الفصل السادس

الأمريكتان

كان لانضمام الأمريكتين إلى الاقتصاد العالمي عواقب هائلة على العالمين القديم والحديث؛ انهارت مجتمعات السكان الأصليين الأمريكيين، وحلت الحضارة الأوروبية محل الحضارات الأصلية. كانت أوروبا الشمالية متوجهة نحو التصنيع، ويُعَدُّ تقدُّم الأمريكتين أنفسهما مثالًا حيًّا على الانقسام العالمي بين الشمال الغني والجنوب الفقير.

تعود مسارات التنمية المختلفة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية إلى الحقبة الاستعمارية، وترتبط على نحو وثيق بعاملي الجغرافيا والديموجرافيا. ضمَّت أمريكا الجنوبية معظم السكان الأصليين وكانت تحتوي على أضخم الثروات، وكانت كذلك هي الأبعد عن أوروبا، وقد تراكمت هذه الاختلافات مسببة التباين في الدخل الذي نشهده اليوم.

كان عامل الموقع الجغرافي مهمًّا؛ لأنه أثَّر على القدرة على التجارة مع أوروبا. قد تكون التجارة مفيدة أو ضارة للنمو الاقتصادي. فمن جانب، عرقلت المصنوعات البريطانية الرخيصة عملية التصنيع، ومن جانب آخَر، شجَّع تصدير المنتجات الزراعية المحلية بقوة على الاستقرار والزراعة بوجه عام، وهي عوامل قد تكون محطات انطلاق للتحول إلى التصنيع لاحقًا. وفي هذا الصدد، كانت أمريكا الشمالية تحظى بالأفضلية. أولًا، كانت أمريكا الشمالية أقرب إلى أوروبا التي كانت السوق الرئيسية لصادرات المستعمرات، ومع ارتفاع تكلفة النقل، كان سكان أمريكا الشمالية يستطيعون إنتاج وتصدير مجموعة أكبر من المنتجات بصورة مربحة أكثر من سكان أمريكا الجنوبية، وقد دعمت الجغرافيا الداخلية للقارتين هذه الميزة؛ فكان الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية طويلًا وخصبًا بما يكفي لدعم اقتصاد كبير، كما كان يمكن بلوغ أعماق القارة من خلال أنهار سانت لورانس وموهوك هدسون والمسيسيبي. في المقابل، كانت معظم الأنشطة الاقتصادية في أمريكا اللاتينية تجري في أعماق المكسيك ومنطقة جبال الأنديز. لم تصل الأنهار بين هذه الأقاليم والسواحل، ومن ثَمَّ كانت تكلفة التصدير مرتفعة.

ويمثِّل العامل الديموجرافي أهمية كبيرة كذلك. لم يهدد المناخ المعتدل الذي يسيطر على معظم أنحاء الولايات المتحدة وكندا ومعظم مناطق أمريكا الجنوبية؛ الأوروبيين بالأمراض، ومن ثَمَّ استقر الأوروبيون ونعموا بالرخاء في هذه المناطق. في المقابل، أدت أمراض المناطق الاستوائية إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين الأوروبيين في مناطق الكاريبي والأمازون، وهو ما أدى إلى انخفاض نسبة نمو السكان الأوروبيين فيها.

كان السكان الأصليون موزَّعين على نحوٍ غير متساوٍ عبر الأمريكتين. عاش معظم السكان الأصليين في المكسيك (٢١ مليونًا)، أو الأنديز (١٢ مليونًا)، في المقابل لم يَعِشْ سوى خمسة ملايين فقط من السكان الأصليين في الولايات المتحدة، منهم ٢٥٠ ألف نسمة فقط في المستعمرات الثلاث عشرة الأصلية، وقد عكس الفارق في توزيع السكان طبيعة الجغرافيا. كانت المكسيك وبيرو مواطن الأصول الطبيعية للأغذية الرئيسية للسكان الأصليين مثل الذرة والبقوليات والقرع والبطاطس والكينوا. زُرِعت هذه النباتات في الحقول والمزارع بعدما كانت تُزرَع في البراري، ومن ثَمَّ صارت هذه البيئات تلائمها تمامًا. بالإضافة إلى ذلك، كان المزارعون يزرعون هذه النباتات قبل أن يقدِم أحدٌ على زراعتها في أي مكان آخَر. كانت الذرة والبقوليات — على سبيل المثال — تُزرَع في الحقول والمزارع قبل ٤٧٠٠ عام، ومن ثَمَّ كانت هناك فرصة ٤٢٠٠ عام أمام السكان الأصليين للمكسيك حتى يزداد عددهم قبل أن يصل كورتيس إلى المكسيك في عام ١٥١٩. بطبيعة الحال، انتشرت زراعة الذرة والبقوليات والقرع بصور واسعة، غير أنه كان يلزم ملاءمة جيناتها وطرق زراعتها مع البيئات المختلفة التي صارت تُزرَع فيها، وهو ما أبطأ من انتشارها، فكان يجب — على سبيل المثال — تقليص موسم زراعة الذرة من ١٢٠–١٥٠ يومًا — وهي الفترة اللازمة لزراعة الذرة في المناطق الاستوائية — إلى ١٠٠ يوم أو أقل في المناطق الأكثر برودة، وهو ما لم يتحقق إلا في عام ١٠٠٠ ميلادية تقريبًا. ولم تُزرَع الذرة على نطاق واسع في أي مكان في النصف الشرقي من الولايات المتحدة أو كندا قبل هذا التاريخ؛ لذا لم يتسَنَّ للسكان الأصليين في شرق أمريكا الشمالية وقت كبير كي ينمو عددهم قبل أن يأتي الأوروبيون إلى القارة.

كان وصول الأوروبيين إلى الأمريكتين بمثابة الكارثة بالنسبة للسكان الأصليين. بلغ تعداد السكان الأصليين وفق أحد التقديرات المتوسطة إلى ٥٧ مليون نسمة في عام ١٥٠٠، وبحلول عام ١٧٥٠، انخفض تعدادهم إلى ٥ ملايين نسمة. يرجع جزء كبير من هذا الانخفاض في عدد السكان الأصليين إلى ظهور الأمراض؛ مثل الجدري والحصبة والأنفلونزا والتيفوس، التي لم يكن لدى السكان الأصليين أي مناعة ضدها، أما الأسباب الأخرى فتتمثل في الحروب والاستعباد والمعاملة السيئة من قبل المستوطنين.

كانت تداعيات هذا الانخفاض في العدد — الذي كان أمرًا شائعًا بين جميع السكان الأصليين — مختلفة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية؛ نظرًا لاختلاف عدد السكان في كلتا القارتين قبل وصول الأوروبيين. في المكسيك، انخفض تعداد السكان الأصليين بنسبة تزيد على ٩٠٪، ووصلوا إلى أقل عدد لهم في عشرينيات القرن السابع عشر وهو ٧٥٠ ألف نسمة. كان هذا العدد لا يزال يماثل ثلاثة أضعاف عدد السكان الأصليين في الساحل الشرقي للولايات المتحدة قبل وصول الأوروبيين. وفي منطقة الأنديز، انخفض تعداد السكان الأصليين ليصل إلى أقل من ٦٠٠ ألف نسمة، بعد تفشي وباء بين عامَيْ ١٧١٨ و١٧٢٠. تضاعف عدد السكان الأصليين في المكسيك بعد منتصف القرن السابع عشر ليصل إلى ٣٫٥ ملايين نسمة في عام ١٨٠٠، فيما وصل عدد السكان الأصليين في منطقة الأنديز إلى ٢ مليون نسمة. وعلى الرغم من الهجرة الإسبانية خلال القرون الثلاثة السابقة، كان السكان الأصليون يؤلفون ثلاثة أخماس إجمالي عدد السكان في هذه المناطق، ومثَّلت نسبة السكان من الأعراق المختلطة خُمْس إجمالي عدد السكان، أما الخُمْس الأخير فكان يمثله الأثرياء البيض الذين كانوا يحكمون هذه المستعمرات. انطوى هذا الهيكل العرقي والاقتصادي على تبعات سلبية على النمو طويل المدى.

كان الوضع مختلفًا تمامًا في أمريكا الشمالية؛ نظرًا لقلة عدد السكان الأصليين عند وصول الأوروبيين. انخفض تعداد السكان الأصليين الذين وصل عددهم إلى ربع مليون نسمة في الساحل الشرقي في عام ١٥٠٠، إلى ١٤٦٩٧ نسمة في عام ١٨٩٠، عندما أُجرِي تعدادهم ضمن الإحصاء الأمريكي الرسمي للسكان للمرة الأولى. حدث معظم الانخفاض في عدد السكان الأصليين في القرن السابع عشر، بل وغالبًا ما كان ذلك قبل الاستعمار الأوروبي. سبق وصول المستوطنين الأوائل إلى ماساتشوستس في عام ١٦٢٠ تفشي عدد من الأوبئة بين عامَيْ ١٦١٧ و١٦١٩، وقد رأى المستوطنون الأوائل في ذلك منحة من الله: «حتى الآن باركت يد الله الطيبة بداياتنا هنا … من خلال محو أعداد كبيرة من السكان الأصليين … قبل وصولنا هناك، بحيث يفسح المجال لنا هناك.» وقد قضت خمسون عامًا من الحروب على ما تبقى من السكان الأصليين. كان ارتفاع معدلات الوفيات بين السكان الأصليين وانخفاض معدلات الوفيات بين المستوطنين يعني أن المستعمرات الأمريكية صارت مكانًا بديلًا لإنجلترا بسرعة كبيرة. كان الاستثناء الأبرز في هذا التعميم هو المستعمرات الجنوبية في الولايات المتحدة؛ حيث استورد الأوروبيون عبيدًا أفارقة للقيام بالأعمال الشاقة، ولكن لم يؤثر وجود السكان الأصليين على تنمية أمريكا الشمالية مثلما كان الحال في جنوب نهر ريو جراندي.

اقتصاد المستعمرات في أمريكا الشمالية

يعتبر الاستيطان هو الموضوع الرئيسي في التاريخ الاستعماري للولايات المتحدة الأمريكية. كان دافع بعض المستوطنين — خاصة في نيو إنجلاند — يتمثل في رغبتهم في إقامة حكم ديني خاص بهم بدلًا من الانصياع إلى هيمنة عقيدة أخرى، ولكن كان الحافز الرئيسي لمعظم المستوطنين هو الكسب الاقتصادي؛ بل وكان البيوريتانيون يتوقعون تحقيق مستوى المعيشة نفسه في ماساتشوستس الذي كان يمكنهم تحقيقه في إنجلترا.

كان الاستيطان والتصدير مرتبطين ارتباطًا وثيقًا في أمريكا الشمالية أثناء الاستعمار البريطاني. سلَّط عالم الاقتصاد الكندي هارولد إنيس الضوء على هذه العلاقة من خلال «أطروحة السلع الأساسية»، التي كانت تقول بأن نمو إقليم مثل كندا كان يحدده نمو صادراته — المتمثلة في سمك القد، والفراء، والأخشاب — إلى أوروبا. وفَّرت مبيعات هذه المنتجات المال اللازم لشراء البضائع المصنَّعة؛ مثل القماش والأدوات والأواني الفخارية والكتب وغيرها. كانت هذه المنتجات تُستورَد من بريطانيا، بدلًا من إنتاجها في المستعمرة؛ حيث كانت الصناعات البريطانية ضخمة وحقَّقت اقتصادًا هائل الحجم، وهو ما كان يعني قدرتها على الإنتاج بصورة أكثر فعالية من الشركات الصغيرة في المستعمرات. «يرى المزارعون أن من صالحهم مبادَلة الماشية والذرة بالملابس، بدلًا من صناعة الملابس.» منعت قوانين الملاحة البريطانية الهولنديين والفرنسيين من توريد احتياجات المستعمرات.

تميزت مستعمرات السلع الأساسية بثلاث خصائص؛ أولًا: كان سعر السلعة الأساسية في المستعمرة أقل من سعرها في أوروبا بمقدار يساوي تكلفة النقل، وكانت الأسعار في السوقين ترتفع وتنخفض معًا؛ حيث إن التجارة كانت تربط بينهما. ثانيًا: كانت الصادرات تشكل جزءًا كبيرًا من دخل المستعمرات، فيما كان باقي دخلها يأتي من خدمات الدعم. ثالثًا: تخطَّتْ عائدات المستوطنين ورءوس أموالهم في المستعمرات العائدات في أوروبا بهامش يغطي تكاليف ومخاطر الانتقال إلى المستعمرات.

تبيِّن مستعمرة بنسلفانيا هذه المبادئ، فقد تأسست مستعمرة بنسلفانيا في عام ١٦٨١، وكانت ملائمة لزارعة القمح الذي صار سلعتها الأساسية. تنافست صادرات بنسلفانيا مع الإنتاج الأيرلندي والإنجليزي في الهند الغربية وأيبيريا والجزر البريطانية؛ ونتيجةً لذلك، تحركت الأسعار في فيلادلفيا ولندن معًا ارتفاعًا وانخفاضًا. يظهر هذا التزامن في الشكل ٦-١. كانت حرب السنوات السبع (١٧٥٦–١٧٦٣) والثورة الأمريكية (١٧٧٦–١٧٨٣) بمثابة الاستثناءات التي تثبت القاعدة؛ حيث تأثرت التجارة بشدة خلال هذه الفترات، وانهارت العلاقة المتبادَلة بين الأسعار. وإضافة إلى القمح والدقيق، صدَّرت مستعمرة بنسلفانيا منتجات الأخشاب والسفن والحديد والبوتاس، وحقَّقت فائضًا من العملة الصعبة من أسطولها البحري التجاري. كانت الصادرات مهمة لاقتصاد المستعمرة ووصلت إلى حوالي ٣٠٪ من إجمالي ناتجها في عام ١٧٧٠. كانت العملة الصعبة التي تحققت من خلال بيع هذه المنتجات تُستخدَم في شراء المنتجات الاستهلاكية الإنجليزية.
fig14
شكل ٦-١: سعر القمح.
fig15
شكل ٦-٢: أجور العمالة غير الماهرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
اجتذب الاقتصاد الذي كان يحقِّق نموًّا ملحوظًا المزيد من العمالة الأوروبية. في القرن الثامن عشر، سارت الأجور الحقيقية في فيلادلفيا في نفس مسار الأجور في إنجلترا، ولكن على مستوى أعلى لتعويض المستعمرين عن تكلفة الانتقال إلى مستوطنات بعيدة غير مأهولة (الشكل ٦-٢). كانت إنجلترا ومستعمراتها في أمريكا الشمالية أماكن مزدهرة؛ حيث بلغت الأجور فيها من أربعة إلى خمسة أضعاف الحد الأدنى لمتطلبات الحياة، مقارَنة بمدن مثل فلورنسا حيث انخفضت الأجور فيها إلى الحد الأدنى لمتطلبات الحياة بنهاية القرن الثامن عشر.
كان أداء الاقتصاد في نيو إنجلاند أقل إرضاءً، كما يوضح الشكل ٦-٢. في أوائل القرن الثامن عشر، كانت الأجور في ماساتشوستس تساوي نظيرتها في لندن ولكن أقل من بنسلفانيا. ورغم أن ماساتشوستس تحمل مكانة رمزية وفق وجهات النظرة الشعبية في التاريخ الأمريكي، فقد كان اقتصاد المستعمرة غير مستقر؛ نظرًا لافتقاره إلى سلعة زراعية أساسية. وقد نشأت تجارة تصدير في الأسماك، والماشية، وزيت الحوت، ومنتجات الأخشاب بما في ذلك السفن، وأنشأ مواطنو نيو إنجلاند أيضًا صناعة كبيرة لبناء السفن التي أدرَّت أرباحًا خارجية كثيرة، وأزعجت التجار الإنجليز؛ إذ إنها تنافس وطنهم الأم. لم تتسع هذه الأنشطة بسرعة؛ لذا زاد الطلب على العمالة في نيو إنجلاند بصورة أبطأ من الزيادة الطبيعية في السكان. وبناءً على ذلك، انخفضت الأجور فضلًا عن زيادة هجرة السكان منها.

بينما طُوِّرَت أطروحة السلع الأساسية لتفسير نمو مستعمرة كندا، تُعَدُّ مستعمرات السكر في منطقة الكاريبي أفضل الأمثلة في هذا الصدد. اكتشف الأوروبيون السكر للمرة الأولى أثناء الحروب الصليبية في فلسطين، وبعد طردهم من البلاد، انتقل إنتاج السكر إلى قبرص، وفي نهاية المطاف انتقلت زراعته إلى جزر في المحيط الأطلنطي. كان احتلال البرتغاليين لساو توميه في عام ١٤٨٥ نقطة تحوُّل؛ حيث بدأ البرتغاليون في زراعة مساحات شاسعة من الأراضي التي كان يعمل بها عبيد أفارقة. انتقل نظام الزراعة هذا لاحقًا إلى البرازيل ومنطقة الكاريبي؛ حيث أثبت قدرته على تحقيق أرباح هائلة. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت جزر بربادوس وجامايكا وكوبا وسانت دومينجو (هايتي الآن) من بين أكثر الأماكن ثراءً في العالم.

كانت مستعمرات الكاريبي تزرع السكر والمحاصيل الأخرى كالبن، ثم تصدِّر إنتاجها إلى أوروبا. كان المستثمرون الأوروبيون يوفرون رأس المال اللازم، والعبيد الأفارقة يوفرون الأيدي العاملة اللازمة؛ حيث أثبت الأفارقة أنهم مصدر للأيدي العاملة أرخص من الأيدي العاملة من المهاجرين الأوربيين. كانت معدلات الوفيات في مزارع السكر مرتفعة للغاية، وكان سعر العبيد الجدد رخيصًا للغاية، بحيث كان يتم زيادة أعداد العبيد بشرائهم وليس من خلال الزيادة الطبيعة بالتناسل. على سبيل المثال، شُحِن أربعة ملايين من العبيد إلى الهند الغربية البريطانية، لكن لم يتبَقَّ منهم إلا ٤٠٠ ألف عند تحريرهم في عام ١٨٣٢. كان حجم الصادرات يحدِّد حجم اقتصاد المستعمرات. في جامايكا في عام ١٨٣٢ — على سبيل المثال — شكلت صادرات السكر والبن والمنتجات الاستوائية الأخرى ما يصل إلى ٤١٪ إلى دخل المستعمرة، أما باقي دخل المستعمرة فكان يتوفر من خلال أنشطة دعم المزارع (إنتاج الأغذية للعبيد، والمستلزمات الأخرى، والشحن، وخدمات النقل، وتوفير قوات فرض النظام وتنفيذ القانون، وتوفير مساكن للعمالة المساعدة)، أو من خلال النفقات الاستهلاكية لأصحاب المزارع على الخدم في المنازل والبيوت الريفية. مثَّلت نفقات أصحاب المزارع في المستعمرة نسبة ضئيلة من دخولهم، والتي كان يذهب معظمها إلى بريطانيا بدلًا من استثمارها في جامايكا.

تكررت العديد من سمات مستعمرات منطقة الكاريبي في المستعمرات الجنوبية، التي صارت الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعدُ. كان الجنوب يضم السلع الأساسية القيَّمة مثل الأرز ونبات النيلة في مستعمرة كارولاينا الجنوبية، والتبغ في فرجينيا وميريلاند. كانت هذه المحاصيل تُزرَع في المزارع التي كان يعمل بها في البداية الخَدَم الإنجليز المتعاقدون، ثم حل محلهم العبيد الأفارقة. كان الجنوب أكثر ثراءً من المستعمرات الشمالية، كما جذب المزيد من المستوطنين وكان يمثِّل وجهة معظم العبيد.

على سبيل المثال، جرى استيطان مستعمرة كارولاينا الجنوبية للمرة الأولى في عام ١٦٧٠، لكن لم يمتلك المستوطنون «أيَّ سلع تلائم السوق الأوروبية إلا بعض أنواع الجلود التي اشتروها من السكان الأصليين الهنود، والقليل من أخشاب الأَرز، والتي كانوا يساعدون بها في ملء السفن التي تنقل الجلود إلى لندن.» في العقود اللاحقة، بحث هؤلاء المستوطنون عن سلعة أساسية، وفي نهاية المطاف وجدوا ضالتهم في الأُرز. ارتفعت الصادرات من ٦٩ رطلًا لكل فرد في عام ١٧٠٠، إلى ٩٠٠ رطلٍ في عام ١٧٤٠، كما قفزت واردات العبيد من ٢٧٥ عبدًا سنويًّا إلى ٢٠٠٠ عبد خلال العقود نفسها. كما ارتفعت معدلات التجريب في أساليب الزراعة من إنتاجية الأراضي والعمال على حد سواء بمقدار النصف. اقترب البناء الاجتماعي للمناطق الساحلية — حيث كان يُزرَع الأُرز — من البناء الاجتماعي في جزر زراعة السكر في الكاريبي، وكانت الصادرات تضيف ما يصل إلى أكثر من ٣٠٪ إلى الدخل الإجمالي للمناطق الساحلية، وكان الاقتصاد يرتكز على الأرز مثلما كان اقتصاد جامايكا يرتكز على السكر، وأصبحت الغالبية العظمى من السكان من الأفارقة.

تراجع السكان البيض — الذين كانوا يمثِّلون نصف إجمالي عدد السكان في الجنوب — إلى المناطق الداخلية حيث انتشرت المزارع العائلية. ورغم أن هذه العائلات كانت تزرع ما تأكله، فإنها كانت أبعد ما يكون عن تحقيق الاكتفاء الذاتي؛ حيث كانت هذه المزارع تمد مزارع الأرز بحاجتها من الطعام، واستخدم أصحابها عائدات البيع في شراء الأقمشة الإنجليزية والسلع الاستهلاكية الأخرى. اعتمدت مستعمرتا فرجينيا وميريلاند بصورة مماثلة على التبغ كمنتج تصدير أساسي.

كانت المستعمرات البريطانية تختلف فيما بينها بصورة هائلة من حيث عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. كانت مستعمرتا نيو إنجلاند وإقليمُ الأطلسي الأوسطُ الأكثرَ مساواة؛ كان يوجد بهما بعض العبيد، غير أن العبودية لم تكن مهمة في مجال الزراعة؛ لا بسبب أي وازع أخلاقي أو لصعوبات فنية، وإنما لأن العبيد لم يكونوا يدرُّون دخلًا يكفي لتغطية تكلفة استخدامهم. وقد جعل توافر الأراضي بكثرة سعرها منخفضًا، وهو ما كان يعني أن معظم الدخول تأتي في صورة أجور، والتي كانت تُوزَّع بالضرورة بصورة واسعة. تقف مستعمرات الكاريبي على حد النقيض من هذا؛ حيث كان معظم السكان من العبيد، وكان عدم المساواة حاضرًا في أبرز صوره. مثَّلت مستعمرات جنوب الولايات المتحدة الأمريكية حالات وسط جمعت بين عدم المساواة في المزارع والمساواة التي تظهر لدى المزارعين على نطاق صغير على الحدود.

على أية حال، اشتركت اقتصادات مستعمرات أمريكا الشمالية في ميزة واحدة كانت بمثابة علامة إيجابية لمستقبلها؛ أَلَا وهي أن معرفة المستوطنين البيض بالقراءة والكتابة كانت تقارب على الأقل مستوياتها المرتفعة في إنجلترا التي كانت تحتل قمة الجدول العالمي (الجدول ٢-٢). بحلول الثورة الأمريكية، كان ٧٠٪ من الرجال الأحرار في فرجينيا وبنسلفانيا يستطيعون كتابة أسمائهم، مقارنة بنسبة ٦٥٪ في إنجلترا خلال الفترة نفسها. في نيو إنجلاند، اقتربت النسبة من ٩٠٪، وهي النسبة التي تحققت من خلال إنشاء المدارس الحكومية وفرض التعليم الإجباري.

لماذا كانت معرفة القراءة والكتابة مرتفعة في المستعمرات؟ للسبب نفسه الذي كانت مرتفعة بفضله في إنجلترا؛ أَلَا وهو الفائدة الاقتصادية. كان اعتماد مستوى معيشة المستوطنين على التجارة والأسواق الخارجية يؤكد أهمية مهارات القراءة والكتابة والحساب، وأنها تعود بالنفع على صاحبها. كما جعل النظام القانوني معرفة القراءة والكتابة ذات قيمة كبيرة؛ نظرًا لأن العقود وصكوك ملكية الأراضي كانت وثائق مكتوبة. وربما تكون رغبة البيوريتانيين في قراءة الكتاب المقدس قد لعبت دورًا في دفع نسبة معرفة القراءة والكتابة في مستعمرة ماساتشوستس إلى نسبة أعلى من نظيرتها في إنجلترا أو بنسلفانيا، غير أن اعتماد اقتصادهم على التجارة والشحن منحهم حافزًا اقتصاديًّا قويًّا للتعليم.

اقتصاد المستعمرات في أمريكا اللاتينية

سارت مناطق مختلفة من أمريكا اللاتينية على مسارات تنمية مختلفة عن تلك التي سلكتها ما صارت فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بَيْدَ أن أيًّا منها لم تحقِّق ما حققته الولايات المتحدة من نجاح. ويجب أن نميِّز بين (١) منطقة الكاريبي والبرازيل، (٢) المخروط الجنوبي (الأرجنتين وتشيلي وأوروجواي)، و(٣) المكسيك ومنطقة الأنديز.

تناولنا بالفعل اقتصادات منطقة الكاريبي، وقد حدثت تطورات مماثلة في البرازيل، وإن كان ذلك على نطاق أوسع يعكس كبر حجمها. كانت البرازيل قريبة بما يكفي من أوروبا لتصدير السكر إليها، وهو المنتج الذي قدَّمَه البرتغاليون من ساو توميه في أوائل القرن السادس عشر. في البداية، كان السكان الأصليون الأمريكيون من العبيد هم مَن يعملون في المزارع، ثم سرعان ما حَلَّ الأفارقة محلهم، وكانت الانتعاشة الأولى لتجارة السلعة الأساسية الأولى قد انطلقت. وبين عامَيْ ١٥٨٠ و١٦٦٠، توحَّدت دولتا البرتغال وإسبانيا، وامتدت الحرب الهولندية ضد إسبانيا إلى البرتغال، ومن عام ١٦٣٠ إلى ١٦٥٤، احتلَّ الهولنديون بيرنامبوكو — وهي مقاطعة إنتاج السكر في البرازيل. وعندما رحل الهولنديون، أخذوا معهم المعرفة بأساليب إنتاج السكر، ثم تلا ذلك إدخال زراعته في منطقة الكاريبي. كان المنتجون في الكاريبي أقرب إلى أوروبا، وكان يمكنهم تقديم منتجاتهم بأسعار أقل من منافسيهم في البرازيل؛ إذ انخفض سعر السكر في أمستردام من ثلاثة أرباع جلدر لكل رطل في عام ١٥٨٩، إلى ربع جلدر في عام ١٦٨٨. لم تستطع المزارع البرازيلية التنافس في ظل هذا السعر، وهكذا انتهى عصر ازدهار زراعة السكر في البرازيل. يتألف التاريخ الاقتصادي للبرازيل في القرون الثلاثة التالية من فترات ازدهار لسلعة أساسية واحدة تلو الأخرى، من الذهب (في أوائل القرن الثامن عشر)، إلى البن (١٨٤٠–١٩٣٠)، إلى المطاط (١٨٧٩–١٩١٢)، وفي كل حالة كان يجري شحن أحد المنتجات إلى أوروبا، وكان يجري جلب العبيد أو المستوطنين لزراعته. وعلى غرار زراعة السكر في الكاريبي — وبخلاف الولايات المتحدة الأمريكية — لم تتحول فترات ازدهار السلع الأساسية في البرازيل إلى نمو اقتصادي حديث. فلماذا؟

كان المخروط الجنوبي لأمريكا الجنوبية يشبه أمريكا الشمالية في وجود عدد قليل من السكان الأصليين قضت عليهم الأمراض والحروب وسوء معاملة المستوطنين الأوروبيين، وكانت منطقة بامباس تستطيع إنتاج اللحم البقري والقمح تمامًا بنفس كفاءة مستعمرة بنسلفانيا، بَيْدَ أن الأرجنتين كانت تبعد كثيرًا عن أوروبا، بحيث لم يكن ذلك مجديًا في الفترة الاستعمارية. كان جل ما استطاعت الأرجنتين فعله هو ممارسة تجارة تصدير الجلود على نطاق محدود، وكانت تشيلي أبعد حتى من الأرجنتين. بدأ التاريخ الاقتصادي الحقيقي لهذه الدول في منتصف القرن التاسع عشر، عندما طُوِّرت السفن بشكلٍ جعَلَ صادراتها قادرة على المنافسة في أوروبا.

كانت أهم المستعمرات الإسبانية على الإطلاق هي المكسيك والأنديز، وقد رسم الاستعمار ملامح تاريخ هذه المستعمرات. بينما وجد المستوطنون في أمريكا الشمالية سكانًا أصليين يمارسون أساليب زراعة تعتمد على حرق وقطع أشجار الغابات لإنشاء حقول زراعية في مناطق غير مأهولة بالسكان بالكامل، وجد الإسبان مجموعات كثيفة من السكان ومدنًا عظيمة وصناعة زراعية راسخة ومنتجة، ومؤسسة سياسية ودينية هرمية بالقدر نفسه الذي تطبقه إسبانيا، وكميات هائلة من الذهب والفضة. أطاح «الغزاة الإسبان» بحكَّام مملكتَيْ الأزتك والإنكا، واعتلوا عروشهم، ثم نُهِبت مناجم الذهب والفضة، واضطهدت المعتقدات الدينية المحلية، وأُحرِقت كتبها، وحلت الكاثوليكية محلها. وتدهورت مكانة السكان الأصليين إلى منزلة العرق الخادم الذي كان الغرض من وجوده فقط هو خدمة الغزاة. رحل مئات الآلاف من الإسبانيين إلى أمريكا أملًا في تحقيق الثراء هناك.

استغل حكَّام مملكتي الأزتك والإنكا رعاياهم لفرض إتاوات واستخدامهم في الأعمال المختلفة، وقد سار الإسبان على نهجهم. كانت أجور السكان الأصليين منخفضة للغاية؛ ففي ثلاثينيات القرن السادس عشر، كان العامل المكسيكي من السكان الأصليين الذي يعمل بدوام كامل يكسب ربع تكلفة الحد الأدنى من سلة السلع الأساسية (الشكل ٦-٣)، ولم يكن ذلك كافيًا لإعالة أسرة. وقد كانت الانتهاكات صارخة إلى درجة جعلت التاج الإسباني يحظر استعباد السكان الأصليين، ويحد من سلطة «الغزاة».

في هذه الأثناء، انهارت مجتمعات السكان الأصليين، لكن بقي ما يكفي منهم لجعل استمرار استغلالهم مجديًا، وقد كان العمل القسري إحدى الاستراتيجيات المتبعة آنذاك. في سبعينيات القرن السادس عشر، أُعِيد إحياء نظام «ميتا» — الذي كان نظامًا للسخرة مطبَّقًا في عهد الإنكا — لتوفير العمال لمناجم الفضة في بوتوسي، وقد انتهجت المكسيك نهج نظم الأزتك السابقة في صور العمالة القسرية الخاصة بها والتي كان يُطلَق عليها «رِبَرتيمنتو». ومنح التاج الإسباني أيضًا الأراضي غير المأهولة للإسبان كضيعات خاصة. وهكذا بحلول أوائل القرن السابع عشر، استحوذ الإسبان الأثرياء على أكثر من نصف الأراضي الزراعية في وادي المكسيك، وامتلكَتْ بقية الأراضي بصورة جماعية القبائلُ المحلية التي كانت تمارس أسلوب الزراعة المتنقلة. لم تظهر أمثلة مشابهة لجماعات كبيرة من السكان الأصليين يمتلكون الأراضي بصورة جماعية في مستعمرات أمريكا الشمالية.

fig16
شكل ٦-٣: أجور العمالة غير الماهرة في المكسيك ولندن.

تمثَّل فارق آخَر مهم بين مستعمرات أمريكا اللاتينية ومستعمرات أمريكا الشمالية في الجغرافيا، وهو ما حال دون تصدير بيرو والمكسيك السلع الزراعية الأساسية. ليس من المثير للدهشة أن كانت بيرو بعيدة للغاية عن أوروبا، بحيث لم يكن التصدير ممكنًا. كانت الأسواق في الساحل الغربي لأمريكا أكثر تكاملًا مع الأسواق في آسيا، مما كانت مع الأسواق في أوروبا. سيَّر الإسبان سفنًا شراعية كبيرة بين أكابولكو ومانيلا، لمقايضة العملات الفضية بالحرير والشاي الصيني. في أواخر القرن الثامن عشر، اشترت «العديد من السفن الفرنسية والإنجليزية والأمريكية» جلود حيوان الفقمة من السكان الأصليين للمقاطعة التي يُطلَق عليها اليوم كولومبيا البريطانية، وباعوها في الصين. «انخفضت أسعار الجلود بشدة في الصين، مع ارتفاعها في المناطق الساحلية الأمريكية.»

تُعتبَر المكسيك مثالًا محيِّرًا؛ فميناء فيراكروز المطِلُّ على البحر الكاريبي لا يبعد عن أوروبا أكثر مما تبعد نيو أورليانز، ولكن كانت المشكلة الأساسية بالنسبة للمكسيك تتمثَّل في التكلفة المرتفعة لنقل البضائع بين البحر والهضبة المكسيكية الداخلية، التي كان يصل ارتفاعها إلى آلاف الأمتار. جرى «تحسين» الطريق بين فيراكروز ومكسيكو سيتي عدة مرات، في منتصف القرن الثامن عشر ومرة أخرى في عام ١٨٠٤، وحتى آنذاك، كانت البضائع تُنقَل على ظهور البغال بدلًا من العربات، وقد كان هذا الأمر مرتفع التكلفة للغاية؛ مما جعل أي عملية استيراد أو تصدير لمنتجات المزارع غير مربحة، وقد أضفى هذا أيضًا مستوى أقل من الحماية على الصناعة المحلية. وقد رسَّخت القوانين الإسبانية التي حظرت التجارة مع أي دولة أخرى بخلاف إسبانيا، والتي كان الغرض منها — على غرار مثيلاتها الإنجليزية — الاستحواذ على سوق المستعمرات لصالح المصنِّعين الإسبان، من عزلة البلاد.

كان المنتَج الوحيد الذي استطاعت المكسيك والأنديز تصديره هو الفضة. فبمجرد هزيمة الإسبان للسكان الأصليين، بدءوا في البحث عن المعادن النفيسة، وتمثلت أكبر الاكتشافات في منجم بوتوسي في بوليفيا (١٥٤٥)، والمناجم المكسيكية في زاكاتيكاس (١٥٤٥)، وجواناخواتو (١٥٥٠)، وسومبريريت (١٥٥٨).

كانت هناك مساوئ بارزة لكون الفضة سلعة التصدير الأساسية، وهي المساوئ التي حالت دون أن تَنْهَج المكسيك والأنديز نَهْج أمريكا الشمالية في مسار تنميتها؛ أولًا: كانت الفضة تؤدي إلى التضخُّم، وكانت اقتصادات بيرو والمكسيك قائمة على صك العملات، وكانت زيادة النقد تدفع بالأسعار والأجور إلى مستويات تفوق المستويات العالمية. على سبيل المثال، كان سعر القمح في المكسيك يبلغ من أربعة إلى عشرة أضعاف سعره في أمستردام. بلغت الأجور في المكسيك ضعف نظيراتها في إيطاليا والهند، فيما بلغت الأجور في الأنديز ضعف مثيلاتها في المكسيك. ظل هذا التفاوت قائمًا فقط بسبب ارتفاع تكلفة النقل، والقيود التي فرضتها إسبانيا على التجارة — والتي منعت الواردات الرخيصة من المنافسة في السوق المحلية (على الرغم من أن مشكلة التهريب ظلت تقض مضجعهم) — وارتفاع تكلفة المنتجات الصناعية الإسبانية نفسها، والتي تأثرت بالتضخم جراء اكتشاف مناجم الفضة الوفيرة في العالم الجديد. ثانيًا: لم توفِّر الفضة العديد من فرص العمل؛ كان يعمل في مناجم الفضة ٩١٤٣ رجلًا في عام ١٥٩٧، وكانت بوتوسي تستخدم ١١٠٠٠–١٢٠٠٠ رجل في عام ١٦٠٣، ثم انخفض حجم العمالة في بوتوسي إلى ٤٩٥٩ حوالي عام ١٧٩٠. كان حجم العمالة في مناجم الفضة ضئيلًا مقارنة بحجم العمالة الإجمالي، وكان أقل كثيرًا من حجم العمالة في إنتاج وتوريد صادرات المزارع في أمريكا الشمالية. ثالثًا: راكمت دائرة صغيرة من الملاك الأثرياء معظم الدخل الناتج عن استخراج الفضة بدلًا من توزيعه على عموم السكان؛ وبناءً عليه، ساهمت الفضة في خلق حالة من اللامساواة الشديدة بصورة استثنائية في أمريكا اللاتينية.

لم يكن اقتصاد المكسيك يقوم على سلعة أساسية على غرار نموذج أمريكا الشمالية. في عام ١٨٠٠، بلغت الصادرات ٤٪ فقط من إجمالي الناتج المحلي، بل ولم يكن الاقتصاد المكسيكي في معظمه له صلة بالصادرات؛ لذا اتَّبع توزيع الدخل في المكسيك قوانين مختلفة عن القوانين في المستعمرات البريطانية. في أمريكا الشمالية، كانت العمالة ورأس المال تنجذب إلى المستعمرة استجابةً للفرص التصديرية، وكانت العائدات تذهب إلى إنجلترا؛ حيث كان على المستعمرة المنافَسة على اجتذاب المستوطنين والاستثمارات. أما في المكسيك، كانت العوامل الداخلية هي التي تحدد الأجور، من خلال إجبار السكان الأصليين على العمل، وتحقيق التوازن بين الأراضي المتوفرة وحجم العمالة، وكفاءة الاقتصاد. كان العاملان الأولان هما الأكثر أهمية في فترة ما قبل تدمير جماعات السكان الأصليين قبل عام ١٦٥٠، بينما كان العامل الثالث حاسمًا في الفترة التالية من النمو السكاني.

قبل عام ١٦٥٠، أظهرت المكسيك نمطًا شائعًا في العديد من الاقتصادات ما قبل الصناعية؛ ألا وهو وجود علاقة عكسية بين تعداد السكان ومستويات الأجور. فعندما وصل الإسبان إلى المكسيك في عشرينيات القرن السادس عشر، كان تعداد السكان مرتفعًا للغاية، وكانت الأجور منخفضة (الشكل ٦-٣). أدى الغزو الإسباني في حقيقة الأمر إلى خفض الأجور على نحو أكبر مما تسبب به ارتفاع عدد السكان. لكن مع انهيار جماعات السكان الأصلية، ارتفعت الأجور الحقيقية (على الرغم من وجود محاولات لفرض العمالة القسرية)، وارتفعت وصولًا إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة في منتصف القرن السابع عشر. وعند هذا المستوى من الأجر، كان العامل الذي يعمل دوامًا كاملًا يستطيع إعالة عائلة في حدود الحد الأدنى من المعيشة الكريمة.

بعد عام ١٦٥٠، ارتفع تعداد المكسيك من ١–١٫٥ مليون نسمة إلى ٦ ملايين نسمة في عام ١٨٠٠. خلال الفترة نفسها، انفصمت عرى العلاقة العكسية بين عدد السكان ومستوى الأجور؛ إذ ارتفع الأجر ليصل إلى ضعف الحد الأدنى من متطلبات الحياة، على الرغم من زيادة عدد السكان، وهذه مسألة في غاية الأهمية. إن حجمَي المعروض من العمالة والأجور لا يزيدان معًا إلا إذا زاد الطلب على العمالة بمعدل أسرع من معدل العرض. وقد عكس ارتفاع حجم الطلب على العمالة ارتفاع حجم الإنتاجية عبر قطاعات الاقتصاد. شهدت الزراعة تحولات كبيرة من خلال تكامل منتجات المحاصيل الزراعية والحيوانات الأوروبية (القمح، والخراف، والماشية) مع المحاصيل المحلية (الذرة، والبقوليات، والقرع، والطماطم، والفلفل الحار). وقد أحدثت حيوانات الجر الأوروبية (الجياد والبغال) ثورة في النقل، واكتسبت عملية التصنيع دفعة من خلال صناعة المنتجات الجديدة (الأقمشة الصوفية)، وتركيز الإنتاج في مناطق متخصصة تدعم تقسيم العمل. كانت هذه هي خصائص الصناعة الإنجليزية التي جعلتها أكثر إنتاجية من مثيلتها الأمريكية وأعاقت التصنيع في المستعمرات. على النقيض، جعلت عزلة المكسيك والأنديز إلى جانب زيادة عدد سكانهما من عملية تنمية التصنيع ممكنة. بطبيعة الحال، حدث التوسع في اقتصاد أمريكا اللاتينية تحت الحكم الإسباني، وهو ما يظهر أن السياسات الإسبانية، مهما كانت غير ليبرالية، لم تكن رادعة بما يكفي للحيلولة دون التوسع الاقتصادي.

بينما حقَّق الاقتصاد المكسيكي نموًّا أثناء فترة الاستعمار، تميَّز المجتمع بوجود لامساواة ملحوظة بشدة. كان السكان منقسمين إلى فئات عرقية محدَّدة وفقًا للقانون، وكانت هذه التقسيمات تعكس الفجوات الاقتصادية بينها. تشير التقديرات إلى أنه في ذلك الوقت كانت الطبقة العليا الإسبانية (١٠٪ من إجمالي عدد السكان) تحصل على ٦١٪ من إجمالي الدخل، فيما كان المزارعون من السكان الأصليين (٦٠٪ من إجمالي عدد السكان) يحصلون على ما لا يزيد عن ١٧٪. كانت اللامساواة في المكسيك أكثر بكثير من اللامساواة في مستعمرات نيو إنجلاند وإقليم الأطلسي الأوسط، وربما كانت تشبه مثيلتها في مناطق الكاريبي والمزارع في الجنوب الأمريكي، على الرغم من استحالة المقارنة الدقيقة في الوقت الحالي. وقد ثبت سوء أثر هذا القدر الضخم من اللامساواة على النمو بعد تحقيق الاستقلال.

الاستقلال: الولايات المتحدة الأمريكية

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الاستقلال عن بريطانيا في عام ١٧٧٦، ووضعت أسس نظام الحكم فيها، وأقرت الدستور في عام ١٧٨٧، وانطلق الاقتصاد في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية (١٧٩٠–١٨٦٠)، فتضاعف تعداد السكان ثماني مرات، وتضاعف مستوى الدخل لكل فرد.

يمكن النظر إلى الاقتصاد في الفترة السابقة للحرب الأهلية كمثال آخَر على نظرية السلعة الرئيسية.

فقدت سلع التبغ والأرز ونبات النيلة أهميتها كسلع أساسية، وحلَّ محلها أهم السلع الأساسية على الإطلاق؛ القطن. ارتفع الطلب على القطن في بريطانيا مع اندلاع الثورة الصناعية. كان القطن يُزرَع في جورجيا، لكنه لم يكن نشاطًا اقتصاديًّا مربحًا حتى اخترع إيلي ويتني ماكينة حلج القطن في عام ١٧٩٣. انتشرت الزراعة في إثر ذلك في الجنوب الأمريكي، وكان القطن يُزرَع في مزارع كبيرة يعمل فيها العبيد الذين زادت أعدادهم باستيرادهم حتى حظر الكونجرس استيرادهم في عام ١٨٠٨. في نصف القرن التالي، ازدادت أعداد العبيد من خلال الزيادة الطبيعية بالتكاثر، وهو ما دعمه اقتصاديًّا التوسع السريع في صناعة المنسوجات القطنية. وفي عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، كانت صناعة القطن صناعة شديدة الربحية، ولم تكن العبودية لتنتهي بدون الحرب الأهلية (١٨٦١–١٨٦٥).

يرى منظِّرو نظرية السلع الأساسية أن صادرات القطن قادت قاطرة الاقتصاد الأمريكي بأسره. وفق هذه الرؤية، توسعت الزراعة في منطقة الغرب الأوسط بغرض تلبية احتياجات المزارع من الغذاء، وهو الاستنتاج الذي كان محل خلاف كبير. كان القطن مسئولًا أيضًا عن التحوُّل إلى التصنيع في الشمال الشرقي؛ حيث كانت المزارع الجنوبية والغربية تمثِّل أسواقًا لمنتجاته.

اعتمد التحول إلى التصنيع في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا على أربع سياسات دعمٍ، شكَّلت «النموذج القياسي» للتنمية الاقتصادية في القرن التاسع عشر. تمثَّلت السياسة الأولى في توفير التعليم العام، وقد قطعت أمريكا شوطًا هائلًا في هذا الاتجاه خلال فترة الاستعمار، واستمرت في القرن التاسع عشر، وكان يحركها الدوافع الاقتصادية بصورة متزايدة. أما السياسات الثلاث الأخرى فقد اقترحها ألكسندر هاميلتون في «تقرير عن المواد المصنَّعة» الذي وضعه عام ١٧٩٢، وكانت تتألف من إدخال تحسينات في مجال النقل لتوسيع السوق، وتأسيس بنك قومي لتحقيق استقرار العملة ولضمان توفير رءوس الأموال، وفرض تعريفة على المنتجات لحماية الصناعة. ولولا وجود هذه التعريفة، ما كانت مشتريات المناطق الجنوبية والغربية من المصنوعات لتؤدي إلى تحوُّل الولايات المتحدة إلى التصنيع؛ حيث إن بريطانيا كانت ستلبي الطلب عليها، مثلما قامت بذلك خلال الفترة الاستعمارية.

وصف هنري كلاي — سيناتور أمريكي — السياسات التي اقترحها هاميلتون ﺑ «النظام الأمريكي»، غير أن هذه السياسات اعتُمِدت في دول عديدة بعد أن روَّج لها فريدريك ليست. كان وضع الدستور نفسه خطوة أولى في اتجاه التنفيذ؛ حيث إنه ألغى التعريفات بين الولايات ووضع أساسًا قانونيًّا لسوق وطنية. جاءت الخطوات المتبقية من خلال إنشاء طريق كمبرلاند الذي يصل بين نهر بوتوماك ونهر أوهايو بين عامَيْ ١٨١١–١٨١٨، وقناة إيري التي تصل بين نهر هدسون وبحيرة إيري (١٨١٧–١٨٢٥)، ووضع ميثاقَيْ تأسيس أول وثاني بنك في الولايات المتحدة في عامَيْ ١٧٩١ و١٨١٦، وفرض سلسلة من التعريفات الجمركية ابتداءً من عام ١٨١٦.

قبل عام ١٨١٦، كانت الولايات المتحدة تفرض تعريفة جمركية منخفضة، بَيْدَ أن الحروب النابليونية استهدفت السفن الأمريكية، وهو ما أدى إلى اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات حمائية، وحظر التجارة مع بعض الدول، والدخول في حرب مع بريطانيا في عام ١٨١٢. توسَّع التصنيع محتميًا وراء هذه الحواجز. بعد هزيمة نابليون في معركة ووترلو في عام ١٨١٥، فرضت الولايات المتحدة تعريفة عام ١٨١٦ لحماية صناعاتها؛ حيث فرضت ضريبة بلغت نسبتها ٢٠٪ على معظم السلع و٢٥٪ على المنسوجات، وقد ارتفعت التعريفات في عامَيْ ١٨٢٤ و١٨٢٨، بَيْدَ أن التعريفات المرتفعة كانت محل خلاف فتَمَّ تخفيضها مجدَّدًا في عام ١٨٤٦.

صارت الحمائية سياسة أمريكية مميزة مع سيطرة مصالح الشمال على مقاليد الأمور في البلاد. زادت الحرب الأهلية من الحاجة إلى عائدات فيدرالية، فارتفعت التعريفات الجمركية من خلال تعريفة موريل التي فُرِضت في عام ١٨٦١. خلال القرن التالي، ارتفعت معدلات التعريفات الحمائية مرة تلو الأخرى، ووصلت ذروتها من خلال تعريفة سموت-هولي في عام ١٩٣٠. فرضت المملكة المتحدة — التي انتهجت سياسة التجارة الحرة منذ إلغاء قوانين الذرة في عام ١٨٤٦، والقوانين الملاحية بعدها بثلاث سنوات — تعريفة حمائية في عام ١٩٣٢. استجابت معظم دول العالم بالطريقة نفسها خلال فترة الكساد الكبير، ولم تتغير الأمور إلا منذ الحرب العالمية الثانية، عندما سَعَتِ الولايات المتحدة إلى إلغاء نظام الحماية؛ حيث وجدت أن اختراق أسواق الدول الأخرى يخدم مصالحها بصورة أفضل من حماية أسواقها.

نمت صناعة القطن الأمريكية سريعًا خلف جدار التعريفة الحمائية. في عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، كانت الصناعة البريطانية هي الأكبر في العالم، وكانت تستهلك ٢٩٠ ألف طن من القطن الخام سنويًّا، فيما احتلَّت الولايات المتحدة المرتبة الثانية (١١١ ألف طن)، وكانت تتقدم على فرنسا كثيرًا، التي احتلت المرتبة الثالثة باستهلاك ٦٥ ألف طن. كان ألكسندر هاميلتون وهنري كلاي يشعران بسرور بالغ إزاء التقدم الهائل الذي تحقَّق بفضل الدفعة الكبيرة التي قدَّمَتْها صادرات القطن للاقتصاد.

على أية حال، يمنح هذا الاستنتاج أهمية زائدة لصادرات السلع الرئيسية؛ أولًا: على الرغم من أن القطن (وفيما بعدُ القمحَ) كان سلعة تدرُّ عملة صعبة، لم تسهم إجمالي الصادرات منه بأكثر من ٥–٧٪ في إجمالي الناتج المحلي في الفترة بين عامَيْ ١٨٠٠–١٨٦٠. كانت هذه النسبة أقل كثيرًا من نسبة اﻟ ٣٠٪ التي حققتها مستعمرتا بنسلفانيا وكارولاينا الجنوبية الساحلية، ناهيك عن نسبة اﻟ ٤١٪ التي حققتها جامايكا. لم تكن صادرات القطن والقمح كبيرة بما يكفي لدفع عجلة الاقتصاد في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية. ثانيًا: كان أداء سوق العمل أفضل كثيرًا من توقعات نظرية السلع الأساسية. في القرن الثامن عشر، كانت الأجور الحقيقية في بنسلفانيا أكثر بقليل من الأجور الحقيقية في إنجلترا، وهو ما يتوقعه المرء إذا كانت الولايات المتحدة تحقِّق نموًا وتجذب المهاجرين من أوروبا (الشكل ٦-٢). وفي ظل الاستقلال الأمريكي والحروب الأوروبية، انهار سوق العمل عبر المحيط الأطلنطي، فيما ارتفعت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة باستمرار في الوقت الذي بقيت الأجور البريطانية كما هي خلال الثورة الصناعية. بحلول عقد الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، صارت الأجور في الولايات المتحدة ضعف مثيلاتها في بريطانيا؛ ولكن إذا كان نموذج السلع الأساسية مطبَّقًا فعلًا، كان يجب أن تعمل الهجرة على إبقاء الأجور منخفضة.

يشير الارتفاع في إجمالي الناتج المحلي والأجور إلى أن الولايات المتحدة طوَّرت القدرة على زيادة الإنتاجية من خلال جهودها الخاصة. وهنا يبرز سؤال رئيسي فيما يتعلق بنظرية السلع الأساسية؛ ألا وهو: كيف ومتى يحقق الاقتصاد نموًّا بما يتجاوز الاعتماد على سلعة أساسية؟ من الواضح أن الولايات المتحدة قد حقَّقت هذا النمو في النصف الأول من القرن التاسع عشر. يتمثل أحد التفسيرات المقبولة في فرضية هباكوك التي تقول بأن وفرة الأراضي المجانية على الحدود أدَّت إلى ارتفاع الأجور الحقيقية — فلماذا يعمل المرء في نيويورك أو فيلادلفيا مقابل أجر منخفض إذا كان يستطيع الانتقال غربًا وإنشاء مزرعة؟ — وهو ما أدى بدوره إلى تحفيز الشركات على ابتكار تكنولوجيا توفِّر في الأيدي العاملة أفضت إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي لكل فرد، ثم ارتفاع الأجور أكثر فأكثر في نهاية المطاف. كانت الولايات المتحدة — بالإضافة إلى بريطانيا وهولندا — واحدة ضمن حفنة من الاقتصادات التي كانت دائمًا في المقدمة في ابتكار تكنولوجيا عالية الإنتاجية وكثيفة رأس المال في القرنين المنصرمين، مثلما ذكرنا في الفصل الرابع.

وبالطبع، يمكننا أن نرى تطبيق هذه العوامل في صناعة المنسوجات القطنية. فقد تطَلَّب نجاح هذه الصناعة فرض التعريفات الحمائية، لكنها لم تكن كافية وحدها، فاعتمد نجاح صناعة المنسوجات القطنية على الابتكارات التكنولوجية التي أفضت إلى ظهور تكنولوجيا موفرة في الأيدي العاملة. جعلت التكلفة المرتفعة للأيدي العاملة الشركات الأمريكية تُجرِي تجارب على الماكينات ابتداءً من العقد السابع من القرن الثامن عشر، بَيْدَ أن النجاح التجاري كان يتطلَّب عمالًا ومديرين يمتلكون خبرة استخدام التكنولوجيا. في عام ١٧٩٣، أنشأ صامويل سليتر — الذي كان يعمل في مصنع إنجليزي — أول مصنع ناجح تجاريًّا وأداره. تمثَّلت الطفرة التالية في إنشاء مصنع متكامل للغزل والنسيج الآلي من قِبَل شركة بوسطن للتصنيع في وولتهام، بماساتشوستس في عام ١٨١٣، وقد أسَّس فرانسيس كابوت لويل الشركة بعد زيارة بريطانيا ومعاينة الأنوال الآلية التي رسمها من الذاكرة، وقد نفَّذ نماذج الإنتاج مهندس يعمل لدى لويل اسمه بول مودي، ومن أبرز السمات التي تميِّز نظام لويل-مودي هي درجة إعادة تصميم التكنولوجيا البريطانية لملاءمة الظروف الأمريكية. بحلول العقد الثاني من القرن التاسع عشر، صار الدخل الحقيقي في أمريكا أعلى من نظيره في بريطانيا؛ ونتيجةً لذلك، استخدم الأمريكيون النول الآلي بصورة أسرع من البريطانيين، وهكذا كانت أمريكا تتقدم لتقود العالم في التكنولوجيا الصناعية.

لم يقتصر التطور الأمريكي على صناعة المنسوجات القطنية فحسب؛ ففي عام ١٧٨٢، أنشأ أوليفر إيفانز مصنع الدقيق الآلي الأول. قبل القرن التاسع عشر، كانت آلية إطلاق النار في المسدسات والبنادق تُصمَّم وفق الطلب، وكان على صانع الأسلحة التوفيق بين المكونات المختلفة بغرض ضمان عمل آلية الإطلاق بسلاسة. كان الفرنسي أونريه بلون والأمريكي إيلي ويتني أول مَن جرَّبا استخدام أجزاء متبادلة وفكَّرا في ذلك، بَيْدَ أن ذلك لم يكن ممكنًا على نطاق واسع حتى اختراع ماكينة التفريز حوالي عام ١٨١٦. صنَّعت مصانع الأسلحة التابعة للحكومة الأمريكية في سبرنجفيلد وهاربرز فيري في عشرينيات القرن التاسع عشر أجزاءً متبادلة بغرض استخدامها في البنادق. أبهرت الأسلحة الأمريكية التي عُرِضت في معرض كريستال بالاس في عام ١٨٥١ البريطانيين، حتى إنهم أرسلوا بعثة لدراسة «النظام الأمريكي». انتقلت فكرة تبادل القطع في الأسلحة إلى شركات تصنيع السلاح الخاصة مثل كولت، ثم إلى مصنِّعي الساعات في منتصف القرن التاسع عشر، ثم إلى الدراجات، وماكينات الخياطة، والماكينات الزراعية، وأخيرًا إلى السيارات حيث كانت الأجزاء المتبادلة تمثِّل عنصرًا مكوِّنًا أساسيًّا في نظام خط إنتاج فورد. اعتمد نجاح الاقتصاد الأمريكي على تطبيق الاختراعات الهندسية المبتكَرة عبر القطاع الصناعي بأكمله، وكان الدافع إلى الميكنة هو ارتفاع تكلفة الأيدي العاملة، وقد تطلَّب تحقيق النجاح توافر عدد كبير من المخترعين المحتملين، وهذا التفاعل بين بروز التحديات والاستجابة لها هو ما جعل من الولايات المتحدة رائدة العالم في الإنتاجية بحلول الحرب العالمية الأولى.

الاستقلال: أمريكا اللاتينية

دامت الإمبراطورية الإسبانية لفترة ٣٠٠ عامٍ كتحالف بين الملكية وطبقة الصفوة من المستعمرين البيض. حاول ملوك البوربون الإسبان إقامة دولة اقتصادية-عسكرية حديثة في القرن الثامن عشر، بَيْدَ أن طلباتهم للحصول على العائدات كانت تُقابَل بالمقاومة في المستعمرات، ولكن كان يخفف من حدة رفض أوامر مدريد الانقسامات العرقية والاقتصادية في المجتمع الاستعماري. كانت الهجمات واسعة النطاق على البيض وممتلكاتهم، أثناء ثورة توباك أمارو في بيرو في عام ١٧٨٠، أحدَ التحذيرات غير السارة الكثيرة بشأن المخاطر الكامنة في قاعدة الهرم الاجتماعي، وقد حصلت أمريكا الإسبانية على الاستقلال بحكم الأمر الواقع نظرًا لغزو نابليون لإسبانيا في عام ١٨٠٨، وثبت أن إعادة تأسيس الإمبراطورية أمر مستحيل. في المكسيك — على سبيل المثال — قاد ميجيل هيدالجو ثورة للسكان الأصليين في عام ١٨١٠ ضد حكم «البننسولارز» (البيض من مواليد إسبانيا)، وبينما راق الأمر للكريوليين (البيض من مواليد المكسيك) في البداية، حال عنف السكان الأصليين ضد البيض بصورة عامة من قيام حركة تمرد موحدة ضد إسبانيا، وقُضي على التمرد في نهاية المطاف. وقد تحقَّق الاستقلال في عام ١٨٢١ من خلال انقلابٍ قام به الكريوليون للحفاظ على امتيازاتهم، والتي رأوا أنها تتهدد جراء صعود الليبرالية في إسبانيا.

أدى الاستقلال إلى عقود من الركود الاقتصادي التي تضرب بجذورها في معضلات المجتمع الاستعماري. كانت المنافسة الدولية المتزايدة تقوِّض القطاع الصناعي المكسيكي بالفعل في نهاية القرن الثامن عشر، وكانت النتيجة هي الانصراف عن التصنيع، مثلما حدث في الهند. ويوضح ألكسندر فون هومبولت ذلك قائلًا: «كان يُحتفَى بمدينة بويبلا فيما سبق لمنتجاتها الجيدة من الفخار والقبعات.» مع «بداية القرن الثامن عشر»، أحيت الصادرات «من هاتين الصناعتين التجارة بين أكابولكو وبيرو»، ولكن دمَّرت الواردات الأوروبية هذه التجارة:

في الوقت الحاضر، لا يوجد أي اتصال بين بويبلا وليما، كما انخفض إنتاج الصناعات الفخارية كثيرًا، بسبب انخفاض أسعار المنتجات الحجرية والخزفية الأوروبية التي تُستورَد عبر ميناء فيراكروز. ومن بين ٤٦ مصنعًا كان قائمًا في عام ١٧٩٣، لم يتبقَّ سوى ١٦ مصنعًا للمنتجات الفخارية، ومصنعين لصناعات الزجاج في عام ١٨٠٢.

انخفضت الأجور الحقيقية من قيمة بلغت ضعف الحد الأدنى من متطلبات الحياة في عام ١٧٨٠، إلى قيمة الحد الأدنى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

تأثرت صناعات المنسوجات أيضًا بصورة سلبية بسبب الواردات البريطانية. كانت معظم الأقمشة المكسيكية مصنوعة من الصوف، فيما كانت الأقمشة القطنية تُستورَد من كتالونيا، وعندما أدى حظر بريطانيا للتجارة مع إسبانيا إلى قطع الواردات الإسبانية في تسعينيات القرن الثامن عشر، ازدهر إنتاج الأقمشة القطنية في بويبلا. دام ذلك الازدهار وقتًا قصيرًا حيث تواصل استيراد المنتجات الإسبانية بعد عام ١٨٠٤، وأُغرقت البلاد بالأقمشة القطنية البريطانية الرخيصة بعد الاستقلال، فانهارت صناعة القطن المكسيكية. كان رد الفعل إزاء ذلك هو تنفيذ إحدى صور النظام الأمريكي الذي وضعه هنري كلاي ومقترحات ليست في ألمانيا. فرض لوكاس ألامان — وزير الشئون الداخلية والخارجية آنذاك — تعريفة جمركية على واردات المنسوجات القطنية، وخصَّص بعض العائدات لصالح مصرف بانكو دي أفيو الذي تولَّى تمويل شراء المعدات للمصانع الجديدة، ولكن لم يتم إنشاء سوق وطنية حيث ظلت التعريفات المفروضة بين الولايات وبعضها، ولم يُبذَل جهد كبير لتطوير النقل، فضلًا عن إهمال التعليم العام أيضًا.

كانت محصلة هذا الأسلوب المتباين على القدر نفسه من التباين. فمن جانب، أُقيم ما يقرب من ٣٥ مصنعًا لنسج القطن في الفترة بين عامَيْ ١٨٣٥ و١٨٤٣. تعافت الأجور الحقيقية بعد عام ١٨٤٠. ولكن على الجانب الآخر، لم يتوفر دافع كافٍ لوجود صناعة هندسية قوية؛ حيث كانت الماكينات تُستورَد، مثلما كان المهندسون الذين كانوا يركِّبون أجزاء هذه الماكينات ويشرفون على تشغيلها، بالإضافة إلى ذلك، لم تُثمر هذه المصانع عن شيء؛ إذ كسدت الصناعة في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت عمليات التطوير في الصناعات الأخرى هزيلة، ومن ثَمَّ فلم يكن الوضع يشير إلى تقدُّم بصفة عامة كما كان الحال في الولايات المتحدة.

وقعت فترة الازدهار الاقتصادي التالية خلال مرحلة الحكم الديكتاتوري لبورفيريو دياز بين عامَيْ ١٨٧٧ و١٩١١. اعتمد دياز على استراتيجية التنمية في القرن التاسع عشر بصورة أكثر حماسة من لوكاس ألامان. نشأت سوق وطنية من خلال وضع برنامج شامل لإنشاء خطوط السكك الحديدية وإلغاء الضرائب على السلع العابرة للحدود بين الولايات. استُخدمت التعريفات الجمركية لدعم الصناعات المكسيكية. تمثَّلت إحدى الأفكار الخلَّاقة في وضع السياسات في الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية بدلًا من الاعتماد على بنوك الاستثمار الوطنية للحصول على رأس المال. صار الاستثمار الخارجي أيضًا وسيلة لإدخال التكنولوجيا المتقدمة إلى البلاد.

حقَّقت التنمية الاقتصادية في عصر بورفيريو دياز نجاحًا غير مكتمل. من جانب، تحقَّق نمو صناعي باهر؛ فارتفع إجمالي الناتج المحلي لكل فرد من ٦٧٤ دولارًا أمريكيًّا في عام ١٨٧٠، إلى ١٧٠٧ دولارات أمريكية في عام ١٩١١. وعلى الجانب الآخَر، كان الإسهام المحلي في التقدم التكنولوجي ضئيلًا؛ حيث إن المهندسين الأجانب كانوا يركِّبون الماكينات المصمَّمة في الخارج في المصانع، وهذا الغياب التكنولوجي كان يعني في نهاية المطاف عدم انتشار ثمار التنمية فيما وراء الصناعات التي تدعمها الدولة، بالإضافة إلى ذلك، لم تُوزَّع مكاسب النمو بصورة واسعة على الجميع؛ فكانت الأجور الحقيقية تسير في اتجاه انخفاض في ظل حكم دياز، ثم اندلعت الثورة في عام ١٩١١.

التعليم والابتكار

لماذا حقَّق الاقتصاد الأمريكي نموًّا أسرع بكثير من نظيره المكسيكي؟ يعزي أحد التفسيرات المؤثرة سبب ذلك النجاح الأمريكي إلى «الجودة العالية» للمؤسسات الأمريكية، ويعزي أداء المكسيك إلى «الجودة المنخفضة» لمؤسساتها. لكن أي مؤسسات؟ تنبع المميزات الأمريكية من نظام إنجليزي قائم على حقوق الملكية والمحاكم، وسلطات تشريعية (وقضائية) تحد من السلطة التنفيذية، والمساواة (باستثناء الجنوب)، والديمقراطية، وسياسات عدم التدخل في الاقتصاد (باستثناء التعريفات الجمركية). أما مساوئ النظام المكسيكي فتشمل نظام الملكية الجماعية للسكان الأصليين للأراضي، وغياب المساواة الاجتماعية والعرقية، والنظام السياسي الذي رسَّخ أسوأ ملامح الإرث الاستعماري التي تتمثل في مجموعة من المحاكم تتضارب ولاياتها القضائية، ودولة تنظِّم الاقتصاد بتدخل مفرط، ونظام ضريبي غير فعَّال (على الرغم من إمكانية التشكك في هذه العوامل في ضوء النمو الذي تحقَّق خلال الفترة الاستعمارية).

كان للسياسات الاقتصادية تأثير أكبر على الاقتصاد من هذه المؤسسات. كانت الولايات المتحدة في مقدمة الدول في تبنِّي استراتيجية التنمية القياسية في القرن التاسع عشر مع بداية القرن، فأُقيمت سوق وطنية بفضل الدستور الذي ألغى التعريفات بين الولايات، وبفضل إدخال التعديلات على وسائل النقل، وهي التعديلات التي زادت مع ابتكار تكنولوجيات جديدة (المراكب البخارية، خطوط السكك الحديدية)؛ وفُرضت التعريفات الحمائية في عام ١٨١٦، وتأسس نظام مصرفي وطني للحفاظ على استقرار أسعار العملة، وتوفر التعليم العام خلال الفترة الاستعمارية. نفَّذت المكسيك هذه السياسات تدريجيًّا: التعريفات والبنوك في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وسوق وطنية بعد عام ١٨٨٠، والتعليم العام في أواخر القرن العشرين. تفسِّر الاختلافات في السياسات التعليمية إلى حد كبير الاختلافَ في مسارات التنمية.

يعكس اختلاف المسارات التكنولوجية الاختلافات في العرض والطلب على التكنولوجيا. في عام ١٨٠٠، كانت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة أكثر بكثير من مثيلاتها في بريطانيا، خلقت هذه الميزة طلبًا على الماكينات الموفرة للأيدي العاملة، مع تتابع الاختراعات وارتفاع الإنتاجية، ارتفعت الأجور أكثر، وصارت العملية متكررة. في المكسيك — على النقيض من ذلك — كانت الأجور أقل بكثير؛ لذا افتقرت إلى ذلك الدافع.

كان المعروض من التكنولوجيا أكثر بكثير في الولايات المتحدة عنه في المكسيك، ولم يرجع ذلك إلى الاختلافات الدينية أو إلى سمات قروسطية أو لاعقلانية خاصة بالثقافة الهسبانية. ونرى ذلك في رواية الجغرافي العظيم وأحد أهم دعائم العِلم الألماني ألكسندر فون هامبولت، الذي عاش في المكسيك خلال عام ١٨٠٣، والذي أبهره العِلم المكسيكي:

لا تستطيع أي مدينة في القارة الجديدة — ولا حتى مدن الولايات المتحدة — أن تُظهِر هذا القَدْر من الإنجازات العلمية العظيمة والراسخة مثل عاصمة المكسيك.

ضرب هامبولت مثلًا بجامعتها، وكلية المناجم بها، والمعاهد الفنية، والحديقة النباتية، وعلمائها. كانت الثقافة العلمية منتشرة بين العوام من خلال المحاضرات العامة، والتعليم العلمي الذي امتد إلى الأقاليم القصيَّة:

لا يملك أي زائر أوروبي دون شك إلا الدهشة عند لقاء شباب مكسيكيين في أعماق الدولة على الحدود مع كاليفورنيا، يتناقشون حول تحلل المياه إلى عناصرها الأساسية في عملية الاندماج مع الهواء الطلق.

لم يكن غياب عصر التنوير هو ما أدى إلى تخلف المكسيك، بل النقص العام في مهارات القوى العاملة. وتعتبر معرفة القراءة والكتابة أحد المؤشرات؛ في الولايات المتحدة، كان أكثر من ٧٠٪ من تعداد الذكور البيض البالغين يعرفون القراءة والكتابة بنهاية القرن الثامن عشر، ووصلت النسبة إلى ما يقرب من ١٠٠٪ بحلول عام ١٨٥٠. على الجانب الآخَر، لم يكن العبيد السود (١٤٪ من إجمالي السكان) يعرفون القراءة والكتابة، ومن ثَمَّ وصلت نسبة معرفة القراءة والكتابة إجمالًا إلى ٨٦٪. في المكسيك، كان السكان من البيض يتمتعون بقدرة كبيرة على القراءة والكتابة، فيما لم يكن باقي السكان كذلك: «لا يوجد سوى طبقة البيض التي يمكن أن تجد فيها … شيئًا من الثقافة الفكرية.» ولكن في المكسيك، كان البيض يشكلون نسبة ٢٠٪ فقط من إجمالي عدد السكان؛ لذا كانت نسبة معرفة القراءة والكتابة الإجمالية تقترب من هذه النسبة.

تتضح الدلالة التكنولوجية لهذا التباين في سير حياة المخترعين في الولايات المتحدة وبريطانيا. كان جميع المخترعين يتمتعون بمعرفة القراءة والكتابة، فكان الأميون سيجدون صعوبة في الاختراع؛ حيث لم يكن باستطاعتهم الاطِّلَاع على الكتب التقنية. بالإضافة إلى ذلك، كان المخترعون يديرون أعمالًا تتضمن مراسلات وتوقيع عقود والحصول على براءات الاختراع، والتفاوض مع العملاء. حتى يصبح المرء جزءًا من هذا العالم، يجب أن يمتلك القدرة على القراءة والكتابة. في الولايات المتحدة، كان معظم الذكور البيض أعضاء محتملين في هذا العالم، بينما في المكسيك، كان ٨٠٪ من السكان مستبعَدين من هذا العالم، ومن ثَمَّ تقلَّص نطاق الاستجابة الهندسية الخلَّاقة للتحديات المطروحة.

وهكذا يعتبر السبب المباشر في الاختلاف بين الدولتين واضحًا؛ أَلَا وهو أن الولايات المتحدة كانت تمتلك مدارس أكثر من المكسيك. حقَّقت مستعمرة نيو إنجلاند نسبة تقترب من ١٠٠٪ في معرفة القراءة والكتابة بين سكانها من الذكور خلال الفترة الاستعمارية، عن طريق مدارس تمولها الدولة وفرض التعليم الإجباري. قاد هوراس مان عملية تحديث التعليم في ماساتشوستس، وفي عام ١٨٥٢ طُبِّق نظام تعليمي على غرار النظام المطبَّق في بروسيا. انتشرت «حركة المدارس العامة» إلى الولايات الشمالية الأخرى، حيث كان التعليم يلبِّي حاجات الصناعة فيها. اكتسب التعليم العام طابعًا أمريكيًّا مثلما كانت التعريفات الجمركية المرتفعة. في عام ١٨٦٢، قدَّم عضو الكونجرس عن فيرمونت وهو جاستن سميث موريل — الذي كان يرعى مشروع قانون التعريفة الحمائية في العام السابق — مشروع قانون لمنح الأراضي الفيدرالية للولايات لتأسيس جامعات، ثم إنشاء أكثر من ٧٠ «كلية على أراضي المنحة الحكومية». بين عامَيْ ١٩١٠ و١٩٤٠، شهدت «حركة المدرسة الثانوية» تأسيس مدارس ثانوية عامة في أنحاء البلاد، ومنذ الحرب العالمية الثانية، شهدت البلاد توسعًا أكبر في إنشاء المدارس الثانوية والجامعات.

في المقابل، لم يكن هناك توسُّع مماثل في التعليم في المكسيك قبل القرن العشرين. أدت الثورة المكسيكية إلى ازدياد نسبة ارتياد المدارس، غير أنه في عام ١٩٤٦ كان أكثر من نصف البالغين لا يزالون أميين. كان هناك توسع كبير في نشر التعليم على جميع المستويات خلال نصف القرن الماضي، ولكن بالنسبة للمكسيك، جاء التعليم متأخرًا مدة قرنين.

لماذا انتهجت الولايات المتحدة والمكسيك مسارين متباينين؟ كان الطلب على امتلاك القدرة على القراءة والكتابة والمهارات الحسابية أكبر في الولايات المتحدة خلال الفترة الاستعمارية منه في المكسيك؛ نظرًا لأن اقتصادات مستعمرات أمريكا الشمالية كانت اقتصادات تقوم على تصدير السلع الأساسية، وكان المستوطنون يتطلعون إلى بلوغ مستوى المعيشة الأوروبي عن طريق بيع قسط كبير من إنتاجهم لشراء السلع الاستهلاكية الإنجليزية، وكانت معرفة القراءة والكتاب تيسِّر من هذا النشاط التجاري. في المكسيك — على النقيض — كان السكان الأصليون أقل نشاطًا على المستوى التجاري، ومن ثَمَّ لم يجدوا نفعًا كبيرًا لهذه المهارات.

كانت الحكومات أيضًا أكثر حرصًا على بناء المدارس في الولايات المتحدة من أمريكا اللاتينية. دعَّمت الاقتصادات القائمة على المساواة في نيو إنجلاند وإقليم الأطلسي الأوسط الكيانات السياسية الديمقراطية التي وفَّرت خدمات عامة مثل التعليم، والتي كانت مطلوبة على نطاق واسع. على النقيض، كان يتولى إدارة المكسيك نخبة من الصفوة من المواطنين البيض والتي لم يخدم مصالحها نشر التعليم بين العامة؛ لذا ظل العامة غير متعلمين. كان مستوى اللامساواة مرتفعًا، وكانت الحكومات في المكسيك تمثِّل نخبة صغيرة في الأنديز وفي المستعمرات التي قامت على استغلال عمالة العبيد مثل مستعمرات الكاريبي والبرازيل، وهو ما أدى إلى النتيجة نفسها: تعليم محدود في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية.

تقدم الولايات المتحدة مقارنة تكشف حقائق كثيرة؛ إذ إن أكثر مناطقها ازدهارًا أثناء الفترة الاستعمارية قامت على استغلال عمالة العبيد، فلماذا لم تَلْقَ الولايات المتحدة مصير جامايكا أو البرازيل؟ بعد إلغاء العبودية وانتهاء عملية إعادة البناء ووضع أسس الجمهورية بعد الحرب الأهلية، سادت اللامساواة ولايات الجنوب أيضًا، وكان يحكمها طبقة من النخبة التي لم تهتم بتعليم الأمريكيين من أصول أفريقية. ظلت نسبة الحصول على التعليم وجَوْدَة التعليم منخفضة حتى نهاية التمييز العنصري في ستينيات القرن العشرين، كان ذلك سببًا رئيسيًّا في أن يصبح الجنوب أفقر المناطق في البلاد. إن الفارق الرئيسي بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية هو نسبة السكان الذين تعرضوا للإقصاء الاجتماعي. في الولايات المتحدة، شكَّل الأمريكيون من أصول أفريقية نسبة سُبْع إجمالي عدد السكان، بينما شكَّل السكان الأصليون والسود في أمريكا اللاتينية نسبة ثلثَيْ عدد السكان الإجمالي، فلو كانت الولايات المتحدة تعاملت مع ٧٠٪ من سكانها بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع الأمريكيين من أصول أفريقية، لما كانت النتيجة لتقتصر فقط على انتشار الظلم على نطاق أوسع، بل كانت تحقق الفشل على المستوى القومي؛ إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن لتصبح قطُّ أحد مراكز القوة الاقتصادية في ضوء هذا المقدار المحدود من التعليم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤