ب) الحياة والطبيعة، والميل

(٢) وللكائن الحي «طبيعة» أو «ماهية» داخلية، يمكن تصورها على أنها حقيقة تعبر عن طريقة تركيب ذلك الكائن، ولقد تصوَّر «إسبينوزا»٢ هذه الطبيعة على أنها نوع من «التناسب من شأنه أن يؤدي بكل الأجزاء إلى الاحتفاظ فيما بينها بنفس علاقات الحركة والسكون.»
(٣) يبذل الكائن العضوي من أجل هذه الطبيعة أو الماهية «جهدًا للمحافظة على وجوده» كما قال إسبينوزا٣ أعني «ميلًا» إلى المحافظة على صيغة تركيبه أو إلى إعادة تركيبها.

(ﺟ) الحياة والتمثيل والتعويض

(٤) هذا الميل يبعث في أعماق الكائن الحي وظائف التغذِّي والتعويض، فبالتغذي «يمثل» مواد خامًا تأتيه من الخارج، أي إنه يُلائم بين هذه المواد وبين تركيبه ويدمجها فيه، وفضلًا عن ذلك يعوض ما يفسد من كيانه بأن يُعيد إلى حدٍّ ما بناء الأنسجة المصابة (ظاهرة الاندمال cicatrisation) ويطرد أسباب الفساد أو يبطل أثرها، ولقد كان الأطباء القدامى يقولون بوجود قوة علاجية للطبيعة vis medicatrix naturae أي قدرة طبيعية تُعيد ترميم الكائن، والحق أن علاج المرض يحدث في كثير من الأحيان؛ بل في أغلب الأحيان، عن طريق «ترك الطبيعة تعمل» أي عدم الوقوف في وجهها. ولقد كان أنصار «طب الانتظار» أعني أولئك الذين يؤمنون بالعلاج الذي تُنتظَر فيه الطبيعة حتى تقضي على أصل الداء أو تُعيد الأمور إلى نصابها؛ كانوا يقولون: علينا أولًا ألا نفعل شيئًا يضر (primo non nocere). والواقع أن شفاء كسرٍ في العظام ليس غير إعادة وضع الطرفين في الموضع المعتاد (أي جبر الكسر) ثم الانتظار حتى يتم الالتئام من تلقاء ذاته، ومن هنا كان «أمبرواز باريه» Ambroise Paré يقول عن الجرح «لقد كنت أُضمِّده، ولكن الله هو الذي يشفيه.»

(د) غرائز البقاء والتكاثر

(٥) ويبدو هذا الميل بصفة أكثر وضوحًا، في الغرائز التي هي نُظمٌ تلقائية من الأفعال، تهدف بوضوح إمَّا إلى حفظ الكائن الحي (كالدفاع عن الذات، أو الحركة، أو البحث عن الغذاء أو التقاطه) وإمَّا إلى تكاثره (كالحمل، وإخراج الكائن الجديد وتغذيته وحمايته … إلخ.)

(ﻫ) الحياة والغائية

وهكذا تجري الأمور كما لو كان الكائن الحي ينطوي في ذاته، كما يقول كلود برنار،٤ على «فكرة موجهة» تُحققها قوة داخلية وتحميها، وتعمل على امتدادها، وهذه الفكرة هي مصدر وحدة الكائن الحي.
(٦) وبذلك يكون للكائن الحي «مصير» خاص به، وتمر حياته بسلسلة من «المراحل» التي تتحدَّد من الداخل، فالكائن الحي «يهرم» على حدِّ تعبير برجسون، أي أنه يسير من الميلاد إلى الموت عبر سلسلةٍ من المراحل التي «تنضجه»٥ ثم تؤدي به إلى الهلاك، ومدة حياته محدودة.

وما دام الأمر كذلك، فإننا نُدرك السبب في أن بعض الفلاسفة اعتقد أن التفسير المألوف في العلوم الطبيعية الكيميائية لا ينطبق على الكائنات الحية، لأن هذا التفسير يقتضي أن يكون موضوعه داخلًا في نطاق الحتمية العامة، دون استثناءٍ أو امتياز، وألا يكون مُتصفًا أو منفردًا بشيءٍ خاص به، وأن تكون طبيعته خارجةً عنه تمامًا. أو على الأصح، ألا تكون له «طبيعة» ولا «ماهية»، إذ يفسر كل ما يطرأ عليه تفسيرًا كاملًا بالبيئة المحيطة به والقوانين التي يخضع لها، وهذه القوانين ليست كامنةً فيه؛ بل إن هذا هو الشرط الذي يسمح بتطبيق الرياضة على المادة، إذ لا تكون للمادة قوانين رياضية ولا علم طبيعة رياضي، إلا إذا فسَّرنا كل ما يطرأ على المادة بعلاقاتٍ متناسبة رياضيًّا مع ما هو خارج عنها. ويترتب على ذلك أن التفسير العلمي ينتقل من الأجزاء إلى الأجزاء ومن الأجزاء إلى الكل، ولكنه لا ينتقل أبدًا من الكل إلى الأجزاء؛ بل إن العلم لا يعرف كلًّا وفردًا بالمعنى الصحيح، وهذا هو ما يُسمَّى بالتفسير عن طريق الأسباب.

ولقد رأينا الآن أن الحياة تتطلَّب، فيما يبدو، نوعًا آخر من التفسير، ذلك هو التفسير بالغايات، أو بالغائية. والغاية هي الهدف المقصود، وليست مجرد نتيجة؛ فالغائية هي تفسير الظواهر بفكرة موجهة يُعبر عنها الكائن العضوي أو ينطوي عليها. وهي — على حدِّ تعبير «لاشلييه» الموجز — «علية الفكرة»٦ في حين أن العلم لا يعترف إلا بعلية الظاهرة السابقة.

فإذا كانت الغائية «حقيقيةً»، فإنها تزودنا بالتفسير «الصحيح» أي إن أداء الوظائف في الكائنات العضوية يرجع إلى «الطبيعة» و«الماهية» و«الفكرة الموجهة» لا إلى تركيب الكائن العضوي، أي طريقة تنظيم «أجزائه» أي إنه إذا كانت هناك وظيفة تُسمَّى بالهضم، فذلك راجع، في نظر التفسير العلمي، إلى أن الكائن العضوي يشتمل على معدة، وعلى عصارة هضمية، أما في التفسير الغائي، فإن المعدة والعصارة الهضمية توجدان من أجل الهضم، أي لكي تتمَّ عملية الهضم، فالوظيفة «تخلق» العضو، والحياة «تخلق» الكائن الحي.

(٣) الفسيولوجيا تتَّجِه إلى الاستغناء عن التفسير الغائي

من الصحيح أن هناك تصورًا معينًا للغائية يوقعنا في أسئلة عسيرة لا سبيل للعلم إلى الإجابة عنها، وذلك بقدْر ما يظلُّ هذا التصور مرتبطًا بالفلسفة التلقائية التي ترى الإنسان صانعًا homo faber، أعني كائنًا يستخدم وسائل معينة من أجل تحقيق غايةٍ ما. هذه الأسئلة هي:
  • (١)

    (ميتا فيزيقا الغائية): كيف يمكن تصوُّر هذا الخَلق؟ هل لنا أن نتحدث عن عناية إلهية؟ أم نقتصر على افتراض «طبيعة خيِّرة» أي طبيعة تسهر على رعاية مصالح الكائنات الحية.

  • (٢)

    (مشكلة القيم) إن الغاية أسمى من الظواهر التي يجب عليها تفسيرها، وهي أرفع في قيمتها منها؛ فالحيوان أعظم قيمةً من أعضائه، وهكذا يؤدي التفسير الغائي إلى إقحام اعتبارات «القيمة» وهي اعتبارات لا شأن للعلم بها.

  • (٣)

    (اتفاق الغايات) كيف نوفق بين كل التفسيرات الغائية؟ أيتسنَّى لنا التوفيق بين ما هو في صالح كائن عضوي وما هو في صالح كائن آخر؟ وهل خُلق العشب «من أجل» آكلة العشب؟ أم أن آكلة العشب خُلقت «من أجل» آكلة اللحوم؟ ولمَن، أو لِمَ، خُلقت آكلة اللحوم؟

    تلك سلسلة من المشكلات التي يُفضي إليها التفسير الغائي بالمعنى الذي حدَّدناه من قبل، أو إن شئت فسمِّهِ التفسير القائم على التشبيه بالإنسان anthropomorphique، وهي مشكلات لا قِبَل للعلم بها. ولذا أمكن أن تُوجَّهَ إلى هذه الغائية في علم الحياة الاعتراضات التالية:٧ كلُّ تقدُّم في العلم إنما هو تقدُّمٌ في التفسير عن طريق العلل، فمثلًا كان الرأي متفقًا من قبلُ على أن العلم يفسر الظواهر المتعلقة بأداء الأعضاء التامَّة التكوين لوظائفها (catagenèse)، ولكنه يخفق في تفسير تركيب هذه الأعضاء وخلقها ونموها (Anagenèse) ولكن تبيَّن أن خلق الأعضاء (وكان يُسمَّى من قبل ontogenèse أي خلق الفرد) يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهرمونات التي تُفرزها الغدد الصماء، كالغدة الدرقية مثلًا، التي تُفرزها الأجسام الدرقية، وهكذا يتَّضِح لنا أننا بسبيل الوصول إلى نظرية «سببية» علمية خاصة بظواهر تكوين الأعضاء.
  • (٤)

    على أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فالتفسير الغائي لا يمكن الانتفاع به من الناحية العملية، ففي التطبيق الطبي، لا يُهمنا أن نعلم إذا كان الهضم «غايةً» للمعدة، والواقع أن المعدة تهضم «لأنها» تفرز العصارة الهضمية، وأن المرء يُصاب بعسر هضمٍ عندما تنقص في العصارة الهضمية مادةٌ معينة يمكن أن يحلَّ محلَّها دواءٌ معين، ولقد قال بيكن — ساخرًا: «إن السعي وراء العِلل الغائية إنما هو سعيٌ عقيم لا يَلِدُ شيئًا، مثله مثل العذراء التي تهَبُ نفسها لله.»

Causarum finalien inquisition sterilis est, et tanquan virgo dei consecrate, nihil pavit. ٨

ولهذه الأسباب اتجهت علوم الحياة إلى الاقتصار على الأسباب وإلى إغفال الغايات، ولكن هل هذا الإغفال ممكن؟

أجل، لأن التفسير الغائي يفترض التفسير بالسبب، أمَّا العكس فغير صحيح. فالغاية تفترض الوسائل، والوسيلة تؤدي دور السبب بالنسبة إلى الغاية، التي هي دائمًا نتيجة ومعلول. ومن هنا أمكن القول إن الغائية وإن تكن شيئًا يزيد على السببية، فإنها سببية مثل كل شيء، وهي في حاجة إلى السببية؛ فالغائية إذن لا تكتفي بنفسها، وإذا كانت العين قد خُلقت «لكي» تبصر فذلك لأن تركيبها يؤدي إلى الإبصار بوصفه «نتيجة».

أما التفسير بالعلة أو السبب فهو قائم بذاته تمامًا؛ بل إن أشد أنصار الغائية تحمسًا مضطرون إلى الاعتراف بوجود حالات لا وجود للغاية فيها (atélie) أو حالات تتجاوز فيها الغاية hypertélie، على حد تعبير كوينو Cuénot.٩

لهذا السبب كان في استطاعة علوم الحياة أن تستبعد الغايات تمامًا، وأن تحذو حذو الطبيعة والكيمياء، في الاقتصار على التفسير بالعلل.

(أ) الغائية والكلية

كانت وجهة النظر التي فحصنا الغائية تبعًا لها حتى الآن قائمةً على التشبيه بالإنسان Anthropomorphique بدرجاتٍ متفاوتة. ولكننا نصادف في علم الحياة معنًى لمصطلح الغائية Finalisme يمكن فحصه هذه المرة من وجهة النظر العلمية، ذلك لأن الكائن الحي يبدو بمظهر الحقيقة الكلية، إن كل وظيفة للكائن العضوي تتضامن مع الوظائف الأخرى، وهذه الوظائف تتضافر «وتتجه» نحو كل. وإن ظواهر تجدُّد الأنسجة régénération (انظر القسم الثاني) والظواهر التي تستطيع أجزاء معينة من الكائن العضوي أن تحلَّ فيها محلَّ أجزاء أخرى مصابة في الكائن العضوي، لَتشهد بحقيقة هذا الاتجاه نحو الوحدة في الكائن العضوي. فإذا ما نزعنا البلورية من الكائن المسمَّى «سلمندرا ماكولاتا» مع إبقائنا على القزحية، فإن الجزء الأعلى من القزحية يمكنه أن يُعيد تجديد أنسجة الحدقة (وقد أورد برجسون هذه التجربة في كتاب التطوُّر الخالق ص٧٦). فإذا أطلقنا اسم التفسير الغائي على إدراك حقيقة اتجاه الوظائف نحو الوحدة الكلية التي يكونها الكائن العضوي، وعلى دراسة هذا الاتجاه، دون إشارةٍ إلى أي هدفٍ مقصود، فعندئذٍ يُمكننا القول بأن لمثل هذا التفسير الغائي ما يُبرره في علم الحياة.

(٤) منهج الفسيولوجيا: الحتمية ونظرية البيئة الداخلية

كان أول مَن وضع أُسس الفسيولوجيا على النحو الذي تُبحث غايته اليوم في المعامل، هو هارفي Harvey، وهو طبيب إنجليزي كان هو أول من تقدَّم في ١٦٢٨م بنظريةٍ محددة في الدورة الدموية، وهي ظاهرة فسيولوجية أساسية، وفي القرن الثامن عشر، توصَّل لافوازييه ولابلاس إلى تفسير يُعلل — على الأقل — أهم ما في ظاهرة الحرارة الحيوانية، وهي تلك الصفة الفريدة التي تتمثَّل لدى الكائنات العضوية العُليا، والتي تجعل هذه الكائنات تحتفظ بدرجة حرارةٍ ثابتة، رغم التغيرات الحرارية في البيئة المحيطة، ما دامت تعيش في حالة طبيعيَّة. وأخيرًا، حدد كلودبرنار الفسيولوجيا في شكلها النهائي عندما بيَّن كيف يمكن تطبيق مبدأ الحتمية على الحياة. وإنه ليبدو بالفعل، للوهلة الأولى، أن الكائنات العضوية لا تخضع للقانون الذي يقضي بأن تكون النتائج متفقةً مع الأسباب؛ إذ يبدو أن البيئة لا تؤثر فيها إلا تأثيرًا وقتيًّا محدودًا، فمثلًا لا تستطيع البيئة أن تُحدد حرارتها وتركيبها الكيميائي تحديدًا تامًّا ولكن ينبغي أن نُميِّز بين «البيئة الخارجية» أي الوسط الذي يُحيط بالحدود المرئية للكائن العضوي (الجلد)، وبين البيئة الداخلية، أي مجموع السوائل العضوية «والأمزجة» كما كان يُقال قديمًا، كالدم والسائل الليمفاوي.١٠ والواقع أن الكائن العضوي منعزلٌ عن البيئة الخارجية بنوع من القشرة العازلة المتماسِكة إلى حدٍّ ما، ولذا كانت البيئة الخارجية لا تؤثر فيه مطلقًا، أو لا تتحكم فيه على الأقل إلا جزئيًّا، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البيئة الداخلية، فالخلايا التي تتكوَّن منها الأحياء العُليا مغمورةٌ تمامًا في الدم والسائل الليمفاوي، اللذَين يُعدَّان بيئتهما الحقيقية، واللذين يُحدِّدان حالة الخلايا بدقةٍ مطلقة. فحرارة الجسم البشري مثلًا تظلُّ ثابتةً في الأحوال العادية رغم تغيرات الحرارة الخارجية، ذلك لأنها تتوقَّف على ظواهر كيميائية تستقر في البيئة الداخلية، حيث تتحكَّم عملية عظيمة الدقة في حفظ توازنها. فإذا ما طرأ على هذه العملية تغيُّر طفيف ارتفعت درجة الحرارة مثلًا، وأدَّى ذلك إلى الإصابة بالحمَّى، دون تأثير مباشر بالبيئة الخارجية، فعلينا إذن أن نتصوَّر الكائن العضوي في الأحياء العُليا على أنه كتلة منتظمة من الخلايا، بيئتها الحقيقية المحددة بها هي الدم والسائل الليمفاوي. وينحصر منهج علم وظائف الأعضاء في البحث عن الحتمية العضوية في العلاقات بين الخلايا وبين الدم أو السائل الليمفاوي، وإنا لنعلم بوجهٍ خاص تلك الكشوف التي لا زالت فجَّة، ولكنها تُبشِّر بمستقبلٍ باهر، والتي أتاح ذلك المنهج الاهتداء إليها في مجال الغدد «الصماء». هذه الغدد، — كما نعلم — تصبُّ إفرازاتها في البيئة الداخلية التي تحدث فيها عن بُعدٍ تغيراتٌ هامة كانت لا تخطر لنا على بال.

(أ) المنهج الطبيعي الكيميائي في الفسيولوجيا

ذلك هو المنهج الذي وضعه هارفي، ولافوازييه ولابلاس، والذي صاغ كلودبرنار١١ قواعده النظرية، فضلًا عن قيامه بأعظم تجاربه العملية، والمبادئ الأساسية لهذا المنهج هي:
  • (١)

    أن حتمية ظواهر الحياة صارمة تمامًا كحتمية علم الطبيعة والكيمياء.

  • (٢)

    وهي من نفس الطبيعة، أعني أن المرء لا يصادف في الكائنات العضوية سوى ظواهر طبيعية وكيميائية. فالمادة الحية، كما قيل، «ذات تنظيم عضوي»، أعني أن لها تركيبها الخاص، وهذا التركيب عظيم التعقيد، ولكن عناصره هي نفس العناصر التي تكوِّن المادة الجامدة؛ فالكربون والآزوت والهيدروجين تلعب فيها الدور الرئيسي. و«الكيمياء العضوية» إنَّما هي امتداد للكيمياء المعدنية أي لكيمياء الأجسام الجامدة، وليس هناك عنصر كيميائي تختصُّ به الأجسام الحية، والتفاعلات الكيميائية التي تلاحظ أو تنتج في معمل الكيميائية، تنتج كذلك في الكائنات العضوية، وكل ما في الأمر أنها عندما تحدث في الكائن العضوي تخضع لشروط أكثر تعقيدًا من ذلك، وإن كانت واحدةً في حقيقتها. فمن وجهة نظر العلم الطبيعي يُعد الكائن الحي «آلة»، كما قال ديكارت من قبلُ عن الكائن العضوي الحيواني، وعن الكائن العضوي البشري أيضًا، بالقدْر الذي تتشابَهُ فيه وظائفه مع وظائف الكائن العضوي الحيواني.

    وعلى هذا النحو تكوَّن علم طبيعة كيميائي للحياة امتدَّت كشوفُه امتدادًا هائلًا وتلاحقت بسرعة كبيرة.

(٥) أمثلة للبحوث الفسيولوجية تبين المراحل الثلاثة للمنهج

لكي نوضح خصائص المنهج في الفسيولوجيا، سنقتبس من كلودبرنار الأمثلة الآتية:

الأرانب من أكلة اللحوم: إن المثال الأول معروفٌ مشهور وهو مثال تلك البحوث التي أثبت بها «كلودبرنار» أن الكائن العضوي للحيوانات آكلة العشب، إذا ما تعرَّض للصيام مدة طويلة، يتغذى من جسمه هو، ويسلك مسلك الحيوانات آكلة اللحوم.

  • (١)

    فقد أتى «كلودبرنار» لتجاربه بأرانب من السوق، وعندما تبوَّلت هذه الأرانب على منضدة المعمل، لاحظ مندهشًا أن بولها حمضي صاف، كما هي الحال في أكلة اللحوم، وليس قلويًّا عكرًا، كما هي الحال في أكلة العشب عادةً.

  • (٢)

    خطر بذهنه أن هذه الحيوانات ربما كانت محرومةً من الطعام منذ مدة طويلة، وأن جسمها الذي يتغذى مما فيه من مواد داخلية احتياطية، هو في حقيقته من أكلة اللحوم.

  • (٣)
    كانت التجارب التي حقق بها فكرته عظيمة التنوُّع والطرافة، فقد أخضع الأرانب لنظام غذائي عادي، ثم منع عنها الأكل من جديد، فكان بولها يصبح مرةً مماثلًا لبول أكلة العشب، ومرةً لبول أكلة اللحوم، وأجرى تجارب مماثلة على غيرها من أكلة العشب كالحصان مثلًا، وأمكنه الوصول بالتجربة إلى «أرنب آكل للحوم» يتغذى بلحم بقر مسلوق بارد.١٢
أكسيد الكربون: والمثال الثاني يتعلق بأسباب التسمُّم بوساطة أكسيد الكربون، وهذا المثال أكثر تعقيدًا لأنه ينطوي على إخفاق مؤقت عرَضَه صاحب التجربة باختراع فكرة جديدة.١٣
  • (١)

    سمَّم كلودبرنار كلبًا بوساطة أكسيد الكربون، ولما شرَّحه وجد أن دم الحيوان قد أصبح كله قانيًا كدم الشرايين.

  • (٢)

    وبدا له، لأول وهلة، أن كل الدم، حتى دم الأوردة، قد أصبح «شريانيًّا» أي يشتمل على شحنةٍ من الأكسجين حال تأثير المادة السامة دون تركها في الأنسجة، واستبدال الحامض الكربوني بها.

  • (٣)

    على أن التحقيق أثبت بطلان الفكرة، إذ لو كانت صحيحةً لوجب أن ينتج ماء عند إضافة هيدروجين إلى الدم، ولكن هذا لم يحدث، ولم يحدث تفاعل بين الدم والهيدروجين.

  • (٤)

    ولكن كلودبرنار كان قد احتاط باستخدام عينات من الدم مأخوذة من الأوردة والشرايين معًا، أما أن دم الأوردة لا يحتوي على الأكسجين، فذلك أمرٌ لا غرابة فيه، ولكنه أيضًا لا يحتوي على حمضٍ كربوني، ثم إن لونه كلون دم الشرايين، وهنا يقول كلودبرنار «لقد استنفدتُ عندئذٍ كل ما في ذهني من تخمينات.» ولكنه استقرَّ أخيرًا على الاستدلال التالي: إذا لم يكن هناك أكسجين فذلك يرجع إلى أن أكسيد الكربون قد حلَّ محله، بحيث أصبح الدم عندئذٍ عاجزًا عن تثبيت الأكسجين، أما مظهره الشرياني فيرجع بلا شكٍّ إلى أن أكسيد الكربون قد ثبت على الكريات الحمراء.

  • (٥)
    وتمت مرحلة التجريب في الزجاج in vitro، أي في وعاء من الزجاج، أو بعبارة أخرى خارج الكائن العضوي، وفي بيئة من الجماد، فأخذ كلودبارنار دمًا شريانيًّا سليمًا وسمَّمه في أنبوبة اختبار، وأمكنه أن يتتبع كيميائيًّا حلول أكسيد الكربون بالتدريج محل الأكسجين.
سم الضفدع: هناك مثال ثالث، وآخر رابع، يُبينان الدور الذي يلعبه الإيمان بالحتمية في البحث التجريبي، وفي هذا يقول كلودبرنار: «إذا تمثلت في التجربة ظاهرة تبدو متناقضة إلى حدِّ أنها لا تُصبح مرتبطةً ارتباطًا ضروريًّا بشروط محددة للوجود، فينبغي للعقل أن يرفض هذه الظاهرة بوصفها ظاهرة غير علمية.»١٤ فما معنى قوله هذا؟ إن الظاهرة التي تخالف الحتمية إما أن تكون علَّةً تسبب حدوث نتيجة معينة تارة، ونتيجة أخرى تارةً ثانية، كيفما اتفق، وإما أن تكون هي ذاتها معلولًا ينتج تارةً عن علةٍ ما، وتارة عن علةٍ أخرى، كيفما اتفق، وفي هذه الحالة يجب على المرء ألا يصدق ما يراه؛ فوحدة العلة في الحالة الأولى، ووحدة المعلول في الحالة الثانية، لا تعدوان أن تكونا وهميتَين، ولا بد أنَّ هناك فارقًا لم نره لأن حواسَّنا تفتقر إلى الدقة، أو لا تتكيف مع الموقف، أو لأن التجربة لم تُجرَ بالقدْر الكافي.١٥
  • (١)

    فالظاهرة هي أن السم الذي يفرزه جلد الضفدعة السامة يقتل الضفدعة العادية بأن يُوقف قلبها، ولكن لا يبدو أنه يُسبب ضررًا للضفدعة السامة، هذا على الرغم من أن أنسجة القلب واحدة في النوعَين.

  • (٢)

    فهناك إذن فارقٌ لم نلاحِظه للوهلة الأولى، ويحاول كلودبرنار العثور على هذا الفارق فلا يهتدي إليه.

  • (٣)

    فلابد إذن أن التجربة لم تُجرَ بالقدْر الكافي، أي أنها لم تستغرق «الوقت» الضروري، أو لم تطبق على «الكمية» اللازمة.

  • (٤)

    والواقع أن «الكمية» هي التي كانت ناقصةً فيكفي أن تُضاعِف الجرعة حتى تقتل الضفدعة مثلما قتلت الضفدعة المعتادة.

    وفي هذا المثل «يبدو» أن علةً واحدة في ظاهرها تُنتج المعلول دون ضرورة محتومة.

الأثير وقنوات العصارة الهضمية: فيما يلي معلول يبدو أنه ينتج دون ضرورة محتومة عن علةٍ أو أخرى، أو يبدو الاختصار ناتجًا عن غير علة:
  • (١)

    فعندما حقن كلودبرنار كلبًا منع عنه الطعام بالأثير في أمعائه، وجد أن القنوات حاملة العصارة الهضمية قد ابيضت، كما لو كان الحيوان قد هضم مواد غذائية دسمة، وتلك هي الظاهرة التي لا نجد لها علة، وهي «ظاهرة ممتنعة وغير معقولة».

  • (٢)

    وعلينا أن نهتدي إلى تعليلٍ لها، وعندما فحص كلودبرنار الأدوات التي استخدمها في تجربته فحصًا دقيقًا، تبين له أن الأثير قد أُدخِل بوساطة حقنة بها دهان عالق أذابه الأثير وأدخله معه، وعلى ذلك فقد امتصَّ الحيوان دهنًا بالفعل.

  • (٣)

    فإذا ما أدخلنا الأثير بأنبوبة لا أثر بها للدهن، فإن قنوات العصارة لا تبيض، وهذا ما تحقق منه بالفعل.

(٦) أهمية الفكرة في منهج الفسيولوجيا

من كل هذه الأمثلة، ننتهي إلى أن العملية التجريبية متشابهة في العلوم البيولوجية وفي الطبيعة الرياضية، على أن هذا التشابُهَ يقف عند حدٍّ مُعين هو عدم إمكان إضفاء صورة الدالة الرياضية أو على الأقل عدم إمكان إضفائها دائمًا على «الفكرة» التجريبية التي تُبتدع في المرحلة الثانية من مراحل البحث. وقد بُذِل مجهود كبير للوصول إلى هذه الغاية؛ بل إن في علم الحياة جزءًا كاملًا يتشكل بالصورة الرياضية. أو أن الفكرة تتشكل على الأقل بالصورة الطبيعية الكيميائية، ففكرة الدورة الدموية عند «هارفي» ميكانيكية، وفكرة الحرارة الحيوانية عند «لافوازييه» كيميائية، وكان كلودبرنار يُجري تجاربه، في أغلب الأحيان، بطريقةٍ صناعية، أعني في البيئة الجامدة كما يفعل الكيميائي.

ولقد ألحَّ كلودبرنار في بيان أهمية «الفكرة» التي كان يُسميها فكرة أولية apriori أو «فكرة مسبقة préconçu» أو «فرضًا» على أن كلمة «الفرض» هي الكلمة الشائعة، التي استخدمناها من قبل في الفصل السابق، أما عبارة «الفكرة الأولية» فتهدف إلى توضيح أسبقية الفكرة على التجريب، وتُبين أيضًا أنها اختُرعت، وأنها وليدة الذهن، أي أنها من خلقه الحر الأصيل، وأما عبارة الفكرة المسبقة، فلا تدل إلا على أنها تسبق التجربة، وعلى كل حال، فنحن لا نوصي باستخدام هذين التعبيرين الأخيرين، إذ إن «الأولى apriori» يعني — إذا شئنا الدقة — ما هو مستقلٌّ عن التجربة، والفكرة المسبقة idée préconçu هي نوع من التحيز الذي يشوه الملاحظة.
هذا إلى أن كلودبرنار نفسه قد فطن إلى ما يؤدي إليه استخدام هذا اللفظ من لَبس، لأنه كتب يقول «إذا ما أجرينا التجربة دون فكرة مسبقة، فإن المرء يمضي خبط عشواء، ولكن … إذا لاحظنا بناءً على أفكار مسبقة، كانت ملاحظتنا غير سليمة.»١٦

البيولوجيا (علم الحياة)

(٧) التاريخ الطبيعي هو الصورة الأولى للبيولوجيا

عندما عددنا علوم الحياة تركنا عامِدين مجموعةً كاملة من العلوم التي يُمكننا أن نُسمِّيها بالعلوم العينية sciences concrètes وذلك إذا استخدمنا مصطلح أوجست كونت، ونحن نعلم أن كونْت كان يُطلق اسم العلوم العينية على تلك العلوم التي تتَّخذ الموجودات موضوعًا لها، في مقابل العلوم المجردة، التي تتَّخذ من «القوانين» موضوعًا؛ فالفسيولوجيا تدرس الحياة، أما التاريخ الطبيعي فيدرس «الأحياء».١٧

والهدف المنشود للبحث في التاريخ الطبيعي هو تفسير الفروق بين الأحياء، لا قانونها المشترك، الذي هو الحياة. فدراسة التنفس بوجهٍ عام تنتمي إلى مجال الفسيولوجيا. حقًّا إن المرء لا ينظر إلى الأمر من وجهة النظر التجريبية هذه أبدًا، وإنما يدرس التنفُّس في «الإنسان» مثلًا، ولكن هذا راجع إلى أننا نختار الإنسان بوصفه أكثر الحيوانات تعقيدًا، ولأنه — كما ينبغي لنا أن نعترف — أكثرها أهمية بالنسبة إلينا، ولكن المرء على استعداد للتعميم دائمًا. فالتفرقة بين الحيوانات، أو التمييز مثلًا بين التنفُّس عن طريق الرئتَين والتنفس عن طريق الخياشيم، معناه التطرُّق إلى مجال التاريخ الطبيعي.

ومن المفهوم أن التاريخ الطبيعي قد بدأ بإعداد مجموعات، وقد قام أرسطو نفسه بمثل هذا العمل، مثال ذلك أن نعدَّ مجموعات للنباتات الحية أو المجفَّفة (كالحدائق النباتية أو حدائق المزروعات والأعشاب) إلخ، أو حيوانات حية (كبيوت الحيوانات المستأنسة أو أقفاص الطيور) أو حيوانات محفوظة في حالة «طبيعية» بطرقٍ متباينة (كالحيوانات الكبيرة المحنطة، والحشرات المحفوظة في صناديق، والحيات والقواقع المحفوظة في الكحول) أو مجموعات من الرسوم أو الوثائق.

التصنيف الطبيعي: والمرحلة التالية هي أن يحاول المرء تنظيم هذه الثروة الضخمة، فيجمع الحيوانات والنباتات تبعًا لما بينها من أوجه الشبه والاختلاف وهذا ما يُسمَّى بالتصنيف، ولقد حاول بعضهم جعل هذا التصنيف طبيعيًّا (ظهور «التنظيمات الطبيعية naturae systemata» في القرنين السابع عشر والثامن عشر: كأبحاث لينيه Linné وجوسييه Jussieu إلخ) ذلك لأنهم كانوا يفترضون أن هناك خطةً طبيعية للتصنيف، نظرًا لأن الأحياء تتشابه وتختلف وفقًا لطريقة منظمة.

وإذن فقد بدأ التاريخ الطبيعي في هذه المرحلة كما لو كان تصنيفًا للأحياء أقرب ما يكون إلى الطبيعة. فتفسير كائن حي هو ربطه بنوعه، ثم إدراج هذا النوع تحت جنسٍ أعم، حتى الفروع الرئيسية لمملكة الأحياء. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن التاريخ الطبيعي يفرض على مجموعة الأحياء نسقًا من «الأفكار»، وينحصر التفسير في ربط كل كائنٍ حي بفكرة في هذا النسق، وذلك بعينِهِ هو ما أسماه كونت «بالتفسير الميتافيزيقي» إذ إن قوام هذا التفسير الأخير هو أن نُحدد سبب وجود ظاهرةٍ ما بأنه فكرةٌ ما، أو بأنه كيانٌ عقلي (تجريد مُشخَّص) على حدِّ تعبيره.

(٨) مذهب التطور هو تطبيق للمنهج الوضعي على البيولوجيا

في مستهلِّ القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد في عام ١٨٠٠م١٨ انتقل التاريخ الطبيعي من المرحلة الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية على يد لامارك Lamarck. ولقد أمكن تجاوز التفسير الميتافيزيقي، والقضاء عليه في نهاية الأمر:
  • (١)

    عن طريق تقدمه الخاص، فقد تبيَّن للعلماء أن المجموعات تظهر بينها مجموعات متوسطة يزداد عددها بالتدريج، وتُوحي بفكرة الاتصال وبالتالي بفكرة القرابة قطعًا.

  • (٢)
    وعن طريق نمو علم الحيوانات المنقرضة paléontologie والمقصود بهذا الاسم دراسة الأشكال الحية للحفريات، المعاصرة للعصور الجيولوجية السحيقة في القِدَم والتي ظلَّت باقيةً بصور مختلفة.
    فمنذ القرن السادس عشر نجد «برنار باليسي Bernard Palissy» مهتمًّا بالحفريات، وفي القرن السابع عشر، نرى ليبنتز، الذي كان يهتمُّ بكل شيء، لا سيما بما يوضح تنوع الكون واتصاله، قد لفت الأنظار إلى الحفريات.١٩ ولا شك أن تصنيف الحفريات يقوِّي هذه الفكرة التي نُكوِّنها لأنفسنا نتيجةً لتقدم تصنيف الأحياء الحالية، وأعني بها فكرة وجود قرابةٍ واتصال بين الأنواع الحية.
  • (٣)
    وقد ابتدع مربُّو الحيوان والبستانيون والزُّراع، وحسَّنوا منذ ألوف السنين، وسائل عملية تؤدي إلى خلق نماذج فرعية، وربما أنواع٢٠ كالقمح، ونباتات الزينة، والحيوانات المستأنسة والأنواع المتأقلمة. وهذه كلها أشكال حصل عليها الإنسان وخلقَها.

فإذا ما وضعنا هذا كله في حسباننا، ألفَينا التاريخ الطبيعي يتَّخذ طابعًا مغايرًا؛ فهو يبدو في صورة «تاريخية» بالمعنى الصحيح، أي أنه يروي قصة «تاريخ» ويرسم «جغرافية» الأنواع الحية، بدلًا من أن يكتفي بوضع قائمة لها وفقًا لنسَقٍ من الحقائق الأزلية، وبعبارة أخرى، فهو يُعيد تأليف «شجرة نسب» الأنواع، مع ربطها بالبيئة الجغرافية (كالمناخ والمسكن والظروف) وإذن فهو يصور الأنواع من حيث خضوعها للزمان وللعلية والمكان، لا وفقًا لمعانٍ أزلية.

والنتيجة التي تُستخلص من هذه الفكرة الجديدة هي أن الأنواع الحية، لما كانت معلولات ونتائج للبيئة وللسوابق في آنٍ واحد، فمن الضروري أن تتغير كلما اقتضى ذلك تأثير السوابق والبيئة. وإذن يجب ألا نتصوَّرها بعد الآن كما لو كانت ثابتةً؛ بل يجب النظر إليها على أنها قابلة للتحول. هذه النتيجة للنظرية هي أكثر عناصرها الباقية شيوعًا وأبلغها دلالةً على النظرية، ومنها استُمدَّ الاسم المعروف لهذه النظرية: مذهب التطور.

(٩) لامارك وأتباعه المحدثون

بدأ مذهب التطور في أول الأمر في صورة النظرية، أو بتعبيرٍ أدق، في صورة مجموعة من النظريات أهمها تلك التي تقدَّم بها «لامارك ودارون».

لامارك: كان لامارك٢١ عالمًا للنبات وأحد الذين اشتركوا في «دائرة المعارف encyclopedie»، ثم أصبح في سنة ١٧٩٥م أستاذًا لعلم الحيوان في فرع اللافقَّاريَّات بالمتحف، ويمكننا اعتباره تلميذًا لبيفون Buffon٢٢ ومكملًا له. وقد تجلى تأثير بيفون في تفكيره عندما اقتنع تمامًا بتلك الفكرة القائلة إنه ليس هناك تصنيف طبيعي بمعنى الكلمة: وهي في ذاتها فكرة تنطوي — سلبيًّا على الأقل — على مذهب التحول، وذلك لأنها تعني أن الطبيعة تجهل تقسيم الكائنات إلى أنواع وأجناس، وأن المرء لا يستطيع تبعًا لذلك أن يهتدي فيها إلَّا إلى سلالات متعاقبة، أي علاقات سببية. ومع ذلك، تظل لتصنيف الأحياء قيمةٌ نسبية مؤقتة، ولقد صحح «لامارك» ذلك التصنيف الذي قسَّم لينيه (Linné) فيه الحيوانات إلى (ثدييات، وطيور، وبرمائيات، وأسماك، وحشرات وديدان) فجمع الأربعة الأولى في نوعٍ واحد، هو «الفقريات» بينما أقحم بين النوعَين الأخيرَين أنواعًا أخرى هي اللاحشوية (Coelentéré)، والشوكيات (échinoderms) وميَّز القشريات (crustacés) والعناكب (arachnides) من الحشرات فكرة السلسلة، ولما أصبح هذا التصنيف أكثر توازنًا وتعقيدًا على هذا النحو، أوحى إليه بفكرة وجود سلمٍ متصل للأحياء، أي «سلسلة متفرعة» كما أسماها، يحتل الإنسان قِمتها، أما بقيَّة الحيوانات فتمثل الأشكال التي تقترب منه تباعًا، ولكي نصل إلى مذهب التحوُّل يكفينا التسليم بأن هذه الأشكال تُعبر عن مراحل لطريق واحدٍ سُلك بالفعل، وبهذا تكون القائمة المنظمة للأجناس قد عبرت «شجرة نسب» الحياة.
التكيف مع البيئة: ويبقى علينا أن نعرِف العلة التي أدَّت إلى التحول، فإذا قارنا بين نماذج مُعينة لحيواناتٍ متقاربة، ولكنها متباينة، كالصقر والقادوس (Albatros)، والبجعة والنعامة، والسنجاب وثعلب البحر، والكلب والدلفين (Phoque) وجدنا أن الفارق يرجع إلى التكيف مع البيئة، وتلك هي الفكرة الرئيسية في مذهب «لامارك».

(أ) ضمور الأعضاء أو نموها

ومع ذلك، فالتكيف يمكن أن يُفهم بمعنيَين مختلفَين
  • (١)

    بمعنى الغائية: بل بمعنى «العناية الإلهية»، إذ إن الكائنات الحية قد أصبحت قادرةً على الانتفاع من البيئة بفضل الطبيعة أو الله، ولكن لامارك، الذي كان من فلاسفة دائرة المعارف، لا يقبل هذا التفسير.

  • (٢)

    والمعنى الثاني هو معنى «العلية». فالطبيعة قد أثَّرت في الكائنات الحية لكي تجعلها متلائمةً معها، أو على الأصح، سلكت الكائنات الحية مسلكًا يكفُل لها الانتفاع بالبيئة (بأن تعوم بدلًا من أن تَسير مثلًا) ونتج عن ذلك أن نمَتْ أو ضمرت لدَيها أعضاء مُعينة، بتأثير التعود، أو بتأثير عدم التدريب.

مثال الزرافة: وهاك مثالًا دقيقًا؛ فالزرافة (comelo pardalis) تحيا في بيئاتٍ تُجبرها فيها الأرض التي تكاد تكون مجدبةً وخالية من العشب دائمًا على قضم أوراق الأشجار، وعلى محاولة الوصول إليها باستمرار، ونتج عن هذه العادة التي استمرت لدى كل أفراد جنس الزراف زمنًا طويلًا، أن أصبحت رجلاها الأماميَّتَان أطول من الخلفيتَين، وطالت رقبتها إلى حد أنها تستطيع، دون الوقوف على رجلَيها الخلفيتَين، أن ترفع رأسها وتصِل إلى ارتفاع ستة أمتار (حوالي عشرين قدمًا).٢٣

وراثة الصفات المكتسبة: ولكي يكمل التفسير، يجب التسليم بأن كل زيادةٍ أو ضمور في الأعضاء تُنقَل بالوراثة (وهذا ما يُسمَّى بوراثة الصفات المكتسبة).

تلك هي آراء لامارك الأساسية: اتصال الكائنات العضوية في السلسلة، والتكيف بالبيئة باستخدام الأعضاء أو عدم استخدامها، ووراثة الصفات المكتسبة.

كوب cope: وقد تردَّدت هذه الآراء لدى «أتباع لامارك المحدثين» أي لدى أتباع مذهب التحوُّل الذين اتخذوا مذهب لامارك مصدر وحي لهم بعدَه بخمسين عامًا، ومنهم العالِم الأمريكي كوب٢٤ الذي فسَّر نشأة العمود الفقري عن طريق رواسب معدنية تنفذ إلى أنسجة العضلات، ثم تشكلها حركات الحيوان، مثلما تتَّخِذ أكمام الثوب شكلها من حركات الذراع.

(١٠) مذهب دارون

بلغ دارون٢٥ مرحلة النضج بعد لامارك بحوالي نصف قرن، وفي ظروف مغايرة تمامًا؛ فقد كان لامارك أستاذًا في المتحف، أما دارون فكان عالِمًا طبيعيًّا رحَّالة، ولقد لاحظ دارون في «شيلي» أنواعًا حيوانية واضحة التقارب، ولكنها تختلف من حيث مواطنها، أي الأرض التي تعيش فيها، فربط بينها وبين أنواع الحفريات التي اهتدى إليها في باطن الأرض. فأقنعته هذه الملاحظات، التي أجراها بوصفه عالمًا للأحياء ورحالة، بصحة فكرة التطور. ومما ساعد أيضًا على قبوله هذه الفكرة، وجود نوع من التقاليد العائلية كان يُوحَى إليه بها؛ فقد كان جدُّه «إرازموس دارون» من علماء الأجنة، وهذا النوع من العلماء المشرِّحين يَعُدُّ تغير النوع حقيقةً مجرَّبة، إذ إن الجنين ينتقل خلال نموه انتقالًا ملحوظًا من نمطٍ إلى نمطٍ آخر مختلفٍ عنه كل الاختلاف، ولكن دارون كان أكثر حذرًا من أن يُطبق أفكار جدِّه بحذافيرها على تكوُّن الأنماط الحية بوجهٍ عام، وإنما أراد أن يعرف أولًا «كيف» تتطوَّر الأنواع.
الانتقاء الطبيعي: وعندما عاد إلى إنجلترا، قرر أن يلاحظ التحولات التجريبية التي يمكن الوصول إليها بأساليب التربية البشرية، وبدا له أنها ناتجة عن «انتقاء»، والانتقاء طريقة تعزل بها التغيرات العرَضية التي نهتمُّ بها، مع استبعاد بقيَّة التغيرات. ومثال ذلك ما يفعله مُربي القطط حين لا يستبقي لدَيه من السلالة إلا القطط السوداء، ويقضي على الأخرى فهل يعني ذلك أن الطبيعة تسلك هذا النحو ذاته؟ لقد ظل دارون يفكر في إجابة عن هذا السؤال مدة طويلة، إلى أن كان يوم قرأ فيه كتاب المفكر الاقتصادي الإنجليزي مالتوس (Malthus) ووجد فيه أنه بينما تزداد موارد العيش تبعًا لمتوالية حسابية، فإن الناس يتزايدون بمتوالية هندسية، أي أنهم يتزايدون بسرعةٍ أكبر بكثير. لكن إذا كان قانون مالتوس ينطبق على الكائنات البشرية بطريقةٍ غير مؤكدة، فإنه ينطبق بطريقة مؤكدة تمامًا على ما يعمر الأقاليم الجغرافية من الحيوانات والنباتات، وقام دارون بعملية حسابية، أساسها متوسط قدرة الأنواع على التكاثر، فأدرك أننا، حتى لو نظرنا إلى الأنواع القليلة النسل (كالفيلة مثلًا) لوصلنا سريعًا إلى زيادة مريعة، على أن الطبيعة عاجزةٌ؛ بل هي عاجزة تمامًا، عن تقديم الغذاء لكلِّ ما يُولَد، وإذن فهناك انتقاء آلي، هو «الانتقاء الطبيعي» وهو قانون للطبيعة، وليس إجراءً صناعيًّا مقصودًا.

وعند دارون أن سبب التحول هو الآتي: فكلما وُلد كائن حي، حدث «فارق عرضي» وفي «التنافس الحيوي» الذي تدخل فيه بالطبع الكائنات التي تنتمي إلى نوعٍ واحد تعيش أفراده معًا، فيضطرون إلى التغذِّي من نفس الإقليم، ومن نفس الأغذية، وبمقادير غير كافية؛ في هذا التنافس قد يكون ذلك الفارق العرضي أمرًا ضارًّا أو نافعًا. فإذا كان ضارًّا، أدى ذلك إلى القضاء على الكائن الذي يحلُّ فيه، وإن كان نافعًا، استمر الكائن في البقاء، وتكاثر، ونقل الاستعداد للتنوع على هذا النحو، وهو الاستعداد الذي كان فطريًّا لدَيه. فالفارق العرضي الموروث، والانتقاء الطبيعي (بقاء الأصلح، والقضاء على الآخرين بتأثير التنافُس الحيوي). هذه هي الأفكار الرئيسية في مذهب دارون.

مثال الزرافة: من حُسن الحظ أن لدَينا تفسيرًا طبَّقه دارون على نفس المثال الذي تحدَّث عنه لامارك، وإذن فمن الطبيعي جدًّا أن يكوِّن التفسيران تضادًّا ثنائيًّا. وفي هذا يقول دارون: (إن ارتفاع قامة الزرافة، وطول رقبتها، ورجلَيها الأماميتَين، ورأسها ولسانها، يجعل منها حيوانًا يتكيَّف على أفضل نحوٍ مع البيئة لقضم أعلى أغصان الأشجار، وبهذا يمكنها الوصول إلى أنواع من الغذاء بعيدة عن متناول غيرها من الحيوانات ذات الحوافر التي تسكن نفس الإقليم، ولا شك في أن هذا يُحقق لها مزايا كبرى في أوقات القحط … ولو تأمَّلنا الزرافة المولودة، في حالة التوحُّش الأولى، لوجدنا أن أعلى الأفراد قامةً وأقدرهم على القضم من ارتفاع يعلو على ارتفاع الآخرين شبرًا أو شبرينِ، هم الذين أمكنهم الاستمرار في البقاء في وقت المجاعة، إذ كانوا يجوبون الإقليم كله من أقصاه إلى أقصاه بحثًا عن الغذاء، وأدَّى امتزاجهم إلى إنتاج ذرية ورث أفرادها الخصائص الجسمية، أو الميل إلى السير في نفس اتجاه التغير، بينما تعرض الأفراد الذين لم يصلوا إلى نفس درجة التكيف في نفس هذه الظروف للفناء.٢٦

(أ) الصعوبات التي تواجهها نظرية التطور عند لامارك وعند دارون

بقي علينا أن نعرف أيهما كان على حقٍّ: لامارك أم دارون.

إخفاق نظرية لامارك: توقفت نظرية لامارك في التطور فورًا عند عقبة كأْداء؛ فالتغيرات التي تُكتسَب خلال حياة الكائن لا تُنقل بالوراثة، أي أن «المكتسب لا يورَّث» كما يقول التعبير الشائع، ولقد أجريت في هذا الصدد تجارب متعددة، ولكن لم يثبت من واحدة منها إمكان انتقال تغير مثلًا، أو عادة مكتسبة. فالاستعدادات والميول والتكيفات الموروثة هي وحدَها التي تنقل.

نظرية فيسمان Weismann: قام فيسمان، وهو من الدارونيين المحدثين الألمان، بترجمة هذا القانون وتفسيره عن طريق النظرية المشهورة في استمرار بلازما التوالد continuité du plasma germinatif (١٨٨٥)،٢٧ وبلازما التوالد هي مجموع الخلايا الجنسية، المذكرة المؤنثة التي تؤدي إلى وجود الكائن الجديد، عندما «تبذر»، ولهذه الخلايا طابع مزدوج:
  • (١)
    فلدَيها القدرة على إنتاج الكائن العضوي بأكمله. وهي وحدها، التي تتميز بهذه القدرة، أما بقيَّة خلايا الجسم، المسماة بالخلايا السوماتية (الجسمية Somatiques) فلا تُنتج على الأكثر إلا جزءًا من نفس النسيج الذي تنتمي إليه (كما في حالة اندمال الجروح، والترقيع الحيواني).
  • (٢)
    وهي تتميز ثانيًا بأنها تحمل خصائص الوراثة، فمن أين أتت هذه الميزة «للبذرة»؟ أهي ترجع إلى نوع من التفويض من قِبل الكائن العضوي بأكمله؟ وهل هذا التفويض — إذا صح — يتجسم في دقائق تسمى بالبراعم gemmules، تتوزع على الجسم بأكمله، وتتجمَّع في البذرة؟ إن أحدًا لم يلاحظ من قبلُ مثل هذا التجمع، كما أن «البراعم» الجسمية هذه كيانات لا وجود لها إلا في الذهن، والأصح من ذلك أن نفترض أن خلايا التوالد لا تأتي من جسم الفرد؛ بل من بذرة السلالة نفسها. فعند كل ميلاد، يكون هناك جزء من «البذور» الخاصة يحتوي على الخلية الأم، ولا يُستخدَم في تركيب الكائن العضوي الجديد، وإنما يُحفظ احتياطيًّا دون أن يطرأ عليه تعديل، ليكون «البذرة الجديدة». وتستمر خلايا التوالد في الأجيال المتعاقبة، وتكون من مادة واحدة، ومن تركيب جسيمي واحد، وإذن فعلينا، تبعًا لهذه النظرية الطموح، أن نتصور تعاقب الأجيال في صورة بلازما التي تظلُّ مستمرة في الوجود دائمًا، والتي تنضمُّ إليها، عند نموها، الخصائص الجسمية للفرد في كل جيل. وإذن فالوراثة تنتقل من الجنس إلى الأفراد المتعاقِبين، لا من فردٍ إلى فرد، ولا شك في أن هناك ردود أفعال تحدث من جانب الفرد على «البذور»؛ فهناك مثلًا أمراض جرثومية مُعينة، أو أنواع من التسمُّم المكتسب قابلة للانتقال، ولكن عددها ضئيل. ثم إن ما يورث في هذه الحالة، كما قال برجسون، ليس هو «الصفة» وإنما «الانحراف» الذي يتجسَّم في صورة ميكروب أو مادة سامة أصابت الجسم، وبالتالي تُصاب البذرة بالعدوى عن طريق الاتصال المباشر.٢٨

فالواجب إذن أن نفسِّر التحول بأنه قدرة تصف بها البذرة الجماعية، وتلك نقطة مُقررة في هذا الموضوع، بحيث أصبح مذهب دارون في شكله الحديث هو الذي يمثل مذهب التطور في صورته الحالية.

ولقد نشب منذ عدة سنوات جدالٌ عنيف بين علماء الأحياء الذين يرفضون فكرة الوراثة المكتسبة، وبين مدرسة روسية (هي مدرسة متشورين Mitchourine) التي تؤكد وجود طفرات ملحوظة، بحيث إن الصفات المكتسبة يمكن أن تُصبح متوارثة بفضل طفراتٍ موجهة. فمذهب متشورين، على حدِّ تعبير كولد شارل ماتون Claude Charles Mathon يرفض مبدأ استقلال الجسم عن البذرة. وفي هذا كتب أحد تلاميذ «متشورين»، وهو ليسنكو Lyssenko يقول: «إن التغيرات الوراثية واكتساب خصائص جديدة، وتدعيم هذه الخصائص، وكذلك تراكمها في سلسلةٍ من الأجيال المتلاحقة، كل هذه تتحدَّد دائمًا تبعًا لظروف حياة الكائن العضوي.»٢٩

(ب) الصعاب التي تواجه مذهب دارون

من المهم ألا ننسى أن مذهب التطور يتعين عليه، لكي يظل سائرًا في الطريق الذي اختطه دارون، أن ينظر إلى هذه القدرة على التغير على أنها تسلك أي اتجاهٍ كان، بحيث إن الانتقاء الطبيعي هو وحده الذي يوجهها في الوجهة الملائمة، ولكن ما عسى أن تكون نسبة احتمال التغيُّر الملائم عندئذٍ؟ إنها بلا شك نسبة ضئيلة جدًّا، لا سيما أن هذا التطور لن تكون له فائدة إلا إذا كان مشتملًا على عددٍ معين؛ بل على عددٍ كبير من التغيرات التي تتَّجِه كلها نحو هدفٍ واحد، فمثلًا: ما قيمة اكتساب بلَّورية العين بغير شبكية، أو شبكية بغير بلَّورية؛ بل ما فائدة وجود عين بدون الأفعال المنعكسة التي تعين على استخدامها؟ لقد شعر دارون نفسه بهذه الصعوبة، ولهذا اعترف بأن التغيرات كانت لا بد ضعيفة في البداية، حتى لا يكون ضررها أكبر من نفعها. ومع ذلك، فلنا أن نتساءل عما يتبقَّى لها من قيمة إذا كانت ضعيفة، وكيف يتسنى للانتفاء أن يثبتها.

(ﺟ) الطفرات

وهكذا اضطر الباحثون إلى تصور حدوث تغيرات قوية مفاجئة، وهي التي أسماها «دارون» بالسورات Sports والتي تُسمى اليوم طفرات mutations. ولقد أشار دي فريس De Vries وهو عالِم هولندي ينتمي إلى المذهب الدارويني الحديث إلى وجود طفرات كهذه في نبات قريب من «الفوكسيا» fuchsia، اسمه Densthera amarckiana، وهذه الطفرات قد أصبحت اليوم موضوع بحث العلماء. ولكنها لا تخفِّف من الصعوبة؛ بل الأمر على عكس ذلك، لأنها لو كانت عرضيةً لكان يخشى منها أن تكون ضارة، وأن تنتج مسوخًا٣٠ لا تستطيع الحياة.

وهكذا يواجه مذهب التطور عند دارون أو لامارك عقباتٍ لا سبيل إلى الغلبة عليها. فهو يصطدم، عند لامارك بالتجربة، وعند دارون بعدم الاحتمال. فهل يعني هذا إخفاق مذهب التطور ذاته؟

هذا ما ظنَّه البعض.٣١ ولكن ينبغي لنا أن نميز بين نظرية التطور والمنهج التطوري. فإذا كانت النظرية التطورية تتخبَّط اليوم في الصعاب التي أوضحناها، فقد تبقَّى لدينا المنهج التطوري.

(١١) ما تبقَّى من مذهب التطور: المنهج التطوري

إن المنهج التطوري اليوم هو المنهج المتبع في علمٍ حلَّ محل التاريخ ويُسمى بالبيولوجيا (وهو لفظ صاغه لامارك في ١٨٠٢م).

هذا المنهج ينحصر في:
  • (١)
    تفسير أصل الأنواع الحية عن طريق السلالة التي تنتمي إليها، والبيئة التي تنشأ فيها، لا عن طريق مرتبتها في التصنيف. وليس معنى ذلك أن التصنيف يختفي؛ بل يظل باقيًا، ويكون موضوعًا لذلك القسم من البيولوجيا المسمى «تصنيف الأنواع la Systématique». ولكن التصنيف قد قلت أهميته كثيرًا، ولم يعُد له من قيمة سوى تثبيت المصطلح اللفظي، والتمهيد لإدماج الأنواع في شجرة النسب، وهذا الإدماج هو بالاختصار الهدف النهائي للبيولوجيا.
  • (٢)

    توجيه الأبحاث على نحوٍ يؤدي إلى تكوين تاريخ وجغرافية للحياة:

    (أ) فهناك سلسلة من الأبحاث تهدف إلى إعادة تصور التسلسل التاريخي بين الأشكال، وإلى تحديد صبغة قوانين التعاقب بقدْر ما يكون ذلك ممكنًا (علم الأحياء المنقرضة Paléobiologie).

(أ) الوثبة الحيوية l’élan vital

كان تأثير برجسون هائلًا في هذه الأبحاث. فقد كان مقتنعًا بصحة نظرية «فيسمان»، وفي الوقت ذاته كان يدرك أن مذهب دارون في صورته الأصلية وفروعه الحديثة غير كاف، فأكمل هذا المذهب بنظرية ميتافيزيقية استخدمها علماء الحياة بعد أن حوَّلوها إلى منهج بيولوجي. تلك هي نظرية «الوثبة الحيوية».٣٢ ويطلق برجسون اسم الوثبة الحيوية على دفعة مبدئية، ذات طبيعة روحية، تشبه إلهام الفنان؛ بل تُشبه الفيض الصوفي، تبعث المادة وتُعدها للخلق، وتدفعها إلى قبول الحياة أولًا، ثم إلى إنتاج أنواع أكثر تحررًا من الجمود الأول، حتى تنتهي إلى النوع الإنساني الذي يتوقف عليه المستقبل الروحي لهذا الكوكب. ومن الواضح أن مذهبًا من هذا القبيل لا يمكن أن ينقل كما هو إلى مجال البيولوجيا. ولكن علماء البيولوجيا استبقوا منه ما يلي: إن هناك «قوة» تسيطر على التغيرات التي تطرأ على الحياة، وهي قوة لا تُحددها غايتها؛ بل يحددها ما تتَّجِه إليه من تباعُد متزايد عن نقطة البدء، وهي تسيطر على كل صور الحياة. وهاك ما صنعَ علماء البيولوجيا بهذه الفكرة: فهناك قانون للتعاقب، يُحدد ظهور الأنماط البيولوجية. فنحن نرى مثلًا أن العضو الواحد (وهو العين، في المثل الذي ضربه برجسون) ينمو «عن طريق عملياتٍ في التكوين الجنيني مختلفة كل الاختلاف.»٣٣ وذلك في الفروع المختلفة لشجرة النسب (وهنا كان برجسون يُقارن بين العين عند الفقريات والعين عند اللافقريات).
(ب) وهناك سلسلة أخرى من الأبحاث تُحدد موقع الكائنات الحية على هذا الكوكب، وتحدد مدى ارتباطها بالإقليم الجغرافي الذي تحيا فيه، وتحاول رسم خطوط الهجرة التي سبق أن مرَّت بها (الجغرافيا الحيوية Biogeographie).
  • (٣)

    والأساس الأخير للمنهج التطوري هو إدخال المنهج التجريبي الإيجابي في البيولوجيا. فقد كان علماء التاريخ الطبيعي السابقون يقِفون عند حدِّ الجمع والتصنيف، أما علماء الحياة في أيامنا هذه فهُم أصحاب تجارب قبل كل شيء.

(١٢) البيولوجيا الحالية تشتمل أساسًا على علم الأجنة والوراثة

إن المشكلة الكبرى في البيولوجيا تنحصر في تحديد شجرة نسب الأنواع الحيوانية والنباتية، وحول هذه المشكلة تدور مسألتان أُخريان أدى تأثير هذه المشكلة إلى تجديد البحث فيهما، وهما:
  • (١)
    دراسة تطور الجنين، وهو موضوع علم الأجنة Embryologie وهذه الدراسة قديمة جدًّا، ولكنها تجدَّدت بوساطة مذهب التطور أولًا حوالي ١٨٦٥م، ثم تجدَّدت مرةً أخرى في ١٩٠٠م بعد أن أُدخِل عليها المنهج التجريبي الإيجابي، وهو المنهج الذي يهدف إلى تعديل تطور الجنين عن طريق التدخل القائم على التجربة (طرق الشطر Segmentation والترقيع والتلقيح التجريبي).
    ولقد أحرزت طرق الترقيع البيولوجي في هذه السنوات الأخيرة تقدمًا هائلًا، ويقول جان روستان Jean Rostand٣٤ بأن من الضروري التمييز بين أنواع مختلفة من الترقيع؛ فقد يُدمج العضو الذي يستخدم في الترقيع في نفس الكائن العضوي الذي أتى منه الترقيع الذاتي autograffe) أو في كائن عضو آخر ينتمي إلى نفس النوع (الترقيع المتجانس homogreffe) أو من كائنٍ عضوي من نوعٍ مختلف (الترقيع المتغاير hétérogreffe). فمثلًا يمكن ترقيع قلب ضفدعة بقلب ضفدعةٍ أخرى (ترقيع متجانس) أو عين سحلية بسحلية من نوع آخر (ترقيع متغاير).

    ويمضي جان روستان (ص٢١) قائلًا: «إن الترقيع الذاتي هو وحدَه الذي يسمح لنا بتوقيع نتائج إيجابية في حالة الإنسان.» ويُستخدَم الترقيع الذاتي بوجهٍ خاص في جراحة التجميل، وذلك بنقل قطعة من جلد الذراع مثلًا إلى الجبهة أو الوجنة. كذلك استُخدِمت طريقة الترقيع لأنسجةٍ ميتة. وعندئذٍ يكون الجسم الغريب الذي استُخدِم في الترقيع — كما يقول جان روستان (ص٢٦) — «دعامة، ومقومًا، فتدعمه وتحييه وتعمره عناصر أصلية في الكائن.» وعلى هذا النحو أمكن ترقيع القرنيات الشفافة وإعادة قوة الإبصار إلى بعض العميان.

    كذلك ترتبط الأبحاث المتعلقة بالترقيع البيولوجي بمشكلةٍ أخرى جذبت اهتمامَ كثيرٍ من الباحثين منذ نصف قرن، وهي مشكلة «زرع الأنسجة» culture des tissus وقد أعاد جوتريه Gautheret إلى الأذهان في محاضرةٍ ألقاها عام ١٩٥٠م في موضوع زرع الأنسجة، الكشوف الأولى (ص٦)، فقال: «في عام ١٩٠٧م كان عالم الفسيولوجيا الأمريكي هاريسون قد وضع قطعة من النخاع الشوكي للضفدعة في قطرة من السائل اللمفاوي المتخثر، فوجد أنها قد أُحيطت بنوعٍ من الألياف أتت من زيادة نموِّ الخلايا العصبية التي بُترت بعد العزل، ولم يكن في ذلك زرع للأنسجة بالمعنى الصحيح، ولكن تلك التجربة الرائعة قد فتحت طريقًا يُبشِّر بنتائج عظيمة الأهمية، وبعد بضع سنوات، استطاع بروز Burrous وكاريل Carrel الإبقاء على قدرة الخلايا على الانقسام والتكاثر في أجزاء من الأنسجة الحيوانية فترة من الزمن، وأخيرًا، تمكَّن كاريل في ١٩١٢م، بفضل تحسين الأوساط الغذائية، من زرع الخلايا الحيوانية دون قيدٍ أو شرط، وكان لهذا النجاح دوي كبير، إذ إن إثبات كاريل لقدرةِ خلايا الحيوانات المركبة على أن تحيا حياةً مستقلة، قد دعم الأفكار العامة لمؤسِّسي نظرية الخلايا.»
  • (٢)
    والمسألة الثانية، هي دراسة الوراثة، وهي موضوع «علم الوراثة La génétique». وقد أثيرت هذه المسألة من جديد بفضل أبحاث الراهب التشيكي مندل Mendel في ١٨٦٥م في الأنواع المهجَّنة من البازلاء، وقد أحرزت نموًّا كبيرًا في أيامنا هذه بفضل أبحاث العالِم التجريبي الأمريكي مورجان Thomas Hunt Morgan ومساعديه (فرقة الذباب) حول ذبابة الفاكهة (drosophile). والفكرة التي يقول بها علماء الوراثة المعاصرون هي أن الصفات الوراثية (كلونِ العينَين وقابلية الإصابة بأمراضٍ معينة، والصفات الخاصة للأعضاء … إلخ) تحملها المورثات gènes وهي دقائق تُرى بصعوبةٍ في أكبر أنواع المجهر (ultra-microscope) وتحتوي على صبغيات (chromosomes) نواة خلية التوالد.

وكل ما في الأمر هو أن هذه النظرية لو صحت لتعرضت نظريات التطور من جرَّائها لمواجهة صعوبات جديدة. فإذا كانت الخصائص ترتبط بالمورثات، وتنقل بوساطتها عن طريق بلازما التوالد، فكيف يمكننا أن نتصوَّر حدوث تطور في النوع، أعني ظهور صفات جديدة كل الجدة؟ إن الحتمية التي يفترضها عِلم الوراثة هي حتمية «محافظة»، تفسر كل تجديدٍ بظهور تجمُّع غير مُتوقعٍ بين العناصر النوعية، ولكن التجمع غير المتوقَّع ليس تجديدًا بالمعنى الصحيح، وما هو إلا تجديدٌ ظاهري، فهو تجديد لمزيج لم نحسِب له حسابًا من قبلُ. أضف إلى ذلك أنَّ هذا الفرض لا يساعدنا على فهْم تأثير البيئة.

ومع ذلك، يجب القول إنَّ علم الوراثة لا زال حديثًا جدًّا، وإن الفرض القائل بالمورثات مُفرطٌ في بساطته وجموده، بحيث لا يُعد الفرض الصحيح. هذا إلى أن الفكرة القائلة بأن الصفة تحملها إحدى الدقائق المادية، فكرة غامضة إلى أبعدِ حدٍّ، ولن تتَّضِح بجلاء إلا إذا أصبح لها معنى طبيعي كيمائي: فمن المحتمل أن المورثات تؤثر عن طريق تفاعلات كيميائية في خلايا التوالد، وهذه التفاعلات يُعدلها تأثير البيئة. ومن جهة أخرى، فمن الممكن كذلك أن تعدل صفات المورثات ذاتها بمُضي الوقت في اتجاهٍ محدد.

١  L’évolution créatrice (Alcan), p. 16.
٢  Ethique, partie II, lemme V, à la suite de la proposition XIII.
٣  Ethique, parite III, propositions VI. VII et VIII.
٤  Introduction à l’étude de la médecine expérimentale, 2e partie, chap. 11, 81.
٥  L’évolution créatice (Alcan), p. 16–17.
٦  Dans la “Vocabulaire technique et critique de la philosophie” publiée par André Lalande (Alcan) t. 1. p. 259.
٧  استخدام برجسون هذه الألفاظ في «التطور الخالق» ص٣٧.
٨  أورد هذه العبارة Nauxion في طبعته للمختارات من مؤلفات بيكن:
De dignitate et augmentia scientisrum (principaux chapitres de Francis Bacon de Verulam), Delagrave, p. 29.
٩  Invention et finalité en Biologie (Flammation).
١٠  Introductioin à l’étude de La médecine expérimentale, 2e partie, chap. 1 S 111(1).
١١  لم ينكر كلود برنار أبدًا مبادئ هذا المنهج، ولكنه عندما كان يرفع عينيه إن جاز هذا التعبير فوق عمله التجريبي، ويفكر تفكيرًا ميتافيزيقيًّا في طبيعة الحياة كان يعبر أحيانًا بطريقة مخالفة إلى حدٍّ كبير، ولذا قيل إن بعض الأفكار التي قبِل بها عندئذٍ تمهد الطريق لفلسفة برجسون في علم الحياة وتُبشِّر بها، فمنذُ عهد كتاب «المدخل إلى دراسة الطب التجريبي» (الجزء الثاني، فصل ٢، قسم ١، ص١٣٨، ١٤٠، ١٤٧، ١٤٨) نراه يقول: «إن الظواهر الفسيولوجية المعقدة تتكوَّن عن طريق سلسلة من الظواهر العظيمة البساطة التي تُحدد كل منها الأخرى، وذلك بتجميعها أو اتحادها من أجل هدفٍ نهائي مشترك … فالكائن الحي يكون كائنًا عضويًّا، وفردًا قائمًا بذاته، أما ما ينتمي أساسًا إلى مجال الحياة، لا مجال الكيمياء ولا مجال علم الطبيعة ولا أي شيءٍ آخر، فهو «الفكرة الموجهة» في هذا التطور الحيوي، ففي كل بذرة حية، تُوجَد فكرة خالقة تنمو وتتجلى عن طريق تنظيمه الداخلي، ويظل الكائن الحي طيلةَ حياته خاضعًا لتأثير هذه القوة الحيوية الخالقة، ولا يأتي الموت إلا عندما لا تستطيع هذه القوة أن تُحقِّق ذاتها.» أما في مجال العمل التجريبي، فإنه يتشبث بقوة بالمبادئ التي سنوضحها.
١٢  المدخل إلى دراسة الطب التجريبي الجزء الثالث، الفصل الأول، القسم الأول، المثال الأول، ومن المفيد للقارئ أن يَطلع على مجموعة التجارب التالية في ذلك الكتاب.
١٣  المرجع نفسه: المثال الخامس.
١٤  نفس المرجع: الجزء الأول، الفصل الثاني، القسم السابع من الطبعة المدرسية (هاشيت).
١٥  المرجع نفسه الجزء الثالث، الفصل الثاني، القسم الثاني، المثل الأول والثاني.
١٦  المرجع نفسه، الجزء الأول، فصل ٢، قسم ٢، ص٥٧ من طبعة (هاشيت) المدرسية.
١٧  تعبير «التاريخ الطبيعي»؛ تعبر كلمة «التاريخ» عما أطلق عليه كونْت اسم «العلم الخاص» أما كلمة «الطبيعي» فيقصد منها بيان نوع التاريخ الذي يُعالجه العلم «كما في كتاب بيكن»:
De dignitate et augmentis scientiarum, 11, 2.
والذي ليس هو التاريخ البشري، وإنما هو وصف للأشياء الطبيعية، بقدْر ما تتطلَّب هذه الأشياء وصفًا.
١٨  أعلن «لامارك» فكرة التطور في خطابٍ افتتاحي في السنة الثامنة من تقويم الثورة الفرنسية أي ١٨٠٠م.
١٩  في مقاله المسمَّى Protogée.
٢٠  في ١٧٠٩م كتب ليبنتز في المقالات الجديدة Nouveaux Essais (التي لم تظهر إلا في ١٧٦٦م) يقول: «من الممكن أن تكون حيوانات مُتعدِّدة شبيهة بالقط، كالأسد والنمر والفهد، قد نشأت كلها عن جنس واحد، وتكون الآن أشبه بالفروع الجديدة لنوع القط القديم.» III. II. S 23.
٢١  واسمه الأصلي Jean Baptiste–Pierre–Antoine de la Marck (وفي عهد الثورة الفرنسية أضفى على اسمه طابعًا أكثر شعبية) وقد ولد في بازنتان Bazantin في بيكاردي Picardie عام ١٧٤٤م من عائلة نبيلة، ومات عام ١٨٢٩م.
٢٢  في «المختارات من بيفون» (مكتبة colin ١٩٢٢م) تظهر لنا بوضوح أفكار تسير في اتجاه مذهب التطور، كالارتباط الوثيق بين الأنواع وبين البيئة (ص٢٩–٢١) والطابع المصطنع للتصنيف (ص٥–٨).
٢٣  نص من كتاب philosophie zoologique (١٨١٥–١٨٢٢م) منشور في Œuvres choisies de J. B. Lamarck par le Dantec (Flammarion) p. 305.
٢٤  كان مؤلفاته الرئيسية فيما بين ١٨٨٧م، ١٨٩٦م.
٢٥  ولد تشارلس دارون في ١٨٠٩م وتوفي في ١٨٨٢م وكتابه الرئيسي هو «أصل الأنواع» الذي ظهر في ١٨٥٩م.
٢٦  Charles Darwin: L’origine des espèces au moyen de la selection naturelle, ou la lutte pour L’existence dans la nature.
ترجمه إلى الفرنسية عن الطبعة الإنجليزية السادسة باربييه.
Ed. Barpier
(Paris Reinwald 1876) pp. 240–241 (Chap VII).
٢٧  Auguste Weismann: “la continuité du plasma germinatif”.
مقال في كتاب.
Essais sur l’hérédité et la selection naturelle, trad. Varigny paris 1892. pp. 163–243.
٢٨  انظر في كتاب «التطور الخالق» مناقشة للتجربة المشهورة عن الخنازير الهندية لبراون سيكار Brown Séqurd (٨٥–٩٢).
٢٩  من المفيد قراءة مقال Claude-Charles Mathon عن «بعض أوجه مذهب متشورين» الذي ظهر في Revue générale des sciences العدد الثالث والرابع ١٩٥١م.
انظر أيضًا الكتاب العام الذي ألفه ريمون نوفاس Reymon Novasse التكيف والتطور (مكتبة Harmann ١٩٥٠م، الفصل السابع، فكرة متشورين).
٣٠  انظر مناقشة برجسون لهذا الموضوع في «التطور الخالق» ص٦٤–٦٥.
٣١  Louis Vialleton: L’origine des etres vivants l'illusion transformiste (Plon) 1929.
٣٢  التطور الخالق ص٩٥–١٠٦؛ منبع الأخلاق الدين (Alcan) ١٢٣،١١٦،١٠٣،٩٦.
٣٣  التطور الخالق، ص٧٥.
٣٤  La Biologie et l'avenir humain (Albin Michel) 1950, p. 19.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤