المبحث الأول

المنطق، مفهومه وفائدته وعلاقته بالعلوم الأخرى

أولًا: ولكن … ما المنطق؟

كلمة منطق من ناحية الاشتقاق اللغوي تدل أولًا على الكلام أو النطق، كما تشير — من ناحية أخرى — إذا نظرنا إلى الكلمة اليونانية (Logos) إلى أنها توحي بالعقل، أو الفكر، أو البرهان. وقد حبذ المترجمون العرب ترجمة اللفظ اليوناني بإرجاعه إلى الاشتقاق اللغوي، فدلوا بالمنطق على الكلام أو النطق.١
ولا نعرف على وجه الدقة من هو أول من استعملها اصطلاحًا، ولا في أي عصر. وأرجح ما قيل في هذا ما افترضه برنتل Prantl. تبعًا لإشارة من بوثتيوس Boethius من أنه من الممكن أن تكون من وضع شراح أرسطو، وضعوها اصطلاحًا من أجل أن يقابلوا بين الأورجانون الأرسطي وبين الديالكتيك عند الرواقيين (ولعل ذلك كان في عهد أندرونيكوس الرودسي). وعلى كل حال فقد استعملها شيشرون في كتابه De Finibus ويدل استعمالها عند الإسكندر الأفروديسي وجالينوس على أنها قد أصبحت شائعة في عصرهم، أعني في القرن الثاني بعد الميلاد.٢
غير أن كلمة Logos في اليونانية تدل على العقل أو الفكر أو البرهان. ومن هنا كان من الميسور استخدام اسم صفة منها يدل على الفكر والبرهان والتفكير العقلي. أما في اللغة العربية فقد وجدنا بعض فلاسفة العرب قد آثروا أن تدل على الكلام أو التلفظ أو النطق؛ حيث ميزوا بين نوعين من النطق: النطق الظاهري، والنطق الباطني، الأول يشير إلى الكلام أو التحدث، والثاني يشير إلى المعقولات، ومحاولة إدراكها، وفي ذلك يقول الجرجاني: «المنطق يدل على الظاهري وهو التكلم، وعلى الباطني، وهو إدراك المعقولات، وهذا الفن يقوي الأول، ويسلك بالثاني مسلك السداد»، وبهذا الفن يتقوى ويظهر كل معاني النطق للنفس الإنسانية المسماة بالنفس الناطقة، فاشتق له اسم «المنطق».٣ ويقول التهانوي: «وقد قالت العرب: نطقت الحمامة، والذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير، هو ما يفهم بعضه البعض من مقاصده وأغراضه، وإنما سمي بالمنطق لأن النطق يطلق على اللفظ، وعلى إدراك الكلمات، وعلى النفس الناطقة …»٤

وبهذه التفرقة أعطوا الكلمة مدلولها الأصلي والاصطلاحي معًا، وهي تفرقة ترجع بدورها إلى أرسطو نفسه.

والآن وبعد هذه الإشارة السريعة للأصل الذي اشتق منه لفظ «منطق»، كيف يمكننا تعريف هذا العلم؟

فإنه لمن الصعب تمامًا إعطاء تعريف دقيق ومختصر للمنطق يكون موضع إجماع الفلاسفة في القديم وفي الحديث، والسبب في ذلك هو أن معاني وتعريفات المنطق قد تعددت على نحو يسمح لنا بالقول بأنه لا يوجد فرع من فروع المعرفة الإنسانية قاطبة قد تعددت معانيه كما تعددت معاني وتعريفات المنطق. ألم يستخدم لفظ منطق ليدل — في بعض الأحيان — على كل ما تعنيه الفلسفة، بل على كل ما تعنيه المعرفة الإنسانية قاطبة؟ ألم يطلِق هيجل لفظ «منطق» على كل المعارف التي تمتد من دراسة الميتافيزيقا حتى الإستاطيقا (علم الجمال أو منطق الجمال كما يحلو لشيخ الفلاسفة الألمان أن يسميه)، مارِّين بعلم النفس، ونظرية المعرفة والرياضيات … إلخ؟

بيد أننا كما يقول أستاذنا الدكتور حسن عبد الحميد: «لا نستطيع أن نقبل هذا المفهوم للمنطق، وإلا اضطررنا أن نعالج الفلسفة كلها موضوعًا وتاريخًا. فلنبدأ إذن — وكما يقول مؤرخ المنطق الشهير بوشنسكي Bochenski — باستبعاد المباحث التي دأب الفلاسفة على معالجتها ضمن ميادين أخرى غير ميدان المنطق، ولنستبعد كذلك من تعريفنا للمنطق نظرية المعرفة ونظرية الوجود والمنطق المفارق».٥

والسؤال الآن — وبعد هذا التحديد الأولي لميدان دراستنا — هو: كيف نُعرِّف المنطق؟

قد يكون من المفيد ونحن بصدد الإجابة على هذا السؤال أن نستعرض بعض التعريفات التي أعطاها المناطقة قديمًا وحديثًا لعلم المنطق كي تعيننا على تحديد ما يعنيه المناطقة الآن «بالمنطق الصوري». وأول هذه التعريفات هو:
  • (١)
    تعريف أرسطو: يعرف أرسطو المنطق بأنه: آلة العلم، وموضوعه الحقيقي هو العلم نفسه، أو هو صورة العلم. وهذا هو التصور القديم للمنطق، وقد أثر تعريف أرسطو للمنطق في العصور الوسطى إسلامية ومسيحية. فردد الإسلاميون التعريف كما هو، وكذلك فعل المسيحيون.٦
  • (٢)
    تعريف ابن سينا: فنرى شارح أرسطو العظيم ابن سينا (ت٤٢٨ﻫ) يعرف المنطق بقوله: «إنه الصناعة النظرية التي تعرفنا من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدًّا، والقياس الصحيح الذي يسمى بالحقيقة برهانًا».٧ وهذا التعريف أرسططاليسي بحت، يتضمن تفسيرات المعلم الأول للمنطق كما يتضمن تقسيماته له. وتفسير تعريفه أننا إذا وصلنا إلى التعرف التام بواسطة الحد، وصلنا إلى أولى درجات العلم، وإذا وصلنا إلى القياس البرهاني، وصلنا إلى غاية العلم نفسه.٨
  • (٣)
    تعريف الساوي: ولم يختلف «ابن سهلان الساوي» (ت ٤٥٠ﻫ) صاحب البصائر التعبيرية عن هذه التعريفات السابقة، فيقول: «إن المنطق قانون صناعي عاصم للذهن عن الزلل، مميز لصواب الرأي عن الخطأ في العقائد للتوصل إلى السعادة الأبدية».٩ إن تحديد الساوي للمنطق بأنه قانون صناعي يدل دلالة واضحة على الاتجاه العملي للمنطق عنده. ولكن هل معنى هذا أن المنطق عنده فن لا علم؟ لن نبحث الآن في هذه المسألة، بل سنبحثها فيما بعد. إنما نلاحظ على ما ذكره الساوي مسألة توافق العقول السليمة. هل حقًّا تتوافق العقول السليمة أم لا تتوافق؟ إن هذه المشكلة أخذت صورًا متعددة من الخلاف، بعضها منطقي، وبعضها ميتافيزيقي. أما من الناحية المنطقية فلم تعد لكثير من القوانين المنطقية التي سلم بها العقل منذ القدم صحتها ويقينها، بل إن قوانين الفكر الأساسية، وهي مبادئ بديهية، وضعت موضع النقد، وتناولها المناطقة الرياضيون المحدثون من وجهة نظر مخالفة للمنطق القديم، وشك فيها المسلمون من قبلُ وخرجوا في كثير من أبحاثهم عليها، والقياس وصورته اليقينية (البرهان) هوجم في العصور الوسطى من المسلمين، كما هاجمه المحدثون من المناطقة الأوروبيين. أما من الناحية الميتافيزيقية، فقد اختلف العلماء المعاصرون في فرنسا في مسألة اتفاق العقول وتطورها. هل تتفق حقًّا أو لا تتفق؟ وهل تتجه في تطورها نحو المتماثل أو نحو المتباين؟ نحو الوحدة أو نحو التعدد؟
    والملاحظة الثانية، على ما يذكره الساوي: هو أنه يعتبر المنطق عاصمًا للذهن من الخطأ في العقائد، والعقائد هنا، هي ما يعتقده الإنسان من أفكار على العموم، ولا يقصد بها المعنى الاصطلاحي لكلمة العقائد. والتعريف في جوهره أرسططاليسي، وإن شابته شائبة رواقية.١٠
  • (٤)
    تعريف الغزالي: أما الغزالي فيحدد المنطق بقوله: «المنطق هو القانون الذي يميز صحيح الحد عن غيره، فيتميز العلم اليقيني عمَّا ليس يقينيًّا، وكأنه الميزان أو المعيار للعلوم كلها».١١ وقد سيطر تعريف الغزالي هذا للمنطق على تعريفه له في كتبه الأخرى، بحيث نراه واضحًا في معيار العلم ومقدمة المستصفى ومحك النظر، إذ إنه عالج المنطق في هذه الكتب، في ضوء هذا التعريف، على أنه قانون وآلة يتميز بهما صواب الفكر عن خطئه.١٢
  • (٥)
    تعريف القديس توما الإكويني: ويعرف شيخ الفلاسفة الغربيين في العصور الوسطى المنطق بأنه ذلك الفن الذي يؤهلنا لامتلاك المعرفة بنظام وسهولة، وبدون خطأ في العمليات العقلية.١٣
  • (٦)
    تعريف آخر فلاسفة مناطقة بورت رويال Port Royal، وهو التعريف الذي اشتهر عن المنطق إبان القرن السابع عشر، والذي افتتح به فلاسفة هذه المدرسة كتاباتهم المعروفة باسم «المنطق أو فن التفكير». ذهب أعلام هذه المدرسة إلى أن «المنطق هو فن استخدام عقولنا استخدامًا سليمًا في معرفة الأشياء، سواء كان ذلك من أجل تعليم أنفسنا أو بهدف تعليم الآخرين.»١٤ وهذا التعريف هو الآخر غير دقيق، فليس المنطق فنًّا يختص بالاكتشاف والبرهنة. إن المنطق علم نظري يهتم — كباقي العلوم النظرية، وبالأخص الرياضيات — بالناحية الصورية التي لا تكترث بالتطبيقات العملية.١٥
  • (٧)
    ويُعرف المنطق عند جيفنوس Jevons بأنه علم قوانين الفكر، وعند هاملتون Hamilton بأنه علم قوانين الفكر كفكر، وعند كينز Keynes بأنه علم المبادئ العامة للتفكير الصحيح، وهو في نظر أمثال رابييه Rabier نتيجة لانعكاس العقل على ذاته، مستخلصًا منها ما تخضع له استدلالاته، التي قد تتفق مع الواقع، لذلك فهو يعبر عن اتفاق العقل مع ذاته، واتفاق العقل مع الأشياء.١٦
  • (٨)
    ويعرف المنطق بأنه دراسة القواعد والطرق والمبادئ المستخدمة في تمييز الاستدلال الصحيح من الفاسد.١٧ ولكن هذا التعريف ليس دقيقًا، فقد يوحي بأن المرء لا بد من أن يصبح بدراسة المنطق قادرًا على أن يستدل استدلالًا حسنًا، وهذا ليس هو الواقع. فالشخص الذي يدرس المنطق يكون أكثر احتمالًا فقط لأن يستدل استدلالًا أكثر صحة منه عندما لا يكون لديه فكرة عن القواعد العامة المتضمنة في تلك الاستدلالات.١٨
  • (٩)
    ويعرف المنطق عند وولف Wolf بأنه دراسة القواعد الهامة للاستدلال الصحيح، كما أنه الاستدلال الصحيح.١٩ وهذا التعريف أحسن بكثير من التعريفات السابقة، ولكنه ما زال غير دقيق، وغير كافٍ لتحديد موضوع المنطق، وفصل مجاله عن مجال علم النفس. وذلك لأن الاستدلال نوع من التفكير، ينطوي على استنتاجات وعلى استخلاص نتائج من مقدمات، يهتم علم النفس بالنواحي المعقدة والغامضة فيه، التي تعتمد على عمليات المحاولة والخطأ، والتي قد تنتهي بومضات واستبصارات مفاجئة، تنير الطريق إلى ما قد يعتبر نتيجة. وليس لذلك أهمية بالنسبة للمنطقي، لأنه لا يهتم بالعمليات التي تجري في الظلام، والتي يصل العقل بها إلى نتائجه، إنه يهتم فقط بصحة العملية الاستدلالية في جملتها أو بصحة صدور النتائج عن المقدمات، التي هي نقط بدايات أكيدة لها، تتضمنها وتبرهن عليها.٢٠
وعلى ذلك فإن أحسن تعريف للمنطق هو تعريفه بأنه علم صور الاستدلالات الصحيحة، التي تتضمن صورًا للقضايا. وهذا يعني أنه يختص بدراسة العلاقات التي تسمح بالاستدلال الصحيح، الذي يقوم بين مختلف أنواع القضايا باعتبار الصورة وحدها. وبذلك يكون المنطق علمًا مجردًا وصوريًّا. أما إذا اهتم بالقضايا والاستدلالات لا بصورها فإنه يكون منطقًا أقل تجردًا وأقل صورية وعمومية.٢١

هل المنطق علم أم فن؟

تثار في بعض الأحيان مسألة تتعلق بطبيعة المنطق وغايته، وهي: هل المنطق دراسة نظرية لا شأن لها بالوصول إلى المبادئ العامة للفكر أو أنه مرتبط أساسًا بطرق العمل وإجراءاته الفعلية؟ وباختصار: هل هو علم أم فن؟ لقد وقف الناظرون في هذه المسألة من المناطقة مواقف مختلفة، فمنهم من ذهب إلى أنه علم؛ لأنه — كأي علم آخر — لا يقف عند المفردات الجزئية التي يتعرض لبحثها، بل يحاول أن يكشف عن المبادئ أو القوانين التي تنطوي عليها هذه المفردات؛ فهو يشترك إذن مع بقية العلوم على اختلاف موضوعاتها في محاولة الكشف عن المبادئ التي ينطوي عليها موضوعه الخاص وهو الفكر أو صورة الفكر. لكن من الباحثين من ذهب إلى أنه فن أكثر منه علمًا، لأنه يقدم لنا تعليمات أو إرشادات لا بد أن نتبعها إذا شئنا لفكرنا أن يكون صحيحًا. وذهب بعضهم إلى أنه علم وفن في آن واحد.٢٢ وإذا شئنا أن ننظر إلى هذه المسألة من الناحية التاريخية، فيمكن القول بأنها مشكلة أثارها على هذا الوضع لأول مرة «كسيودورس» (المتوفى حوالي سنة ٥٧٠م)، من ثَم أصبحت من المشاكل الرئيسية التي يُعنى بها دارس المنطق في مستهل دراسته، وإن كنا سنجد أن لا داعي لوجودها، لأنها تنحل من تلقاء نفسها إذا ما فُهمت على الوجه الصحيح.٢٣
والأصل في هذه المشكلة أن أرسطو قد جعل الصفة الأولى للعلم أنه نزيه، بمعنى أنه يبحث في الحقيقة بغض النظر عن التطبيق عليها ومن الفائدة التي يمكن أن تستخرج من هذا التطبيق، وإنما يظل في ميدان النظر المجرد، بينما الفن أو الصناعة تعنى بإمكان تطبيق الحقائق النظرية بواسطة وضع مناهج للعمل، بل وأحيانًا بمزاولة للعمل نفسه، فالذين نظروا إلى المنطق على أنه علم، كما فعل أرسطو، يقصرون المنطق على دراسة قوانين البرهان، والذين يرمون من المنطق إلى وضع وفرض قواعد لتوجيه العقل، وبيان المناهج العلمية المؤدية إلى تحصيل المعارف في العلوم المختلفة، ويدرسون من أجل هذه الفائدة، يعدون المنطق فنًّا وعلمًا، أو فنًّا بوجه خاص.٢٤
وفي الغرب استمرت تقاليد الشراح الأرسططاليين، وعلى وجه أخص ابتداء من كسيودور حين وضع هذه المشكلة لأول مرة في هذه الصيغة، وفي العصور الوسطى كلها كان ينظر إلى المنطق على أنه فن وعلم معًا، وجاءت العصور الحديثة فظلت في البدء متأثرة بهذا الاتجاه العلمي في النظر إلى طبيعة المنطق، فنجد أن «أرنولد ونيكول» صاحبي منطق بور رويال، يعنونان كتابهما: «المنطق أو فن التفكير»، ونجد ديكارت وأصحابه يعنونون كتبهم: «قواعد لهداية العقل» (ديكارت)، «مقال عن المنهج لهداية العقل إلى الصواب، والكشف عن الحقيقة في العلوم» (ديكارت)، «إصلاح العقل» (إسبينوزا).٢٥
ولكن تقدم العلوم دفع المناطقة إلى تغيير موقفهم من المنطق بوصفه فنًّا، فقد وجدوا أن المنطقي لا يستطيع أن يفرض على العالم قواعد يجب عليه أن يسير بمقتضاها، فطامنوا من ادعاءاتهم، وبدلًا من أن يكونوا سادةً مشرِّعين للعلماء، أقبلوا يتعلمون منهم كيف يفكرون وكيف يبحثون، وما هي المناهج التي يسيرون عليها وهم يبحثون عن الحقيقة، ومعنى هذا أنهم أدركوا أن مهمة المنطقي الأولى ليست في أن يضع قواعد للتفكير الصحيح، بل أن يدرس أنواع التفكير الصحيح، وطبيعة الخطأ والصواب، ويبحث في العمليات الذهنية التي تمكن الإنسان من التمييز بينهما، ويعلم ماهية اليقين وأنواعه ودرجاته، دون فرض نوع من التفكير معين وتحريم نوع آخر.٢٦
وهكذا نستطيع القول بأن المنطق علم أكثر منه فنًّا. ولعل السبب الذي جعل بعض المناطقة يعتقدون بأن المنطق فن هو نظرتهم إليه على أنه بطبيعته معياري، أي إنه يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه التفكير الصحيح، فوقع في ظن بعض المناطقة أنه يقدم إرشادات يجب اتباعها إذا ما شئنا لتفكيرنا أن يكون صحيحًا، ولكن النظرة الحديثة إلى المنطق تخرج به عن هذه الصفة المعيارية، وتدرجه بين العلوم التقريرية التي تصف ما يحدث بالفعل وليس ما ينبغي أن يحدث، فهو يقوم بتحليل الفكر العلمي السائد بالفعل لينتهي إلى وصف هذا الفكر، فيضع الصور المختلفة التي ينطوي عليها، ويصف المناهج التي يتبعها في الوصول إلى نتائجه.٢٧

قوانين الفكر الأساسية

يبحث علم المنطق في قوانين الفكر الإنساني، والمبادئ العامة للتفكير الصحيح ووضع القواعد التي بفضلها نتجنب الوقوع في الأخطاء. يكتشف علم المنطق أن الإنسان في تفكيره يخضع لقوانين أساسية لا يستطيع أن يثبت فيها، كما أنه لا يستطيع أن يفكر بدونها، وقد نادى أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) بثلاثة قوانين أساسية للفكر الإنساني: قانون الذاتية أو الهوية، وقانون عدم التناقض، وقانون الثالث المرفوع.

  • (١)

    قانون الهوية: قانون الهوية من البساطة بحيث قد يبدو تافهًا لا يستحق الإشارة إليه؛ إذ ينطوي على أن شيئًا ما أو فكرة ما هي ذاتها، ولن تكون شيئًا أو فكرة غيرها، كقولي: الباب هو الباب، شجرة الأرز هي شجرة الأرز؛ حين نتحدث عن باب أو شجرة ما، إنما تعني الحديث عنها، ولم نتحدث عنها ونقصد في نفس الوقت الحديث عن شيء آخر. ولعل مثلًا لمبدأ الهوية بوضوح أكثر من المثالين السابقين أن نقول: الحرب الباردة حرب، أو الطالب المهمل طالب؛ أن وسائل الدعاية التي تنشرها دولة ما على عدوة لها حيث تقصد إلى التشهير بها أو الضغط عليها أو عزلها … إلخ ما زالت تسمى حربًا وإن لم تنطو على حرب فعلية تُستخدم فيها وسائل تدمير المدن وفناء أهلها، ويعبر عن قانون الهوية بقولنا: إن «أ هي أ»، أو: القضية الصادقة تظل صادقة دائمًا … إلخ.

    وقانون الهوية يعبر عنه بتعبيرات متعددة، أهمها: أ، أ = أ، وهو الشيء هو نفسه، إذا كانت القضية صادقة فهي صادقة … إلخ. وتدل جميع هذه التعبيرات على أن الهوية تعني أن للشيء ذاتيةً خاصةً يحتفظ بها دون تغيير، فالشيء إنما هو هو، فأنا الذي كنتُه أمس، سأكونُه غدًا، وهذا الكتاب هو نفس الكتاب الذي كنت أقرأ فيه صباح اليوم، ومعنى ذلك أن الهوية تفترض ثبات الشيء.٢٨
  • (٢)
    مبدأ عدم التناقض: ويتضمن ألا نثبت صفة لشيء وننكرها عليه في نفس الوقت؛ مثل قولي: إن إبراهيم موجود في الجامعة وغير موجود في الجامعة في نفس اللحظة التي نتحدث فيها، أو أن السبورة سوداء ولا سوداء، أو أن فلانًا عالم ولا عالم في آن واحد. ونعبر عن مبدأ التناقض بقولنا: لا نستطيع أن نقول: أ هي ب ولا ب.٢٩
    وقانون عدم التناقض يصاغ بعدة صور أهمها: أ لا يمكن أن يكون ب ولا ب معًا، لا يمكن أن يكون أ موجودًا وغير موجود في نفس الوقت، لا يمكن أن تكون الصفتان المتناقضتان صادقتين معًا … فهذا القانون إذن ينكر إمكان الجمع بين الشيء ونقيضه، فلا يصح أن يصدق النقيضان، فليس صحيحًا القول: إن هذا الشخص طالب وليس بطالب، ويستحيل أن يصدق القول بأني في الحجرة وليس فيها، فالجمع بين المتناقضين أمر يرفضه العقل حتى من الناحية النظرية.٣٠
    وفي الوقت الذي يكاد يُجمِع فيه مؤرخو المنطق على أن أرسطو لم يعرف قانون الهوية، تجدهم على اتفاق على أن أرسطو قد عرف قانون عدم التناقض، وقدم له صياغات محددة. بل إن لوكاشيفِتش (شيخ المناطقة البولنديين) قد نشر في عام ١٩١٠م دراسة بعنوان «حول مبدأ عدم التناقض عند أرسطو»، يوضح فيها كيف أن المعلم الأول قدم ثلاث صياغات لهذا المبدأ تتعلق بتطبيقاته في ميادين المنطق والأنطولوجيا وعلم النفس.٣١
  • (٣)
    قانون الثالث المرفوع: ويثبت أن ما يمكننا أن نثبت له صفة ما أو نقيضها، ولكن لا يمكننا إثبات صفة أخرى غير الصفة الأولى أو نقيضها؛ نقول: السبورة إما سوداء أو لا سوداء ولا يوجد لون ثالث، لاحظ أننا لم نقل: السبورة إما سوداء أو بيضاء؛ لأنه قد توجد سبورة خضراء، حين قلنا: إن السبورة سوداء أو لا سوداء فإن «لا سوداء» تتضمن اللون الأبيض والأحمر وسائر الألوان ما عدا الأسود. نقول أيضًا: فلان عالم أو لا عالم، إذا كنا نتحدث عن مقدار علم فلان فإنه ليس لدينا غير أن نثبت أنه عالم وأنه لا يعلم شيئًا، لا صفة ثالثة يمكننا أن نسندها إليه.٣٢
    ونلاحظ أن هذا القانون يقوم على حصر كل ما في الكون في فئة أو في نقيضها الذي يصدق على ما لا تصدق عليه الفئة، بحيث لا يبقى أي شيء في الكون، لا يندرج تحت الفئة أو تحت نقيضها، فليس هناك أي وسط بين الفئة ونقيضها، وليس هناك أي احتمال آخر يمكن أن يكونه الشيء، فيندرج تحت ثالث ليس هو الفئة وليس هو نقيضها، أو أن يتصف بصفة ثالثة ليست هي الصفة أو نقيضها. فهو يقرر مثلًا أنه ليس هناك ثالث ممكن بين الوجود والعدم، فالشيء إما موجود وإما غير موجود، أو بين الصدق والكذب، فالقضية إما صادقة وإما كاذبة.٣٣
    وقد دافع الرواقيون عن قانون الثالث المرفوع، وذلك لارتباطه بمبدأ الحتمية Determinism التي كانوا من أنصارها في موقفهم الفلسفي القائم على أن الكون محكوم بقانون القدر الصارم الذي لا يسمح بأي استثناء؛ إذ لا بد وأن تكون اختيارات الإنسان في الحياة اختيارًا لما هو ضروري. ولذلك نراهم يعلقون أهمية كبيرة على قانون الثالث المرفوع في الصورة الاستدلالية: إما الأول أو ليس الأول، واستخدموه في البرهنة على قانون النفي المزدوج أو تكافؤ القضية مع نفي نفيها، بالاستعانة باللامبرهنتين الرابعة (إما أن يكون الأول أو الثاني، ولكن الأول، إذن ليس الثاني)، والخامسة (إما أن يكون الأول أو الثاني، ولكن ليس الثاني، إذن الأول). ففي المبرهنة «إما الأول وإما ليس الأول، ولكن الأول، إذن ليس ليس الأول»، وصلوا إلى البرهنة على إدخال النفي المزدوج بالاستعانة باللامبرهنة الرابعة، أو بضرب النفي بالإثبات، وفي المبرهنة «إما الأول وإما ليس الأول، ولكن ليس ليس الأول، إذن الأول» وصلوا إلى البرهنة على حذف النفي المزدوج بالاستعانة باللامبرهنة الخامسة، أو بضرب الإثبات بالنفي، وبذلك برهنوا على قاعدتي النفي المزدوج.٣٤

    تلك قوانين الفكر الأساسية التي يرى أرسطو أن الإنسان يسير في تفكيره على هديها. يمكن أن ترجع هذه القوانين الثلاثة إلى مبدأ الاتساق؛ أي إن المنطق يرشدنا إلى أن التفكير الصحيح هو ما كانت بعض أجزائه متسقة مع بعضها الآخر؛ بحيث لا ينقض بعضها بعضًا أو لا يأتي بعضها منكِرًا لبعضها الآخر. كما يدرس المنطق قوانين الفكر الأساسية، يدرس كذلك المبادئ العامة والقواعد الأساسية التي يفضلها تفكيرًا صحيحًا، وبفضلها نكشف الأخطاء ومواطن الزلل في التفكير. إذ بدون تلك المبادئ والقواعد لا نستطيع أن نميز التفكير السليم والتفكير الخطأ.

قيمة المنطق

قد يقال: إن كل إنسان يخضع في تفكيره لقوانين الفكر الإنساني الثلاثة بالفطرة، وبدون تعلم المنطق. أي لسنا محتاجين لتعلم المنطق لكي ندرك أننا نخضع في تفكيرنا لقانون عدم التناقض مثلًا. وقد يقال: إننا نستطيع أن نقوم باستدلالات صحيحة دون معرفة القواعد والمبادئ التي يوصي بها علم المنطق، بل قد يقال: إن بعض الدارسين للمنطق لا يفكرون دائمًا تفكيرًا منطقيًّا، وإن كثيرًا من الجاهلين بقواعد المنطق يفكرون تفكيرًا سليمًا. قد يكون هذا يُقال، ولكن علم المنطق يكشف لنا أنه كثيرًا ما نظن أن تفكيرنا متسق. بينما هو ليس كذلك، وأن تطبيق مبادئه وقواعده يؤكد لنا سلامة تفكيرنا، كما يكشف لنا أسباب الوقوع في الخطأ، من يخطئ في استدلاله ويعرف سبب خطئه خير ممن يخطئ ولا يعرف سبب خطئه.

ردًّا على ذلك أن ليست كل نماذج الاستدلال من النوع البسيط الذي أعطيناه. ويمكن إجمال فوائد المنطق في النقاط الآتية:
  • (١)
    إن غاية العلماء والمفكرين أن يكون تفكيرهم صحيحًا، خاليًا من التناقض، وأن تكون نتائج أبحاثهم سليمة بعيدة عن الخطأ، والعلم الذي يضع القواعد التي توصل إلى هذه الغاية هو علم المنطق.٣٥
  • (٢)
    المنطق أساس العلوم جميعها، وذلك أن المنطق يبحث في قوانين الفكر، بقصد معرفة صحيحها من فاسدها. ولما كان الفكر أساس كل علم من العلوم، كان المنطق أساس العلوم جميعها، وخاصة في العصر الحديث، ذلك العصر الذي خاض المنطق فيه في جميع العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية؛ ذلك أنه هو العلم الذي يضع المناهج الخاصة بالعلوم، ويضع لأغلب العلوم مناهج خاصة بها، ومن هنا قيل: إن المنطق آلة العلوم ومعيار العلم.٣٦
  • (٣)
    ولا تقف مهمة المنطق عند وضع القوانين العامة للفكر الإنساني لكي يسلم من الخطأ، بل إنه يقوم بتطبيق هذه القوانين العامة في مناهج البحث المختلفة، بحسب ما تقتضيه طبيعة كل منهج ويقصد إليه كل بحث.٣٧
  • (٤)
    يميز الإنسان بواسطة قواعد علم المنطق العامة بين الصواب والخطأ، ويتبين مواطن الزلل في التفكير بواسطة هذا العلم.٣٨
  • (٥)
    يربي المنطق في الإنسان ملكة النقد والتقدير الصحيح، ووزن البراهين، والحكم عليها بالكمال أو النقص.٣٩
  • (٦)
    حصر الأخطاء المنطقية حتى نتمكن من سرعة اكتشافها.٤٠

علاقة المنطق بالعلوم الأخرى

يقال عادة: عصرنا هو عصر التخصص، حيث استطاع كل علم أن يقتطع من العالم جزءًا ينفرد بدراسته، فكانت الأجرام السماوية موضوعًا لعلم الفلك، والنباتات موضوعًا لعلم النبات، والخطوط والسطوح والأجسام الواقعة في المكان موضوعًا للهندسة، وصور المادة وخواصها وتحولاتها موضوعًا للكيمياء … وهكذا. ونجد لكل موضوع من هذه الموضوعات علماءه المتخصصين، بل حتى هذه الأجزاء تفرعت بدورها إلى أجزاء أصغر، لكل جزء علماؤه المتخصصون، وأصبحنا نقرأ اليوم عن علماء ينصَبُّ كل اهتمامهم على جزء صغير من موضوع دراساتهم؛ كأن نقرأ عن عالم قضى معظم حياته العلمية في دراسة حشرة صغيرة من الحشرات التي تصيب فاكهة التفاح، وعن مثل هذا العالم نقرأ الكثير والكثير. هذه سمة العصر؛ عصر التخصص الدقيق. ولكن على الرغم من هذه الحقيقة، فإن العلوم جميعها متآزرة ومتعاونة، وقلما نجد علمًا قائمًا بذاته ومستقلًّا عن كل ما عداه، إذ إن كل علم يمكن أن يستفيد من العلم الآخر ويفيد فيه على وجه لا نستطيع معه أن ننكر علاقة كل علم بالعلوم الأخرى.٤١

وإذا نظرنا للمنطق، فإننا نجده — كغيره من العلوم — يرتبط بعلاقات وطيدة بغيره من المعارف الإنسانية الأخرى. وقد يحسن بنا ونحن بصدد التمهيد لدراسة موضوعات المنطق الصوري الأساسية أن نتعرض بشيء من الإيجاز للصلات التي تربط المنطق ببقية العلوم المختلفة.

أولًا: المنطق واللغة

تعد قضية العلاقة بين المنطق والنحو من أدق موضوعات فلسفة اللغة وأصعبها تناولًا، ويهتم بها المناطقة والفلاسفة والنحاة منذ أقدم العصور، بل ومن قبل أن يُصيغ أرسطو المنطق ويضع قواعده، فلقد نشأ المنطق مرتبطًا بالجدل الفكري والنحوي الذي ساد القرن الخامس وشطرًا من القرن الرابع قبل الميلاد عند كل من المدرسة الإيلية وجماعة السوفسطائيين، وليس أدل على ذلك من أن أعمال السوفسطائيين الخاصة بالنحو قد حملت في ثناياها بذورًا منطقية أكيدة، فقد أرجعوا التصور (المعني) إلى اللفظ، مما يسر لهم أن يجعلوا من الجدل وسيلة للانتصار على الخصم، ومعنى هذا أن السوفسطائيين قد بحثوا في النحو فأدي بهم إلى المنطق.٤٢
ويقال: إن أرسطو قد توصل إلى كثير من التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني؛ حيث ذهب إلى أن الكلام يعبر بدقة عن أحوال الفكر، وأن المرء في وسعه أن يستعين بالقوالب النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر، فالنحو ينظر إلى الألفاظ من ناحيتين: من ناحية وجودها مفردة فيقسمها إلى أسماء وأفعال وحروف، ومن ناحية ارتباطها في جملة معينة. ونفس الشيء يقال عن الفكر الذي ينقسم إلى الأفكار المفردة وهي تصورات، والأفكار المرتبطة وهي القضايا أو التصديقات، وعلى هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلى تصورات وتصديقات هو تقسيم مأخوذ أصلًا من النحو.٤٣
بل إن البعض يرى أن قائمة المقولات الأرسطية قد أخذها أرسطو أيضًا من النحو، والدليل على ذلك أن مقولات أرسطو تقوم على تقسيم الكلام إلى أجزائه؛ فالجوهر يقابل الاسم، والكيف يقابل الصفة، والكون يقابل العدد، والإضافة تقابل صيغ التفضيل، والأين والمتى يقابلان ظرفي المكان والزمان، والفعل والانفعال والوضع تقابل الأفعال المتعدية والمبنية للمجهول واللازمة على التوالي، والملك يقابل صيغة الماضي في اليونانية Para Fait إذ يدل على الحالة التي يملكها الشخص نتيجة فعل فعله.٤٤
وازدادت على أيدي الرواقيين الصلة بين المنطق والنحو؛ فقد قسموا المنطق إلى الخطابة، التي هي نظرية القول المتصل، وإلي الديالكتيك، وموضوعه القول المنقسم بين السائل والمجيب، ولا تكاد ترتبط الخطابة عندهم بالفلسفة، أما الديالكتيك فيعرفونه بأنه فن الكلام الجيد، ولما كان الفكر والتعبير وثيقي الارتباط، فقد انقسم عندهم الديالكتيك إلى قسمين: قسم يدرس التعبير، وقسم يدرس ما يعبر عنه، أي إلى اللفظ والفكر.٤٥
واستمرت الصلة وثيقة بين المنطق والنحو عند المفكرين اللاحقين على أرسطو والرواقيين، حتى بعد أن اختلط منطق أرسطو بمنطق أهل الرواق عند مفكري ما قبل وما بعد الميلاد من أمثال شيشرون Cicero، وجالينوس Galen، وسِكتوس إمبريكس Sextus Empiricus وغيرهم، وقد زادت درجة الصلة ما بين المنطق والنحو توثقًا عند مفكري ما بعد الميلاد، وذلك بفضل علم جديد هو القانون الروماني، الذي احتاج واضعوه إلى التسلح بمزيد من المنطق والنحو يساعدهم في اشتقاق الألفاظ، وتكوين المصطلحات الجديدة للتعبير بها عن الحالات القانونية والاجتماعية التي كانت تطرأ عليهم كل يوم.٤٦
أما في العالم الإسلامي، فقد توطدت العلاقة بين المنطق والنحو، خاصة حين أدرك المناطقة والنحاة العرب القدامى أهمية الإحاطة باللغة واعتبارها شرطًا أساسيًّا لفهم موضوعات المنطق الأرسطي؛٤٧ وأن بين المنطق الأرسطي والنحو العربي علاقات متشابهة في قوانينهما، فنجد لقواعد النحو ما يناظرها ويتسق معها في قواعد المنطق؛ مثل: اسم العلم في النحو والجوهر بالمعنى المنطقي؛ إذ كلاهما موصوف ولن يكون صفة لشيء آخر. وبين الإسناد في النحو والحمل في المنطق، وبين صيغة الجملة الاسمية في النحو وصورة القضية الحملية في المنطق، وبين الترادف في النحو والهوية في المنطق.
وكما أدرك المناطقة والنحاة العرب التشابه بين المنطق الأرسطي والنحو العربي، أدركوا أيضًا التباين بينهما؛ مثل: عمومية المنطق في كل أمة وفي كل عصر وخصوصية النحو بمعنى أن لكل أمة نحوَها الذي يعتمد على طباع أهلها وسماعها وعاداتها في التعبير عن ذاتها، كما أدركوا أيضًا أن المنطق والنحو يختلفان في مصدرهما؛ فمصدر النحو العربي لسان العرب وعاداتهم اللغوية، ومصدر المنطق هو العقل بتصوراته الأولية وما هو مشترك بين الناس جميعًا، كما أدركوا أيضًا أن النحو قد يتغير وبعض الألفاظ والتراكيب قد تتغير، بينما المعاني والمفهومات والمبادئ التي يبحثها المنطق فثابتة.٤٨
ولقد ذكر لنا أبو حيان التوحيدي نصوص تلك المناظرة الشهيرة التي جرت في مجلس «الفضل بن جعفر بن الفرات» وزير الخليفة المقتدر سنة ٣٢٠ﻫ، ودارت بين أبي سعيد السيرافي النحوي وبين الفيلسوف المنطقي أبي بشر متى بن يونس في بغداد، وذلك في كتابين هما «الإمتاع والمؤانسة»٤٩ و«المقابسات»،٥٠ حيث وقعت المناظرة وسط جو من الصراع الفكري بين المناطقة الذين أعلَوا من شأن المنطق، وذهبوا إلى أنه لا حاجة بالمنطق إلى النحو، بينما يحتاج النحوي إلى المنطق. ليس هذا فحسب، بل إن أبا بشر متى بن يونس هاجم النحاة وآثارَهم بقوله: «إن النحو يبحث أساسًا في اللفظ، بينما المنطق يبحث في المعنى، وإن المعنى أشرف من اللفظ … وإنه لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به.»٥١
أما النحويون وهم الفريق الذي واجه المناطقة، فقد ساءهم ما حمله عليهم المناطقة، واختاروا «أبا سعيد السيرافي» النحوي البارع المحيط بدقائق النحو والمنطق والجدل والمناظرة لينتصر لهم، وقد استطاع أن يحرز نصرًا، ونجح في رد أبي بشر متى بن يونس، ودحض حججه وإظهاره بمظهر الجاهل باللغة والنحو، وكيف يتأتى لمنطقي البراعة في صناعة النحو وهو لا يتقن مسائل اللغة والنحو، وإذا عرفنا أن شيئًا كبيرًا من صناعة المنطق في مادته ومصطلحه مستعار من المصطلح اللغوي ومادته كما يقول أبو سعيد.٥٢
ولقد أسفرت هذه المناظرة عن فتح باب المناقشة والحوار لدى كثير من المفكرين، فنجد «أبو زكريا يحيى بن عدي» (المتوفى سنة ٤٦٣ﻫ) يكتب مقالة في «تبين الفصل بين صناعتي المنطق الفلسفي والنحو العربي»، حيث يقول: «صناعة المنطق والنحو مختلفان في الموضوع والهدف، فموضوع صناعة المنطق هو الألفاظ الدالة لا الألفاظ على الإطلاق، وموضوع صناعة النحو هو الألفاظ على الإطلاق الدالة منها وغير الدالة.»٥٣
وابن عدي يقصد بذلك أن المنطق يختص بالألفاظ الدالة على الأمور الكلية التي هي إما أجناس وإما فصول، وإما أنواع وإما خواص وإما أعراض كلية، وأما النحو فيختص بجميع الألفاظ الدالة على هذه الأمور الكلية، وجميع الألفاظ غير الدالة على هذه الأمور الكلية.٥٤
ونظرًا لعجز مثل هذا الاتجاه الذي حاول الفصل بين المنطق والنحو، فإن الربط بين العِلمين أصبح هو الاتجاه العام، ومن ثم فقد بدأت — منذ أواخر القرن الرابع الهجري — المصالحة بين العلمين على يد تلميذ «يحيى بن عدي»، وهو «أبو سليمان السجستاني المنطقي» (ت٣٩١ﻫ) الذي يقول: «إذا اجتمع المنطق العقلي والمنطق الحسي فهو الغاية والكمال.»٥٥ بل يقول أقواله المشهورة: «النحو منطق عربي والمنطق نحو عقلي، وجعل نظر المنطق في المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بالألفاظ التي هي كالحلل والمعارض، وجل نظر النحوي في الألفاظ، وإن كان لا يسوغ له الإخلال بالمعاني التي هي الحقائق والجواهر.»٥٦
وذهب أبو حيان التوحيدي (ت٤٠٠ﻫ) إلى أن النحو يرتب اللفظ ترتيبًا يؤدي إلى المعنى المعروف أو العادة الجارية، والمنطق يرتب المعنى ترتيبًا يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة … ودليل النحو طباعي ودليل المنطق عقلي … والنحو يتبع ما في طبائع العرب، يعتريه الاختلاف، والمنطق يتبع ما في غرائز النفوس، وهو مستمر على الائتلاف، «والنحو تحقيق المعنى باللفظ، والمنطق تحقيق المعنى بالعقل. وقد يزول اللفظ إلى اللفظ، والمعنى بحاله لا يزول ولا يحول؛ فأما المعنى فإنه متى زال إلى معنى آخر تغير المعقول ورجع إلى غير ما عهد في الأول. والنحو يدخل المنطق، ولكن مرتبًا له. والمنطق يدخل النحو، ولكن محققًا له. وقد يفهم بعض الأغراض وإن عرى لفظه من النحو، ولا يفهم شيء منها إذا عرى من العقل. فالعقل أشد انتظامًا للمنطق، والنحو أشد التحامًا بالطبع. والنحو شكل سمعي، والمنطق شكل عقلي. وشهادة النحو طباعية، وشهادة المنطق عقلية. وما يستعار للنحو من المنطق حتى يتقوم أكثر مما يستعار من النحو للمنطق حتى يصح ويستحكم.»٥٧
وقد أوضح أبو حيان التوحيدي الصلة الوثيقة بين المنطق والنحو مما يستوفي التزود بالعِلمين، ويلخص ما وصل إليه في قوله: «وبهذا تبين لك أن البحث عن المنطق قد يرمي بك إلى جانب النحو، والبحث عن النحو يرمي بك إلى جانب المنطق، ولولا أن الكمال غير مستطاع لكان يجب أن يكون المنطقي نحويًّا، والنحوي منطقيًّا، خاصة والنحو واللغة عربية، والمنطق مترجم بها ومفهوم عنها.»٥٨
ثم يستطرد أبو حيان فيقول: «إن النظر المنطقي فيما حلاه العقل، ونظر النحوي فيما حلاه اللفظ … والنحو تحقيق المعنى باللفظ والمنطق تحقيق المعنى بالعقل، وقد يزول اللفظ والمعنى بحاله لا يزول ولا يحول. فأما المعنى فإنه متى زال إلى معنى آخر تغير المعقول ورجع إلى غير ما عهدناه في الأول، والنحو يدخل المنطق ولكن مزينًا له والمنطق يدخل النحو محققًا له، وقد يفهم بعض الأعراض، وإن عري لفظه من النحو ولا يفهم شيء منها إذا عري من العقل.»٥٩
ويردد أبو حيان التوحيدي عبارات أستاذه أبو سليمان، فيقول: «لولا أن الكمال غير مستطاع لكان يجب أن يكون المنطقي نحويًّا والنحوي منطقيًّا.»٦٠
ولقد حرصت على سوق عبارات «أبي سليمان» و«أبي حيان» لأنها تشير إلى هذا التحول المهم في الفكر العربي-الإسلامي، وبداية الإعلان الواضح عن فتح أبواب البحث النحوي لدخول الأسس المنطقية في مسائل هذا البحث منهجًا وتطبيقًا، هذا التحول الذي مهد له نحاة القرن الرابع الهجري، ثم عززه بعض علماء الأصول والمتكلمين بشرعية دراسة المنطق منذ القرن الخامس، وبالأخص على يد الإمام «أبو حامد الغزالي» (ت٥٠٥ﻫ) الذي يقول عنه «ابن تيمية» (ت٧٢٨ﻫ): «… وأول من خلط المنطق بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي، فتكلم فيها علماء المسلمين مما يطول ذكره.»٦١
ويبدو هذا في المقدمة المنطقية التي وضعها الغزالي في أوائل كتابه «المستصفى من علم الأصول»، حيث قال بأن «من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلًا.»٦٢ وعلى هذا الأساس اعتبر أن منطق أرسطو يعد شرطًا من شروط الاجتهاد وفرضَ كفاية على المسلمين.

ثانيًا: المنطق وعلم النفس

هناك بلا شك ارتباط معين بين العمليات المنطقية والعمليات النفسية على وجه نستطيع معه أن نتلمس صلة واضحة بين المنطق وعلم النفس، بل إن هذه الصلة قد بدت على درجة من الوضوح إلى حد جعل أنصار النزعة النفسية للمنطق يردون المنطق برمته إلى علم النفس بوصفه جزءًا منه، على أساس أن المنطق فرع من فروع علم النفس؛ لأن علم النفس يدرس كل أنواع التفكير من صحيح وفاسد، ومتحضر وبدائي، وسوي وشاذ، والمنطق يدرس التفكير الصحيح. وهو لذلك علمُ نفسٍ للتفكير الصحيح، وقواعد ذلك التفكير، التي يدرسها المنطق، والتي يخضع لها التفكير المنطقي، إنما هي قواعد للارتباط الفعلي الموجود بين الأحداث النفسية المؤدية إلى اليقين والمفسرة لحدوثه. كما أن ذلك اليقين نفسه، الذي هو غاية المنطق، إن هو إلا حالة نفسية. وما القوانين المنطقية الأساسية إلا تجريدات وتعليمات لتجارب نفسية.٦٣
والواقع أن هذه الدعوى الأخيرة لا تجد الآن من يدافع عنها على أساس أن المنطق لا شأن له إلا بصور القضايا والحجج التي يتألف منها دون الاهتمام بمحتوى هذه الحجج، وبذلك يكون للمنطق طابع تجريدي قريب من الطابع الذي يميز الرياضيات، وبالتالي لا يكون له هذا الطابع السيكولوجي الذي تدَّعيه النزعة النفسية، على الرغم مما بين العِلمين من صلات.٦٤

وبما أن المنطق يهتم بدراسة العمليات العقلية، فإنه من الطبيعي أن تكون هناك علاقة معينة تربطه بعلم النفس الذي يهتم هو الآخر بدراسة هذه العمليات. ومع التسليم بهذه الحقيقة، يهمنا أن نسجل منذ البداية أوجه الاختلاف التي تميز كلًّا من العلمين:

إن علم النفس من شأنه أن يدرس قوانين الاستدلال التي بمقتضاها يفكر الناس ويستدلون. كما أنه يدرس الأحكام والاستدلالات الصحيحة والفاسدة على حد سواء، بغض النظر عن التمييز بين الصواب والخطأ، لأنه لا يهتم مباشرة بصدق الحكم أو فساده، ولكنه يهتم بدواعي إصدار ذلك الحكم في ذلك الظرف. وربما كان الحكم الكاذب أكثر أهمية بالنسبة لعلم النفس. علاوة على أن علم النفس يهتم بجميع الطرق التي يصل بها الناس بالفعل إلى نتائج، وجميع الأحوال التي يؤدي فيها بالفعل معتقد إلى آخر، وكذلك كتداعي المعاني والاستبصار وغيرهما. كما تخضع الظواهر التي يدرسها علم النفس، ويفسر طريقة حدوثها، للضرورة العلمية التي ترتبط بالسبق الزمني لبعض الظواهر على بعضها سبقًا طبيعيًّا وواقعيًّا.٦٥
إن علم النفس علم وقائع أو علم ظواهر محسوسة وهذا كان علمًا تجريبيًّا، لذلك فهو يدرس ما هو واقعي وما كائن بالفعل، لكونه علمًا وصفيًّا أحكامه تقريرية، وأن قوانينه ليست كلية وضرورية، ولكنها نسبية، لاعتمادها على الذات، والتغيرات الذاتية، والمعطيات التجريبية.٦٦
أما بالنسبة للمنطق فالأمر مختلف تمامًا؛ حيث نجده يدرس قوانين الاستدلال التي يجب أن تخضع لها استدلالاتنا لتكون صحيحة، كما يدرس كذلك اعتماد حكم معين على حكم آخر، أو على أحكام أخرى، في برهان أو استدلال معين. ويدرس كذلك كل ما هو مثالي، وما يجب أن يكون، ولذلك فهو علم معياري، وأحكامه تقديرية.٦٧
علاوة على أن من مهام عالم المنطق أن يحلل الحكم، كي يقدر قيمته بالنسبة لمعيار، هو الصدق، مميزًا بذلك الصواب عن الخطأ. ولذلك يقال: إن المنطق هو الذي يقيم ما هو صادق على أسس تبرره، وكذلك من مهامه أيضًا أنه يبحث في صحة الأفكار ومبررات هذه الصحة هادفًا إلى الحقيقة المستقلة عن الطبيعة السيكولوجية للفرد الذي يفكر ويحكم.٦٨
ولذلك قيل: إن علم المنطق هو علم ماهيات وحقائق معقولة، ولا يمكن أن يكون تجريبيًّا، فعلم النفس علم الواقع، وعلم المنطق علم الحق؛ وإن قوانينه قوانينُ كلية وضرورية لقيامها على الماهيات، والضروريات الثابتة، وعدم توقفها على التجربة.٦٩
هذا ما يميز ويفصل المنطق عن علم النفس، فالمنطق لا يهتم إلا بدراسة الميكانيزمات أو العمليات العقلية، وكذلك الوسائل المنهجية التي يستخدمها المفكر من أجل إقامة الدليل على صدق أو بطلان حكم أو قضية معينة، وبغض النظر تمامًا عن الأبعاد العاطفية أو الشخصية التي تحيط بهذا الحكم أو تلك القضية.٧٠

ثالثًا: المنطق والرياضيات

يمتاز الفكر الحديث بميله إلى التفسير الكمي لكل شيء. فديكارت قد بدأ ثورته الفكرية الحقيقية، بأن أدخل التفسير الكمي مكان التفسير الكيفي في الفيزياء، وما لبث هذا التيار أن غزا بقية فروع العلم بمعناه الضيق؛ فالكيمياء أخرج منها التصور الكيفي للتراكيب شيئًا فشيئًا حتى أصبحت التراكيب الكيماوية تتم كلها تقريبًا تبعًا لمعادلات رياضية صرفة؛ وعلم الميكانيكا يفسر كل شيء داخل نطاقه بواسطة قوانين رياضية ثابتة، بل لم يقتصر الأمر على هذه العلوم المتعلقة بالأشياء غير الحية، وإنما امتد منها إلى علوم الحياة، ومن هذا أيضًا إلى علم الروح.٧١
وهذه النزعة التي كانت شارة أنصارها قول «جاليليو»: «إن الطبيعة مكتوبة بلغة رياضية.» ما لبثت أن امتدت إلى العلوم الفلسفية نفسها؛ فبدأت تغزو علم النفس حتى سيطرت على الكثير من أجزائه، فوضعت القوانين لبيان النسب النفسية؛ مثل قوانين فيبروفشنر.٧٢
ثم انتقَلَت من علم النفس إلى علم المنطق، ولئن كان نجاحها في علم النفس محفوفًا بالكثير من الصعوبات، فإن نجاحها في علم المنطق كان مضمونًا منذ البدء، لأن بين المنطق وبين الرياضيات من المشابهة في الطبيعة والغاية ما يجعل التزاوج بين الاثنين ممكنًا ويسيرًا.٧٣
فكلا النوعين من العلم يمتاز بأنه يميل إلى التجريد فلا يُعنى إلا بالصورة. أما المادة فلا أهمية لها في الواقع عنده، ويمتازان كذلك بأنهما يتعلقان بالنسب بين الأشياء لا بالأشياء ذاتها. كما أنهما يتفقان من حيث الغاية، وتلك هي الوصول إلى الربط الصحيح بين الأشياء عن طريق عمليات فكرية بسيطة تخضع لقواعد ثابتة وتتم بطريقة آلية.٧٤
فكان طبيعيًّا إذن أن يفكر الفلاسفة المعنيون بالمنطق في تطبيق المنهج الرياضي على المنطق، فقامت حركة قوية في القرن السابع عشر ابتدأها الفيلسوف الألماني «ليبنتز»، واستمرت تنمو وتنمو حتى جاء النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فنمت نموًّا سريعًا حتى بلغت اليوم أوجها أو كادت.٧٥
وعلى هذا النحو تقريبًا قامت الصلة بين الرياضة والمنطق، وقويت بعد أن أُدخل المنهج الرياضي في بناء منطق جديد يدرس جميع أنواع العلاقات التي تقوم بين التصورات وبين القضايا، ولا يقتصر على علاقة التداخل والتضمن، كما لا يقتصر في الاستدلال على القياس، الذي أصبح مبدأً واحدًا من مبادئ كثيرة للاستنتاج.٧٦
وبعد أن قام الرياضيون، وعلى رأسهم «فريجه» وبيانو، بتحسيب الرياضة، أعني اشتقاقها من الحساب، بعد إقامته على هيئة نسق منطقي، مستخدمين في ذلك الاشتقاق، الاستنباط الصرف، ومبتدئين من أفكار منطقية صرفة، وبذلك ادعوا إمكان المنطق، بردها أولًا إلى الحساب، ثم برد الحساب إلى المنطق.٧٧
ومجمل القول: إن الرياضيين من أصحاب النزعة المنطقية حاولوا إقامة رياضة منطقية دقيقة، تعتمد على الاشتقاق المنطقي الصرف ابتداء من أوَّليات منطقية. وقد أرجعوا الأنساق الرياضية إلى نسق الحساب، وبرهنوا على عدم تناقض بديهيات الهندسة بإرجاعها إلى الحساب وبديهياته. ثم حاولوا رد الحساب إلى المنطق بإقامته على بديهيات منطقية، ولكن كيف يبرهن على عدم تناقض بديهيات الحساب المنطقية، وكيف يردون الرياضة إلى المنطق، وهم عاجزون عن البرهنة على عدم تناقض مبادئه؟٧٨
هنا تتدخل النزعة الصورية وعلى رأسها «هلبرت» و«بيرنيز» و«كيوري»، وتقول بإمكان حل هذه المشكلة، أعني إمكان البرهان على عدم تناقض بديهيات الحساب، وذلك باستخدام الاستدلال المتناهي، وهو في الاستقراء الرياضي، أو الاستدلال بالتكرار، الذي يقول به أصحاب النزعة الحدسية في الرياضة وعلى رأسهم «بوانكاريه». وهنا تتفق النزعة الصورية مع النزعة الحدسية، وتسلم — على شاكلتها — بوجود تصورات حدسية معينة هي شروط لازمة لكل تفكير.٧٩

مباحث المنطق الصوري

لما كان أرسطو هو الذي صاغ علم المنطق وحدد موضوعاته ومباحثه، أصبح من الضروري الوقوف أولًا على الأعمال المنطقية حتى نتبين من خلالها الموضوعات التي مثلت صلب المنطق الصوري، حيث يرى أستاذنا الدكتور «حسن عبد الحميد» أن أعمال أرسطو المنطقية قد وصلت إلينا في صورة تمتاز بالنظام والتنسيق، ويجمعها هذا الاسم المشترك وهو الأورجانون Organon، والحقيقة أن ترتيب هذه المؤلفات وكذلك التسمية التي أعطيت لها ليسا من وضع أرسطو نفسه، بل من وضع تلاميذه وشراحه؛ فقد قام «أندرونيكوس الرودسي» — في القرن الأول قبل الميلاد — بنشر أعمال أستاذه مصنفًا إياها بحسب موضوعاتها. ولهذا السبب فإن الأعمال المنطقية الأرسطية قد وصلت إلينا في مجموعة واحدة، هي كتاب المقولات، ثم كتاب العبارة، التحليلات الأولى، التحليلات الثانية، ثم كتاب الجدل، وأخيرًا كتاب السفسطة.٨٠

وهنا يتساءل الدكتور حسن عبد الحميد: ما مغزى الترتيب الذي وصلتنا عليه مؤلفات أرسطو المنطقية؟

ويجيب فيقول: إن هذا المغزى تعليمي بحت؛ لأنه من المفروض أن نبدأ دراسة المنطق بمعرفة الحدود والتصورات، وهذا هو موضوع كتاب المقولات، ثم نصل من تركيب مفهومين أو حدين إلى دراسة القضية، وهذا هو موضوع كتاب العبارة. ثم من تركيب وجمع ثلاث قضايا معًا وبطريقة معينة نصل إلى دراسة القياس، وهو موضوع كتاب التحليلات الأولى. ثم تجيء بعد ذلك تطبيقات القياس في ميدان العلم الضروري (التحليلات الثانية)، والعلم الظني (الجدل)، وأخيرًا تطبيق القياس على مقدمات مغلوطة، وهذا هو موضوع كتاب السفسطة.٨١
ويستطرد فيقول: ونلفت نظر القارئ إلى أن هذا الترتيب الذي يمكن وصفه بأنه منطقي للغاية لا يخلو من كونه مصطنعًا. وهذا الأمر يصدق على الأقل على الكتابين الأول والثاني (المقولات والعبارة). والفاحص لأعمال أرسطو المنطقية عامة وكتاب المقولات خاصة، يدرك أن صاحب الأورجانون لم يقدم لنا أية نظرية متكاملة عن الحدود أو التصورات أو المفاهيم، وكتاب المقولات لم يعالج طبيعة الحدود أو التصورات في حد ذاتها، بل تلك الحدود أو المفاهيم العامة للغاية؛ أي المقولات العشر الأرسطية المعروفة، واكتفى أرسطو بتفصيل القول في الأربع مقولات الأولى فقط. كما أنه من المشكوك فيه أن يكون صاحب الأورجانون قد وافق على هذا الترتيب لمؤلفاته المنطقية، هذا الترتيب الذي يحمل دراسة المفهوم أو الحد سابقة على دراسة القضية. والسبب في ذلك أن أرسطو نفسه يعرض لنا ترتيبًا آخر في بداية كتاب التحليلات الأولى يبدأه بالمقدمة (أي القضية)، ثم الحد، فالقياس، ثم يعرف المقدمة، وعن طريق تعريف المقدمة يعرف الحد على أساس أن المقدمة أو القضية يمكن تحليلها إلى حدود، بيد أن البعض يدافع عن ترتيب موضوعات المنطق الذي يبدأ بالحد وينتهي بالقياس وينسبه إلى أرسطو نفسه.٨٢
ومهما يكن من أمر فإن أغلب واضعي الكتب المنطقية عبر التاريخ قد أكدوا على أن مباحث المنطق الصوري تكون كالتالي:
  • (١)

    منطق التصورات أو نظرية التصور: ويختص بمبحث الأسماء والألفاظ المعبرة عن التصورات التي يستخلصها عقلنا من إدراكه لأشياء مفردة. وبعبارة أخرى يبحث الحدود بدون اعتبار العلاقات التي قد تكون بينها. وهذا المبحث يؤدي إلى التعريف.

  • (٢)

    منطق التصديق أو نظرية الحكم: وهو يبحث في القضايا المعبرة عن الأحكام التي تتكون بإدراك عقلنا لعلاقات بين تصورين أو حدين، أو بعبارة أخرى يبحث في ارتباط فكرة بأخرى في صورة الحكم.

  • (٣)
    منطق القياس أو نظرية الاستدلال: وهو يبحث في القياس وقواعده وأشكاله وضروبه التي يُرد بعضها إلى بعض، أو بعبارة أخرى يبحث في عمليات التزاوج بين قضيتين، تخرج منهما بنتيجة تجمع بينهما. وهذا المبحث يؤدي بنا إلى البرهان، الذي هو في نظر أرسطو قياس مقدماته صادقة ويقينية.٨٣
ولقد تابع الفلاسفة الإسلاميون أرسطو في تقسيمه للمنطق، فهم يقسمونه إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)

    التصور: وهو حصول صورة شيء ما في الذهن، أو تمثله دون أن يقترن هذا التمثل بحكم. ولذلك فهو الوحدة العقلية الأولى، وقد يكون التصور بديهيًّا واضحًا، يُدرَك إدراكًا مباشرًا بدون توضيح أو تعريف، وقد يكون نظريًّا تتوصل إليه بالحد.

  • (٢)

    التصديق: وهو ربط العقل بين تصورين، أو حكمه بأن أحدهما هو الآخر، أو ليس هو الآخر، وحكمه أيضًا هذا الحكم، أعني بمطابقة ما في الذهن للواقع الخارجي. وقد يكون بديهيًّا، يصدق به العقل بغريزته، بدون شهادة الحس وبدون حجة، تصديقًا دائمًا، وقد يكون نظريًّا نتوصل إليه بالحجة، أعني باستقراء أو بتمثيل أو بقياس.

  • (٣)
    القياس: وهو الذي نكتسب به المعلومات التي تكون مجهولة، فتصبح معلومة، وبه نصل إلى مبادئ الوجود. وهو في حقيقته قضية مركبة من عدة قضايا.٨٤

أما نحن فإننا سوف نبدأ بدراسة الحدود، ثم القضايا، وننتهي بعرض الاستدلال مباشرًا أو غير مباشر.

١  د. محمد مهران: المنطق، دار المعارف، سلسلة كتابك، القاهرة، ١٩٨٧م، ص٣.
٢  د. عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٨٠م، ص١٣.
٣  أبو الحسن الجرجاني: التعريفات، مادة (المنطق)، ص١٢٨.
٤  محمد علي الفاروقي التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون، نشرة إسبرنكر، المكتبة الهندية، ج١، كلكتا، ١٨٦٢م، ص٣٣.
٥  د. حسن عبد الحميد: مقدمة في المنطق، الجزء الأول (المنطق الصوري)، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، ١٩٨٠م.
٦  د. محمد السرياقوسي: التعريف بالمنطق الصوري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ص٢٣.
٧  ابن سينا: كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تحقيق: ماجد فخري، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، ١٩٨٥م، ص٤٤.
٨  د. محمد السرياقوسي: نفس المرجع، ص٢٣.
٩  عمرو بن سهلان الساوي (ت٤٥٠ﻫ): البصائر النصيرية في علم المنطق، تحقيق: محمد عبده، طبعة بولاق، القاهرة، ١٣١٦ﻫ، ص١.
١٠  د. محمد السرياقوسي: نفس المرجع، ص٢٣.
١١  أبو حامد الغزالي: مقاصد الفلاسفة، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، ط٢، القاهرة، ١٩٦٠م، ص٣.
١٢  د. محمد السرياقوسي: نفس المرجع، ص٢٣.
١٣  د. حسن عبد الحميد: نفس المرجع، ص٩.
١٤  نفسه، ص١٠.
١٥  د. محمد السرياقوسي: نفس المرجع، ص٦.
١٦  نفسه، ص٦.
١٧  نفسه، ص٦.
١٨  نفسه، ص٧.
١٩  نفسه، ص٧.
٢٠  نفسه، ص٧.
٢١  نفسه، ص٧.
٢٢  د. محمد مهران: المنطق، ص٢٦.
٢٣  د. عبد الرحمن بدوي: نفس المرجع، ١٩٩٧م، ص١٧.
٢٤  نفسه، ص١٨.
٢٥  نفسه، ص١٩.
٢٦  نفسه، ص١٩–٢٠.
٢٧  د. محمد مهران: المنطق، ص٢٩.
٢٨  د. محمد مهران: مدخل إلى المنطق الصوري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٧٥م، ص٤٤.
٢٩  نفسه، ص٤٤.
٣٠  نفسه، ص٤٤.
٣١  يان لوكاشيفِتش: نظرية المنطق الأرسطي من وجهة نظر المنطق الصوري الحديث، ترجمة: د. عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، ١٩٦١م، ص١٢٣.
٣٢  انظر: كتابنا: دراسات في المنطق المتعدد القيم وفلسفة العلوم، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ٢٠١٣م، ص١١ وما بعدها.
٣٣  نفسه، ص١١ وما بعدها.
٣٤  نفسه، ص١١ وما بعدها.
٣٥  د. يوسف محمود: المنطق الصوري؛ التصورات والتصديقات، دار الحكمة، الدوحة، قطر، ١٩٩٤م، ص١٩–٢٠.
٣٦  نفسه، ص١٩–٢٠.
٣٧  نفسه، ص١٩–٢٠.
٣٨  نفسه، ص١٩–٢٠.
٣٩  نفسه، ص١٩–٢٠.
٤٠  د. محمد فتحي عبد الله: محاضرات في المنطق الصوري، القاهرة، بدون تاريخ، ص١٢.
٤١  د. محمد مهران: المنطق، ص٣٠–٣١.
٤٢  د. عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، ص٣٣.
٤٣  د. حسن عبد الحميد: نفس المرجع، ص١٦.
٤٤  د. عبد الرحمن بدوي: المرجع السابق، ص٣٣–٣٤.
٤٥  د. محمد مهران: المرجع السابق، ص٢٩.
٤٦  د. حسن عبد الحميد: المرجع السابق، ص١٧.
٤٧  M. Mahd: Language and Logic in Classical Islam, ed Grunebaum, Wiesbaden 1970, pp. 51–53.
٤٨  د. محمود فهمي زيدان: في فلسفة اللغة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ١٩٨٥م، ص١٨٣.
٤٩  أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، القاهرة، بدون تاريخ، ص٨٢ وما بعدها.
٥٠  أبو حيان التوحيدي: المقابسات، تحقيق: حسن السندوبي، ط١، المكتبة التجارية، القاهرة، ١٩٢٩م، ص٦٨–٨٦.
٥١  أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص٨٢، والمقابسات، ص٦٨.
٥٢  الإمتاع والمؤانسة: ص٩١، والمقابسات، ص٨٤–٨٥.
٥٣  يحيى بن عدي: تبيين الفصل بين صناعتي المنطق الفلسفي والنحو العربي، تحقيق: جيرهارد أندروس، ضمن مجلة تاريخ العلوم عند العرب، عدد ٣، ١٩٧٧م، ص١١٣.
٥٤  المصدر السابق، ص١١٤.
٥٥  أبو حيان التوحيدي، المقابسات، ص١٧٠.
٥٦  نفس المصدر، ص١٧٠.
٥٧  نفس المصدر، ص١٧١، ١٧٢.
٥٨  نفس المصدر، ص١٧٢.
٥٩  نفس المصدر، ص١٧٠–١٧١.
٦٠  نفس المصدر، ص١٧٢.
٦١  ابن تيمية: نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، تحقيق: سليمان الندوي، المطبعة القيمة، بومباي، ١٩٤٩م، ص٢١٦.
٦٢  أبو حامد الغزالي: المستصفى من علم الأصول، تحقيق: محمد أبو العلا، مكتبة الجندي، القاهرة، ١٩٧٠م، ص١٠.
٦٣  د. محمد مهران: علم المنطق، ص٣٦.
٦٤  د. محمد مهران: المنطق، ص٣٧.
٦٥  د. محمد السرياقوسي: المرجع السابق، ص١٢٣.
٦٦  المرجع السابق، ص١٣٤.
٦٧  المرجع السابق، ص١٥٥.
٦٨  المرجع السابق، ص١٥٧.
٦٩  المرجع السابق، ١٩٨٠م، ص١٥٩.
٧٠  د. حسن عبد الحميد: المرجع السابق، ص٢٥.
٧١  د. عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، ص٢٥٠.
٧٢  نفسه، ص٢٥٠.
٧٣  نفسه، ص٢٥٠.
٧٤  نفسه، ص٢٥١.
٧٥  مينز: الفلسفة الإنجليزية في مائة عام، ترجمة: د. فؤاد زكريا، ج٢، ص٢٢٣.
٧٦  د. محمد السرياقوسي: التعريف بالمنطق الصوري، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م، ص٢٦.
٧٧  نفسه، ص٢٦.
٧٨  نفسه، ص٢٧.
٧٩  نفسه، ص٢٧.
٨٠  د. حسن عبد الحميد: مقدمات في المنطق، ص٦٩–٧٠.
٨١  نفسه، ص٧١.
٨٢  نفسه، ص٧٢.
٨٣  د. السرياقوسي: المرجع السابق، ص٢٣٤.
٨٤  د. السرياقوسي: المرجع السابق، ص٢٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤