الفصل الثاني

(هيئة المرسح كما في الفصل السابق.)

الواقعة الأولى

(رحيو ثم الوكيل، عند رفع الستار يكون رحيو وحده فيدخل عليه الوكيل قادمًا من الخارج.)

رحيو : ماذا رأيت؟
الوكيل : إنهم يُهيِّئون مُعدات الاحتفال.
رحيو : في المعبد؟
الوكيل : في المعبد.
رحيو : لعيد المعجزات؟
الوكيل : لعيد المعجزات.
رحيو : ويظن الكهنة أنهم قادرون على الاحتفال بهِ غدًا؟
الوكيل : لم أرَ منهم ما يُشعِرُ بالعدول عن ذلك.
رحيو : وهل يستطيعون الاحتفال بدون يوما؟
الوكيل : لا أدري.
رحيو : لا ريب أنك واهمٌ يا صاح، فهل ذهبتَ إلى النيل؟
الوكيل : نعم يا مولاي.
رحيو : وماذا رأيت؟
الوكيل : رأيت السفينة المقدسة، ووجدتهم يتممون تهيئتها.
رحيو : لا أفهم شيئًا مما يفعلون.
الوكيل : ولا أنا يا مولاي، وقد علمتُ أن بعض الجنود تمرَّدوا، وأبوا أن يذهبوا ثانيةً لتنفيذ ما أُمِروا به أمس.
رحيو : أبوا؟
الوكيل : نعم.
رحيو : وماذا يقولون؟
الوكيل : يقولون إنهم خائفون.
رحيو : وممَّ يخافون؟
الوكيل : إنهم يخافون من ساتني.
رحيو : ساتني!
الوكيل : نعم، ويقولون إن معجزة الأمس من فعله.
رحيو : كيف ذلك، وماذا يقولون؟
الوكيل : يقولون إنه هو …
رحيو : إنه هو ساتني؟
الوكيل : نعم.
رحيو : وإنه صاحب المعجزة؟
الوكيل : نعم.
رحيو : المعجزة التي حالت دون الجنود ودون أن يُنفذوا أمر رئيس الكهنة؟
الوكيل : نعم.
رحيو : يقولون ذلك؟
الوكيل : كل القوم به يتحدثون.
رحيو (بعد إطراقٍ طويل وتأمُّل) : حسنًا، وقد آن أن تعرف حقيقة الأمر، فتستطيع أن تبلغهم إياها؛ ألا فاعلم أن ساتني تثقَّف في البلاد التي رحل إليها، فعرف أمورًا كثيرة، ووقف على أسرار كبيرة، اقترب مني وأعرني سمعك.
إنه يدعو إلى آلهة غير آلهة مصر وأقوى منها سلطانًا، ولعلك تذكر أن أبي وأمِنْحوتِب فرعون مصر كانا يقولان مثله، وكانا يريدان أن يكشفا لنا عن هذه الأسرار، لولا أن منعوهما كما تعلم، ويظهر — أما أنا فلا أدري، فإن ساتني ما زال يُكرِّر علي ذلك منذ حضر إلى المدينة أي منذ شهرين — يظهر — وسترى أن ما يقوله ساتني جدير بالإصغاء — قلتُ لك يظهر أن الأوان قد آن لظهور هذه الآلهة إلينا، وكأني بها وقد آتت ساتني سلطانًا فوق قُدرة البشر، وهذا لا ريب فيه، ولم يبقَ أحد لم يؤمن به، ألا تراه لما أراد أن يحتفظ بخطيبته وهي عروس آمون، لم يستطع أحد مقاومته، وما أخطأ الجند الليبيون إذ قالوا إنه هو الذي أطلق الرعد فأرسل عليهم الصاعقة، وفتح فوق رءوسهم ميازيب السماء، لما أتوا بأمر فرعون وكهنته؛ ليخلصوا يوما من يده.
الوكيل : ويقول الشيوخ منَّا إنهم لم يسمعوا الرعد إلا مرة واحدة في حياتهم.
رحيو : بلِّغ القوم جميعًا ما قلتُه لك، وأبلغهم أيضًا أن من يحاول معارضة ساتني فيما يفعل، فجزاؤه أن يُصيبه ما أصاب الجند أمس من الرعب فتفرقوا، وقل لهم: إن روح فرعون السابق قد حلت في جسم هذا الفتى، وإني قد رأيت أبي أمس في الرؤيا، وإن مصر سترى من عظيم الحوادث ما لم ترَ.
الوكيل : سأقول ذلك.
رحيو : وها قد أقبل رسول الآلهة الجدد، فدعني أكلمه، واذهب فأعِد على القوم ما سمعته.

(يخرج الوكيل ويدخل ساتني قادمًا من الخارج.)

الواقعة الثانية

(ساتني – رحيو – يركع رحيو أمام ساتني)
ساتني (يلتفت وراءه) : لأي إله أيضًا تركع؟
رحيو : أركع لك، فإن لم تكُ إلهًا، فأنتَ روح إله.
ساتني : لا أفهم ما تقول.
رحيو : لا يستطيع إلا رسول الآلهة أن يُرسل من السماء نارًا متى شاء.
ساتني : ولكنني لستُ …
رحيو : كفى كفى، أتريد أن نكفر بك وننكر معجزاتك؟ وضح الحق أمس فلا سبيل إلى إخفاء سلطانك، فلا تقصر هداك بعد يا ساتني عليَّ وعلى مييريس ويوما وأهل بيتي وعشيرتي، بل لك الآن أن تدعو القوم جميعًا فقد استرعت معجزاتك القلوب والأسماع.
ساتني : لندع هذا، واستقم يا رحيو، وخبرني ماذا أصاب يوما؟
رحيو : يوما، إنها ظنَّت أولًا أن زمجرة الرعد إشارة على غضب آمون عليها.
ساتني : أما زالت تعتقد بآمون بالرغم مما علَّمتها؟
رحيو : ولكنني حولتُ معتقدها، وأفهمتها أن العناصر في خدمتك، وأن ما أزعجها لم يكن إلا من علامات قوتك.
ساتني : ولمَ تكذب عليها؟
رحيو : إنني لم أكذب، ومع ذلك فقد فرحت بما علمت، ولو كنت رأيتها …
ساتني : كفى، إذن خاب أملي في إرشادكم، وأنا أُجهد نفسي معكم منذ شهرين.
رحيو : أتذكر منذ تركتنا أمس صباحًا … لقد تركتنا وأنت تعتقد أنك طهَّرت نفسها من الخرافات، فكنت تتكلم وهي لا تجيبك، صامتة لا تقوى على معارضتك، حتى ظننتَ أنك نزعتَ منها الاعتقاد بآمون، فما كدت تبرح حتى آوت هي إلى خلوتها، وثار ثائرها كأن شيطانًا تولاها، فأخذت تبكي وتصيح، وتضرب الأرض بقدميها، وتُقطع شعورها.
ساتني : وماذا كانت تقول؟
رحيو : كانت تصيح قائلة: إلى الهيكل، إلى الهيكل، أريد أن أذهب إلى الهيكل، إن الإله اصطفاني وهو في انتظاري، ومصر سيُقضى عليها، ثم تقول عبارات متقطعة لا يُفهم لها معنى، وأخيرًا حاولت أن تنتحر.
ساتني : تنتحر؟
رحيو : نعم، وقد ردوها عن عزمها، وما هدأت وعرفت أن آلهتك أقوى من آلهتها حتى أخذتها إلى هذا المكان، وأريتها الجنود المرسلة لأخذها، وقد بددتهم الصاعقة، وشتتهم الرعب، فصارت تقول: عجبًا! أهو؟ هو حبيبي ساتني هزَّ السماء والأرض لأجلي! لأجلي أنا! وهي تريد الآن أن تقبِّل نعليك، وتقدم لك قربانًا وتعبدك دون آلهتها، وها هي قادمة مع مييريس فابقَ أنت.
ساتني : كلا.

(يخرج ويصحبه رحيو قليلًا، ثم يعود، فتدخل مييريس ويوما.)

مييريس (إلى يوما) : أهو هنا؟
يوما : كلا.
مييريس : دعيني إذن (تخرج يوما).

الواقعة الثالثة

(رحيو – مييريس)

(مييريس وحدها، تتقدم خطوات غير مطمئنة نحو تمثال إيزيس، فتقترب منه وتمسه. سكوت.)

مييريس : ما أنتِ إلا من خشب …!

(تطرح ذراعيها علامة اليأس، وتبتعد ببطء تاركة الزهور تتساقط من بين يديها وتبكي.)

رحيو : ماذا أرى؟ مييريس! أما زلتِ تأتين بزهور لإيزيس؟
مييريس : ستكون هذه آخر مرة. اسمع، يجب أن تطلب من ساتني أن يشفيني، لا تقل إنه لا يستطيع، فقد شفى أمِرْستي.
رحيو : شفى أمرستي.
مييريس : نعم، وسقاها شرابًا فيهِ شفاء، أذهب من جسمها العلل.
رحيو (مُصدِّقًا) : أيستطيع؟
مييريس : لقد رآه القوم، وكِتْوَي أيضًا.
رحيو : ما بالها؟
مييريس : كتوي المُقعدة استطاعت أن تسير على قدميها هذا الصباح، فذهبت وملأت جرتها من النيل، وقد أخذت جيرانها الدهشة وعمَّهم الفرح لمَّا رأوها، وكيف شُفيت؟ إنما مسَّت فقط طرف ردائه بدون أن يشعر، ثم إنه شفى ابن ريتي، إنه يعرف آلهة أقوى من آلهتنا، آلهة ربما كانوا فتيانًا، أما آلهتنا فقد طال عليهم القِدَم، وإلا فخبرني كيف استطاع يوم قدومه، أن يسير في طريق به جعرانان ميتان دون أن يصيبه سوء؟ وهو لا يزال مُذ حلَّ بيننا، يفعل ما ينهى عنه الدين، ويُحقِّرُ آلهتنا، فلو لم يكن مؤيَّدًا بسلطان أقوى من سلطانهم؛ لأصبح منذ حينٍ في الغابرين، فمن هُم آلهته؟ ليُفصح عنهم، لعلَّ القوم بهم يؤمنون.
رحيو : سألته فأنكر.
مييريس : لماذا؟
رحيو : لأنه لا يعتقد بوجود آلهة مُطلقًا.
مييريس : لا يعتقد بوجود آلهة مُطلقًا؟! إنه يهزأ بك.
رحيو : ربما كان مُضطرًّا إلى كتمان سرِّهم.
مييريس : أتدري يا رحيو أن أمرْستي التي حدثتك عنها، ما زالت منذ سنتين، تبتهل بجانبي كل عام في يوم المعجزات إلى المعبودة إيزيس، تلتمس منها الشفاء، فلم يُجَب لها نداء.
رحيو : نعم، وهو يقول إنه كان يستطيع أن يشفي كل من شفتهم إيزيس.
مييريس (لنفسها) : بل يستطيع فوق ذلك أن يشفيَ من تركتهم إيزيس، (تسكت قليلًا) ليعلِّمك يا رحيو تلك الكلمات التي يستطيع بها عمل المعجزات.
رحيو : سألته فأبى.
مييريس : أكرهه على ذلك.
رحيو : إنه يقول إن هذه الكلمات لا وجود لها.
مييريس : هدده بالإعدام فيتكلم.
رحيو : لا أستطيع.
مييريس (بحدَّة) : إنك لم تعِ إذن ما قلته، لقد شفى أمرستي وشفى كتوي، فلِمَ لا يشفيني أنا؟
رحيو (بتألُّم) : آه يا مييريس، أتظنين أني كنت أنتظر رجاءك حتى أرجوه؟
مييريس : إذن كلمته، وماذا قال لك؟
رحيو : لم يقل لي إلا هذه الكلمات: لو كنت أستطيع شفاء مييريس، لأبصرت عيناها من حين.
مييريس : ما من شيء يستحيل على الآلهة فعله، وآلهتنا على كل شيء قديرة، فما بال آلهته وهي أقوى سلطانًا، إن لم يُجبك إلى ما التمسته فألحَّ عليه، مُره، بل هدده وأكرهه على ما تريد، لك الأمر والنهي عليه، وما هو إلا ابن صانع فخَّار من عبيدك، فاقرعه بالسوط حتى يصدع بأمرك، افعل به ما تشاء فحياته في يديك، أرهبه، بل رغِّبه، اعرض عليه حقولنا ونخيلنا، قدم له ماشيتنا وأنعامنا، ضع بين يديه جواهرنا وحُلينا، قل له إننا نؤمن به إلهًا حيًّا قادرًا على كل شيء، فليشفني، أريد الشفاء، أريد رؤية الأشياء، أريد الإبصار (بغضب) ولكن أنت لا تدري قيمة البصر؛ لأنك مُبصر، ولا تُقدر نعمة النور؛ لأنه يملأ عينيك، ولا تدري مقدار مُصابي؛ لأنك لا تشعر به. نعم إنك ترثي لبلوتي، وترقُّ لحالي، وتظن أن ذلك جهد استطاعتك فلا تملك فوقه أمرًا، كلا كلا، ولكن لا لا، لقد أخطأتُ وظلمتك يا رحيو فسامحني، إن شدة المُصاب أفقدتني الصواب، تصور ألم الأعمى، وقد وُلد أعمى وحُرم لذة المشاهدة، وبجواره قوم يُبصرون، إني أغبط أحقر رعاة ماشيتك، وأفقر ناسجات بردك على نعمة البصر، فإذا سمعت أحدًا منهم يشتكي من دهره، لا أستطيع كفَّ يدي عن ضربه على بطره، إذ أرى كل النعم لا تعادل نعمة بصره، ويخيل لي أنكم معشر المبصرين في نعيمٍ دائم، وأنه يجب عليكم أن لا تكفُّوا عن التسبيح وشكر الآلهة على ما منحتكم (بشدة) البصر! ولا أدري ما هو، ولا أستطيع أن أتصور كيف تبصرون الأشياء دون أن تلمسوها، وتعرفون الأشخاص دون أن تسمعوها، وتدركون الشمس دون أن يصيبكم شعاعها، وتتعرفون الزهور قبل أن يصل إليكم عبيرها، يقولون إن الزهور جميلة، فيا ليتني كنت أراها أيها الحبيب، وكم أكون سعيدة يوم أرى وجهك؛ لأتبين فيه صورة ولدنا الذي فقدناه، أو لتُشير لي إلى من يُشبهه بين الأطفال فأراه، مصابي بكفافي مصابٌ مزدوج، فما أشد ألمي! أوَّاه ما أشد ألمي! (ترتمي بين ذراعي زوجها) إن لم أجد بدل الأمل الذي فقدته في آلهتي أملًا بشفائي، فلا أدري ما أنا فاعلة، ولأذهبنَّ ذات ليلة ملتمسة الجدران والأشجار، تدلني يداي، وتقودني قدماي، حتى أبلغ النيل، فألقي بنفسي فيه لأموت.
رحيو : حبيبتي، حبيبتي، ما هذا الكلام؟
مييريس : لقد أقبل، وأسمعه يتكلم، فلأتركنَّكَ معه، بل قُدني إلى مخدعي وعُدْ إليه، وإن كنتَ تهواني فلا تنسني لديه، نجِّ امرأتك يا رحيو.

(تدخل المنزل يقودها رحيو، فيدخل ساتني يتبعه نرم وسوكتي وبتيو.)

الواقعة الرابعة

(ساتني – نرم – سوكتي – بتيو)
نرم : نعم نعم، أنتَ قادرٌ مقتدر فاجعلني غنيًّا، لقد طال عليَّ الأمد وأرهقني ضرب السياط، أريد أن أكون غنيًّا؛ لأضرب بالسياط مثلما ضربوني، ولا يكلفك ذلك إلا كلمتين، فلا تبخل بهما.
ساتني (بقسوة) : دعني فلست بساحر.
سوكتي : أما أنا فلا أطلب مالًا مثل هذا الأحمق يا مولاي، فدعه واستمع لي أنا، إني أريد منك أن تُميت خميسَ؛ فإنه سلب مني الفتاة التي كنت أهواها وأريد الزواج بها، (يدفعه ساتني فيتمسك بأذياله وهو يبكي) الرحمة الرحمة يا مولاي، لقد سلب مني روحي فأفقده روحه من فضلك.
ساتني : دعني.
سوكتي : أجب ندائي.
بتيو (يتداخل بينهما ضاربًا سوكتي) : انصرف من هنا، إنه لا يريد أن يراك (يخرج سوكتي) اسمع يا مولاي، انظر كيف صرفته، مُرني أضرب لكَ من تشاء، ولكن استجب دعائي، أريد أن يستقيم عودي فيعتدل قوامي، وتقوى قدماي على حملي مثلك، وعندي في مخبأ مكين ثلاث أساور من ذهب، سرقتها منذ حين، فأعطيك إياها أجرًا، وأزيدك شكرًا.
ساتني : اذهب بها لرئيس الكهنة.
بتيو : لقد أعطيته أربعة مثلها، فلم يفعل لي شيئًا.

(يقترب نرم وسوكتي، ولكن يدخل رحيو فيهربان، ويتبعهما بتيو مُنزعجًا فيقع فيقوم ويقع حتى يختفي.)

الواقعة الخامسة

(رحيو – ساتني – ثم يوما والوكيل)
رحيو : ماذا يريدون منك؟
ساتني (إلى رحيو) : إنهم يتبعونني إلى هنا، ويظنون أن لي قدرة فوق قدرة البشر، ويطلبون مني المعجزات.
رحيو : أوَ لم يروا منك معجزتين؟
ساتني : حاشا أن أكون أتيت بواحدة.
رحيو : بلى وستأتي بغيرهما، وتشفي زوجتي مييريس.
ساتني : ليس في وسع أحد شفاؤها، لا أنا ولا غيري.
رحيو : إذن فعدها بالشفاء، ولا تنزع من قلبها الأمل.
ساتني : وكيف أستطيع الوعد بما لا أملك؟
رحيو : قل لها إنك ستدعو ربك، وأن قد يأتي يوم …
ساتني : لا ربَّ لي أدعوه، ولو كان لهذا العالم رب فهو عظيم القدر، عالي المكانة، بعيد عنا، لا يشبهنا في شيء، فلا تصل إليه أصواتنا، وهل تظن أن عملًا من أعمالنا مهما عظُمت، أو صلاة من صلواتنا مهما خلُصت، يؤثر على مشيئة ذلك الرب؟ إذن لو اعتقدتَ بوجوده، ثم جعلته خاضعًا لإرادة عبيده؛ لكفرتَ به من حيث تؤمن، وأنزلته منزلة تأباها عظمته وكرامته.
رحيو : ولكن آلهتنا على الأقل لا تغلق دوننا باب الأمل.
ساتني : ابقَ عليها إذا شئت.
رحيو : لقد زعزعت في قلب مييريس الإيمان بها.
ساتني : أوَ آسفٌ أنت على ذلك؟
رحيو : لم آسَف للآن ولكن …
ساتني : ماذا تعني؟
رحيو : أعني أنه يحسن بك أن لا تقطع رجاء مييريس من رد بصرها إليها، وإن كنت واثقًا أنه لا يعود، بل منِّها به.
ساتني : لئن منَّيتُها لاضطررت أن أُمنِّي غيرها بما يرجوه، أفترى إذا كان طفلٌ مريض استطعتُ بما أوتيت من العلم أن أشفيه وكان ذلك أمرًا ميسورًا، أو أن امرأة وهمت أنها مريضة، فمسَّت طرف ردائي، فظنت أنها شُفيت وكان ذلك مقدورًا، أأدَّعي أنا أني من القادرين، وأحط بنفسي إلى منزلة الكهنة والساحرين؟ لقد كان ورائي الآن قطيع من البؤساء يضرعون، ويزعمون أني نبي أو رسول أو إله مما يعبدون، وأن لي من القدرة ما أستطيع به شفاء مرضاهم، وتحقيق أمانيهم، وكثيرًا ما يزعمون، أكان فرضًا عليَّ إذن أن أخدعهم جميعًا وأوافقهم على ما يدَّعون؟ لقد أتيت مُكذِّبًا لما بين أيديهم، أفأكون أنا أيضًا من الكاذبين؟
رحيو (بحدَّة) : ها ها، أنت لا تريد أن تكذب، لا تريد أن تكذب على المساكين لتخفف من شقائهم، لا تريد أن تكذب على مييريس لتُبقيَ على بعض آمالها، لا تريد أن تكذب على أحد؟
ساتني : قط.
رحيو : إذن فلنرَ (يُنادي جهة اليسار) يوما، ائتوني بيوما. (إلى ساتني) وتلك أيضًا لا تكذب عليها؟ إذن فإذا أتتك فلتقل لها إنك من البشر مثلنا، وأنك لم تُمنح قوة فوق ما لنا، وأنك لم تأتِ أمس بالمعجزة التي هالتنا، وسترى إذا صدقتك أنها مسلِّمة نفسها للكهنة أو منتحرة، فما أنت صانع؟

(تدخل يوما وتود أن تركع أمام ساتني، فيمنعها، وفي تلك اللحظة يدخل الوكيل ويُلقي كلامًا في أذن رحيو فيضطرب رحيو ويقول):

رحيو (للوكيل) : وهل أقبل؟
الوكيل : نعم بذاته.
رحيو : إذن فهذا أمر من فرعون.
الوكيل : نعم.
رحيو : ويلاه! (يخرج مع الوكيل).

الواقعة السادسة

(ساتني – يوما)
ساتني : ما بكِ، وما لي أراكِ حزينة؟
يوما : إنك سترغب عني، وقد ظهر أنك إله.
ساتني : اطمئني فلستُ بإله.
يوما : إن لم تكن إلهًا فأنت منه قريب، وما تتزوج إلا من بنات فرعون.
ساتني : ستكونين زوجتي.
يوما : أوَ تقسم؟
ساتني : نعم.
يوما : اقسم بآمون (ترجع في قولها) بل بربك.
ساتني : ولكن ربي لا شأن له فيما بيننا.
يوما : إذن من يتولانا؟
ساتني : لا يتولَّانا أحد.
يوما : إنك تكتم السر عني، أتظنني فتاة ساذجة، أم تهزأ بي؟
ساتني : ويحك لا هذا ولا ذاك، وما حاجتك إلى قسمٍ وأنا أهواكِ، وسأتخذك زوجًا؟!
يوما (مُشرقة) : أأكون زوجتك؟ أأصبح أنا يوما الحقيرة زوجة رجل يأمر السماء فتنقض؟ (تسكت قليلًا) كلما تذكرتُ أنك أطلقتَ الرعود لأجلي …
ساتني : كلا أيتها المغرورة، إني لم أطلق الرعد.
يوما : حسنًا، حسنًا لقد فهمت، أنتَ لا تريد أن يعلم الناس أنك عثرتَ على كتاب الحكمة، كتاب توت، اطمئن سأكتم الأمر (تضع ذراعيها حول عنقه، وتقترب منه مُداهِنة حتى يكاد وجهها يلمس وجهه) خبِّرني كيف وجدته؟
ساتني : لم أجد هذا الكتاب وما بحثتُ عنه، وما أحطت برموزه السحرية علمًا، وما كان لو وجدته بنافعي شيئًا.
يوما : اجلس، ألا تريد أن تجلس؟ يُقال إن هذا الكتاب موضوع في ثلاثة صناديق مدفونة في قاع البحر.
ساتني : لقد قلت لكِ إني ما وجدته ولا بحثت عنه.
يوما : إذن فما الذي صنعتهُ حتى أرسلتَ من السماء نارًا؟
ساتني : لم أرسل نارًا من السماء.
يوما : عجبًا! إذن لا أهواك (ثم تقول بخلاعة) كلا بل أهواك، أهواك، (تسكت قليلًا) إذن لمَّا سافرت بك السفينة كان يُعجبك منظري وأنا أجري حافية القدم وراءها على الشاطئ.
ساتني : نعم.
يوما (بغضب) : تكلم تكلم، (تداعبه) أما خنقك البكاء إذ ذاك؟ لا؟ بلى وقد بُحت لي بذلك، أما أنا فلا أدري؛ لأني لم أرَك إذ ذاك، ولكني رأيتك لما عدت وعلمتَ أني اصطُفيتُ لأكون قربانًا للنيل، رأيت وقتئذٍ عينيك … إنك تحبني … وقلت إنك تحول بيني وبين النيل فما صدقتك، حتى بالأمس أيضًا، وبالرغم من أقوالك كنت عازمة على أن أهرب وأذهب إلى الهيكل، فلما تجلت علينا مقدرتك آمنت بك وبقولك، أما هززتَ السماء والأرض لأجلي؟
ساتني : كلا.
يوما : عُدنا. أراك لا تثق بي، أتظن أني أبوح بما توصيني بكتمانه؟ (تضع يديها على خدَّي ساتني) أما أنت …؟
ساتني : قلت لكِ كلا، وألف مرة كلا.
يوما : إذن فهي آلهتك، آلهتك التي لا أعرفها.
ساتني : كلا.
يوما : إذن فمن؟
ساتني : لا أحد.
يوما (مستاءة) : آه (سكوت) إذن فليست قدرتك فوق قدرة باقي البشر.
ساتني : كلا.
يوما (يائسة) : كأني بك تقول الحق؟
ساتني : ولا ريب فيه.
يوما : ما أشقاني!
ساتني : لماذا؟
يوما : كان ذلك أشهى (سكوت طويل) ولكن الصعود إلى السفينة المقدسة في النيل أشهى إلى قلبي وأحلى!
رحيو (متأثرًا) : ادخلي يا يوما (إلى الوكيل) خُذها إلى مولاتها وأخبرها بما صار (يخرج الوكيل ويوما).

الواقعة السابعة

(رحيو – ساتني)
رحيو : ساتني، بلغني نبأ هائل! علمت أن فرعون لما شعر أن القوم انصرفوا عنه وأخذوا يكيدون له، أراد أن يكون البادئ بالشر، فكنت أول من أصابتهم نَقمته؛ إذ صادرني في مالي، وقضى عليَّ بالنفي من مصر، وقد أتى إليَّ كبير حاشيته حاملًا أمره، يدعوني فيه أن أبارح داري، وأسلم نفسي للجيش المسافر إلى الحبشة.
ساتني : ألا تستطيع شيئًا ضد هذا الأمر؟
رحيو : نعم أستطيع، أستطيع قتل حامله.
ساتني : أتقتل؟
رحيو : اسمع، إني مرشدك إلى وسيلة تُروِّج بها مبادئك، وتخدم بها مصالحي فتحل مكانًا عليًّا، إني مسلِّح كل رجالي، وسأجعلك عليهم وليًّا، وسيطيعونك ما شئت؛ إذ يعتقدونك إلهًا أو نبيًّا، لا تقاطعني واستمع، سيخشاك الجند فلا يعصون لك أمرًا، فإذا قتلنا فرعون وكبير كهنته أصبح لنا مُلك مصر طرًّا.
ساتني : لا أود القتل.
رحيو : ليكن ما شئت، فاكتف بأن تنذرهم أنك معيد عليهم ما رأوه من معجزاتك الأولى.
ساتني : ولا أود الكذب.
رحيو : إذا كنت لا تود أن تقتل ولا أن تكذب، فلا تُمنِّ نفسك يومًا أن تصل إلى منصة الأحكام.
ساتني : إني جئت لأحارب الأفاكين من كهنة آمون، لا لأعمل ما يعملون.
رحيو : لن تنتصر عليهم إلا إذا حاربتهم بسلاحهم، فاغتنم الفرصة، ولا تنكر ما يعتقده الملأ فيك من القدرة، واعلم بأنك إذا اقتصرت على التأثير على عقولهم دون أوهامهم، لا يتبعونك ولا يستسلمون لك، أنت أكثر منهم علمًا؛ فلك عليهم سلطان، فإذا أردت أن تسمو بهم إلى قمم المجد، فاربط عيون من يعتريه الدوار منهم عند الصعود.
ساتني : لا أستطيع.
رحيو : كأني بك تخشى أن تسود عليهم؟
ساتني : إنك لا تهتم بسيادتي عليهم، اهتمامك بشفاء غليلك، وتحقيق مطامعك.
رحيو : إنهم يريدون أن يجروا أهل مصر إلى حرب ظالمة قاسية لا خير فيها والقوم متقاعدون، فلما علموا أنهم للقتال لا ينهضون، أجلوا رحيل الجيش إلى يوم المعجزات؛ إذ تنطق المعبودة بما يشتهون، فغدًا تُساق تلك الجموع إلى الحرب سوق الأنعام، وأنت قادر على خلاص الألوف منها بتضحية بعض النفوس.
ساتني : الحق يعلو بلا حاجة إلى الكذب أو الدماء.
رحيو : يستحيل، فإن الجموع كالحسناء، تخدعها الأباطيل، فإذا خدعتها أو قهرتها ملكتها.
ساتني : كفاك ما قلته فاقصر اللسان.
رحيو : ما أنت إلا عنيد أو أعمى أو جبان.

(تدخل مييريس تقودها يوما.)

الواقعة الثامنة

(رحيو – ساتني – يوما – مييريس – ثم رجال شتى، وبتيو وسوكتي ونرم)
مييريس : رحيو … أين أنت …؟ (يوما تقودها نحوه) أصحيح ما علمتُه؟ أنُفيت وصودرت؟
رحيو : نعم.
مييريس : تشجَّع ولا تجزع، أما أنا فلا فرق عندي بين قصر وكوخ.
رحيو (إلى ساتني) : ألا زلت مُصرًّا على إبائك يا ساتني؟
ساتني : لقد قلت لك إني لا أحب القتل.
مييريس : وأنا معك يا ساتني، القتل قبيح … ولكن أنا، انظر لقد أصبحت فقيرة، وعن قريب سأرحل عن هذه الديار، فهل تُنعم عليَّ بالشفاء؟
ساتني (بارتباك) : لو استطعت لكنت فعلته من حين يا مولاتي.
مييريس : أعلم أنك قادر، إنك قادر، فأتِ بمعجزة.
يوما : نعم ائتنا بمعجزة، وأثبت لنا أن ربك أعزُّ من أربابنا، فإذا لم تفعل فإني ذاهبة بالرغم منك ومن غيرك، لأقدم نفسي للكهنة قربانًا أو أنتحر.
رجل (داخلًا) : اشفنا، اشفنا.
ساتني : لا أستطيع.
رجل آخر : المعجزات طوع يديك.
ساتني : لا معجزات.
رجل : إذن فليست آلهتك بأعز من آلهتنا.
ساتني : لا آلهة لكم.
الرجال (يُزعجهم كفره) : أوه!
رجل : لمَ تصرفنا عن آلهتنا، إن لم تكن لديك آلهة أخرى مكانها؟
آخر : لن نغفر لك تحقيرك آلهتنا.
رجل : سنسلمك إلى الكهنة حتى لا تقتص منا الآلهة إذ استمعنا لك.
آخر : سيقتص منا آمون!
ساتني : كلا.
رجل : ستتخلى عنا إيزيس!
ساتني : لا تسوء حالكم عما أرى.
آخر : إذن فأثبت لنا أنك أقوى من آلهتنا.
مييريس : بمعجزة.
رحيو : إنه أقوى من آلهتنا.
يوما : ائتنا بمعجزة أو دعني أموت.

(الثلاثة يتحدثون معًا.)

ساتني : أتريدون معجزة؟ أتريدون معجزة؟ حسنًا، فسترون معجزة عبرة للعالمين، هيا هيا ائتوني من حقولكم بكل مُكب على الأرض يحرثها، أو قائم على المياه يرفعها، هيا فائتوني بأرقائكم وأُجرائكم، وصنَّاعكم البؤساء وعمالكم، وادعوا إليَّ قاطعي الأحجار وحاملي الأثقال، وارفعوا عنهم الأسواط ليخلصوا إليَّ.
مييريس : وما أنت صانع بهم؟
ساتني : أرشدهم إلى ما اختلفتم فيه.
مييريس : مباغتة بلا تمهيد؟
ساتني : نعم، بلا تمهيد.
رحيو : أتظنهم مستعدين لفهم ما تقول؟
ساتني : أراك خائفًا.
رحيو : كلا، ولكني أعلم أن النهار لا يعقب الليل على الأثر، وأن بينهما شفق الفجر.
ساتني : إنما أريد أن أريهم نور الحق ساطعًا يأخذ سناه بالأبصار، فتشرق عليهم شمس الحقيقة مهتكة الأستار، لا حجاب اليوم ولا أسرار، ومن الضلال إبقاء هذه الأمة في ظلمات الضلال، وتركها تتعثر في أذيال آمالها، ولن تتحقق تلك الآمال، تُمنُّونهم بحياة أخرى؛ لتسلبوا منهم نعيم هذه الحياة، وتستحلون كدَّهم وأجرهم، وتعدونهم جزاء أوفى باسم الله؟
رحيو : إنهم قوم فقراء …!
ساتني : وهل كان علم الحق وقفًا على الأغنياء؟ أما كفاكم أسر الأشباح فتودون أيضًا أسر الأرواح؟ ها هم (يدخل تدريجًا عبيد وصناع شتى، حتى يمتلئ بهم المرسح وفيهم باخ وسوكتي وبتيو القزم) ها هم ضحايا الجهل، ها هم إخوان الشقاء. لقد عرفتهم، فقد وسم الذل جباههم، وأحنى الكد ظهورهم، أما أنت راعٍ، أيطعمونك مثل ما يُطعمون الأنعام التي ترعاها، أم يثخنون ظهورها بالسياط التي طالما تصلاها؟ إنهم يحقرونك وأنت من البشر، ويقدسون ما ترعاه من الغنم والبقر، وأنت أيها الزارع، تزرع ويحصدون، وتجوع ويشبعون، تقوم نهارك تحت شمس مُحرِقة، تطن في آذانك الزنابير، وتهب في وجهك رياح لافحة؛ كأنها زفرات السعير فتقطع سنابل القمح الغزيرة، ثم تأوي ليلك إلى حفرة حقيرة، فيأكل مواليك مما حصدت أكلًا شهيًّا، وينامون على فُرُش ناعمة نومًا هنيًّا، وأنت يا رافع الماء من بطن النهر لريِّ الحقول، القائم على عمله من قبل السحر إلى ما بعد الأفول، أتُراك أسعد حظًّا من تلك الماشية التي شُدَّت إلى الساقية؟ وأنت يا نازع الأحجار من بطون الجبال لتقيم آثار مجد وجلال، وحافر القبور في جوف الصخور، وباني الأهرام لرفات وعظام، أين تنام؟ أما في العراء تحت القبة الزرقاء؟ أوقفت حياتك على إحياء ذكر مَن مات، فكانوا بك أحياء وكنت بهم في الأموات، وأنت يا مُربي الأسود ليوم القتال، أين أبوك؟ أما افترسه الأسد فما بكاه أحد؟
فويلكم يا قوم، حتى ممَّ تقيمون على هذا الضيم، كيف ترضون بالشقاء والكد مع الفقر والضعة، ومواليكم لا يعملون وهم في عزٍّ وسعة؟ لقد قالوا لكم إن ربًّا اسمه آمون رع يقول: اصبروا فلن يطول هذا الحَيْف بكم أكثر من أيام حياتكم … يا للغفلة أبهذا تنخدعون؟ يقولون لكم: ما دُمتم في هذه الحياة الدنيا فكدُّوا واعملوا، وليجنِ غيركم ثمرة ما تعملون، واصبروا على الجوع وأنتم غيركم تُطعمون، واحتملوا الأسى في سبيل من لا يرحمون، وناموا في العراء يا رافعي القصور والمعابد، واقضوا فاقةً يا صانعي السبائك وصانعي القلائد، وانظروا نعمة السعداء منكم ولا تغبطوهم على ما فاتكم، فإن هذا الحيف لا يطول أكثر من أيام حياتكم، ثم إذا انتقلتم إلى الأخرى، وجدتم ثم وجدتم مُلكًا كبيرًا وخيرًا كثيرًا؛ ألا إنهم من الكاذبين، فلا تصدقوا ما يقولون، فلا هناك كما يدَّعون برزخ أرواح ولا دار عليين، ولا حياة لكم بعد هذه الحياة لو كنتم تعقلون، ولقد استعبدوكم بما أقاموا لكم من النُّصُب والأزلام، وبما ألزموكم من عبادتها والسجود لها، يقولون لكم اجثوا أمام هذا المعبود فهو منتقم جبار، أو اسجدوا لذاك فهو كريم ستَّار، وألقوا في أفئدتكم أن آلهتكم ذوو بطشٍ وسلطان، ثم حجبوهم في هياكلهم لا يسمحون لكم برؤيتهم إلا مرة في العام تغريرًا بكم وإرهابًا لكم، وعلموكم أن ليس لأحد من البشر أن يمس صور آلهتهم، وأن من يمسها يُصعق، وسأريكم أنهم كاذبون، هاكم كبيركم آمون١ أبو الآلهة كما يزعمون، فسحقًا له وليكن من الهالكين، ما أنت إلا رجس من عمل الساحرين، فعليك لعنة الأولين والآخرين، بما خدعتهم في آمالهم وما يرجون، من فقيرٍ وأسيرٍ ومريض ومحزون، عليك لعنة الأجيال الأولى، بما بكت وأنَّتْ وتحملت باسمك من البلوى، عليك لعنة المظلوم وقد أخرسه خوف بطشك ونقمتك، عليك لعنة الصابرين بما صبروا أملًا في رحمتك، عليك اللعنة بما أصابني منك قائمًا ومن كهنتك، وبما سيصيبني وقومي بعد زوال دولتك، فمتْ (يُلقي في وجهه معقدًا فيحطمه) وأنتم يا قوم افعلوا مثل فعلي، تسلقوا هذه القوائم، أزيلوا هذه المعالم. لا تخشوهم فهم جماد لا يعقلون، وحطِّموهم فهم لا يشعرون، ابصقوا في وجوههم، اصفعوهم ما هذا إلا طين!

(يهب القوم وكانوا يقاطعون ساتني بتمتمتهم وأصوات استغرابهم، فيقتربون من التماثيل، ويفعلون فعله، وهم يزأرون غضبًا واستخفافًا، فإذا بدأ أشجعهم بمد يده إلى الأصنام يتبعه الآخرون فيقلبون الآلهة عن مقاعدها.)

رحيو : والآن أشواني مفتوحة لكم فخذوا منها ما تشاءون (إلى الوكيل) وليذبحوا لهم من غنمي ما يشبعهم أجمعين.

(صياح وفرح، ويخرج القوم متباطئين، وفي أثناء ذلك يقترب بتيو من تمثال ساقط مترددًا وبه بقية خوف منه، فيرفصه بقدمه، ثم ينجو بنفسه فيقع فيقوم، ثم ينظر إلى نفسه فلما يتيقن أنه لم يُصب بسوء يجلس على بطن أحد الآلهة ويرقص ضاحكًا.)

بتيو : ها ها ها، ها ها ها، ها ها ها.

(ثم ينظر تمثال إيزيس الصغير وقد أحاطته مييريس بذراعيها فيشير إلى رجلين فيقتربان من التمثال.)

يوما : مولاتي، إنهم يرُومون أخذ إيزيس.
مييريس (بجزع) : بل دعوها لي.
رحيو : كلا يا مييريس.
مييريس (تبتعد عنها) : خذوها … بل انتظروا.
رحيو : ما بالكِ؟
مييريس : أأستطيع أن أدَعها قبل أن أوَدعها، إن ساتني لما هاج سخطه على آلهتنا لم يُسمِّها، انظر إليها أنت الذي تستطيع أن تراها، وتذكَّر كم من الدموع قد سكبتها على صورتها، إنها كانت منذ حلت دارنا كأنها بعض أسرتنا، فكم عيون لامعة بالآمال تعلقت بعينيها المُطفأتين كعينيِّ، إني أقدسها لا تقديس المعبودات وقد دالت دولتها، لكن أُقدس فيها ذكرى الآلام التي رأتها والدموع التي تلقتها … صدقت لا بُدَّ من تحطيمها، ولكن لأودعها (تخاطب التمثال) إيزيس إنكِ لم تشفني، ولكني كنت أجد العزاء في قربك، وعجبًا كيف كانت ترتفع لك الأصوات من أعماق القلوب، وأنت جماد لا يسمع ولا يعي؟ لقد عبدك الناس لا لحياة ذاتية فيك، ولكن لحياتك في قلوبهم، وهي بعض حياتهم، فإذا مت اليوم؛ فلأنهم سلبوا منك روحهم التي تعلقت بك، سأسلمك إليهم ليحطموكِ، فسلامًا عليك بما منحتني من الصبر والسلوى، وسلامًا عليك بما آتيتني من الآمال وإن خابت، وسلامًا عليكِ بما خففتِ عن قلبي من الهموم والأحزان! (للرجال) خذوها وحطموها إذا شئتم، ولكن بإشفاق.

(يذهبون بالتمثال.)

ساتني (إلى يوما وقد بقيت بعد خروج القوم) : انظري يا يوما، قد ماتت الآلهة وأنا حيٌّ أُرزق، انظري إليهم، أتصدقينني الآن؟

(تنظر يوما إلى التماثيل المحطمَة بحزن شديد، ثم تجهش بالبكاء أمام ساتني وهو مندهش.)

هوامش

(١) آمون أو أمون رع معبود مصري قديم، نشأت عبادته في طيبة؛ حيث شيدوا له معبدًا بها في عهد العائلة الثانية عشرة، ووسعته العائلات التالية لها، حتى صار ذلك المعبد العظيم الذي نعجب اليوم بأطلاله الفخيمة في الكرنك، وكان الطريق من طيبة إليه محفوفًا بتماثيل الحملان؛ إذ كان الحمل (الخروف الصغير) هو الحيوان المكرس لذلك المعبود، حتى إنهم كانوا يربون أحد الحملان بمدينة طيبة، ويعنون به، ويعتقدون أن روح المعبود حالة فيه، ويمثلون آمون على الآثار تارة برأس حمل وأخرى برأس إنسان وقرني حمل وعلى رأسه قرص الشمس (رع)، وريشتان عظيمتان، وفي إحدى يديه صولجان وفي الأخرى علامة الحياة، وبنى له ملوك العائلة الثامنة عشرة معابد في «نباته» عاصمة الحبشة إذ ذاك، وفي واحة من واحات ليبيا سُميت باسمه، وقد اعتلى الملك كهنة آمون بطيبة حينًا، ثم خلعوا منه فأووا إلى الحبشة حيث نشروا عبادة ربهم، ثم عادوا لمصر، وعظمت كلمتهم، وتقوى دينهم حتى ظهور المسيحية بمصر فزالت دولة الأوثان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤