الفصل العاشر

ماري بوتنام جاكوبي

إن سيرة ماري بوتنام جاكوبي (١٨٤٢–١٩٠٧م) تتجاوز الصعوبات التقليدية والمواقف العصرية التي ظهرت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.

وقد كان قرارها بأن تغدوَ طبيبة صدمةً بغيضة لكل آل بوتنام، باستثناء أسرتها المباشرة؛ فقد كان المفروغ منه أنها ستغدو كاتبة (فقد كان والدها جورج بالمر بوتنام ناشر الخالدين الأمريكيين من قبيل واشنجتون إيرفنج، جيمس فينيمور كوبر، ناتانيل هوثورن، وإدجار آلان بو)، وقد بدأت ميني (كما كانوا يدعونها) تكتب رسائل وموضوعات سابقة لسنِّها بشكلٍ يسترعي الإعجاب عندما كانت في السادسة من عمرها، وفي السابعة عشرة كتبت قصةً عنوانها «فقد ثم وجد» عن اكتشاف منابع النيل، وباعتها إلى مجلة «أتلانتك» الشهرية بثمانين دولارًا.

وفي سنة ١٨٥٩م كانت الثمانون دولارًا مبلغًا كبيرًا من المال. وفي سنة ١٩٢٨م كتب فيكتور روبنسون الأمريكي المولود بأوكرانيا والمؤرخ الطبي أنه عندما «قرأ هذه الحكاية منذ سنوات لم يرَها تُساوي الثمن»، ووصف إسهامًا آخر لها لنفس المجلة، وهي «سلاسل الشعر»، بأنها «مليئة بالعمق لا بالعاطفة»، ولكنه قال إنها لو كانت «مارست الأدب في سن نضجها لأصبحت معروفةً اليوم بأنها إرهاصٌ سابق لإديث وارتون وويلاكاتر، وإدنا فيربر».1 ولكن ذلك لم يحدث؛ فقد كان لميني عقلٌ فضولي، وكانت مبهورةً مفتونة بأي شيء له علاقة بالعلم، وقد أعلنت خُططها عند تخرُّجها من مدرسة مس ليديا وادلي للبنات في نيويورك. والمدارس الطبية في تلك المدينة لم تكُن مفتوحة للنساء. ولم يستطع مستر بوتنام — على اتساع أفق تفكيره — قبول معيشة ابنته الشابَّة بعيدًا عن البيت، وعلى سبيل الحل الوسط اتَّفق معها على أن تدرس لمدة عام ونصف في كلية نيويورك للصيدلة. وتخرَّجت في سنة ١٨٦٣م، فكانت أول امرأة تتخرج من الكلية، والوحيدة التي تخرَّجت حتى سنة ١٨٨٦م.
والآن وقد صارت ميني في الحادية والعشرين، وافَق والدها على التحاقها بمدرسة الطب النسوية في بنسلفانيا، وكان رجاؤه عند توديعها ألا تدع نفسها «تُمتصُّ وتُبتلع في ذلك الفرع من المملكة الحيوانية المُسمَّى عادةً النساء المستقلَّات الرأي».2 وكانت الحياة في بنسلفانيا بعيدةً كل البعد عن الراحة؛ فقد جعل الطلاب الذكور في مدارس الطب المحلية — بتحريض من المُنظَّمات الطبية — حياة طالبات كلية الطب النسوية تعِسةً جدًّا.

وكالعادة المتبَعة في مدارس الطب في كل القُطر، نظَّمت الكلية دراسة لمدة سنتَين، وكانت نفس مجموعة المحاضرات تُعطى في كلٍّ من السنتَين. ولعل الفكرة أن ما يفوت الطالب في السنة الأولى يمكن تعويضه في السنة الثانية. وقد تأثَّرت الدكتورة آن بريستون العميدة بدراسات ماري بوتنام السابقة، فسمحت لها بدخول الامتحان بعد سنةٍ واحدة، فنالت درجتها في مارس سنة ١٨٦٤م.

وكانت نقلتها التالية إلى مستشفى نيو إنجلند للنساء والأطفال. وبعد مدة الامتياز عملت في الكيمياء، ولكنها ما زالت تشعر بأن تعليمها لم يضعها على قدم المساواة مع الخريجين في المدارس الكبرى التي تمنع من دخولها هي وغيرها من النساء؛ فما تحتاج إليه هو دبلوم من «أكبر جامعة في العالم». وفي سبتمبر سنة ١٨٦٦م أبحرت إلى أوروبا وهي مُصرَّة على اقتحام جامعة باريس المشهورة بأنها لا تُقتحم، وحذَّرتها إليزابث بلاكويل — التي كانت تقضي الشتاء في باريس — أن تتحرك بحرص؛ فمدرسة الطب العظيمة لم يحِنْ أوان التفكير فيها.

ورفضت الدكتورة بوتنام اقتراحًا (مُماثلًا لما اقترحوه قبل ذلك على إليزابث بلاكويل) «أن ترتدي ملابس للرجال مثل أجنوديس الإغريقية»، مُعتذرةً بأن «البنطلون سيُبرِز قِصر قامتها».3 وفي الوقت الحاضر اكتفت بأن تنضمَّ إلى الطلبة التابعين لأستاذين في جولات المستشفى، وتحرَّكت ببطءٍ صوب هدفها. وقبل نهاية العام سمحوا لها بالانتظام في عيادةٍ هامَّة، وكذا بدخول مكتبة مدرسة الطب التي فتحت أمامها، وحظيَت أيضًا بقبولها في بعض المحاضرات في «المدرسة العملية»، ولم يكُن بينها وبين مدرسة الطب نفسها إلا خطوةٌ واحدة.

وكانت ماري قد قضت في باريس سنة ونصف سنة عندما علمت أن وزير التعليم العام مُتشوق لرؤية امرأة تُقيَّد في مدرسة الطب. ولما كان صوته هو الوحيد المُؤيِّد فقد رُفِض طلبها الرسمي للقيد، ولم يكن في صفها إلا صوتٌ واحد؛ فما كان أمامها إلا أن تنتظر الفصل الدراسيَّ التاليَ ثم تتقدم ثانية.

وفي هذه الأثناء، ومع أن الباب كان مُغلَقًا إلا أنه كان ثَمة مَدخل خلفي؛ فقد حصلت ماري على تصريح بحضور محاضرات مادة واحدة بدون قيد. وفي ٢٥ من يناير سنة ١٨٦٥م كتبت إلى أمها: «أول أمس، ولأول مرة منذ إنشائها قبل عدة قرون، شُوهِدت «تنورة» في المُدرَّج المَهيب لمدرسة الطب، وكانت هذه التنورة تضمُّ خادمتك المُطيعة جدًّا وابنتك الخاضعة!»4 وعند حلول موعد امتحانات الدخول التالية كان منظر التنورة قد صار مألوفًا في المدرج، فقدَّمت طلبًا لأداء الامتحانات أيَّده العميد و٤ أساتذة، فقُبِل ونجحت بدرجاتٍ عالية.
واختارت لرسالتها موضوعًا في الكيمياء الحيوية: عن الدهون المتعادلة والأحماض الدهنية. وكان قُضاتها غير مُؤهَّلين لمناقشة الموضوع، إلا أنهم قرَّروا أن الرسالة مُرْضية جدًّا، ومنحوها ميدالية باريس. وكانت قد أهدت بحثها إلى «الأستاذ الذي لا أعرف اسمه، والذي كان صوته هو الوحيد في جانب قبولي في المدرسة؛ وبذلك احتجَّ على التحامل الذي يستبعد النساء من الدراسات المتقدمة.» وخفَّت مرارتها أمام الشرف الذي أُضفيَ عليها، فأهدت عِدَّة نُسَخ «إلى كلية باريس، التي بمنحها شرف الدرجة العلمية لامرأة قد ارتفعت إلى مستوى الحرية التي عُرِفت بها فرنسا».5
وفي ٢٩ من يوليو سنة ١٨٧١م كتبت إلى أمها: «لقد نجحت في امتحاني الأخير. أوه! لقد أخبرتك بهذا من قبل، لقد نجحت في رسالتي وأنا الآن دكتورة في الطب من كلية باريس.»6

إن الدكتورة بوتنام الآن في التاسعة والعشرين، وقد عادت إلى الوطن قُرْب نهاية سنة ١٨٧١م. وبعد أن أمضت ٦ سنوات في باريس، كانت سليلة سبعة أجيال ممن حاربوا في بنكرهيل قد غدت فرنسية جدًّا، بحيث لم تعُد قادرة على الكلام بالإنجليزية من غير أن تُقحم في كلامها عباراتٍ فرنسية.

وفي باريس كانت قد وعدت إليزابث بلاكويل أنها بعد عودتها إلى نيويورك، ستقوم بالتدريس في كلية الطب النسوية التابعة لمستشفى نيويورك الذي تُديره الدكتورة إميلي بلاكويل. واستاء الطالبات من طريقة التعليم الفرنسية، وشكَون من أنها تُطالبهن بواجباتٍ غير مفهومة، وحملن اعتراضاتهن إلى الدكتورة إميلي التي كانت تفتقر إلى دماثة أختها ولباقتها وقلبها المُتفتح، فأخذت جانب الطالبات. وقيل للدكتورة بوتنام إن مستويات المدرسة بالفعل أعلى من مستويات معظم المدارس الطبية، وإنه لا حاجة إلى أي مُبتكَرات فرنسية.

وجمَّدت الدكتورة بوتنام استقالتها لحين إخطار الدكتورة إليزابث — التي كانت تعيش في إنجلترا — بالمأزق. وكانت الدكتورة إليزابث لَبِقة كالعادة؛ فلم تُبقِ على الدكتورة بوتنام فحسب، بل وجعلتها تشغل كرسي المادة الطبية وعلم الأدوية لمدة عشرين سنة.

وفي سنة ١٨٧١م تقدَّمت الدكتورة بوتنام لعضوية الجمعية الطبية لإقليم نيويورك. وكان الدكتور أبراهام جاكوبي رئيسها طبيب أطفال ألماني المولد مرموقًا ومُعلمًا استقرَّ في نيويورك في سنة ١٨٥٣م. وفي ترحيبه الرسمي بالأعضاء الجُدد في ٤ من ديسمبر سنة ١٨٧١م قال الدكتور جاكوبي ما يأتي:
«من دواعي السرور الذي ليس بالقليل أنه في عامٍ رئاسي يتم الرد على مشكلة من أهم مشاكل اليوم، وبهدوء وبلا ضجَّة، وهي تتعلق بقبول إناث في صفوف المهنة الطبية. وبما أن حصولهن على درجة دكتوراه الطب مسألةٌ تتَّصل بالتشريعات، وحصولهن على حق الممارسة مسألة تتوقف على اختيار أو تحيُّز الجمهور، فإن قبولهن في الجمعيات الطبية القائمة حاليًّا قد تم على يدكم، وباقتراعٍ بسيط غير مصحوب بالضجة والصياح الذي ألِفه الشُّبَّان في مدارس الطب، أو بالاضطراب والاستخفاف الذي بدا في اجتماعات الجمعية الطبية العامة. وأظنُّنا يمكن أن نقول إنَّ عملنا هذا قد حسم نهائيًّا مشكلةً يعرف الجميع أهميتها، إن اقتراح أكبر جمعية طبية من هذا النوع وفي مبنى إمباير ستيت، بل — حسب اعتقادي — في كل القُطر، سيكون له أثره في تهدئة الانفعالات وإخماد التحيزات، في دوائر الجيش الطبي الذي يبلغ عدده أربعين ألف طبيب في الولايات المتحدة، كما أنه يرفعنا في هذا الخصوص إلى مستوى الأقطار الأوروبية؛ فباريس قد خرَّجت دكتورة في الطب ستُثبِت — فيما أعتقد — أنها من دور الجمعية والمهنة في هذه المدينة، بل وفي بلادنا.»7

وتقابلت الدكتورة بوتنام والدكتور جاكوبي بصورةٍ أقل رسمية، عندما قدمت حالة قلب طريفة في اجتماعٍ عقدته جمعية علم الأمراض بنيويورك. ووجَّه الدكتور جاكوبي كثيرًا من الأسئلة الفاحصة، وأصرَّ على أن يُوصلها إلى البيت كي يتسنَّى لهما مواصلة المناقشة. وتحوَّل توصيل الدكتور جاكوبي للدكتورة بوتنام من الاجتماعات إلى بيتها، إلى عادة. وتزوَّجا في ٢٧ من يوليو سنة ١٨٧٣م.

وقد أسعد الدكتور جاكوبي أن زوجته كانت أيضًا كاتبة ومُحرِّرةً موهوبة، وكان يعمل في تأليف كتاب عن «تغذية الطفل» لعله أشهر كتبه العديدة، فكانت ماري مصدر عون له لا يُقدَّر بثمن.

واحتفظت ماري بعد زواجها بممارستها المتسِعة، وكانت تُلقي خمس محاضرات كل أسبوع في كلية الطب النسوية، وتُساعد زوجها في إنشاء عيادة للأطفال في مستشفى جبل سيناء، وبطريقةٍ ما كانت تجد وقتًا لكتابتها الخاصة. وفي سنة ١٨٧٥م قدَّمت بحثًا علميًّا للدخول في مسابقة جائزة بويلستون الطبية، وذلك شرفٌ سامٍ يتمنَّاه الجميع تمنحه جامعة هارفرد. وكان المفهوم أنه لن يُضفى على امرأة، وكانت الموضوعات تُقبَل بدون أسماء أصحابها حتى لا يتأثر القضاة بهُويَّة المؤلف، وهو احتياط لم يكن مقصودًا به أن يُتيح لامرأةٍ أن تُقدِّم ورقتها، ولكنه أتاح لها ذلك. ووجدوا ورقتها أعلى بكثير من جميع الموضوعات المُقدَّمة، واتَّضحت هُويَّتها فواجَه القضاة مشكلة، غير أنهم حطَّموا التقاليد ومنحوها الجائزة.

وكانت السنوات التالية مُزدحِمة بالعمل؛ ففي سنة ١٨٨٠م قبلت عضوًا في أكاديمية الطب بنيويورك المُنشأة حديثًا، حيث درَّست لطلبةٍ ذكور مُتخرِّجين، وظلَّت على نشاطها حتى أواسط التسعينيات من القرن ١٩، حيث بدأت صحتها تتدهور، وماتت سنة ١٩٠٦م.

وفي حفل تأبين بأكاديمية الطب في ٤ من يناير سنة ١٩٠٧م قال السير وليم أوسلر، المُعلم الممتاز والمؤلف والكاتب المشهور في مجال الصحة العامة: «عندما عادت ماري بوتنام من أوروبا بدرجةٍ طبية من باريس وتدريب على الطب العلمي، وهو أمرٌ غير مألوف في هذه الحِقبة حتى بين الرجال، كان وضع النساء كطبيبات لم يستقرَّ بعد …»

وليس استخفافًا بمن عاصَرنها من النساء أن نقول إنه ما من امرأةٍ أخرى في المهنة كانت تُضارعها في مَقدرتها التي تُبديها حين تتناول موضوعًا. وقد أضفى الطابع العلمي لإسهاماتها الكثيرة امتيازًا جديدًا على عمل الطبيبات في هذا القُطر، وساعَد مساعدةً غير قليلة في تهدئة ذلك العداء الذي أبقاهن طويلًا خارج المدارس والجمعيات. وإنَّ فتح الأبواب لهن في كل مكان تقريبًا لَراجعٌ — إلى حدٍّ كبير — إلى النفوذ الذي مارَسَته لا شعوريًّا في هذا السبيل، بمثل هذا التعليم والتدريب، وبمثل هذا الذهن المتَّقِد. وإنه لمبعث أسًى عظيم أنَّ الظروف هنا لم تسمح لها بمتابعة حياة عمل علمية. لقد لبِثتُ سنواتٍ أنتظر ظهور تروتولا العصرية، ظهور امرأة في المهنة ذات ذهن جبَّار بحيث تأخذ مكانها بجانب أمثال هارفي وهنتر وباستير وفيرشو وليستر. وإن عدم ارتقائها إلى هذا المستوى لا تقع تبعتُه على الحفنة الصغيرة من النساء اللواتي انضمَمْن إلى صفوفنا في الخمسين السنة الأخيرة؛ فالنجوم ذات الجِرم العظيم نادرة، ولكن لا يُخامرني الشك في أن مثل هذه المرأة ستَبرُز من بين الطبيبات. وَلْنحمد الله على أنها عندما تظهر فلن تضطر لإهدار طاقاتها الثمينة في متاعب كفاح في سبيل الاعتراف بها، إنها ستكون من نمط عقل وعلم ماري بوتنام جاكوبي، وسوف لا يكون انتصارها في الجانب العملي بل العلمي الذي فتحت فيه دروبًا كثيرة للنساء.

وقد أضاف إلى هذا «فليكس آدلر» مُؤسِّس حركة الثقافة الخلقية: إن حياتها الذهنية كانت مُتقدة، واهتماماتها الذهنية مُتنوعة، ومع ذلك ظلَّ اهتمامها الإنساني هو الأعلى. وقد ظهر ذلك في عطفها الحنون على المرضى، وفي استجابتها الناشطة لكل قضية حق، وعلى الأخص في استعدادها الكامل لمدِّ يد العون والنصح لشباب مهنتها، وفي المستوى الرفيع الذي مثَّلَته أمام أنظار من تطلَّعوا إليها في سبيل الإرشاد.8
وفي سن العاشرة كانت ماري بوتنام قد كتبت إلى جدتها: «سأفعل أشياء مجيدة، حتى إذا انتقلتُ إلى عالم ما وراء القبر تحدَّث الناس عني بإعزاز، فأعيش مرةً أخرى في قلوب من خلَّفتُهم ورائي.»9

ولم تُخيِّب ذلك الحُلم الباكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤