الأنشودة الخامسة١

هبط الشاعران إلى الحلقة الثانية، وهي بداءة الجحيم الحقيقية عند دانتي. ووجدا عند مدخلها مينوس قاضي الجحيم، الذي يعترف له الآثمون بما ارتكبوا، فيحكم بإرسالهم إلى الموضع الذي يناسبهم، بلفَّات ذَنَبه حول نفسه. اعترض مينوس على قدوم دانتي، ولكن فرجيليو أوضح له أن هذه هي إرادة السماء. وسمع دانتي عويل الآثمين الذين غلَّبوا العاطفة على العقل في أثناء الحياة، وعقابهم أن تدور بهم عاصفة هوجاء، دون أمل في راحة أو في أن تخف عنهم حدة الألم. وأشار فرجيليو إلى بعض المعذَّبين، مثل سميراميس وهيلانة وكليوباترا وتريستانو. ثم رأى دانتي اثنين يذهبان معًا، وقد ترفقت بهما العاصفة، وهما فرنتشسكا دا ريميني وباولو مالاتستا. دعاهما دانتي باسم الحب أن يَقدُما عليه، فلبَّيا النداء في شوق ولهفة، كفرخَي حمام ناداهما الهيام إلى العش الحبيب. أبدى دانتي عطفه على هذين الآثمين، فبادلته فرنتشسكا ذلك العطف، وتمنت أن تكون صلاتها عند الله مقبولة من أجل سلامه. قالت فرنتشسكا إن باولو أحبها، فلم تستطع إلا أن تبادله حبًّا بحب، وإن الحب قادهما معًا إلى موت واحد. سألها دانتي كيف أتاح لهما الحب أن يتعرفا على رغباتهما الخبيئة، فأجابته فرنتشسكا بأنهما كانا يقرآن يومًا وبلذةٍ قصة جينفرا ولانتشلوتُّو، فتأثرا بهما، وقبَّل باولو فرنتشسكا، وفاجأهما الزوج، وقتلهما معًا، ولم يقرآ منذ ذلك اليوم شيئًا. وبينما كانت فرنتشسكا تتكلم عن حبها بأسًى ولذة، بكى باولو بمرارة، ولم ينطق بكلمة واحدة. فأحس دانتي أنه يفقد الوعي من فرط الأسى، وهوى كجسم ميت يهوي إلى الأرض.

(١) هكذا هبطتُ — أسفل — من الحلقة الأولى إلى الثانية،٢ التي تُحيط بمكانٍ أصغر وآلامٍ أعظم، وتلهبُ حتى العويل.٣
(٤) هناك يجلس مينوس الرهيب،٤ ويَصِر بأسنانه، يزن الآثام عند المدخل،٥ وبلفَّاتٍ من ذَنَبه يحكم ويقذف.٦
(٧) أعني أنه عندما تردُ النفس الملعونة أمامه، تعترف بكل شيء، ويرى قاضي الخطايا ذاك٧
(١٠) أيُّ مكان في الجحيم يناسبها، ويلفُّ ذَنَبه من حوله، بعدد الحلقات التي يرغب أن يهبطوا إليها.٨
(١٣) دومًا يقف أمامه سيلٌ من الهالكين، ويذهب كلٌّ بدوره ليلقى حكمه، يقولون ويسمعون،٩ ثم يُقذفون إلى أسفل.١٠
(١٦) قال لي مينوس حينما رآني، وقد توقف عن مزاولة عمله الخطير: «أنت يا مَن تأتي إلى موئل الآلام،
(١٩) احترس إذ تدخل هنا، واحذر مَن تثق به،١١ ولا يخدعنَّك اتساع المدخل!»١٢ فقال له دليلي: «لماذا تصيح كذلك؟
(٢٢) لا تُعطِّل رحلة خطَّها له القدر، هكذا أُريدَ هناك، حيث يمكن أن يُفعل ما يُراد، ولا تسألني على ذلك مزيدًا.»١٣
(٢٥) الآن تبدأ أصوات الأسى تطرق أسماعي، والآن وصلتُ إلى موضع، يجتاحني فيه عويلٌ جارف.
(٢٨) لقد جئتُ إلى مكان يخرس فيه كل ضياء،١٤ ويَهدِر كما يفعل بحرٌ في أثناء زوبعة، حينما تلطمه رياح متعارضة.١٥
(٣١) العاصفة الجهنمية التي لا تهدأ أبدًا،١٦ تقود الأرواح بعنفها، وترهقهم وهي تدور بهم وتضربهم.١٧
(٣٤) وحينما يَصِلون أمام الأنقاض،١٨ نسمع هناك الصُّراخ والنُّواح والعويل، وهناك يلعنون القدرة الإلهية.١٩
(٣٧) فهمتُ أنه قُضي بمثل هذا العذاب على مرتكبي خطايا الجسد، الذين يُخضِعون العقل للشهوات.
(٤٠) وكما تَحمِل الزرازيرَ أجنحتُها، في سرب كبير متزاحم، وقت البرودة؛٢٠ كذلك تفعل تلك العاصفة بالأرواح الخبيثة،
(٤٣) تقودهم هنا وهناك، وإلى أسفل وإلى أعلى،٢١ لا يحدوهم الأمل في طمأنينةٍ ولا راحة أبدًا، ولا في أن تخفَّ عنهم حدة الألم.
(٤٦) وكما تمضي الكراكيُّ شاديةً بصوتها الباكي، وقد جعلتْ من نفسها في الهواء صفًّا طويلًا،٢٢ هكذا رأيتُ أشباحًا تأتي وهي تُطلِق
(٤٩) صرخاتِها، وتحملها تلك العاصفة؛ ولذا قلت: «أستاذي، مَن هؤلاء القوم الذين يُضنيهم الهواء الأسود هكذا؟»
(٥٢) عندئذٍ قال لي: «الأولى بين مَن تريد أن تعرف أخبارهم، كانت إمبراطورة على لغات عديدة.٢٣
(٥٥) إنها استسلمتْ لشهوة الجسد، حتى جعلت لذة الغرائز مشروعة في قوانينها؛ لكي تمحو ما انغمست فيه من العار.٢٤
(٥٨) هي سميراميس،٢٥ التي يُقرأ عنها أنها خلفتْ نينو، وكانت له زوجةً، ودان لها ملكٌ يحكمه السلطان.٢٦
(٦١) والأخرى هي التي قتلت نفسها وقد تيَّمها الحب، وحنثتْ بيمينها لرماد سيكيو،٢٧ ومن بعدها كليوباترة أسيرة الشهوات.٢٨
(٦٤) وانظر إلى هيلانة،٢٩ التي دار بسببها عهدٌ مشئوم، وانظر إلى أخيل العظيم،٣٠ الذي قاتل في النهاية وقد ساده الحب.
(٦٧) وانظر باريس،٣١ وتريستانو.»٣٢ ثم أراني أكثر من ألف شبح، وذكر لي وهو يشير بأصبعه، أسماء الذين نزعهم الحب من حياتنا.
(٧٠) وبعد أن سمعتُ أستاذي يسمي لي النساء العتيقات والفرسان، ملكني الأسى، وأوشكت أن أفقد الوعي.٣٣
(٧٣) بدأتُ:٣٤ «أيها الشاعر،٣٥ كم أود أن أتحدث٣٦ إلى هذين الاثنين٣٧ اللذين يذهبان معًا، ويبدوان هكذا خفيفين أمام الريح.»٣٨
(٧٦) أجابني: «سترى حينما يصبحان أقرب إلينا،٣٩ ادعهما عندئذٍ باسم الحب الذي يقودهما،٤٠ وسيأتيان.»٤١
(٧٩) وبينما تميل بهما الريح نحونا،٤٢ رفعتُ صوتي:٤٣ «أيهاتان النفسان المعذبتان،٤٤ تعاليا حدِّثانا، إن لم يمنعكما عن ذلك أحد.»٤٥
(٨٢) وكحمامتين دعاهما الهيام،٤٦ تأتيان عبر الهواء بأجنحةٍ مرفوعةٍ ثابتةٍ٤٧ إلى العش الحبيب، وقد حملهما الشوق؛٤٨
(٨٥) هكذا خرج هذان٤٩ من جماعة فيها ديدوني،٥٠ آتيَين نحونا وسط الهواء الخبيث؛٥١ إذ كان قويًّا ندائي الجياش بالعاطفة.
(٨٨) أيها المخلوق٥٢ الرقيق اللطيف،٥٣ الذي تسير خلال الجو المعتم زائرًا٥٤ إيانا،٥٥ نحن اللذين خضبنا الأرض بالدم.
(٩١) لو كان ملك العالم صديقًا لنا،٥٦ لضرَعنا٥٧ إليه من أجل سلامك؛٥٨ لأنك تُشفق على حظنا العاثر.
(٩٤) إننا سنسمع وسنتحدث إليك عما يلذ لك أن تسمعه وتقوله،٥٩ بينما تسكت لنا الريح، كما هي الآن.٦٠
(٩٧) المدينة التي وُلدتُ فيها تستوي على شاطئ البحر،٦١ حيث يصب البو، لكي ينال السلام مع نُهَيراته.٦٢
(١٠٠) والحب٦٣ الذي يُشعل القلب الرقيق سريعًا،٦٤ تيَّمه بالجسم الجميل،٦٥ الذي انتُزع مني، بطريقة لا تزال تُحزنني.٦٦
(١٠٣) الحب٦٧ الذي لا يعفي محبوبًا من مبادلة الحب،٦٨ سيطر على كياني بلذة، وهو كما ترى لا يفارقني بعد.٦٩
(١٠٦) الحب٧٠ قادنا إلى موتةٍ واحدةٍ،٧١ وقابيل ينتظر من أطفأ سراج حياتنا.٧٢ حُملتْ منهما هذه الكلمات إلينا.٧٣
(١٠٩) وعند سماعي حديث هاتين النفسين المَهيضتين، حنيتُ رأسي، ومكثتُ مُطرقًا طويلًا،٧٤ حتى قال لي الشاعر:٧٥ «فيمَ تفكر؟»
(١٢٢) وعندما أجبتُ، بدأتُ:٧٦ «وا حسرتاه، أية خواطر عذبةٍ، وأية رغبةٍ عميقةٍ، أدت بهذين إلى الطريق الأليم!»٧٧
(١١٥) ثم اتجهتُ إليهما، وتكلمتُ، وبدأت:٧٨ «يا فرنتشسكا إن عذابك يستقطر مني الدمعَ حزنًا وخشوعًا.٧٩
(١١٨) ولكن أخبريني، في وقت التنهدات العذبة،٨٠ كيف وبأي دليلٍ أتاح لكما الحب،٨١ أن تتعرفا على رغباتكما التي يحوطها الشك؟»٨٢
(١٢١) أجابتني: «ليس من ألم أشد، من تذكُّر العهد السعيد وقت البؤس،٨٣ وهذا ما يعرفه أستاذك.٨٤
(١٢٤) لكن إذا كانت تحدوك رغبةٌ عميقة، في أن تعرف أصل حبنا،٨٥ فسأفعل كمن يبكي ويتكلم.٨٦
(١٢٧) كما ذات يومٍ نقرأ للمتعة،٨٧ عن لانتشلوتُّو،٨٨ وكيف تيَّمه الحب، وكنا وحيدين،٨٩ لا يخامرنا شك.٩٠
(١٣٠) وجعلتْ تلك القراءة عيوننا تتلاقى عدة مرات، وأشحبتْ لونَ وجهَينا،٩١ ولكن أمرًا واحدًا٩٢ كان ذلك الذي غلبنا.
(١٣٣) حينما قرأنا أن البسمة المرتقبة،٩٣ قد قبَّلها مثل ذلك العاشق، طبع هذا٩٤ — الذي لن ينفصل عني أبدًا٩٥
(١٣٦) طبع على ثغري قُبلة، وهو يرتجف كله.٩٦ كان الكتاب وكاتبه هما جاليوتُّو،٩٧ ولم نقرأ فيه ذلك اليوم مزيدًا.»٩٨
(١٣٩) وبينما٩٩ كانت إحدى الروحين١٠٠ تنطق بهذه الكلمات، بكت الأخرى بمرارة،١٠١ حتى تهالكتُ من الأسى كأني أموت،١٠٢
(١٤٢) وهوَيتُ١٠٣ كما يهوِي جسمٌ ميت.١٠٤
fig5
فرنتشسكا وباولو. (أنشودة ٥: ٧٣ …)
١  الأنشودة الخامسة هي قصيدة من ارتكبوا خطايا الجسد، وتُعرف بقصيدة فرنتشسكا دا ريميني.
٢  هنا تبدأ الجحيم الحقيقية عند دانتي، وما سبق يُعَد مقدمة لها.
٣  كلما زاد الهبوط زاد عذاب الهالكين.
٤  مينوس (Minos): ملك جزيرة كريت في الميتولوجيا القديمة، واشتهر بالقوة والعدالة، وصوَّره هوميروس وفرجيليو كقاضٍ للجحيم:
Virg., Æn., VI, 432.
Homerus, Odyssey, XI, 696 …
ولقي النبيُّ محمد وجبريل في المعراج المشار إليه حارس الجحيم:
Cerulli (op. cit.) pp. 156–159.
ويوجَد حفر لكائن ذي وجه بشع، وذَنَب ملفوف حول الجسد، وخُطاف في اليد، وجناحين، وربما يرجع إلى القرن ١٢، ويعطي فكرة عن صورة مينوس الرهيب، وهو في قصر ألباني في روما.
ووضع ميكلأنجلو (١٤٧٥–١٥٦٤) صورة لمينوس في صورة الحكم الأخير في كنيسة سيستو بالفاتيكان في روما، وهو ذو شكل يبعث على الرعب، وله نابان بارزان، ويلفُّ ذَنَبه حول جسمه.
٥  يشبه هذا قول فرجيليو:
Virg., Æn., VI, 567.
٦  أي: يرسلهم إلى مواضع عذابهم، وأضفتُ «بذَنَبه» للإيضاح.
٧  ذكر دانتي لفظ conoscitor، ومعناه المألوف هو العارف، ولكن في لغة القانون يعني القاضي، وهو يناسب وظيفة مينوس في الجحيم.
٨  أي: إنه إذا أحاط نفسه بذنبه ثماني مرات، فمعنى ذلك أن الآثم يجب أن يهبط إلى الحلقة الثامنة.
٩  يقولون ما ارتكبوه ويسمعون الحكم عليهم. ويدل هذا التعبير الموجز على أن مينوس كان يؤدي واجبه بسرعة لكثرة الآثمين أمامه.
١٠  أي: إلى المكان الذي يناسبهم.
١١  يحذِّر مينوس دانتي من الهبوط إلى الجحيم، ويشكِّكه في دليله.
١٢  يشبه هذا قول فرجيليو:
Virg., Æn., VI, 126.
١٣  يعني إرادة السماء. وسبق هذا المعنى:
Inj., III, 95-96.
١٤  لا يرى دانتي شيئًا بسبب الظلام، ولكنه يسمع صوت العاصفة.
١٥  يُشبِّه دانتي ما سمعه بنوء البحر الشديد، وهو بذلك يرسم إحدى صور الطبيعة.
١٦  العاصفة الجهنمية رمز للحواس والشهوات التي سيطرت على هؤلاء الآثمين، وهي تعذبهم على الدوام. ويشبه هذا ما أورده فرجيليو:
Virg., Æn., VI, 440 …
وهناك شبه بين هذه العاصفة وما جاء في التراث الإسلامي:
Cerulli (op. cit.) pp. 156–159.
القرآن، الذاريات: ٤١.
أبو إسحاق محمد بن إبراهيم الثعلبي، كتاب قصص الأنبياء، المسمَّى العرائس، القاهرة، ١٣٤٥ﻫ، ص٤٣.
الخازن، تفسير القرآن (السابق الذكر)، ج٢، ص١٠٥.
١٧  رسم المصور أوركانيا (حوالي ١٣٠٨–١٣٦٨) أرواح من ارتكبوا الخطيئة بسبب الحب في صورة الجحيم في كاتدرائية فلورنسا.
١٨  هذه أنقاض الصخور المتخلفة من العاصفة الجهنمية.
١٩  وذلك لفرط ما نالهم من العذاب.
٢٠  طيران الزرازير غير منتظم. وكان دانتي شديد الولع بمراقبة الطيور.
٢١  هذه الحركات كناية عما يساور نفس الآثم بسبب شهوة الجسد.
٢٢  هكذا تفعل الكراكي عندما تهاجر وقت الخريف من شمال أوروبا إلى مناطق الدفء.
٢٣  يقصد شعب بابل.
٢٤  وضعت سميراميس القوانين التي تجعل خطايا الجسد شرعية.
٢٥  هناك طائفتان من الآثمين الذين غلَّبوا العاطفة والشهوة على العقل؛ الطائفة الأولى، وعلى رأسها سميراميس، طائفة أمعنت في حياة الفسوق، ولم يكن يعنيها سوى التمتع بالملذات. وستأتي الطائفة الثانية بعد. وسميراميس (Semiramis) ملكة الآشوريين شخصية تحوطها الأساطير، ويُقال إنها عاشت في القرن ١٤ق.م.، وخلفت على العرش زوجها نينو (Nino) — ويُقال إنه كان ابنها أيضًا — بعد أن تآمرت عليه. وكان نينو أول ملك يتطلع إلى إقامة إمبراطورية عالمية.
وذكرهما برونيتو لاتيني، صديق دانتي وأستاذه الروحي، وأوفيديوس:
B. Latini, Trésor, I, 26.
Ov., Met., IV, 58, 88.
وتوجَد صورتان لسميراميس ونينو في كتاب جوستو دي مينابووي المشار إليه.
وضع روسيني (١٧٦٢–١٨٦٨) ألحان أوبرا سميراميس، التي تُصوِّر حياة العشق والمتعة التي عاشتها ملكة الآشوريين:
Rossini, G.: Semiramide, opera. Venezia, 1823 (Columbia).
٢٦  يخلط دانتي بين بابلونيا بابل على الفرات، وبابلونيا الفسطاط على النيل. والمقصود أن سميراميس حكمت دولة واسعة في حوض الدجلة والفرات. وكان سلاطين مصر المعاصرون لدانتي من دولة المماليك البحرية، وسيأتي ذلك في الأنشودة ٢٧.
وقد رسم جوتو (١٢٦٦ / ١٢٦٧–١٣٣٧) صورة لسلطان مصر وبعض رجاله، وهي الكنيسة العليا للقديس فرنتشسكو في أسيسي.
٢٧  الطائفة الثانية ممن ارتكبوا الخطيئة بسبب العاطفة، هم جماعة الذين أخلصوا في حبهم لشخص واحد، وعلى رأسهم ديدوني هذه. وهي مؤسسة دولة قرطاجنة، وزوجة سيكيو، وأقسمت بعد موته ألا تتزوج، ولكنها وقعت في حب إينياس، وأسلمت نفسها له، ثم هجرها إلى إيطاليا، فتولاها اليأس وانتحرت، كما تروي الأساطير القديمة. وتكلم عنها فرجيليو:
Virg., Æn., VI, 450 …
وتوجَد صورة من عمل روبنز (١٥٧٧–١٦٤٠) لديدو، وهي تغمد السيف في صدرها، وهي في متحف اللوفر في باريس. وكذلك رسم سيباستيان بوردون (١٦١٦–١٦٧١) صورة تمثِّل مصرع ديدو، وهي في متحف الإرميتاج في ليننجراد.
وضع برسل (١٦٥٩–١٦٦٥) ألحان أوبرا ديدو وإينياس، التي تُصوِّر قصة العاشقَين، وتوضح مأساة ديدوني:
Puncell, Henry: Aeneas and Dido, opera, Chelsea, 1689 (HMV).
٢٨  كليوباترة (Cleopatra): ملكة مصر في عهد البطالسة (٦٩–٣٠ق.م.) يُقال إنها انتقلت من حب يوليوس قيصر إلى ماركوس أنطونيوس من باب السياسة، ثم انتحرت حتى لا تقع في قبضة أوكتافيوس. يشير دانتي في الفردوس إلى هربها من أكتيوم وموتها:
Par., VI, 76–78.
ويوجَد رسم لكليوباترة في كتاب جوستو دي مينابووي المشار إليه.
٢٩  هيلانة (Helena): زوجة مينلاوس ملك إسبرطة. اختطفها باريس بن برياموس ملك طروادة، وكان ذلك سببًا في قيام حرب طروادة:
Virg., Æn., I, 650.
Hom., Ill., II, 160 …; III, 164, etc.
وهناك حفر بارز يمثِّل زواج هيلانة، من العصر الروماني، وهو بالمتحف الوطني في نابلي. وتوجَد صورتان صغيرتان لخطف هيلانة، وإحراق طروادة، وترجعان إلى القرن ١٤، وهما في مكتبة كيدجي في روما. وقد رسم تييبولو (١٦٩٦–١٧٧٠) صورة تمثِّل اختطاف هيلانة، وهي في مجموعة بورليتي في ميلانو.
٣٠  أخيل (Achilles): بطل الإغريق في حرب طروادة، وهو رمز للقوة والجمال والنبل والوفاء. ويقول هوميروس في الإلياذة إن أخيل قد قُتل بعد مقتل هيكتور أمام طروادة، ولكن دانتي اتبع الرأي الذي كان سائدًا في العصور الوسطى، القائل بأن أخيل أحب بوليكسانا ابنة برياموس، ووعد بألا يحارب طروادة لكي يتزوجها، ولكنه حنث بوعده، فتآمر عليه باريس أخو بوليكسانا، وقتله غدرًا في معبد أبولو:
Ov., Met., XIII, 448 …
Virg., Æn., I, 30, 458, 468; II, 29, 197, 275; III, 87, 326; VI, 98, 168, 839; X, 581; XI, 404; XII, 352, 545, etc.
Hom., Ill., II, 684; XXII, 35–404, etc.
وقد ألَّف لولي (١٦٣٢–١٦٨٧) ألحان أوبرا عن أخيل وبوليكسانا، وهي غير مسجلة:
Lully, J.B.: Achille et Polyxène, opera, Paris, 1687 (P. Colasse termino L’opera dopo la morte di Lully).
٣١  باريس (Paris): هو ابن ملك طروادة، حكم لفينوس الإلهة بتفوقها على يونون ومينرفا في الجمال، فكافأته بمعاونته في اختطاف هيلانة، وبذلك قامت حرب طروادة:
Virg., Æn., I, 27; II, 602; IV, 215; V, 730; VI, 57.
Hom., Ill., III, 38–75, 443 … etc.
ورسم روبنز (١٥٧٧–١٦٤٠) صورة تمثِّل باريس وهو يصدر حكمه، والصورة في المتحف الوطني في لندن.
ووضع جلوك (١٧١٤–١٧٨٧) ألحان أوبرا باريس وهيلانة، التي تصوِّر الأساطير القديمة والبطولة والعشق في عهد طروادة:
Gluck, Chr., W.: Pâris et Hélène, opera, Vienna 1770 (ex. Decca).
٣٢  تريستانو (Tristano): أحد فرسان المائدة المستديرة من قصص العصور الوسطى في فرنسا، وهو ابن الملك يليادوس، وابن أخي مارك ملك كورنواي. ذهب تريستانو الفارس الشجاع إلى إيرلندا ليحمل إيزوتا (Iseult) الشقراء الجميلة؛ لكي تتزوج من عمه وسيده الملك مارك. وحاول تريستانو أن يكون وليًّا لعمه ومولاه، ولكن الحب كان أقوى من كل شيء. وكشف الملك العلاقة بين العاشقَين، وجرح تريستانو جرحًا مميتًا، ونُقل إلى قصره، ووصلت إيزوتا لترى حبيبها يجود بأنفاسه الأخيرة، فلا تبكي، ولا تنطق سوى كلمات متقطعة، وتموت وجدًا وأسًى فوق جثمان تريستانو.
أخذ فاجنر (١٨١٣–١٨٨٣) هذه المأساة وكتبها شعرًا، ووضع ألحانها الرائعة التي هي شعلة تتلظى بنيران الحب. يخرج فاجنر في أوبرا تريستانو وإيزوتا من عالم اللقاء والفراق، ومن دنيا الجسد والمادة، ومن قواعد المجتمع، إلى العاطفة المجردة الخالدة. عندما تموت إيزوتا فوق جثمان حبيبها تهوي إلى الأعماق وهي تذوب هناء ووجدًا، وبذلك تصوِّر هذه الموسيقى قلوب العاشقين. وإحساسنا بهذه الألحان يساعدنا على فهم مآسي الحب عند ديدوني وفرنتشسكا دا ريميني، وعند دانتي:
Wagner, Richard: Tristan und Isolde, opera, Monaco, 1865 (HMV).
٣٣  يشارك دانتي المعذبين في آلامهم، حتى يكاد يفقد الوعي.
ويوجَد رسم للآثمات بسبب شهوة الجسد في صورة الحكم الأخير التي تُنسب إلى فرنتشسكو تراييني، من القرن ١٤، وهي في الكامبوسانتو في بيزا.
٣٤  قال إنه بدأ، يعني أنه لم يتكلم مباشرةً، واحتاج إلى بعض الجهد والوقت حتى تمالك نفسه، بعد أن شارك المعذبين آلامهم، قبل رؤية «هذين الاثنين».
٣٥  ينادي دانتي فرجيليو بالشاعر، وهي الصفة الخالدة عندهما معًا، ولأنهما مُقبِلان على موقف عاطفي مؤثر.
٣٦  أي: كم تحدوه الرغبة المُلحَّة للتحدث إلى هذين الاثنين، وهما فرنتشسكا دا ريميني (Francesca da Rimini)، وباولو مالاتستا (Paolo Malatesta). أخذ دانتي مأساة هذين العاشقين عن حادث تاريخي وقع في ريميني على ساحل الأدرياتيك في حوالي ١٢٨٥. وخلاصته أن أسرة دا بولنتا (Da Polenta) أمير رافنا، وأسرة مالاتستا أمير ريميني، جنحتا إلى السلام بعد فترة منافسة بينهما عن طريق المصاهرة. اعتقدت فرنتشسكا الجميلة ابنة دا بولنتا أنها ستتزوج باولو مالاتستا، الشاب القوي الجميل، الذي كان متزوجًا وأنجب طفلين، ولكنها خُدعت ربما عن غير قصد، وزُفت إلى أخيه جانتشوتو (Gianciotto) القبيح المشوَّه، والذي عُرف بالعزم والصلابة. وأنجب الزوجان طفلة. ومع ذلك فقد نشأت واستمرت عاطفة حب عنيف بين فرنتشسكا وباولو. اجتمع العاشقان في غياب الزوج، الذي شغل وظيفة العمدة في عدة أماكن. وذات يوم أخذا يقرآن قصة فرنسية من قصص المائدة المستديرة في العصور الوسطى، تناولت الملكة جينفرا (Ginevra) زوجة الملك أرتو (Artu)، وفارسها لانتشلوتُّو (Lancialotto)، وعندما وصلا في قراءتهما إلى القُبلة بين العاشقين القديمين، أخذهما الموقف، وقبَّل باولو فرنتشسكا، وتكرر ذلك الموقف بينهما. فكتب أحد أقرباء جانتشوتو ينبئه بالخبر. ورجع جانتشوتو إلى ريميني، وراقب العاشقين، وفاجأهما في عزلتهما، فأسرع باولو إلى الفرار، ولكن ثوبه عَلِق بالباب، فاندفع جانتشوتو يضربه بالسيف، واعترضته فرنتشسكا لحماية باولو، فاخترق السيف صدرها، ونفَذ إلى ظهر باولو، فماتا معًا. عرف دانتي هذه المأساة في شبابه فأثَّرت في نفسه، واعتزم أن يكتب عنها يومًا ما. وعندما لجأ دانتي في أواخر أيامه إلى جويدو نوفلو دا بولنتا أمير رافنا، أكمل كتابة الكوميديا، ونال ما كتبه دانتي عن فرنتشسكا إعجاب الأمير وتقديره، فكتب شعرًا متأثرًا بدانتي.
كتب دانتي هذا الجزء عن فرنتشسكا فيما لا يزيد عن ٧٠ بيتًا، وبذلك أوجز ولم يفصِّل. جعل هذا الإيجاز — وهو صفة عامة عند دانتي — لكل كلمة وإشارة معناها الدقيق. ولا بد — لفهمه — من الوقوف بإمعان أمام ألفاظه. ويتساءل بعض النقاد عن سبب تخليد دانتي لهذين العاشقين، ويشك بعضهم في أن دانتي ربما مر بتجربة مشابهة، وأنه أراد أن يضع لنفسه وللناس عظة وعبرة، ولكن ليست هناك أدلة تؤيد هذا الرأي، ويستبعده أكثر النقاد.
تناول بعض أدباء إيطاليا هذا الموضوع ذاته. كتب بليكو (Pellico) مأساة فرنتشسكا دا ريميني في أوائل القرن التاسع عشر، صوَّر فيها الأبطال الثلاثة كنماذج للخلق والفضيلة. وعنده أن فرنتشسكا أحبت باولو دون خطيئة، وارتكب جانتشوتو القتل لأنه ظن خطأ أن هناك خطيئة قد وقعت. ووضع دانونتزيو (Dannunzio) مأساة فرنتشسكا دا ريميني التي يسودها العنف والقسوة والتمتع بملذات الحياة، تلك الصفات التي تغلب على أدبه. وكتب تشيزاريو (Cesareo) مأساة فرنتشسكا دا ريميني، وصوَّر فيها الود المتبادل بين الأخوين، وجعل فرنتشسكا امرأة عنيفة جامحة، ظلت تغري باولو بالتهكم والسخرية والرفق واللين، حتى وقعت الخطيئة والمأساة.
٣٧  اختلف عقابهما عن بقية الآثمين؛ فلم تفرقهما الريح، ولم تضربهما ببعض، بل حملتهما معًا على الدوام. أثار هذا الاختلاف انتباه دانتي.
٣٨  يعني يبدوان كريشة في مهب الرياح.
٣٩  حاول فرجيليو بهذه الكلمات أن يحمل دانتي على الصبر والانتظار.
٤٠  أي: إن الحب يقودهما مع الريح، والحب محور هذه القصيدة.
٤١  أي: إنهما لن يتوانيا عن القدوم إذا استحلفهما دانتي باسم الحب العزيز عليهما.
٤٢  يعني أن الريح استجابت لنداء دانتي وحملتهما إليه.
٤٣  أي: إنه من فرط تأثره لم يستطع النطق بسهولة، فبذل جهدًا ورفع صوته كي يتكلم.
٤٤  ناداهما دانتي بالحالة الأليمة التي هما عليها، وفي هذا عطف ومشاركة لهاتين النفسين في عالم لا رحمة فيه. وما إن أحسا هذا العطف حتى أسرعا إلى دانتي في شوق ولهفة.
٤٥  طلب إليهما أن يقتربا أكثر، وأن يتكلما عن حالهما، ولم يكد يُتم قوله حتى أبدى هذا الاعتراض الذي ولَّده الشك؛ إذ ربما وُجد عائق يمنعهما من القدوم، والمقصود بالعائقِ اللهُ.
٤٦  شبههما دانتي بالحمام؛ لأنه طير يعشق بإخلاص.
٤٧  طارا بأجنحة قوية ممتدة مفتوحة حتى يصلا سريعًا إلى العش الحبيب.
ويشبه هذا قول فرجيليو:
Virg., Æn., V, 213-214.
٤٨  يمكن أن يكون ترتيب الأبيات الثلاثة السابقة كالآتي: «حملَتهما الرغبة المُلحَّة عبر الهواء كفرخَي حمام ناداهما الهيام، بأجنحة مرفوعة ثابتة إلى العش الحبيب.»
٤٩  أي: إنهما لم يستطيعا التأخُّر أمام نداء دانتي الحار.
٥٠  ديدوني (Didone): ملكة قرطاجنة التي عشقت إينياس بعد موت زوجها كما تروي الأسطورة. وليست ديدوني وجماعتها من الممعنين في حياة الإثم. وهي ارتكبت الخطيئة في ظروف مؤثرة، ولا تزال تسودها الأخلاق النبيلة.
توجَد صورة صغيرة لإينياس وديدو في بحيرة الأفرنو التي تؤدي إلى العالم السفلي، وترجع إلى القرن ١٤، وهي في مكتبة كيدجي في روما.
٥١  الهواء الخبيث الأسود المظلم الملعون.
٥٢  يعني أن دانتي روح وجسد حي لم يمت بعد.
٥٣  لا تعرف فرنتشسكا كيف تكافئ دانتي على عطفه عليها وعلى صاحبها، فنعتته بالصفات الطيبة اعترافًا بالجميل.
٥٤  أي: الذي تجشَّم الصعاب لزيارتهما.
٥٥  تأتي لزيارة من؟ نحن الاثنين اللذين جمعهما الحب والإثم والدم والموت!
٥٦  أي: الله.
٥٧  كانت فرنتشسكا تود أن تكون صلاتها مقبولة عند الله، ولكنها تعرف أن لا مكان لها عنده.
٥٨  كانت تود أن تُصلي من أجل غفران ذنوب دانتي، وبذلك حاولت أن تقابل العطف بالعطف. يمزج دانتي هناك عالم الخطيئة بعالم الرحمة، ويحاول أن يقرب بين الأرض والسماء.
٥٩  أبدلت البيتين «٩٤ و٩٥» الواحد بالآخر، لمطابقة الأسلوب العربي.
٦٠  لا تسكن الريح في هذه المنطقة أبدًا، ولكنها تسكن قليلًا من أجل هذين العاشقين على سبيل الاستثناء، حتى يقدرا على الكلام؛ لأن خطيئتهما عند دانتي تدعو إلى العطف والرحمة.
٦١  يعني مدينة رافنا التي تقع على مقربة من ساحل الأدرياتيك، ولم تذكر اسم المدينة ربما لأنه آلمها ذكرى الأهل والوطن.
٦٢  يلاقي نهر البو ونهيراته صعوبات الأرض في مجراه الأعلى، ويبحث عن السلام في المجرى الأدنى السهل وفي البحر. وهنا يمزج دانتي بين معنى السلام عند الإنسان وفي حياة النهر.
٦٣  لا تنطق فرنتشسكا في هذه الآونة بغير الحب. وقد ساد مذهب الحب في مدرسة الشعر الحديث في فلورنسا في القرن ١٣م، وقال دانتي في «الحياة الجديدة» ما يعبر عن هذا المعنى، وكذلك فعل معاصروه:
V.N., XX, 3.
Guinizelli, Canz., V, 1.
٦٤  يسيطر الحب على القلب سريعًا، حتى إن المحب لا يدرك كيف يحدث هذا.
٦٥  هناك خلاف بين النقاد على نص هذا المعنى وتفسيره. يرى بعضٌ أن دانتي أراد أن يقول: «تيَّم شخصه هذا الجميل.»
٦٦  هناك جدال وخلاف بين الدانتيين على معنى offendere، وتُفسَّر بمعنى الحزن أو الإهانة أو القهر.
٦٧  تنسى الألم لحظة، ثم تعود إلى ذكرى الحب.
٦٨  أي: إن الحب لا يطلب سوى الحب، ولا يعفى المحبوب مِن أن يحب مَن أحبه، ومن ذا الذي يستطيع أن يقاومه؟ يعني أن باولو أحبها فأحبته. وهي تتكلم بصدق وحرارة، وإن حرارة القلوب تذيب كل الذنوب، وبذلك تتحول الخطيئة إلى طهارة وفضيلة بنيران القلب المخلص.
٦٩  أي: إن الحب لا يزال مستوليًا عليها، ولا تستطيع منه خلاصًا.
٧٠  عادت فرنتشسكا مرة ثالثة إلى الحب، ولكنها لا تطيل الكلام عنه؛ لأنه أدى إلى حدوث مأساتهما.
٧١  قادهما الحب إلى موت واحد، إلى موت الجسد، وإلى اللعنة والعذاب. بين فرنتشسكا وباولو أخوَّة في الحب والخطيئة والموت والعذاب، وفي الموت خلود الحب. ويشبه هذا ما حدث لتريستانو وإيزوتا، الذي عبَّر فاجنر في موسيقاه عن خلود حبهما بالموت، كما سبقت الإشارة إليه.
٧٢  الدائرة القائينية — نسبةً إلى قابيل (Caina) — هي الطبقة الأولى من الحلقة التاسعة من الجحيم، التي تُعذَّب فيها نفوس الخونة ومن قَتلوا أقاربهم، هذا مع أن جانتشوتو، الزوج، لم يرتكب القتل إلا دفاعًا عن العِرض. وهل كان من المنتظر أن يقف باردًا أمام شرفه المنتهك، ألم يكن جانتشوتو جديرًا بأن يلقى العطف والرحمة جزاء ما فقد؟ فعل دانتي ذلك، وخرج على تقاليد العصر وقواعد الأخلاق والدين لأنه آمن بالحب، واعتقد بأنه فوق التقاليد وقواعد المجتمع، وأقوى من الشرف والخطيئة واللعنة والموت. وسيكون موضع جانتشوتو مع قَتَلة الأقارب:
Inf., XXXII, 16–69.
ويوجَد حجَر محفور عليه كتابة لجانتشوتو مالاتستا، ويرجع إلى ١٢٨٥، وهو في متحف الفن في بيزارو، على ساحل البحر الأدرياتي.
٧٣  كانت فرنتشسكا تتكلم وحدها، ولكن باسمها واسم باولو.
٧٤  هنا سادت فترة صمت وسكون. غلب دانتي الأسى فسكت وأطرق رأسه طويلًا، وظل يفكر في كلام فرنتشسكا العذب الأليم، وسكت فرجيليو أيضًا إلى جانبه. ورُب صمت أبلغ من كلام!
٧٥  قطع فرجيليو هذا السكون وبدأ يتكلم.
٧٦  لم يعد دانتي، المستغرق في الفكر والأسى، إلى نفسه إلا بعد جهد ووقت. ولما أجاب عن سؤال فرجيليو بدا كأنه يحادث نفسه.
٧٧  تساءل دانتي عن الخواطر العذبة والرغبة العميقة التي أدت بهما إلى الجحيم.
٧٨  بذل دانتي جهدًا حتى تمالك نفسه، وعاد إلى سؤال فرنتشسكا.
٧٩  في كلام دانتي عطف وإعزاز ومشاركة للمعذبَين في آلامهما، التي تبعثه على البكاء، وتجعله حزينًا خاشعًا متعبدًا أمام هذا الموقف المليء بالأسى.
٨٠  أي: في الوقت السعيد الذي كان كل منهما يفكر فيه في حبه وصاحبه.
٨١  أي: ليس هما اللذين عرفا ما يخالجهما من تلقاء نفسيهما، ولكن الحب ذاته هو الذي كشف لكل منهما عما في قلب الآخر من عاطفة.
٨٢  يصحب الحبَّ الشكُّ والغموض، ويتشكك العاشق في مدى حب صاحبه له، وفي الشك إذكاء للحب.
٨٣  قالت إن ذكرى العهد السعيد وقت البؤس، يزيد عذاب النفس. ومع هذا فإن الذكرى ذاتها تُعزي القلب المكلوم، فتُشعره بالسعادة وتُعذبه في وقت واحد. ويشبه هذا ما قاله بويتيوس:
Boethius, Philosophiae Consolationis, II, IV, 4.
٨٤  أشهدت فرنتشسكا فرجيليو على صحة هذا القول.
٨٥  يشبه هذا قول فرجيليو:
Virg., Æn., II, 10–13.
٨٦  عندما يمتزج البكاء بالكلام يكون منتهى الألم. والكونت أوجولينو فيما بعد يتكلم ويبكي. وورد هذا المعنى عند فرجيليو:
Inf., XXXIII, 9.
Virg., Æn., VI, 1.
لم تسرع فرنتشسكا إلى إجابة سؤال دانتي، وتأخرت بكلامها السابق في الاعتراف له، كمن يريد أن يحتفظ بسر عزيز لديه، ثم فاض لسانها بما ضمته جوانحها، وكمن يمنع عبراته لحظة، ثم لا تلبث أن تفيض على الرغم منه.
٨٧  تمهلت فرنتشسكا ووقفت عند كل كلمة؛ لأنها استعادت ذكرياتها العذبة الأليمة. كانت تقرأ مع باولو للتسلية والمتعة قصةَ حب قديمة، تجاوبت مع ما في نفسيهما من العواطف.
٨٨  عين الملك أرتو، في قصص المائدة المستديرة، لانتشلوتو فارسًا لزوجته الملكة جينفرا. نشأ الحب بين الملكة وفارسها، وسألته مرة كيف ومتى أحبها. قال إنه أحبها منذ أن أصبح فارسًا لها، وإنه استمد منها الحب عندما ودعته في رفق وعذوبة، وبذلك غمرته بالسعادة، وجعلته غنيًّا وسط الفقر. ولكن جينفرا على الرغم من حبها إياه كان يلذ لها أن تعذبه وتؤلمه، حتى ظن لانتشلوتو أنها لم تعد تحبه. وعندئذٍ تدخل جاليوتو صديقهما، ودافع عن لانتشلوتو، وشرح كيف أنه يحبها أكثر من نفسه، وأنه كنز لا يمكن العثور على مثيله، وسألها أن تكون رحيمة به، وأن تُظهر له الحب الذي تخفيه وأن تحتفظ به أبدًا. وعدت جينفرا أن تفعل ذلك، وأفصحت عن رغبتها في أن يكون أحدهما خالصًا للآخر:
Malory, Th.: The Death of King Arthur, Oxford, 1955.
وقد ألَّف برسل (١٦٥٩–١٦٦٥) ألحان أوبرا عن الملك أرتو:
Purcell, Henry: King Arthur, opera, London, 1691 (Oiseaux-Lyre).
٨٩  كانا بعيدين عن أعين الرقباء، وهذا دليل على شعورهما بالخطيئة.
٩٠  لم يخامرهما أيُّ شك في أن يُكشف أمرهما.
٩١  جعلتهما تلك القراءة يتبادلان النظرات، فزاد نبضهما، وكشف أحدهما الحب في وجه الآخر! وإن تلاقي عيونهما عدة مرات معناه أنهما قاوما هذا الشعور بعض الوقت. ورأت فرنتشسكا في نفسها صورة جينفرا، وأرى باولو في نفسه صورة لانتشلوتو.
٩٢  انتهت مقاومتهما وغلبهما الحب. حاولت فرنتشسكا أن تشرح أصل ذلك الحب، ولكنها لم تكد تبدأ الكلام حتى أشرفت على النهاية.
٩٣  البسمة كناية عن الفم. لا يذكر دانتي الفم أو الشفتين، ولكنه يذكر الابتسامة. ويعبر عن مادة الشفتين بالبسمة غير المادية، وهذا شعور رقيق. قصدت فرنتشسكا أن مقاومتهما قد هُزمت عندما قرآ أن جينفرا ولانتشلوتو قد تعانقا في قُبلة طويلة في ضوء القمر الساطع.
٩٤  اكتفت بالإشارة إلى باولو بلفظ هذا دون أن تذكر اسمه؛ لأن مَن يعرفها لا بد أن يعرفه، وهما شيء واحد، هو هي وهي هو، وهذا منتهى الحب.
٩٥  هما متلازمان في الحياة والموت، واللذة والعذاب.
٩٦  عندما قرآ عن قبلة جينفرا ولانتشلوتو غمرتهما نشوة الحب، وسقط الكتاب من أيديهما، واقترب وجهاهما، واختلطت أنفاسهما، والتقت شفتاهما المرتعشتان في قُبلة حارة عميقة خالدة.
٩٧  أي: إن القصة ومؤلفها لعبا دور جاليوتو (Galeotto) وسيط الحب بين جينفرا ولانتشلوتو.
٩٨  لم يقرآ ذلك اليوم شيئًا لا لأنهما لم يرتكبا من الإثم سوى هذه القُبلة، ولكن فرنتشسكا لم تقوَ على الكلام أكثر مما فعلت. اعترفت بخطيئتها، ولكن مع احترام شخصها. أخبرت فرنتشسكا دانتي بكل شيء، بكلماتها القصيرة، وتركت ظلًّا من الإيجاز والإبهام على ما اختلج بين جوانحها. وكثيرًا ما تعجز اللغة عن التعبير عما يدور في حنايا القلوب. عبَّرت فرنتشسكا عن الفاجعة بسطر واحد، ولم تذكر كيف قُتلا. اختلط في ذلك الحب باللذة والإثم والنار والخلود. ويشبه مقتلهما ما صوَّره شكسبير في مأساة عطيل؛ يسأل عطيل ديدمونة قبل أن يقتلها هل قامت بالصلاة، ويطلب إليها ألا يفوتها إثم دون أن تستغفر السماء من أجله، ولها أن تعتبر نفسها في فراش الموت! استولت الدهشة والرعب على ديدمونة البريئة، وحاولت أن تعرف ماذا قصد عطيل بذلك الكلام الرهيب. لم ترتكب ديدمونة إثمًا، ولكن عطيلا صدَّق وشاية ياجو بها، فأخذته الغيرة وقتلها، ثم عرف الحقيقة الأليمة بعد موتها. وهناك خلاف بين المأساتين؛ لأن فرنتشسكا ارتكبت الإثم، واعتزت بحبها ولم تتنصل منه، بعكس ديدمونة التي لم ترتكب إثمًا:
Shakespeare, Othello, V, 2.
ورسم ديلاكروا (١٧٩٨–١٨٦٣) صورة لباولو وفرنتشسكا وهما ممسكان بالكتاب الذي يروي قصة جينفرا، بينما كان جانتشوتو يرقبهما خلسة من وراء ستار. والصورة موجودة في مجموعة خاصة في زوريخ.
٩٩  أي: طول ذلك الوقت.
١٠٠  أي: فرنتشسكا.
١٠١  أي: باولو، بينما كانت فرنتشسكا تتكلم كان باولو يبكي. كلامها بكاء وبكاؤه كلام، وهما يعبِّران عن شيء واحد. أحس الرجل القوي الشجاع بالمسئولية، وقدَّر التضحية التي بذلتها من أجله المرأة، فلم يقوَ على الكلام. أما المرأة الخجول الوديعة فقد أصبحت جريئة شجاعة، وتكلمت باسمها واسم عاشقها، وافتخرت بما فعلت. وظهر باولو أمامنا وهو لا يفعل شيئًا سوى أن يُصعِد الزفرات، وكان باولو بذلك روحًا مليئًا بالحياة الزاخرة. ولا ندري أيهما كان أشد تأثيرًا في النفس، كلام فرنتشسكا العذب الأليم، أم بكاء باولو الصامت بغير كلام؟ عندما نطقت فرنتشسكا بكلماتها الأولى أحس دانتي بالأسى، وعندما تابعت كلامها امتلأت عيناه بالدمع، وعندما بكى باولو، لم يحتمل دانتي هذا الأسى العنيف، ففقد الوعي.
١٠٢  أي: إن دانتي أحس أنه يموت.
١٠٣  فقد دانتي الوعي وهوى إلى الأرض كجثة لا حراك بها، وهذا منتهى المشاركة في آلام هذين العاشقين. ويقال إن دانتي كان معرَّضًا لنوبات يفقد فيها الوعي ويسقط على الأرض.
يشبه هذا قول أوفيديوس:
Ov., Met., Xl, 457–460.
١٠٤  هكذا رسم دانتي شخصية فرنتشسكا دا ريميني. وهذا الفصل هو أشهر أجزاء الكوميديا. ظهرت شخصية فرنتشسكا بعد تدرج طويل في أشعار التروبادور؛ حيث كانت المرأة انعكاسًا لصورة الرجل، ثم أصبحت في الشعر الغنائي في أواخر العصور الوسطى رمزًا للفضائل. وظهرت شخصية فرنتشسكا وليدة لتجارب الحب العديدة التي مر بها دانتي. وصحيح أن دانتي وضع فرنتشسكا في الجحيم، ولكنها جحيم مخفَّفة، بالنسبة للإثم في حق الزوج؛ لأنه أدرك أنه يصعب على الإنسان مقاومة العاطفة، وأبدى نحوها العطف والرعاية والأسى، حتى فقد الوعي. وفرنتشسكا، على الرغم من الخطيئة، شخصية نبيلة رقيقة وديعة صادقة معترفة بالجميل، تكاد تكون تقية صالحة، لا تحسد أحدًا ولا تحقد على إنسان، ولا تسخط على العذاب الذي تلاقيه، ولا تتلمس المعاذير للخطيئة التي ارتكبتها. وهي امرأة حية حقيقية. وهي سابقة على تلك الشخصيات الإنسانية الحديثة التي خلقها شكسبير وجوته. وهي مَثل أعلى للإنسان الحي الحديث الواقعي بخيره وشره. وخلالها صوَّر دانتي الإنسان الرقيق الضعيف، الذي يخضع للقدر، ويستسلم للخطيئة. عاشت فرنتشسكا في عالم لم يفهمها. إنها كالزهرة الرقيقة تؤثر فيها نسمات الهواء الرقيقة، هي ضحية أكثر منها آثمة، إنها شهيدة حب. هكذا حطم دانتي أبا الهول، وكسر القيود السابقة، وخرج على تقاليد العصور الوسطى، وتغلغل في صميم الحياة الواقعة، وصور الإنسان الحديث.
ويوجَد رسم يُقال إنه يمثِّل فرنتشسكا في صورة ترجع إلى القرن ١٤، وهي في كنيسة سانتا ماريا، في بورتو فووري في رافنا.
وعلى باب الجحيم الذي صنعه رودان نماذج من الحَفر البارز تمثِّل عذاب الآثمين، ومن بينهم فرنتشسكا وباولو وهما في حالة من الوجد والهيام.
وضع بعض الموسيقيين ألحانًا موسيقية استوحَوها من قصة فرنتشسكا والكوميديا، فوضع روسيني (١٧٩٢–١٨٦٨) قطعة موسيقية عنها. وألَّف ليست (١٨١١–١٨٨٦) سيمفونية دانتي التي تُصور عالم الجحيم، ودنيا المطهر، والتطلع إلى الفردوس. ووضع سوناتا دانتي التي تصوِّر حب هذين العاشقين وعذابهما. وألَّف تشايكوفسكي (١٨٤٠–١٨٩٣) افتتاحية سمفونية عن فرنتشسكا دا ريميني تَجاوَب في أنغامها عصفُ الرياح وأنين العاشقَين اللذين يذوبان وجدًا وهيامًا. وكذلك وضع تزاندوناي (١٨٨٣–١٩٤٤) ألحان أوبرا فرنتشسكا دا ريميني على أساس كتاب دانونتزيو عنها. كما ألَّف راحمانيوف (١٨٧٣–١٩٤٣) أوبرا عنها. وهناك كثيرون غيرهم قد استلهموا هذا الموضوع لوضع ألحانهم الموسيقية في إيطاليا والخارج، وسيأتي ذكر هذا في قائمة المراجع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤