الفصل السابع

أفريقيا

لا يعتبر فقر القارة الأفريقية أمرًا جديدًا؛ فقد كان إقليم أفريقيا جنوب الصحراء هو الأكثر فقرًا في العالم في عام ١٥٠٠، ولا يزال كذلك، رغم زيادة الدخل لكل فرد. يهدف هذا الفصل إلى تحديد البِنى والأحداث العارضة التي أبقت على فقر أفريقيا كل هذه الفترة.

إن «القائمة القصيرة» للأسباب المحتملة طويلة، فلا تزال الأيديولوجية الاستعمارية تسيطر على بعض الدوائر الغربية، حيث يُعزَى فقر الأفارقة إلى كسلهم المتخيَّل أو افتقارهم إلى الذكاء، كما تشتمل التصورات الأكثر تعقيدًا على أن التقاليد أو سيادة القيم غير التجارية تحدُّ من قدرات الأفارقة، ولكن لا يصمد أي من هذه الادِّعاءات في وجه الفحص التاريخي للمسألة.

تعتبر التفسيرات المؤسساتية لأسباب فقر القارة الأفريقية من التفسيرات المفضَّلة أيضًا. تعتبر تجارة العبيد تفسيرًا رائجًا، بل إن الدول الأكثر فقرًا في القارة الأفريقية اليوم هي أكثر الدول التي كانت تصدر العبيد، لكن مع ذلك لا تزال الدول التي قاومت المستعبدين بكل ما أوتيت من قوةٍ شديدةَ الفقر بمعايير اليوم، ومن ثَمَّ لا بد وأن هناك سببًا آخَر. يعتبر الاستعمار من التفسيرات المفضَّلة كذلك؛ حيث كان الاستعمار يهدف في كثير من البلاد إلى نقل الثروة من يد الأفارقة إلى الأوروبيين. ورغم حدوث بعض التطوير في ظل الحكم الاستعماري، إلا أن الإدارة الأوروبية لم تدشن النمو الاقتصادي الحديث في الدول الأفريقية. يرى منظِّرو نظرية التبعية أن السبب يكمن في العولمة الشديدة؛ حيث يرى هؤلاء أن تركيز القارة الأفريقية على تصدير المواد الأولية كان في غير صالح القارة على المدى الطويل. وأخيرًا، أكد الكثير من المراقبين مؤخرًا على عوامل الفساد، والتدخلات الحكومية، والحكم الشمولي للحكومات الأفريقية. إذا حلت حكومات تديرها إدارات أوروبية محل الدول الفاشلة، فمن شأن اقتصادات الدول الأفريقية أن تنطلق، لكن شريطة أن يديرها الأجانب بالطريقة الصحيحة هذه المرة.

لفهم أسباب فقر أفريقيا اليوم، يجب أن نفهم أسباب فقرها عام ١٥٠٠. يعتمد التفسير على الجغرافيا، والديموجرافيا، وأصل الزراعة. حدَّدت البنية الاجتماعية والاقتصادية في عام ١٥٠٠ طريقة استجابة القارة للعولمة والاستعمار؛ وطريقة الاستجابة هذه هي ما أبقت على فقر القارة منذ ذلك الحين.

أفريقيا ومسألة الفجوة الكبرى

كانت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء فقيرة في عام ١٥٠٠؛ نظرًا لأنها لم تكن حضارة زراعية متقدمة، ولم يكن هناك سوى حضارات زراعية متقدمة قليلة فقط في أوروبا الغربية والشرق الأوسط وبلاد فارس وأجزاء من الهند والصين واليابان. كانت دول هذه المناطق في وضع يسمح بوقوع ثورة صناعية فيها، بخلاف بقية دول العالم — بما في ذلك أفريقيا — ولهذا السبب لم يتضمن النقاش حول مسألة الفجوة الكبرى القارة الأفريقية.

توفرت لدى الحضارات الزراعية العديد من المميزات التي باعدت بينها وبين أفريقيا؛ مثل وجود زراعة منتجة، وتصنيع متنوع، وموارد مؤسساتية وثقافية لازمة للنمو الاقتصادي الحديث. شمل ذلك الملكية الخاصة للأراضي والعمال من غير مالكي الأراضي، فضلًا عن العوامل الثقافية المصاحبة اللازمة لتنظيم الملكية والتجارة؛ مثل مهارات الكتابة ومسح الأراضي والهندسة وعلم الحساب وأدوات القياس والأوزان القياسية والعملات ونظام قانوني يقوم على أساس الوثائق المكتوبة، ووجود مسئولين يتولون إدارة هذه الوثائق. كانت هذه العوامل الثقافية ضرورية لدعم تقدُّم التجارة ولتطوير التعليم والرياضيات والعلوم، ولظهور الاختراعات ونشر التكنولوجيا الحديثة. كانت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء تفتقر إلى هذه الشروط المسبقة، كما افتقرت إليها كثير من مناطق جنوب شرق آسيا وأستراليا ونيوزلندا وشمال أوراسيا وبولينيزيا والأماكن غير كثيفة السكان في الأمريكتين.

تأثر مسار أفريقيا التاريخي بطبيعة الزراعة المبكرة وبعلاقتها بالسكان. في حوالي عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد، جاءت الخراف والماشية للمرة الأولى قادمة من منطقة الشرق الأوسط للرعي في منطقة الصحراء (التي كانت أقل جفافًا مما هي اليوم)، وكان القمح والشعير يُزرَعان في وادي النيل وعلى الهضبة الأثيوبية. لاحقًا، توسَّع الأثيوبيون في مجموعة النباتات التي كانوا يزرعونها، فصاروا يزرعون التف ودخن الأصبع والسمسم والخردل ونبات الإينسيت والبن. تطورت وسائل زراعة مختلطة حيث كانت المحاريث التي تجرها الثيران تحرث الحقول التي كان روث الخراف والماشية يُستخدَم كسماد لها، كانت هناك أيضًا استثمارات في أساليب عمل المدرجات الزراعية والري. كانت أثيوبيا هي الدولة الوحيدة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء التي طورت حضارة زراعية متقدمة. وبين حوالي عامَيْ ٢٠٠٠–١٥٠٠ قبل الميلاد، صار الدخن والذرة الرفيعة يُزرَعان بالقرب من منطقة بحيرة تشاد، وكان المزارعون يربون الخراف أيضًا، غير أن الزراعة المختلطة لم تُمارَس مثلما كانت تُمارَس في أثيوبيا. وإلى اليوم، تُزرَع الذرة الرفيعة والدخن من خلال أنظمة متغيرة تُستخدَم فيها المعاول بدلًا من الثيران والمحاريث. وفي النهاية، شكَّلت البطاطا وزيت النخيل أساس الزراعة في منطقة الغابات المطيرة، وزُرِعت البطاطا في نيجيريا حيث تمثِّل محصولًا زراعيًّا مزدهرًا إلى اليوم. غابت تربية الماشية؛ حيث نفقت الجياد والماشية والخراف جراء الإصابة بمرض النوم الذي حملته ذبابة تسي تسي التي تعيش في مناطق الغابات المطيرة.

كان نظام الزراعة في منطقة غرب أفريقيا يستفيد من الفرص الجديدة أنَّى توافرت. بين القرنين الأول والثامن الميلاديين، جرت زراعة محاصيل جديدة قادمة من آسيا، منها الموز وموز الجنة (لسان الحمل) والبطاطا الآسيوية والقلقاس والبقوليات. وفي القرن التاسع عشر، ازدادت القائمة كثيرًا مع زراعة الذرة والكسافا والفول السوداني والتبغ القادمة من الأمريكتين، وسرعان ما صارت هذه المحاصيل محاصيل «تقليدية»، مما يبيِّن مدى عبثية مبدأ «التقاليد الثابتة» كتفسير لفقر القارة الأفريقية.

أدت زراعة المحاصيل إلى قيام قرى زراعية دائمة، وإلى ارتفاع معدلات المواليد في أفريقيا مثلما ارتفعت في كل مكان حول العالم، وفي منطقة المرتفعات الأثيوبية — التي تغيب عنها أمراض المناطق الاستوائية — زاد عدد السكان سريعًا. ومع شح الأراضي، لم تملك الدولة والطبقة الأرستقراطية سوى تأجير الأراضي أو فرض الضرائب عليها لتوفير مصادر التمويل اللازمة لها. خضعت الأراضي ذات الملكية الجماعية للخصخصة، وظهرت طبقة العمال الذين لا يملكون أي أراضٍ كأفراد فقدوا حق الزراعة حيثما أرادوا. أقيمت مملكة ديموت في شمال إثيوبيا وإريتريا في القرن الثامن قبل الميلاد، كانت الزراعة في هذه المملكة تقوم على الحرث والري، وكان الحديد معروفًا فيها، وكانت لغتها مكتوبة. وخلفت مملكة ديموت مملكة أكسم التي كانت أعظم منها.

ظل نمو التعداد السكاني في أفريقيا محدودًا؛ لأن الأمراض الاستوائية جعلت معدلات الوفيات مرتفعة. ظهرت أكثر صور قاتلة من مرض الملاريا والبعوض المصاحب للمرض («المتصورة المنجلية» و«الأَنُوفيلة الجامْبِيَّة») في الوقت نفسه تقريبًا الذي بدأ فيه مزارِعِو البطاطا في إزالة الأشجار من الغابات المطيرة تمهيدًا لزراعتها، وربما أسهمت عمليات إزالة الغابات هذه في تطور المرض، كما لعبت الأمراض الاستوائية الأخرى مثل مرض النوم دورًا في ارتفاع معدلات الوفيات.

ظلت منطقة غرب أفريقيا منطقة تتوافر فيها الأراضي الصالحة للزراعة بكثرة، وكان نمط الزراعة المتنقلة هو الاستجابة المناسبة لهذه الظروف، ومن أمثلة الجماعات التي مارست هذا النمط من الزراعة جماعة ياكو التي كانت تعيش في منطقة الغابات المطيرة في شرق نيجيريا، وكانت تعتمد على البطاطا كمادة أساسية في غذائها. في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت قرية أومور التي تعيش فيها جماعة ياكو تمتلك ٤٠ ميلًا مربعًا من الأراضي الصالحة للزراعة، ولكن لم يُزرَع من هذه الأراضي إلا ثلاثة أميال مربعة سنويًّا. بعد موسم الحصاد، كانت الأراضي تُترَك لتستعيد خصوبتها لمدة ست سنوات، وكانت أراضٍ أخرى تُمهَّد لزراعتها. ومع السماح بإراحة الأرض، لم يكن يُستخدَم سوى ٢١ ميلًا مربعًا فقط من إجمالي ٤٠ ميلًا مربعًا صالحة للزراعة، فيما كانت تُترَك المساحة المتبقية للأطفال أو لكلِّ مَن يحتاج إلى أرض؛ ومن ثَمَّ، لم تكن هناك طبقة من العمال الذين لا يملكون أراضي في القرية، مثلما لم يوجد طلب على الأراضي لشرائها أو استئجارها، حيث كان يستطيع أي شخص إزالة الغابات عن أي مساحة من الأراضي دون التعدي على ملكية أحد.

لم تتطلب زراعة البطاطا واستخلاص الزيت والنبيذ من النخيل عملًا كثيرًا، وكانت توفر ما يكفي من الغذاء للبقاء على قيد الحياة. يبيِّن الجدول ٧-١1 المجموعة (أ)، إعادة تصوُّر لإنتاج الطعام لعائلة من جماعة ياكو في قرية أومور، تتكون العائلة من رجل وزوجتين وأربعة أو خمسة أطفال. سنويًّا، كانت العائلة تزرع ١٫٤ فدان من البطاطا وبعض القلقاس واللوبيا واليقطين والبامية وبعض أنواع الخضروات الأخرى، كانت الوجبة تتألف من الخضروات بصورة أساسية، فيما كانت تُصطاد بعض حيوانات البرية وتُشترَى كمية قليلة من اللحوم لإضافتها إلى البطاطا، بالإضافة إلى ذلك، كانت العائلة تستهلك زيت النخيل ونصف جالون من نبيذ النخيل يوميًّا، بلغ مقدار الطاقة التي يتحصَّل عليها الفرد الذكر البالغ ١٩٤١ سعرًا حراريًّا يوميًّا. كان هؤلاء الأشخاص يعيشون على الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وكانت زراعة الحدائق واستخلاص الزيوت والنبيذ من النخيل تحتاج سنويًّا من ثلاثة أشخاص بالغين إجمالي مجهود يعادل ٤٠٠ يوم من العمل. كان نمط استهلاك الأفارقة على الأرجح متشابهًا قبل قدوم الأوروبيين.
جدول ٧-١: دخل عائلة من جماعة الياكو في ثلاثينيات القرن العشرين.
المجموعة (أ): إنتاج الغذاء واستهلاكه
تتألف العائلة من رجل وامرأتين، و٣-٤ أطفال (ما يكافئ ٤٫٧٥ أشخاص بالغين).
تزرع العائلة ١٫٤ فدانًا من البطاطا، تُزرع مع اليقطين والبامية. يُستخلَص زيت النخيل ونبيذ النخيل من نباتات النخيل البرية.
مكافئ استهلاك الغذاء لكل شخص بالغ.
كيلوجرام/عام كيلو سعر حراري/يوم عدد جرامات البروتين/يوم
البطاطا ٤٨٩٫٢ ١٥٨٢ ٢٠٫٥
لوبيا ١٢٫٤ ١١٤ ٨٫٠
لحوم ٤٫٤ ٣٠ ٢٫٤
يقطين ٩٫٦ ٧ ٠٫٢
بامية ٩٫٦ ٨ ٠٫٥
زيت نخيل ٢٫١ ٥٠ ٠
نبيذ نخيل ١٧٤٫٧ ١٥٠ ١٫٠
الإجمالي ١٩٤١ ٣٢٫٦
تستغرق زراعة مساحة من الأرض بالبطاطا فترة ٣٠٧ أيام.
تتطلب منتجات النخيل ٩٣ يومًا.
اللحوم تُشترى.
المجموعة (ب): منتجات النخيل التي تُنتج بغرض البيع
زيت نخيل ١٢ وعاء تكافئ ٣٦ رطلًا
بذور النخيل ٧٤٧ رطلًا
نبيذ النخيل ٩٣ زجاجة نصف جالون
تتطلب منتجات النخيل التي تباع ١٥٥ يومًا من العمل.

حدَّت الكثافة المنخفضة للسكان وارتفاع تكاليف النقل من إمكانات التخصص في إنتاج سلع مصنَّعة تلبِّي احتياجات أسواق كبيرة. كانت هناك صناعة للحديد نشأت في منطقة غرب أفريقيا في حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، غير أن إجمالي الإنتاج كان منخفضًا. كان القطن يُزرَع في منطقة السافانا ويُنسَج ليصبح قماشًا عن طريق أنوال يدوية. كانت صناعة القطن تتركز حول مدينة كانو، غير أن حجم الإنتاج — على غرار صناعة الحديد — كان منخفضًا. وبدلًا من شراء المنتجات المصنَّعة، كان معظم الناس يصنعون أدواتهم البسيطة وملابسهم المصنوعة من لحاء الأشجار بأنفسهم؛ ونتيجةً لذلك، كانت مجموعة البضائع الاستهلاكية المتوافرة محدودة، وكان الناس يزرعون ما يكفي حاجتهم من الطعام فحسب؛ حيث لم يكن هناك شيء يحتاجون إلى شرائه بفائض الدخل. كانت الزراعة تستغرق جزءًا من السنة فحسب، فيما كانوا يقضون باقي السنة في فراغ.

في ظل هذا النظام من الإنتاج، كان هناك نمطان مفضلان من السياسات؛ تمثَّل الأول في نظام الجماعة أو القبيلة التي تتألف من كونفدرالية من المزارعين في منطقة ما، وكانت الجماعة أو القبيلة تنظِّم عملية توزيع الأراضي وحل المنازعات حول سُبل استخدامها، وكان أفراد القبيلة من الرجال يؤلفون جماعة مسلَّحة للدفاع عن الأراضي ضد الجماعات الأخرى، وكان قادة الجماعات أو القبائل هم «زعماءها»، وكانوا يحتلون مكانتهم من خلال المعتقدات الدينية، وكانت المساواة النسبية تغلب على هذا النظام السياسي.

كانت الزراعة المتنقلة تشمل سمة واحدة أدت إلى ظهور التنظيم الاجتماعي الهرمي، وكانت هذه السمة هي وقت الفراغ الكبير الذي يتمتَّع به المزارعون. فإذا ما أُجبِروا على العمل لأوقات أطول، كانوا سيزرعون المحاصيل التي تزيد عن حاجة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وكان ذلك الفائض من شأنه أن يوفر الراحة التامة والدائمة للبعض، أو (على المستوى السياسي) لتوفير الغذاء للمؤسسة العسكرية. وهكذا، إغراء عدم العمل إطلاقًا والقوة جعل من العبودية مسألة إجبارية، لكن تمثَّلت صعوبة ذلك في أن المساحات الخالية من الأراضي كانت توفِّر للعبيد الفرصة للهرب وإطعام أنفسهم. وتقدِّم الكونجو تحت الاحتلال الفرنسي أمثلة خلال القرن العشرين؛ إذ كان سكان القرى يهربون إلى الغابات المحيطة ويعيشون لسنوات معتمدين في غذائهم على الصيد لتفادي التجنيد العسكري أو العمالة القسرية في مزارع المطاط. تغلَّب الزعماء الأفارقة على ذلك الخيار من خلال الإغارة على المناطق المجاورة لجلب العبيد، بحيث لا يفهم العبيد من هذه المناطق اللغة المحلية، ولا يعرفون سُبل المعيشة في البيئة المحلية الجديدة، ولكن بطبيعة الحال، كان أبناء هؤلاء العبيد يتعلمون الحياة في البيئة الجديدة؛ لذا لم تَدُمْ العبودية عادًة لأكثر من جيل واحد، وكان أبناء العبيد يُعترَف بهم كأفراد في القبيلة. لقد كانت العبودية شائعة في أفريقيا قبل وصول الأوروبيين، بل وكانت الأساس الذي قامت عليه الكثير من الدول فيها.

بينما كانت هناك دول في أفريقيا، إلا أنها كانت تختلف عن الدول في الاقتصادات الزراعية المتقدمة. كانت الدول الزراعية توفِّر مصادر للتمويل من خلال فرض الضرائب على الأراضي، أو تأجير أملاك الدولة. كان ذلك غير ممكن في أفريقيا؛ حيث كانت الأراضي متوفرةً بكثرةٍ جعلتها عديمة القيمة؛ ونتيجةً لذلك، افتقرت الدول الأفريقية إلى المؤسسات القانونية والثقافية التي استخدمتها المجتمعات الزراعية المتقدمة لتنظيم الملكية الخاصة؛ مثل عمليات مسح الأراضي وعلم الحساب والهندسة والكتابة. أما الاستثناءات التي تثبت القاعدة، فتتمثل في إمبراطوريات غرب أفريقيا في مناطق السافانا مثل غانا ومالي وصنغاي؛ إذ كانت الأراضي الزراعية تخضع للملكية الجماعية وكانت العبودية منتشرة. وعلى أية حال، كانت عائدات الدولة تأتي بصورة أساسية من خلال فرض الضرائب على التجارة العابرة لمنطقة الصحراء الكبرى وإنتاج الذهب (وليس الزراعة). وصار الإسلام الدين الرسمي لهذه الإمبراطوريات، وساهم في إدخال الكتابة وقوانين الملكية لحل المشكلات الإدارية التي يواجهونها.

تجارة العبيد

أدى وصول الأوربيين إلى تحولات هائلة في المجتمعات التي كانت تمارس الزراعة المتنقلة؛ إذ أدخل الأوروبيون مجموعة من السلع أكبر بكثير مما كان لدى السكان الأصليين. لم يستغرق الأمر طويلًا حتى يدرك السكان الأصليون في الأمريكتين أو في بولينيزيا أو أفريقيا أن القطن يُصنَع منه ملابس أفضل من الملابس التي تُصنَع من لحاء الأشجار، أو أن البنادق كانت أكثر فتكًا من الرماح. وفي عام ١٨٩٥، شقَّت ماري كينجسلي طريقها عبر الجابون في رحلة شاقة، وأشارت إلى أن معظم الأفارقة:

شبابًا كانوا أو كبارًا، رجالًا أو نساءً، يعتبرون التجارة أهم شئون الحياة، ويمارسونها بمجرد قدرتهم على السير، ولا يدعونها حتى بعد موتهم، وذلك وفق رواياتهم عن ظهور أرواح التجَّار البارعين وتدخلها في أمور السوق.

لم تكن أفريقيا حالة فريدة في هذا الصدد. قبل قدوم الفرنسيين، كان السكان الأصليون في أمريكا الشمالية من الهورون يطهون طعامهم في جذوع الأشجار المفرَّغة المملوءة بالمياه التي كانت تُغلى بالأحجار الساخنة. أبهرت القدور التي جلبها تجَّار الفراء الفرنسيون السكان المحليين، لدرجة أنهم ظنوا أن الرجل الذي يصنع أكبر القدور حجمًا هو ملك فرنسا! كان السكان في حاجة إلى بيع شيء في مقابل شراء القدور والفئوس والأقمشة الأوروبية، وعندما عثروا على ضالتهم في سلعة أساسية، زادوا من عدد أيام عملهم في السنة لإنتاجها بغرض التصدير. في أمريكا الشمالية، كانت السلعة الرئيسية هي الفراء. في حوالي عام ١٦٨٠، كان أحد أفراد قبائل المكماك يمزح مع أحد الرهبان الفرنسيسكان الفرنسيين قائلًا:

في حقيقة الأمر يا أخي، إن حيوان القندس يتولى توفير كل شيء تقريبًا لنا؛ فهو يوفر لنا القدور والفئوس والسيوف والسكاكين، ويوفر لنا الشراب والغذاء دون عناء زراعة الأرض.

كانت منطقة غرب أفريقيا تصدِّر الذهب إلى منطقة حوض البحر المتوسط والعالم العربي، ولكن في القرن السادس عشر برزت سلعة تصديرية أكثر أهمية؛ ألا وهي العبيد. خلق اقتصاد السكر في الأمريكتين طلبًا ضخمًا على العمالة التي كان من الممكن تلبيتها بأقل تكلفة ممكنة من خلال شراء العمال. في عام ١٥٢٦، شكى ألفونسو الأول — ملك الكونجو الأفريقي الذي سعى لتحويل شعبه إلى اعتناق المسيحية — إلى ملك البرتغال جواو الثالث من أن «الكثيرين من رعايانا يلهثون وراء المنتجات البرتغالية التي جلبها رعاياكم إلى أراضينا، ولتلبية هذا الشره غير العادي، فإنهم يأسرون الكثير من رعايانا السود الأحرار … [و] يبيعونهم» إلى تجَّار العبيد على الساحل. في القرن السابع عشر، لبَّت ممالك مثل داهومي وأشانتي — والتي كانت قائمة على العبودية لفترة طويلة — الطلب الخارجي على العبيد من خلال الحروب والغارات. وكان الأسرى يُقتادون إلى الساحل حيث كانوا يباعون إلى السفن الأوروبية. واستغل الملوك الأفارقة عائدات عمليات بيع العبيد في شراء الأسلحة (التي ساعدت في زيادة سلطتهم، وساعدتهم على الإغارة على المناطق المجاورة لأَسْر العبيد) والمنسوجات والمشروبات الكحولية. بين عامَيْ ١٥٠٠ و١٨٥٠، نُقِل ما بين ١٠ إلى ١٢ مليون عبدٍ إلى العالم الجديد، كما اقتيد الملايين عبر الصحراء الكبرى أو عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي لبيعهم في آسيا.

التجارة المشروعة

في القرن الثامن عشر، اتخذت الآراء المتنورة والآراء الدينية موقفًا مناهضًا للعبودية، وأُلغيت تجارة العبيد في الإمبراطورية البريطانية في عام ١٨٠٧. حلت الصادرات الجديدة محل العبيد، أو ما كان يُطلَق عليها اسم «التجارة المشروعة». كانت السلعة الأولى هي زيت النخيل، والتي لاقت طلبًا كمادة تشحيم في الماكينات وآلات السكك الحديدية، فضلًا عن صناعة الصابون والشموع. في عام ١٨٤٢، أخبر فرانسيس سوانزي — وهو قاضٍ إنجليزي في منطقة الساحل الذهبي — لجنة برلمانية بريطانية كيف ساهمت التجارة في المنتجات التصديرية الجديدة في زيادة مجهودات العمالة الأفريقية، من خلال إتاحة فرصة شراء السلع الاستهلاكية:

تزداد احتياجات الناس يوميًّا، وإذا قصدت منزل أحد السكان الأصليين، ستجد قطعًا من الأثاث الأوروبي؛ وستجد أيضًا أدوات زراعية أوروبية، وملابس أكثر. في حقيقة الأمر، تتحسن أحوال السكان الأصليين كثيرًا، وتزداد احتياجاتهم، ولن يستطيعوا تلبية احتياجاتهم عن طريق الاستلقاء في دعةٍ تحت الشمس، بل يجب أن يعملوا.

بلغت الأقمشة القطنية أكثر من نصف الصادرات البريطانية إلى منطقة غرب أفريقيا، فيما شكَّلت المعادن والمنتجات المعدنية — بما في ذلك الأسلحة — النسبة الباقية، وعندما تلقى سوانزي سؤالًا عن كيف يتمكن السكان الأصليين من دفع مقابل المنتجات البريطانية، أجاب:

يذهبون إلى الغابات وينقِّبون عن الذهب؛ ويعمل الكثيرون منهم على استخلاص زيت النخيل. قبل عشرين عامًا، كانت الصادرات نادرة، أما الآن تُصدَّر كميات هائلة من المنتجات، كما يُصدَّر الفول السوداني أيضًا.

كان الزيت يُنقَل إلى الساحل عبر الشبكات التجارية التي كان ينتقل العبيد عبرها، وكانت نيجيريا أكبر المصدِّرين، بَيْدَ أن الإنتاج انتشر في منطقة غرب أفريقيا، واتسعت الفرص التجارية أكثر في منتصف القرن التاسع عشر، حينما اكتُشِف أن بذور فاكهة النخيل يُستخلَص منها زيت يصلح لإضافته إلى السمن. كان يمكن زراعة النخيل في المزارع، بَيْدَ أن استخلاص الزيوت من النخيل ظل حرفة الأفراد الذين كانوا يستخلصونها من أشجار النخيل في البراري. في نيجيريا في أوائل القرن العشرين، على سبيل المثال، جرى استخلاص الزيوت من ٢٫٤ مليون هكتار من مناطق الشجيرات البرية، في مقابل ٧٢ ألف هكتار في المزارع الخاصة الكبيرة، و٩٧ ألف هكتار من المزارع الصغيرة. وكانت عائلة الياكو التقليدية التي تحدَّثْنا عنها سابقًا تعمل ١٥٥ يومًا إضافيًّا سنويًّا لإنتاج ١٢ عبوة سعة أربعة جالونات (زنة كل واحدة منها ٣٦ رطلًا) من زيت النخيل، وأكثر من ٧٠٠ رطلٍ من بذور النخيل، و٩٣ زجاجة سعة نصف جالون من نبيذ النخيل التي كانت تُباع محليًّا، وكانت الأقمشة والملابس أكثر المنتجات التي يقبل السكان على شرائها، لكنهم كانوا يشترون أيضًا أدوات الطهي والأواني ومستلزمات التجميل والحُلي (جميعها مستورد)، واللحم.

بما أن السبب وراء إنتاج الأفارقة لزيت النخيل هو شراء السلع الأوروبية، كان الدافع إلى ذلك يعتمد على كمية الملابس التي يستطيع الحصول عليها في مقابل كل علبة زيت يبيعونها. يبيِّن الشكل ٧-١ سعر زيت النخيل مقارنة بالأقمشة القطنية في موانئ غرب أفريقيا، ابتداءً من عام ١٨١٧ إلى اليوم. في حالة زيت النخيل، كان هناك ارتفاع هائل في سعر الزيت مقارنةً بالأقمشة منذ عام ١٨١٧ إلى منتصف القرن التاسع عشر. استطاع الأفارقة شراء المزيد والمزيد من الأقمشة مقابل الزيت الذي كانوا ينتجونه خلال هذه الفترة، وهو ما دفعهم إلى زيادة الإنتاج. ارتفعت الواردات البريطانية من أطنان قليلة سنويًّا في عام ١٨٠٠ إلى ٢٥ ألف طن في منتصف القرن التاسع عشر، ثم إلى ١٠٠ ألف طن تقريبًا مع حلول الحرب العالمية الأولى.
fig17
شكل ٧-١: سعر زيت النخيل مقارَنةً بسعر الأقمشة القطنية.
fig18
شكل ٧-٢: سعر الكاكاو مقارَنةً بسعر الأقمشة القطنية.
لم تكن منتجات النخيل هي الصادرات الوحيدة في منطقة غرب أفريقيا؛ فكان الكاكاو مثالًا آخَر على قصة نجاح عظيمة. أتى الكاكاو في الأساس من الأمريكتين، وبدأت زراعته في أفريقيا في القرن التاسع عشر. في بريطانيا، تضاعف سعر الكاكاو مقارنة بسعر الأقمشة القطنية بين أربعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر (الشكل ٧-٢)، وهذه الزيادة هي ما دفع الأفارقة (لا الأوروبيين!) إلى إجراء التجارب لإنتاجه، والذي بدأ على نطاق واسع في غانا في تسعينيات القرن التاسع عشر. ونظرًا لأن الكاكاو لم يكن نباتًا أصليًّا، كان يجب إزالة الغابات وزراعة الأشجار؛ مثَّل هذا تحديًا لنُظم الملكية الجماعية التي كانت تسمح لأي من أعضاء القبيلة بالاستحواذ على الأراضي الخالية. أدخل الأفارقة تعديلات على نظام الملكية الخاص بهم لتسهيل عملية زراعة الكاكاو، وتمثَّل أحد الحلول في فصل ملكية الأشجار عن ملكية الأراضي، بحيث كان يضمن صاحب الأشجار تحقيق عائدات على استثماراته، بغض النظر عمَّنْ كان يزرع البطاطا أو الكسافا في الحقول المجاورة.

نفَّذَتْ جماعات الكروبو حلًّا أكثر جذرية؛ أجرت جماعات الكروبو عمليات شراء جماعية للأراضي من القبائل الأخرى، ثم تولَّتْ تقسيمها فيما بين أعضائها إلى حيازات فردية، وبمجرد الانتهاء من زراعة الأراضي التي يمتلكونها، يكررون العملية نفسها متجهين غربًا عبر غانا، ثم وصولًا إلى ساحل العاج في نهاية المطاف؛ ونتيجةً لذلك، امتلك العديد من أفراد جماعة الكروبو قِطَع أراضٍ في أماكن متفرقة عبر هذه الدول، فكانوا يزرعون بعضها ويؤجرون بعضها. وتطلَّبت الهجرة والاستقرار استثمارات ضخمة كان مصدرها مدخرات من إنتاج أشجار الكاكاو التي دخلت حيز الإنتاج بالفعل. تشبه جماعات الكروبو في الإنتاج أخلاقيات العمل البروتستانتي لفيبر.

الاستعمار

بدأ الاستعمار الأوروبي بالبرتغاليين الذين أقاموا مستعمرات فيما يُعرَف اليوم بغينيا بيساو وأنجولا وموزمبيق في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم أقامت القوى الأوروبية الأخرى حصونًا على ساحل غرب أفريقيا لتسهيل تجارة العبيد، وأقام الهولنديون مستعمرتهم في رأس الرجاء الصالح في عام ١٦٥٢. اتخذ الاستعمار الأوروبي شكلًا أكثر جدية في القرن التاسع عشر، بَيْدَ أن تقسيم القارة بين القوى الاستعمارية لم يحدث إلا مع نهاية القرن.

كان يجري الاستحواذ على المستعمرات لأسباب اقتصادية واستراتيجية، وكانت القوى الاستعمارية تعقد الأمل في أن توفِّر المستعمَراتُ المنتجاتِ الاستوائيةَ لها، وفي أن تكون هذه المستعمرات أسواقًا لمصنوعاتها، فضلًا عن توفير أماكن لمواطنيها للاستقرار بها، وفي أن تمثِّل المستعمَراتُ مصدرًا للاستثمارات المربحة للطبقات البرجوازية. بالإضافة إلى ذلك، كان يُنظَر إلى الإمبراطوريات بوصفها بعثات حضارية ستنشر المسيحية، وسترفع من قدر الثقافة المحلية إلى المستوى الأوروبي. كان من المتوقع تحقيق هذه الأهداف دون أي تكاليف تتحملها القوى الاستعمارية؛ حيث كان من المفترض أن تموِّل حكوماتُ المستعمَراتِ نفقاتها من خلال عائداتها الخاصة.

وقد أثبت الاستعمار مدى الدمار الذي يُلحِقه بعملية النمو الاقتصادي في أفريقيا أكثر من أي مكان آخَر في العالم. أدى الاستعمار في القارة الأفريقية إلى ظهور مؤسسات في غاية السوء. كانت المستعمرات الأفريقية الأولى — على غرار نظيراتها السابقة عليها في أمريكا الشمالية — تُدار من خلال «الحكم المباشر»؛ حيث كانت الحكومات الاستعمارية تطبِّق قانون الدولة الأم في جميع الأراضي التابعة على كلٍّ مِن المستوطنين والسكان الأصليين على حد سواء، وإنْ لم يتمتع السكان الأصليون بكامل حقوقهم في غالب الأحيان. بنهاية القرن التاسع عشر، حل «الحكم غير المباشر» محل الحكم المباشر، وكان الغرض من ذلك هو جعل الاحتلال الأجنبي أكثر قبولًا للسكان الأصليين من خلال الاعتراف بالاختلافات العرقية جميعها، ومن خلال منح السلطة والثروة إلى القادة المتعاونين في مقابل دعم الأجانب. وفي ظل هذا النظام، كانت الدولة الاستعمارية تطبِّق قانون الدولة الأم على المستوطنين وفي المدن، أما حكم السكان الأصليين في الريف فقد تطور إلى نظام «الزعماء» الذين كانوا يطبِّقون «عادات قبائلهم»؛ وقد وضعتُ هذه المصطلحات بين أقواس للتأكيد على أنها مفاهيم قانونية تتصل بالدولة الاستعمارية، لا تتصل بالضرورة بواقع الحياة قبل الاستعمار. كان يُنظَر إلى جميع الكيانات السياسية الأفريقية — من الممالك مثل أشانتي، إلى أقل الجماعات تنظيمًا — ككيانات متكافئة عاداتها موحدة، على الرغم من اشتمال الكيانات السياسية المعقَّدة على شعوب مهزومة لها عاداتها المتباينة. نُصِّب زعماء في أماكن مثل شمال غانا وشرق نيجيريا حيث لم يحكم هؤلاء من قبلُ قط. اتسم البناء السياسي بأنه مهلهل، وكان حق الشعب في ترك الأنظمة القمعية بمثابة لجام يحد من سلطات الحكَّام الطغاة، ولكن ألغي هذا الحق عندما كان الناس يُقسَّمون إلى قبائل لا يمكنهم تركها. وقد أعيد تشكيل العادات بحيث تلائم الأغراض الاستعمارية؛ فأُلغيت العادات «البربرية» مثل العبودية (رغم استمرارها على أرض الواقع)، فيما أُبقِي على العادات المفيدة مثل حق زعيم القبيلة في طلب عمالة غير مدفوعة الأجر، وبهذه الطريقة أصبحت العمالة القسرية إحدى السمات العادية في الحياة الاستعمارية. صارت الملكية العامة عادة؛ ومن ثَمَّ كان باستطاعة الأفراد امتلاك أراضٍ زراعية فقط من خلال الانتماء إلى إحدى القبائل، وفقط وفقًا لرغبة الزعيم الذي كان يخضع له أفراد القبيلة. كانت العمليات التقليدية تُستخدَم حيثما كان ذلك ممكنًا لإضفاء سمات النبالة على الزعماء، ولكنهم في نهاية المطاف يتم تعيينهم من قِبَل قوى الاحتلال، وكان زعماء القبائل يُمنَحون سلطات تزيد عن السلطات التي كان يتمتع بها الحكام قبل الاستعمار. صار الزعماء الجُدُد هم الممثِّلين الرئيسيين للإمبراطورية؛ حيث كانوا يفرضون الضرائب، ويجبرون أعضاء قبائلهم على العمل، فضلًا عن استغلالهم لسلطاتهم لتكوين ثروات شخصية. لقد خلق الاستعمار نظامًا من الديكتاتوريين الصغار ممَّن لديهم نزعة للجباية ليحكموا المناطق الريفية.

كانت السياسات المتَّبعة من قِبَل المستعمرات الأفريقية — على أقل تقدير — مدمِّرة للنمو الاقتصادي بالقدر نفسه الذي كانت عليه السياسات المتَّبعة في الهند وغيرها. تبنَّت الحكومات الاستعمارية عنصرًا واحدًا فقط من نموذج التنمية القياسي في القرن التاسع عشر؛ أَلَا وهو إدخال التحسينات على وسائل النقل. بحلول الحرب العالمية الأولى، كان ٣٥ ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية قد أُنشئت في أفريقيا جنوب الصحراء، وكانت عمليات الإنشاء تُموَّل من قِبَل الاستثمارات الخاصة (في ظل وجود ضمانات عامة عادًة)، وكانت تهدف إلى تيسير تصدير المنتجات الأولية من خلال ربط المناطق الداخلية بالموانئ. لم تكن التعريفات الجمركية مستخدَمة لدعم التصنيع، بل ظلت عند مستويات منخفضة لتوفير مصدر عائدات فقط، ومن ثَمَّ كانت الاقتصادات في المستعمَرات متكاملة بصورة تامة مع السوق العالمية. ومع انخفاض تكلفة النقل عبر المحيطات والنقل البري، انخفضت أسعار المصنوعات الأوروبية في أفريقيا وزادت أسعار المنتجات الأولية. استجابت الاقتصادات في المستعمَرات وفقًا لهذه التحولات. ارتفع إنتاج وصادرات المنتجات مثل زيت النخيل والفول السوداني ارتفاعًا هائلًا، وعلى النقيض، انخفض إنتاج المنسوجات القطنية في كانو. كانت العولمة تعني أن اقتصاد أفريقيا صار متخصِّصًا في إنتاج المنتجات الأولية.

لم تحاول الحكومات الاستعمارية نشر التعليم بين الأفارقة، بل تُرِكت هذه المهمة إلى الإرساليات المسيحية، والمدارس الإسلامية، فضلًا عن المبادرات المستقلة الأخرى. أُحرز بعض التقدم، لا سيما بين جماعات مثل الكروبو الذين منحتهم أنشطتهم التجارية حافزًا لتعلم القراءة والكتابة، والذين هيَّأ لهم نجاحهم التجاري دخلًا أنفقوا منه على التعليم. ظلت معدلات معرفة القراءة والكتابة منخفضة للغاية حتى بعد الاستقلال. لم تبذل الحكومات الاستعمارية أيضًا أي جهد في تأسيس بنوك محلية لتمويل الاستثمارات. دعمت بعض المستعمرات الاستثمارات الخارجية غير أن ذلك جاء على حساب الأفارقة؛ إذ حصل الأجانب على حق ملكية موارد القارة، وقد كانت هناك اختلافات هائلة بين المستعمرات في هذا الصدد.

تقف على أحد طرفَيْ النقيض المستعمراتُ البريطانية في غرب أفريقيا، فكانت هذه المستعمرات موطن ميلاد الحكم غير المباشر، وكانت خير مثال عليه. كانت معظم البلد تقع تحت سيطرة زعماء القبائل، وكان امتلاك الأوروبيين للأراضي أمرًا غير محبَّذٍ؛ فعلى سبيل المثال، مُنِع ويليام ليفر من امتياز حق امتلاك أراضٍ واسعة لإقامة مزارع لزيت النخيل في نيجيريا في عام ١٩٠٧.

أما المستعمرات الألمانية والبلجيكية والفرنسية في غرب أفريقيا، فقد تبنَّتْ سياساتٍ لامتلاك الأراضي واستخدام العمالة أقل مراعاة لمصالح السكان الأصليين، فكانت الأراضي تُصادَر من قِبَل الحكومات الاستعمارية وتُمنَح لمستثمرين أوروبيين لإقامة مزارع ومشروعات تعدين عليها، على سبيل المثال، وافقت بلجيكا على إقامة شركة يونيليفر لمزارع زيت نخيل في الكونجو. وكان الأفارقة يُجنَّدون للعمل الإجباري في المزارع وبناء خطوط السكك الحديدية.

وعلى الطرف الآخر من معادلة التناقض مع المستعمرات البريطانية في غرب أفريقيا تقف المستعمرات التي أقامها المستوطنون. تقدِّم جنوب أفريقا المثال الأفضل على ذلك، وإنْ كان تاريخ مصادَرة الأراضي فيها يشبه مثيله في زيمبابوي ومرتفعات كينيا.

ضمَّتْ مستعمرة كيب تاون نحو ٢٥ ألف مستوطِنٍ من الهولنديين والألمان والهوجونوتيين (أتباع الكنيسة البروتستانتية الإصلاحية في فرنسا) عندما استولت بريطانيا عليها في عام ١٨٠٦. ارتفع عدد المستوطنين الأوربيين إلى ١٠٠ ألف مستوطِنٍ في عام ١٨٥٠، ثم قفز إلى مليون نسمة في عام ١٩٠٠ بعد اكتشاف الماس في عام ١٨٦٦ والذهب في عام ١٨٨٦. ارتفع عدد السكان الأفارقة من ١٫٥ مليون نسمة إلى ٣٫٥ ملايين نسمة بين عامَيْ ١٨٠٠ و١٩٠٠. وبعد عام ١٨٣٥، تقدَّمَ البوير من مستعمرة كيب تاون إلى مقاطعة ترانسفال، واستولوا على مساحات شاسعة من الأراضي من الأفارقة. أقام البوير الدولة الحرة البرتقالية وجمهورية جنوب أفريقيا، اللتين اندمجتا في جنوب أفريقيا لاحقًا بعد استيلاء بريطانيا عليهما في الحرب التي استمرت بين عامَيْ ١٨٩٩–١٩٠٢. لم يكن البريطانيون أكثر احترامًا لحقوق الأفارقة في تملك الأراضي من البوير. بلغ الاستحواذ على الأراضي ذروته من خلال قانون أراضي السكان الأصليين لعام ١٩١٣، الذي جرَّم شراء أو إيجار الأفارقة للأراضي خارج نطاق المحميات المخصَّصة لهم. بلغت نسبة هذه الأراضي ٧٪ من إجمالي أراضي جنوب أفريقيا، على الرغم من أن الأفارقة كانوا يشكلون نسبة ثلثَيْ عدد السكان الإجمالي.

وقعت حالات توزيع للأراضي مشابهة في مستعمرات المستوطنين الأخرى لكن بصورة أقل حدة. في زيمبابوي — على سبيل المثال — عندما بدأ تطبيق برنامج إصلاح نظام امتلاك الأراضي السريع في عام ٢٠٠٠، كان ٤٥٠٠ مزارع أبيض يمتلكون ١١٫٢ مليون هكتار من أفضل الأراضي في البلاد، فيما كانت تعيش مليون عائلة أفريقية على مساحة ١٦٫٤ مليون هكتار من أسوأ الأراضي التي تخضع للملكية الجماعية في البلاد. في ظل هذه الظروف، يمثِّل قانون الملكية العقارية نظامًا يضمن حماية الامتيازات بدلًا من أن يكون نظامًا يشجع الجميع على الحفاظ على مصالحهم من خلال إجراء معاملات متبادلة الفائدة.

كانت سياسة نزع ملكية الأراضي من السكان الأصليين تهدف إلى ضمان توفير العمالة، فضلًا عن الاستيلاء على أراضيهم. علَّق الموقَّر جيه إي كازاليس في ستينيات القرن التاسع عشر قائلًا إن الهدف من الاستيلاء على الأراضي تمثَّل في:

إجبار السكان الأصليين … على الحياة على مساحة محدودة للغاية من الأراضي، حتى صار من المستحيل الاعتماد على المنتجات الزراعية والماشية في هذه الأراضي كمصدر للغذاء، ولإجبار السكان الأصليين على عرض خدماتهم على المزارعين كخدم في المنازل وكعمال.

وقد جرى التوسع في تطبيق هذا الهدف من خلال نظم التحكم في العمالة القائم على التمييز العنصري، والذي عُومِل الأفارقة بموجبه كما لو أنهم يقيمون في المحميات الخاصة بهم، وأنهم عمال مؤقَّتون في الدولة بصورة عامة.

الفقر المعاصر من منظور تاريخي

في وقت مبكر من القرن التاسع عشر، اتخذ غرب أفريقيا مسارًا كان يشبه في الكثير من ملامحه المسار الذي سلكته المستعمرات في أمريكا الشمالية؛ إذ كان الاقتصاد يرتكز على التصدير، وقام الأفارقة بإزالة الغابات المطيرة كرد فعل لارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية، وكانت معظم الدخول يعاد استثمارها في الأعمال المختلفة، ولكن لم تفلح كل هذه المشروعات والتقدم في إطلاق شرارة النمو الاقتصادي الحديث. فلِمَ لا؟

هناك تفسيرات مباشرة وأسباب خفية. يوضح الشكلان ٧-١ و٧-٢ التفسير المباشر؛ إذ يبيِّن الشكلان أن الأسعار الحقيقية لزيت النخيل والكاكاو كانت تتخذ منحى منخفضًا منذ بداية القرن العشرين. انخفضت أسعار كلتا السلعتين خلال الحرب العالمية الأولى، وبلغت أدنى مستوياتها في ثلاثينيات القرن العشرين وإبَّان الحرب العالمية الثانية. لم يستعد سعر زيت النخيل (مقارنة بأسعار الأقمشة) المستوى الذي بلغه قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كما أن سعره اليوم يقل عن سعره في ثلاثينيات القرن العشرين. حقَّقت الدول المنتجة للكاكاو نجاحًا، ولكن ليس ذلك حال مزارعي الكاكاو أنفسهم. اتخذت أسعار الأسواق العالمية منحى تصاعديًّا متعرجًا بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى مستويات أعلى من تلك التي حقَّقتها في تسعينيات القرن التاسع عشر. في الدول الأساسية المصدِّرة للكاكاو مثل غانا، تراكمت الزيادات في الدخل لصالح الدولة وليس المزارعين؛ حيث كان المزارعون يُجبَرون على بيع محصولهم من الكاكاو إلى هيئة تسويق تملكها الدولة كانت تتولى إعادة بيع الكاكاو دوليًّا. ظاهريًّا، كانت هيئة التسويق توفِّر الحماية للمزارعين من تذبذبات الأسعار في الأسواق العالمية، من خلال دفع مبالغ ثابتة مقابل محصول الكاكاو، ولكن في واقع الأمر كانت هذه الهيئات تعمل مثل وكالات التوريد السوفييتية التي كانت تلتهم الفوائض المتزايدة من بيع الكاكاو في الأسواق العالمية. ومن خلال الإبقاء على الأسعار منخفضة، كانت هيئات التسويق تقلِّل من الحافز لدى المزارعين للتوسع في الإنتاج، فضلًا عن الإبقاء على فقر السكان الريفيين.
fig19
شكل ٧-٣: الدخل اليومي من إنتاج زيت النخيل.
يُترجَم تاريخ الأسعار مباشرةً إلى الدخل الحقيقي للمزارعين. يبيِّن الشكل ٧-٣ الدخول المجمعة الحقيقية اليومية لأسرة افتراضية من جماعة الياكو تنتج زيت النخيل وبذور النخيل، وقد وُضِع الشكل على افتراض عدم تغيُّر كفاءة الإنتاج لدى الأسرة بمرور الوقت، وهو واقع الحال. وقد سار دَخْل الأسرة من بيع زيت النخيل على الدرب المتعرج نفسه الذي سارت عليه الأسعار. منذ عام ١٩٨٠، ظلت الدخول الحقيقية لمنتجي زيت النخيل منخفضة مثلما كانت في ثلاثينيات القرن العشرين، وقد شهد منتجو الكاكاو انخفاضًا مماثلًا طويل المدى، غير أنهم لم يجنوا ثمارَ ارتفاعِ الدخول في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين؛ حيث لم تمرِّر هيئةُ تسويقِ الكاكاو ثمارَ ارتفاعِ الأسعارِ في الأسواق العالمية إلى المزارعين (الشكل ٧-٤).
fig20
شكل ٧-٤: الدخل اليومي من إنتاج الكاكاو.

اليوم يحقق منتجو الكاكاو قدرة شرائية قدرها ١٠ بنسات يوميًّا وذلك حسب قيمة البنس في عام ١٩١٣. كان ذلك هو أجر العامل في أكرا في ذلك الوقت، في المقابل يحقِّق منتجو زيت النخيل نصف تلك القيمة. ينطبق الأمر نفسه على صادرات أفريقيا الزراعية. ونظرًا لأن ٦٠٪ من السكان يعملون في الزراعة، تحدِّد الدخولُ في هذا القطاع الدخولَ في سائر قطاعات الاقتصاد الأخرى؛ ومن ثَمَّ يرجع السبب في فقر الأفارقة إلى أن الزراعة في القارة الأفريقية تحقِّق مستوى معيشة يرجع إلى فترة الحرب العالمية الأولى.

هناك سببان وراء عدم تحسُّن الزراعة في أفريقيا وتحقيقها لنتائج أفضل؛ يتمثَّل السبب الأول في انخفاض أسعار صادرات المزارع، وهو ما يرجع بدوره إلى ثلاثة أسباب: الأول هو الابتكار وانخفاض أسعار المنتجات البديلة؛ إذ أدى ظهور صناعة النفط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى ظهور زيوت تشحيم أفضل وأقل سعرًا من زيت النخيل، كما حل البارافين — أحد المنتجات النفطية — محل مشتق زيت النخيل الإستيارين في صناعة الشموع، وحل محل الشموع نفسها مصابيح الكيروسين ثم المصابيح الكهربائية. أما السبب الثاني فهو المنافسة مع المنتجين الآسيويين؛ ففي أوائل القرن العشرين كانت أشجار نخيل الزيت تُزرَع في مزارع كبيرة في سومطرة ومالايا، حيث كانت النباتات تنمو بصورة أفضل منها في منطقة غرب أفريقيا. منذ الحرب العالمية الثانية، هيمنت الصادرات الماليزية والإندونيسية على الأسواق العالمية، مما أدى إلى انخفاض أسعار صادرات الأفارقة. ويتمثَّل السبب الثالث لانخفاض الأسعار في التوسع في الإنتاج في أفريقيا نفسها، ويمثِّل هذا السبب أهمية خاصة بالنسبة للكاكاو؛ حيث كان لا يزال معظم الإنتاج العالمي من الكاكاو يأتي من أفريقيا، ولا يوجد بديل جيد للكاكاو في منتجات الشيكولاتة. توسعت زراعة الكاكاو غربًا عبر غانا وصولًا إلى ساحل العاج، وكانت العمالة هناك تأتي من الأقاليم الفقيرة في غرب أفريقيا؛ فزاد الإنتاج وانخفضت الأسعار. ومن هذا المنظور، تمثِّل مشكلة الفقر في أفريقيا حلقة مفرغة؛ إذ تؤدي الأجور المنخفضة إلى الإبقاء على أسعار التصدير منخفضة، وتؤدي الأسعار المنخفضة إلى الإبقاء على الأجور منخفضة.

يتمثَّل السبب الثاني في أن الكاكاو وزيت النخيل لم يحقِّقَا دخولًا أعلى؛ في أن الإنتاجية منخفضة وثابتة. بصورة جزئية، يعتبر تفسير هذا الأمر بيولوجيًّا. أجرى الألمان والبلجيكيون أبحاثًا أساسية على زيت النخيل، غير أن المفارَقَة كانت في أن الأبحاث قد أتت بثمارها في منطقة جنوب شرق آسيا على حساب القارة الأفريقية، ومقارَنةً بالقارات الأخرى، لم تُجْرَ سوى أبحاث قليلة للغاية في أفريقيا لتحسين المحاصيل الزراعية.

تُعتبَر مَيْكَنة عملية الإنتاج مصدرًا آخَر لزيادة الإنتاجية. تُستخدَم معظم العمالة في إنتاج زيت النخيل في عملية معالجة النبات بمجرد جمعه، ويتطلب الأسلوب التقليدي وضع النباتات في أكوام، ثم عمليات التخمير والغلي والسحق والضغط والغمر في المياه ونزع رقائق الطبقات والكبس. تُستخدَم العِصِيُّ في عملية السحق، والقدم في الضغط، وهكذا. حدثت قفزات هائلة في مَيْكنة عملية معالجة النباتات على مستوى المزارع، في حين لم يتحقَّق تقدُّم ملموس على مستوى الزراعة في القرى. تقلِّل الماكينات البسيطة المستخدَمة في كبس النبات واستخلاص الزيت بصورة كبيرة من الحاجة إلى العمالة، وإن كان ذلك على حساب المزيد من رأس المال. لا تحقِّق ماكينات استخلاص الزيوت ربحًا في المزارع الصغيرة في منطقة غرب أفريقيا؛ نظرًا لانخفاض الأجور، ويُعتبَر هذا مثالًا على شَرَك التكنولوجيا الذي ناقشناه في الفصل الرابع؛ حيث تعني الأجور المنخفضة عدم تحقيق ربح من استخدام تكنولوجيا الماكينات اللازمة لزيادة الأجور. على أية حال، لا تتحقق فائدة كبرى جراء تحرير العمالة من العمل على استخلاص زيت النخيل؛ حيث إن عدد السكان ممَّن لا يعملون في الزراعة يفوق عدد الوظائف المتاحة خارج قطاع الزراعة.

يعكس عدم التوازن في سوق العمالة التطورات في الخمسين عامًا الأخيرة. يتمثَّل أحد هذه التطورات في نمو عدد السكان الذي زاد خمسة أضعاف منذ عام ١٩٥٠، والتوصل إلى تفسير حاسم أمر مستحيل في ظل عدم توفُّر البيانات الكافية عن القارة الأفريقية، وإن كانت التجارب في المناطق الاستوائية الأخرى تشير إلى أن السبب المباشر يرجع إلى انخفاض معدلات الوفيات، خاصةً وفيات الأطفال وكبار السن، والذي يرجع على الأرجح إلى التقدم في مجال الصحة العامة وانتشار الممارسات الطبية الحديثة.

أما التطور الآخَر فهو فشل أفريقيا في التحول إلى التصنيع خلال هذه الفترة، وهناك تفسيرات اقتصادية لذلك، فضلًا عن تفسيرات مؤسساتية أكثر شمولًا أيضًا، وتبدو جميع هذه التفسيرات منطقية في ضوء جغرافيا القارة الأفريقية وتاريخها.

هناك ثلاثة تفسيرات اقتصادية لغياب الصناعة في أفريقيا: يتمثَّل التفسير الأول في الأفضلية المقارَنة. كانت أمريكا الشمالية تصدِّر القمح إلى أوروبا؛ حيث كان إنتاج القمح يحتاج إلى توفُّر مساحات كبيرة من الأراضي، وهو ما كان متوفرًا في الولايات المتحدة مقارَنةً بعدد السكان. تنخفض الكثافة السكانية في أفريقيا عن مثيلتها في أمريكا الشمالية؛ لذا تكمن الأفضلية المقارنة للقارة الأفريقية في السلع التي تعتمد على استخدام الأراضي والموارد بكثافة، وهذه هي المنتجات الأساسية التي تصدِّرها القارة. في الولايات المتحدة، كان العامل المكافئ لتوافر الأراضي هو الأجور المرتفعة، وهو ما كان من شأنه أن يجعل التصنيع غير قادر على منافسة الواردات في القرن التاسع عشر في حال عدم وجود تعريفات جمركية. أما في أفريقيا، فالوضع مختلف؛ حيث كانت الأجور منخفضة، ولكن لا تجد شركات التصنيع إمكانية لتحقيق أي ربح جراء التواجد في أفريقيا، ويُفترَض أن السبب في ذلك هو أن التكاليف ستكون مرتفعة؛ حيث إن عملية الإنتاج ستكون غير فعَّالة. ربما يرجع أحد أسباب انخفاض الإنتاجية إلى وجود أيدي عاملة غير متعلمة، ولكن انتشر التعليم سريعًا في العقود الأخيرة، ومن ثَمَّ فقد اختفى أي عجز في هذا الصدد بين العمَّال الشباب — لكن دون تحقيق أي فائدة ملموسة.

يتمثَّل سبب آخَر في انخفاض الإنتاجية في غياب الشركات الداعمة. في الدول الغنية، تجري عملية الإنتاج في شبكات حضرية؛ حيث تدعم الشركات بعضها عن طريق توفير منتجات وخدمات متخصصة، ترفع هذه «الاقتصادات الخارجية كبيرة الحجم» من الإنتاجية، وتسمح للشركات بدفع أجور مرتفعة مع الحفاظ على قدرتها التنافسية. أما أفريقيا، فتدور في دائرة مفرغة؛ إذ لن تُقام شبكة من الشركات المتكاملة أبدًا؛ نظرًا لأن الشركات ترى أنه من غير المربح إقامة شركة في ظل غياب شبكة داعمة من الشركات! في القرن التاسع عشر، ظهرت في أفريقيا بوادر إقامة مثل هذه الشبكات من خلال صناعات الحديد المتناثرة، وصناعة المنسوجات في كانو، وغيرها، بَيْدَ أن العولمة — مدعومة بالاستعمار — أدت إلى القضاء على هذه الصناعات.

يتمثَّل التفسير الاقتصادي الأخير في التكنولوجيا، وهو تفسير يتضمن تطبيق تحليل عملية ميكنة الإنتاج الزراعي على القطاع الصناعي. تعتبر الأجور في أفريقيا منخفضة بدرجة لا تجعل من استخدام التكنولوجيا المتقدمةِ كثيفةِ رأسِ المالِ المتوفرةِ في الصناعةِ الحديثةِ؛ أمرًا مربحًا، وهكذا لا تزال أفريقيا أسيرة شَرَك آخَر: تعتبر الصناعة باستخدام الماكينات هي الحل اللازم لانخفاض الأجور، غير أن الأجور المنخفضة تجعل من ميكنة الإنتاج الصناعي عملية غير مربحة!

تتمثَّل أكثر التفسيرات شيوعًا فيما يتعلق بفقر القارة الأفريقية في التفسيرات المؤسساتية بدلًا من التفسيرات الاقتصادية، وأحد جوانب «المؤسسات السيئة» هي الحروب المزمنة التي تضر قطعًا بعالم الأعمال. والفقر في حد ذاته سبب في اندلاع الحروب؛ إذ يجعل تجنيد القوات رخيصًا للغاية. تتسبب الأجور المنخفضة في اندلاع الحروب التي بدورها تؤدي إلى الحد من النشاط الاقتصادي، وهو ما يؤدي إلى انخفاض الأجور — أيْ دائرة مفرغة أخرى للفقر. بالإضافة إلى ذلك، كان اللاعبون الأساسيون والأحداث المفتعلة في كثير من الحروب المعروفة من صناعة الحكم الاستعماري غير المباشر؛ سيطرت بلجيكا على رواندا عن طريق التأكيد على الاختلافات بين قبيلتي التوتسي والهوتو ومبالغتها، إلى أن أصبحت انقسامًا عِرْقيًّا متخيَّلًا، فكان يُنظَر إلى التوتسي على أنهم أجانب دخلاء، وعلى أنهم أسمى في العِرْق؛ نظرًا لأنهم ينحدرون من نسل هام مذكور في الكتاب المقدَّس، فيما كان يُنظَر إلى الهوتو على أنهم مواطنون محليون أقل شأنًا. وفَّرت الإدارة الاستعمارية التعليم للتوتسي، وأغدقت عليهم الفرص بحيث يستطيعون السيطرة على الهوتو، ولكنْ سيطرتِ الأغلبية من الهوتو على مقاليد الحكم في البلاد في ثورة عام ١٩٥٩، وعندما غزا جيش من التوتسي البلاد في عام ١٩٩٠، وهزم جيش الرواندي الذي يتكون بأغلبية ساحقة من الهوتو؛ كان في ذلك تهديد بزوال المكاسب التي حققها الهوتو منذ عام ١٩٥٩، وهو ما مهَّد الطريق لعملية إبادة جماعية.

تتمثَّل سمة أخرى للمؤسسات السيئة في الفساد والطبيعة الاستبدادية في العديد من الدول الأفريقية، وكانت أوجه القصور هذه إرثًا خلفته أنظمة الحكم الاستعمارية؛ فقد ورثت الدول الأفريقية حديثة العهد بالاستقلال دساتير اشتملت على التمييز بين المواطنين على أساس عِرْقي، كما تضمَّنت الأنظمة القبلية والإدارية لنظام الحكم غير المباشر، وقد نجحت الدول الأفريقية في التخلص من العنصرية فيما لم تحقِّق القدر نفسه من النجاح في التخلص من النزعة القبلية. في معظم دول القارة الأفريقية، توجد أنظمة إدارية منفصلة للمناطق الحضرية والريفية؛ فالمناطق الحضرية تمتلك أنظمة قانونية حديثة، فيما تنقسم المناطق الريفية إلى مناطق «قبلية» أُقيمت أثناء الفترة الاستعمارية، ويديرها زعماء القبائل الذين ينفذون العادات التي غُرِست إبَّان الاستعمار مثل الملكية الجماعية للأراضي. وغالبًا ما يتم إخفاء استمرار الإدارة على الطريقة الاستعمارية، من خلال تبني قوانين موحَّدة تجمع بين القواعد الحديثة والقواعد الموروثة في وثيقة واحدة؛ ومن ثَمَّ فإن معظم المناطق الريفية في القارة الأفريقية يحكمها طبقة من الحكَّام الفاسدين غير المنتخَبِين، الذين ينتزعون الدخول وخدمات العمالة من المواطنين، ويتحصَّلون على منافع مادية من الحكومة المركزية.

أضاف هدف تحقيق التنمية الاقتصادية بُعْدًا آخَر للتحكُّم في طبقة الفلاحين. وفقًا للأيديولوجية السائدة في ستينيات القرن العشرين (الغربية والشيوعية على حد سواء)، كان يُنظَر إلى التنمية كعملية يجري من خلالها تحقيق نمو الاقتصاد الحضري على حساب نظيره في المناطق الريفية. وقد استخدمت الدولة الاستعمارية نظام الحكم غير المباشر لحكم الريف لصالح القوة الاستعمارية، وما كان من قادة الدول المستقِلَّة إلا أن أخذوا مكانهم، واستخدموا الأساليب نفسها لتحقيق الفوائد الاقتصادية وغيرها للمدن على حساب المناطق الريفية. وكان يجري حث زعماء القبائل على استخدام ملكيتهم «التقليدية» للأراضي المشاع؛ بغرض مصادرتها لصالح المشروعات التنموية، وكان يجري تهديد السكان بالإخلاء لإجبار الفلاحين على استخدام الابتكارات التكنولوجية الجديدة، كما كان يجري إجبار سكان المناطق الريفية على العمل في مشروعات البنية التحتية والمزارع، بالإضافة إلى ذلك كانت الدولة تستخدم الأساليب القسرية مع الفلاحين، وعلى وجه التحديد كانت تجبر المزارعين على بيع المحاصيل إلى هيئات التسويق الحكومية؛ حتى يُباع الغذاء بأسعار رخيصة للعمال في المناطق الحضرية، وحتى تُفرَض ضرائب على محاصيل التصدير عن طريق دفع أسعار منخفضة للفلاحين مقابل المنتجات التي كانت تُباع بأسعار مرتفعة في الأسواق الدولية، كما رأينا في حالة محصول الكاكاو. أفضت هذه الممارسات إلى تطور صناعي ضئيل، مع خفض حوافز الإنتاج الزراعي وزيادة الفساد والاستبداد.

اتبعت الدول الاستبدادية والماركسية-اللينينية مسارًا مختلفًا ظاهريًّا، وإن كانت النتائج مشابهة؛ فقد قَضَتْ هذه الدول على القبلية والعنصرية: «حتى تحيا الأمة، يجب أن تموت القبيلة.» على حد تعبير سامورا ماشيل أول رئيس لموزمبيق. وقد أُسِّست الدول ذات الحزب الواحد لقمع الانقسامات ولتكون طلائع للتقدم، ولكن كانت ممارسات الاستعمار أصعب في تغييرها، فصار القادة القبليون كوادر الحزب الحاكم، ومضوا في طريقهم كما كانوا يفعلون من قبلُ. وباسم التنمية، تبنَّتِ الدول التي مرت بعمليات إصلاحٍ وسائلَ سيطرة الدولة على الاقتصاد والمجتمع التي كانت سمة الإدارات الاستعمارية، كما عاد العمل القسري للظهور مجدَّدًا في هذه الدول؛ ومن ثَمَّ ليس بمقدور أفريقيا الهروب بسهولة من تاريخها.

هوامش

(1) Daryll Forde, Yakö Studies (Oxford, 1964), pp. 5, 9–11, 14, 22, 25, 26, 31–4, 41–5, 47.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤