الفصل الحادي عشر

إميلي دننج بارنجر

وُلِدت إميلي دننج (١٨٧٦–١٩٦١م) في سكارسديل في نيويورك لأبوَين مُوسِرَين يُدلِّلان أطفالهما. ولما بلغت إميلي الثامنة أُصيبت الأسرة بضائقة، وعن هذه الظروف ستكتب بعد سبعين سنة تقريبًا: «إن الأطفال — لحسن الحظ — غالبًا ما لا ينتبهون للتغير أو المحنة أو الكارثة، ولا سيَّما الأطفال المُعتنى بهم جيدًا، ولكنَّ التغير حدث … وفعلًا كانت نقطة التحول في حياتي التي لم أُقدرها أو أدركها إلا بعد سنوات. وقد اضطُرَّ أبي للبقاء في الخارج وقتًا طويلًا لمحاولة استنقاذ شيء من حطام ثروتنا، وصارت مَهمَّة أمي المأسوية — لبعض الوقت — أن تتولى العناية المباشرة وإعالة نفسها وخمسة أطفال، مع طفلٍ آخر يُنتظر مجيئه إلى النور في أي لحظة.»1

وانتقل آل دننج إلى بيت بقرب جريمرسي بارك في مدينة نيويورك، وواجهت مسز دننج مشكلتها المباشرة العاجلة بقبول ضيوف في بيتها بأجر. وكانت إميلي، الطفل الثاني في الأسرة وأكبر البنات سنًّا، تُقسِّم وقتها بين المدرسة والعمل في البيت والعناية بأخوَيها الأصغر منها؛ «هاري» والوليد الجديد «نيد».

وفي سنة ١٨٩٤م سمِعَت إميلي وأمها «ماري بوتنام جاكوبي» تتحدث عن تعليم النساء:

إن التعليم هو الوسيلة الوحيدة المُؤكَّدة لرفع مكانة المرأة عما هي فيه الآن؛ من الاعتماد على الرجل والخضوع له، بل — وفي كثير من الأحيان — العبودية والرِّق للرجل. إن المرأة لا تستطيع أن تُطالب بحقوقها ما لم تكُن مُؤهَّلة لنيلها؛ فهي لا تستطيع أن تُصوِّت في الانتخابات إذا كانت لا تفهم السياسة، ولا تستطيع أن تُعلِّم ما لم تكُن قد تعلَّمت، ولا تستطيع أن تكون مُحامية وامرأة أعمال أو طبيبةً ما لم تكن قد بلغت تعليمًا أو تدريبًا يُؤهِّلها لهذه المراكز.

لقد سمِعْنا جميعًا ما يُقال من أن التعليم — إنْ زادَ عن حده — يجعل المرأة غير أهل لأن تكون زوجة وأمًّا صالحة؛ لأنها تفقد أنوثتها. وأنا لستُ المرأة الوحيدة التي برهنت — بالقدوة — على أن هذا غير صحيح.

إن الرجال لا يستطيعون — على الدوام — ضمان الأمان للأسرة، مهما حاولوا، وهكذا تُضطرُّ الزوجات غير المُدرَّبات وغير الماهرات أن يشتغلن بأي عمل يَظفَرن به ليُعاوِنَّ في إعالة الأسرة.

وما القول في غير المُتزوِّجات؟ إنكنَّ تَعرِفن — كما أعرف — مصير غير المُتزوِّجة، إنها — كابْنة عانس أو أخت زوجة — تُحتمل في بيتِ شخصٍ آخر لتقوم بالأعمال الشاقَّة عن كل إنسان، أو عليها أن تحترف الحِياكة أو صناعة القُبَّعات أو العمل في حانوت، والأُجور تعِسة، وكل واحد ينظر إليها باستعلاء …2

ثم تحدَّثت الدكتورة ماري جاكوبي عن كلياتٍ قلائل للرجال تسمح للنساء بدخولها، وعن الكليات النسوية القائمة التي تُكافح للارتقاء بمُستواها.

وتركَت الخطبة تأثيرًا عميقًا في مسز دننج. ولما كانت امرأةً عملية فقد عرفت أنَّ فتاة لا بائنة لها من غير المُتوقَّع أن تتزوج زواجًا طيبًا، هذا إذا ما استطاعت اقتناص رجل على الإطلاق، ومن جهةٍ أخرى تردَّدت في اتخاذ قرار يمكن أن يزجَّ ببنتها إلى عالم الرجال الذي لم يتهيأ بعدُ لإعطاء النساء وضعًا مهنيًّا. وقد ساعَدها على أن يُقرَّ رأيَها على شيءٍ مُحدَّد أنَّ صديقة لها حسنة النية اقترحت أن تذهب إميلي لتتمرَّن عند صانعة قُبَّعات. وكانت إميلي ذات موهبة في صنع القبعات، وكانت — بالإضافة إلى مَهامِّها الأخرى — قد غدَت صانعة قبعات الأسرة التي لم يعد في قدرتها شراء قبعات. وما إنِ انصرفت الصديقة حتى استدعت مسز دننج إلى حجرتها ابنتها إميلي، وتذكَّرت إميلي فيما بعدُ: «لقد وجدتها وقد ضغطت ظهرها بقوة على الباب، ووجهها شاحبٌ مُستطيل مُجهَد، وكفَّاها مبسوطتان بجانبها تضغط بهما إلى الخلف، وقد توتَّرَت أوتارها وعروقها. وقالت لي: إميلي، ستذهبين إلى كلية …»3

التعليم

كانت بنات آل دننج وابنة آل جاكوبي، مارجوري، يذهبن إلى نفس المدرسة، فكان من السهل على إميلي وأمها أن تستشيرا الدكتورة ماري جاكوبي حول الكلية التي تدخلها إميلي. ولما اقترحت إميلي التأهُّب للاشتغال بالتمريض قالت الدكتورة ماري جاكوبي: «أنتِ ما زلتِ طفلة، وأصغر سنًّا من أن تعرفي ماذا تريدين أن تصنعي. تأهَّبي للذهاب إلى كلية تعدك لتعليمٍ علمي جيد، وأنا أتنبَّأ أنك عندما تتخرَّجين ستُفضِّلين دراسة الطب على التمريض.»4 وأوصتها بالذهاب إلى جامعة كورنل في إثاكا بنيويورك، حيث يقوم الدكتور بيرت وايلدر والأستاذ سيمون ب. جيج بما تُعدُّه هي أفضل إعداد لدراسة الطب، إن لم تكن بالفعل الدراسة الوحيدة المُمكنة في القُطر كله.
وفي سبتمبر سنة ١٨٩٤م وصلت إميلي دننج بنت الثامنة عشرة إلى كورنيل، وقد دفع خالها هنري سيج مصاريف تعليمها (وكان بالاشتراك مع أندرو دوايت وعزرا كورنل أحد مؤسسي جامعة كورنيل)، وقدَّمت لها أسرتها ما قدَرَت عليه. ولم يَطُل الوقت قبل أن تتحقق نبوءة الدكتورة ماري جاكوبي، وكتبت إميلي تقول: «لم أقضِ في جامعة كورنيل إلا وقتًا قصيرًا، عندما تبدَّدت كل شُكوكي حول دخول مهنة التمريض أو مهنة الطب، وعرفت أني بلا تردُّد أختارُ الطب عملًا لحياتي.»5

وكانت حياة الطالبة في العقد الأخير من القرن الماضي أبعد ما تكون عن السعادة، إلا أنَّ قدَرَ إميلي كان مُختلفًا؛ فقد قابلت تعبيرات الازدراء الصادرة من الطلبة الذكور واعتقادهم أن مخ الأنثى أقل من مخ الذكر بصراحةٍ ودِّية وبتحدٍّ يُوحي بأنها ستُثبِت لهم أنها ندٌّ لهم على قدم المساواة. وقد نجحت في ذلك باستمرار. والواقع أنها تفوَّقت على أقرانها، بحيث أتمَّت دراسة الأربع السنوات في كورنيل في ثلاث فقط، وليس ذلك بالعمل السهل. وكانت الخطوة التالية هي التحاقها بكلية الطب النسوية التابعة لمستشفى نيويورك للنساء والأطفال، ثم كلية الطب بجامعة كورنيل عندما نقلت طالبات المدرسة النسوية إليها في سنة ١٨٩٨م.

وكانت الكلية الجديدة تقع أمام مستشفى بلفيو مباشرةً، الذي ترجع نشأته إلى العهد الذي كانت نيويورك لم تزَل تُعرَف فيه باسم نيو أمستردام. وفي نهاية القرن التاسع عشر صار المستشفى من أكبر مستشفيات أمريكا، وكان طلبة كورنيل يتلقَّون التعليم السِّري في بلفيو.

وكانت السرعة محمومة، ولم يكُن لدى إميلي وقت لزملائها الطلبة، إلى أن قدَّم ذات يومٍ بنيامين ستوكويل بارنجر نفسه إليها، ولم يَطُل بهما الوقت حتى اكتشفا أنهما مُتناسبان تمامًا، ولكنَّ الزواج ظلَّ خارج الموضوع؛ فكلٌّ منهما لم يُتمَّ بعدُ الدراسة في مدرسة الطب، ولا بد أن تعقب ذلك سنتان من الامتياز.

البحث عن وظيفة امتياز

في سنة ١٩٠١م كانت المرأة الحاصلة على درجةٍ طبية تستطيع أن تعمل طبيبة امتياز في مستشفًى للنساء؛ فهي وظيفة يُمكِن الحصول عليها بسهولة، أو فلتُقاتل في سبيل مكان في أحد المستشفيات النظامية التي غالبًا ما تستبعد النساء. وإذا هي قامرت على مستشفًى نظامية وخسرَت، فستكون وظائف الامتياز في المستشفيات النسوية قد شُغلَت؛ وبذلك تحمل لقب دكتورة دون أن يكون لها مكان تُمارِس فيه الطب.

ومرةً أخرى استشارت إميلي ماري بوتنام جاكوبي، وهي مُناضلة في سبيل خلق فرص بالمستشفيات للطبيبات، فنصحتها بدخول المعركة وقالت لها: «يجب على النساء أن يكنَّ مُتأهِّبات للصمود، ولتلقِّي الضربات التي تُلقي بهن أرضًا المرة بعد المرة قبل أن تفتح المستشفيات العامة أبوابها لهن في النهاية.» ولما سألتها إميلي ماذا سيحدث لها إن فشلت في الظَّفر بمكان كما كانت مُوقِنة تقريبًا، أسرعت الدكتورة ماري جاكوبي تَعِدها: «إنْ حدث هذا فسآخذك مُساعدةً في عيادتي الخاصة إلى أن تُعدِّي خُططك.»6

وكانت الطريق إلى الامتحانات التنافسية للفوز بوظائف الامتياز في المستشفيات الكبيرة المُشتهاة تتضمن دراساتٍ خارج المُقرَّرات، وهذه الدراسات يُغطيها «امتحان المستشفى المُوجَز» الذي يتولَّاه الدكتور جون روجرز، ولم يكن الاختبار المُوجَز مُتاحًا دخوله للنساء، ولكن بدو أن إميلي لم تجد مَشقَّة كبيرة في إقناع الدكتور روجرز بأن يتركها تشترك في الامتحان.

وقدَّمَت إميل طلبات إلى خمسة مستشفيات، ورفضتها جميعًا مُتعلِّلةً بعدم وجود سابقة لقبول امرأة، فاقترحت عليها الدكتورة ماري جاكوبي أن تتقدم لمستشفى جبل سيناء، حيث سُمِح لامرأةٍ مُتخصِّصة في أمراض النساء بأن تكون بين هيئة الأطبَّاء قبل ذلك بسنتَين. ويبدو أن السماح لها بدخول الامتحان المشهور بصعوبته قد تأكَّد عندما سانَدَتها الدكتورة ماري جاكوبي شخصيًّا، وأحدث ذلك رد فِعل مُلائمًا لدى بعض الأعضاء ذوي النفوذ في لجنة الأوصياء. ولم يكُن هذا كافيًا؛ فقد قرَّر الأوصياء أنهم لن يُعيِّنوا امرأة في هيئة الأطباء بالمستشفى، حتى ولو فازت في الامتحان. وتذكَّرَت إميلي كلمات الدكتورة جاكوبي أن «النساء يجب أن يكنَّ مُتأهِّبات للصمود ولتلقِّي الضربات التي تُوقِعهن أرضًا المرة بعد المرة»، فقرَّرَت أن تؤديَ الامتحان على كل حال. وقد أنذروها بأنهم لن يُخبروها بالتقدير الذي نجحت به، ولم تعرفه إلا في سنة ١٩٣٩م، بعد أن بلغت الثالثة والستين؛ ففي ذلك الحين قال لها مُفوض المستشفى في مدينة نيويورك سيجموند س. جولدووتر أنه مَدين لها بأول وظيفة له في الحياة، فسألته عما يعني، فقال: أتَذكُرين ذلك الامتحان في مستشفى جبل سيناء؟ لقد أدَّيتُه معك، وكنتِ أنت الأولى، ومن حقك شغلُ الوظيفة، ولكن بسبب عدم إمكانك الحصول على الوظيفة فقد منحوني إياها.7

وفي ذلك الحين كانت جميع المستشفيات قد أتمَّت امتحاناتها، والمستشفيات القليلة التي لم تزَل بها أماكن شاغرة لم تكن فيها تسهيلات لطبيبات امتياز (مُقيمات)، وأكبر مثال لذلك بيلفيو؛ فبما أنَّ طبيبات كثيرات يتلقَّين فيها التدريب السريري فمن المنطق أن تكون هي المكان الذي يتَّسع لطبيبات مُقيمات، ولكن الأطباء المُقيمين ينامون في عنابر.

ثم سمِعَت إميلي أن مستشفى جوفرنير به حجرة تستطيع أن تنام فيها، وهذا المستشفى هو فرع لبيلفيو، وهو مستشفى الطوارئ في أشد مناطق نيويورك ازدحامًا، فلم تُضيِّع وقتًا في المرور على أعضاء اللجنة الطبية بالمستشفى، وكانت اعتراضات الأعضاء نمطية: «إن الآنسة دننج لا يمكنها أن تعمل مع السكارى المُدمنين، وهم أهم زبائن المستشفى، فلن تُطيق لغتهم البذيئة، وسوف تَسْتاء المُمرضات من العمل تحت إمرة طبيبة، كما أن هدوء الأطباء الذكور الذهني سيضطرب لوجود امرأة في هيئة الأطباء، وسيُضارُّ عملهم لهذا السبب.» ولكن أعضاء اللجنة التي حرَّضها الدكتور جون روجرز (الذي تنبَّأ بأن أطباء المستشفى إما أن يقعوا في غرامها أو يُبغضوها) ومعه الدكتور جون ف. أردمان والدكتور لويس ج. لادين «لم يبدُ عليهم التوجس الشديد من الاقتراح الذي قدَّمته لهم»،8 وسمحوا لها بدخول الامتحان التنافسي، وتعهَّدوا بأن يُعينوها إذا فازت.
ودلَّت النتائج المُعلَنة على أنها الأولى بين الناجحين، فصار من حقها هي والثاني والثالث والرابع أن يشغلوا الوظائف الحالية في مستشفى جوفرنير. ومع ذلك بقيت عقبةٌ أخرى تعترض طريقها؛ ذلك أن جوفرنير مستشفًى تابع للمدينة؛ لذا وجب أن يُوافق مُفوض المدينة جون و. كيلر على التعيينات، وقد أعلن بحسم: «لن أكون مسئولًا عن خروج شابَّة في سيارة الإسعاف وتعريضها لدقِّ عنقها.»9 ولم يستأنف حكمَه أحد. وأثناء السنة التالية، بينما كانت إميلي دننج تعمل عند الدكتورة ماري جاكوني، قام أنصار الإصلاح المدني والاجتماعي بالضغط على العمدة «ست لو» لتحقيق هذا الإصلاح.

وطلب المحترم «برسي ستكني جرانت» — راعي كنيسة الصعود الواقعة في الشارع الخامس الجنوبي والمؤيد لحقوق المرأة — إلى إميلي أن تُعدَّ تقريرًا يُرفَع للمُحافِظ. وركَّزت تقريرها على المزايا التي تعود على المجتمع من قبول النساء في هيئات المستشفى، وكذلك المزايا التي تعود على أشخاص الطبيبات. وفي ربيع سنة ١٩٠٢م أعلن المُحافظ أن الامتحان التنافسي لمستشفى جوفرنير سيُتاح دخوله للنساء، وأنه إذا فازت فيه إحداهن فستُعيَّن، وكان هناك شرطٌ واحد؛ أن التعيين يجب قبوله على نفس الأساس المفروض على الرجال؛ أي إن الامتياز يمتدُّ سنتَين؛ سنة في الطب العام وسنة في الجِراحة العامة، منهما سنة ونصف في خدمة نقالة الإسعاف.

ها هي ذي المعركة قد انتهت بالنصر، ولكن إميلي تلكَّأت في قبول الامتحان؛ فقد حدَثَت تغييراتٌ كثيرة في الطب والجِراحة في السنة التي مرَّت منذ أدَّت فيها الامتحان لآخر مرة، والصحف الطبية تفيض بنظريات وتقنياتٍ جديدة، ورُوجعت الكتب المُقرَّرة. ولاحق طلبة الطب التقدم، أما إميلي فقد ظلَّت في مكانها. ولما أخبرت الدكتورة ماري جاكوبي أن هناك نساءً مُمتازات في الفِرق العليا بكورنل لم تَلِن قناة الدكتورة.

ومضت إميلي إلى العمل، وكان الكفاح شاقًّا. وجاءت نتيجة امتحانها أقل قليلًا من تقديرها في العام السابق، حيث كانت الأولى. والواقع أن إجاباتها التحريرية لم تكن تؤهلها للظهور أمام المُمتحِنين في اللجان الشفوية السريرية، ولم يُتَح لها ذلك إلا عندما زِيد في آخر دقيقة عددُ الوظائف المطلوب لها أطباء امتياز. وفي الامتحان الشفوي استعادت ثقتها بنفسها؛ فقد كانت تعتمد على سنةٍ أمضَتها في التمرين العملي، فواتَتها الإجابات بسهولة. ويبدو أنه لو كانت إجاباتها التحريرية أفضل لكانت الأولى، ولكن جاء ترتيبها الرابعة. ولم تكن لتبدأ العمل في الجوفرنير حتى يناير سنة ١٩٠٣م، فتوفَّرت لديها — لأول مرة في حياتها — فرصة أخذ إجازة عن العمل ترى فيها أسرتها وصديقاتها وبنيامين يارنجر. وقد تعهَّدت أن تُساعد الدكتورة جاكوبي عند الحاجة، ولكنها لم تعمل بانتظام كما كان الحال في العام السابق.

الامتياز

عندما تقدَّمت الدكتورة دننج لتتسلَّم عملها، حاوَل زملاؤها الأربعة الذين تقدَّموها في التعيين جهدهم أن يُضايِقوها، وعُهِد إليها بالمهامِّ التي يَعدُّها المرضى جارحة لحياء امرأة أن تتولاها، ولكن إميلي قابلت هذه المحاولات التي تُحاوِل إخراجها من المستشفى بهدوء وكفاءة، فكسب لها عملها في العنابر والمستوصف احترام المرضى وامتنانهم. وبحسب تعبيرها، قام مُضطهِدوها «بخوض معركة حامية، ولكنهم لم يدركوا أن الحَكم بيننا هم المرضى والممرضات وسُلطات المستشفى وسائقو النقالات والصِّحافة والشُّرطة ومُواطنو الجانب الشرقي. وكنت كارهة للدخول في صراع مع إخوتي في المهنة، ولكني قبِلتُ تحدِّيَهم لأنه لم يكن لي من ذلك مناص.»10

ولم تتناقص المُضايَقات في الشهور الستة الأولى، وكان مُعذِّبوها يتحدثون مِرارًا وتَكرارًا على مسمع منها عن الأخطار التي تحفُّ بخدمة سيارات الإسعاف، وعن القوة البدنية التي تلزم للتعلق والتثبت بالنقالة عندما تكون مُنطلقة بأقصى سرعةٍ وسط الشوارع، وعن المرَّات التي كاد كلٌّ منهم أن يسقط من فوقها. وكانوا يَصِفون الأماكن التي تدعوهم إليها، الحانات وأوكار الرذيلة والحارات القذرة، لالتقاط ضحايا كل نوع يخطر بالبال من أنواع الجرائم بما في ذلك محاولات القتل. وناقَشوا مُدمني الأفيون والسكارى الذين لا يحترمون زي الأطباء. ولما كانت الجوفرنير مستشفى طوارئ، فإن المرضى الذين يحتاجون إلى مدةٍ طويلة من الرُّقاد في المستشفى يُنقلون بنقَّالة تجرُّها الخيل إلى بيلفيو، كما أن النقالة تنقل المرضى ذهابًا وإيابًا بين بيوتهم أو الشوارع وبين المستشفى، أو تترنَّح بسرعة إلى حادث أو حريق وترتجُّ خلف الخيل التي تركض بجنون.

وكانت إميلي مُستعدَّة لأن تُجازِف بدق عنقها في خدمة النقالة، ولكن أين عساها تجد ملابس مناسبة للوثب من النقالة وإليها؟ إن الزيَّ الطويل الواسع قد يعوقها ويتسبب في وقوعها، والزي القصير قد يُعَد غير مُحتشِم. وزِيُّها يجب أن يكون كثير الجيوب، ولكن ينبغي ألا يكون كزِيِّ الرجال. وقد وضعت المسألة بين يدَي ف. يلارد وأولاده في بوستن، وهم مؤسَّسة طلبت منهم صُنْع زي لها عندما شرَعت في رياضة ركوب الخيل. وكان الزي الذي استقرَّ عليه الاختيار من قطعتَين؛ السترة من قماشٍ أزرق بحاري مُبطَّن بالساتان مُخنصَر عند الوسط ومظهرها عسكري، والجونلَّة تصل إلى الكعب وضيِّقة ضِيقًا كافيًا للحركة وواسعة بما يكفي للاحتشام، والجيوب مُخفاة بمهارة في كل أجزاء الزي، وهناك مِعطف مطر ترتديه فوق الزي لحمايتها من برد الشتاء ومطره. والحذاء ذو رباط عالٍ في الطقس المعتدل، وهناك كُزلك يصل إلى نصف الساق للطقس الرديء.

وكان أول استدعاء لنقَّالة الدكتورة داننج في وقتٍ مُبكر من مساء ٣٠ يونيو لنقل مريضة من مستشفى بيت إسرائيل إلى بيلفيو. وكانت نقَّالة ذلك الحين مُصمَّمة بحيث يتحتَّم على الطبيب إما أن يكون في الصندوق الخلفي الضيِّق ليُعنى بالمريض، أو يجثم على المقعد المكشوف الزَّلِق في مؤخرة العربة، وهو رفٌّ أكثر منه مقعدًا. وابتكر سائق النقالة (ديك بيتمان) الودود اللطيف طريقةً تُمكِّنها من الصعود بسرعة وأمان إلى مكانها، وهي أن تصعد وتجلس ثم تطوح جونلَّتها وقدمَيها فوق الباب الخلفي، بحيث يستدير ويكون وجهها للأمام، وتمدُّ يدَيها معًا لتتعلق بالأطواق الجلدية، كل ذلك في حركةٍ واحدة.

وسلَكَت بها الرحلة في جوفرنير إلى بيت إسرائيل ثم إلى بيلفيو والعودة بين أحياءٍ فقيرة في الجانب الشرقي الجنوبي من نيويورك. وكانت الحشود في الشوارع تُحملِق في المرأة الجالسة على الباب الخلفي، وكانت تعليقاتهم فجَّة، ولكنها تقبَّلت ذلك كله بصدرٍ رحب. وبانتهاء المَهمَّة عادت إلى المستشفى وهي تشعر بانتعاش. وفي ساعةٍ مُبكِّرة من الصباح التالي كانت الدكتورة دننج تركب النقالة لقضاء يوم طويل شاقٍّ، وكان سائقها توم وايت، واتَّضح أنه ودودٌ مِثل ديك بيتمان، والأهم من هذا أنه تبيَّن للجرَّاحة راكبة النقالة أن وايت بخبرته الطويلة كان قد تحوَّل إلى طبيبٍ مُشخِّص تقريبًا، فكان في وُسعه أن يعرف إذا كان الرجل فاقد الوعي مريضًا أم هو سِكِّير آخر، وكتبت إميلي تقول: «لقد ظل طول النهار يهمس لي: خُذيه إلى المستشفى يا دكتورة. أو: إنه بخير فخُذيه إلى مركز الشرطة؛ فجميع السكارى كانوا يُنقَلون إلى هناك لقضاء فترة إفاقة.»11
أما السائق الثالث توم موراي فكان توَّاقًا مِثل سابقيه لمساعدتها، فكانت الاستدعاءات تشمل مواقف مُنوَّعة؛ فإن لم تكن هناك حالةٌ عاجلة فالرحلة لطيفةٌ أشبه بنزهة بعد ظُهْر الأحد، أما الحالة العاجلة فالنقَّالة تجري فيها بسرعةٍ بالغة، تجعلها تتساءل إذا كان من الممكن استمرار التعلق بالأطواق الجلدية. وذات مرة كان الاستدعاء الذي لا تنساه إلى الشاطئ، وقد بُهِت الشُّرطيُّ الذي قام بالاستدعاء عندما وجد نفسه أمام امرأة، وكان من الواجب قبل كل شيء على الطبيبة أن تنزل إلى عنبر السفينة، ورغم تأكيداتها أنها ستتمكن من ذلك أصرَّ على أن يصحبهما شُرطيٌّ آخر؛ كي تتوفر لها الحماية من أعلى ومن أسفل، وهم ينزلون على سُلَّم الحبال بِيَد إلى أعلى وأخرى إلى أسفل، وقامت بمعالجة العظام المكسورة في قدم البحَّار، وراقَبَته وهو يُرفَع إلى أعلى، ثم بدون تَردُّد صعِدَت على سُلَّم الحبال. وقد كتبت فيما بعدُ عن ذلك الحادث: «لقد تعلَّمتُ في وقتٍ مُبكِّر أن أُطيع أوامر رجال الشرطة؛ فكلما طلبوا مني أن أصنع شيئًا صنعته بدون تَردُّد. وهناك مناسباتٌ كثيرة كان من حسن حظي أني استجبتُ هكذا لإرشاداتهم، وفي هذا الموقف لو أني تردَّدتُ ونظرت إلى أسفل إلى أعماق العنبر لكنت خليقةً أن يركبني الفزع.»12

وكان كبير الجرَّاحين أحد الأربعة المُصرِّين على تحطيم معنوياتها، فكان يُرهقها بالعمل بلا رحمة، فكان لديها استدعاءات للنقالة نهارًا وليلًا، وتتخللها أعمال في عنبر الحوادث بالنسبة للمرضى الذين أحضرتهم، وخِدمات جِراحة، وكل شيء آخر يمكن أن يخطر بالبال. ولشِدَّة إرهاقها بالعمل كانت إميلي تخشى أن ترتكب أخطاءً، وكثيرًا ما كانت تشعر بالوحدة؛ فبسبب مُشاكَسات القدامى كان أطباء الامتياز ممن عُيِّنوا معها لا يَجسُرون على الوقوف في صفها أو إظهار المودَّة لها، وكان خير ما يستطيعونه لها أن يظلوا على الحياد، وكان لها حُلفاء بين سائقي النقالات ورجال الشرطة الذين عرفوا كيف يحترمونها، وبين المرضى الذين ساعدتهم، وفقراء الجانب الشرقي الذين حدَّثوهم عن مساعداتها لهم، بل حتى بعض الممرضات.

ومرَّ الصيف، وجاء الشتاء جالبًا معه المطر والجمد والرياح والعواصف الثلجية، ومنها العنيف الجائح والجليد الغادر، فكان الشتاء في جانب الأطباء الذين يُحاولون إفشالها. ومع أنه ابتداءً من يناير سنة ١٩٠٤م كانت للدكتورة دننج أقدميةٌ كافية كي لا تخرج مع أول استدعاء للنقالة، إلا أنهم أصرُّوا على خروجها. وكان عذابها شديدًا، ولكنه لم يذهب سُدًى؛ لأنها تعلَّمَت أشياء لم تكُن تَحلُم بتعلمها في أي مكان آخر. وفي نهاية شهر يونيو رحل آخر مُعذبيها، وانتقلت هي رسميًّا إلى وظيفة جرَّاحة مُقيمة. ومن أكتوبر إلى نصف ديسمبر — حين فرغت من تمرينها في الجوفرنير — فأصبحت كبيرة لأطباء الامتياز. وفي الأمسية التالية لرحيلها عن المستشفى تجمَّع وفدٌ من سائقي النقالات ورجال الشرطة والعمال والمواطنين العاديين في الجانب الشرقي الجنوبي، وتوجَّه إلى بيت آل دننج ليُقدِّموا لها التعبير التالي عن تقديرهم:

«شهادة

من مُواطني نيويورك وشرطة الأحياء ٧، ١٢، ١٣

وسائقي نقالات مستشفى جوفرنير

إلى

الدكتورة إميلي دننج

بمناسبة اعتزالها في أول يناير سنة ١٩٠٥م عملها كرئيسة

هيئة الأطباء المقيمين في مستشفى جوفرنير بنيويورك

بأن الدكتورة دننج

قد خدمت لمدة سنتَين المستشفى وشعب نيويورك بطريقةٍ كسبَت إعجاب وتقدير زملائها من العاملين وكل من اتصلت بهم بحكم عملها. إنَّ براعتها المُدهشة وضميرها اليقِظ وجهودها التي لا تعرف الكلل، والدماثة واللطف والولاء للمرضى والحنان المُفرِط واحترام كل من عملت معهم، كل ذلك جعلها عزيزة على الجميع.

باعتبارها المرأة الوحيدة في العالم التي عملت جرَّاحة على نقَّالة، وقد كسبت مكانتها الممتازة في العالم كله، وجلبت الشرف والتكريم لا لنفسها فحسب، بل لجنسها كله ولمهنتها ولمستشفى جوفرنير ولمدينة نيويورك.

ونحن نتمنَّى ونسأل الله أن يحمل لها المستقبل السعادة والمزيد من الشرف والتكريم، وأن تحوطها أطيَبُ تمنِّياتنا المُخلِصة في أعمالها الجديدة.»13

وقد تزوَّج بنيامين بارنجر وإميلي دننج يوم السبت التالي، في الثامنة صباحًا. وفي العاشرة أبْحَرا إلى أوروبا ليَدرُسا معًا في فيينا.

وواصلت الدكتورة إميلي دننج بارنجر كفاحها في سبيل قضية المرأة في الطب، وقد تكلَّلت جهودها بالنجاح عندما أرسل مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة في أبريل ١٩٤٣م إلى البيت الأبيض؛ كي يُوقِّع الرئيس على قانون بتكليف الطبيبات الجرَّاحات في القسم الطبي بالجيش والبحرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤