الفصل الثالث عشر

التمريض

من الراهبات إلى نايتنجيل

التمريض من أقدم فنون العالم. وفي العصور الأولى لم يكن التمريض مُتميزًا عن ممارسة الطب والجِراحة، وكان ذلك صحيحًا في تلك المجتمعات البدائية التي كان فيها المرض من اختصاص الطبيبات أكثر من الأطباء، ومن جهةٍ أخرى حيث كان يوجد أطباء رجال، وكان في الغالب لهم مُساعدون أقل منهم مكانة، وهم غالبًا من النساء، يُنفِّذون تعليماتهم العلاجية، ويضمدون الجِراح وما إلى ذلك، وهؤلاء المُساعدون يمكن أن يُعَدوا الممرضين والممرضات الأُوَل.

ونادرًا ما تُشير المُدوَّنات الطبية المبكرة — التي عاشت حتى اليوم — إلى التمريض. وهذا غير مُثير للدهشة تقريبًا؛ فمؤرخة التمريض «ميني جودناو» قد بيَّنت أن «البشر لا يحفظون مُدوَّنات للأحداث العادية، بل لغير العادية والمسترعِية للنظر، وكان الناس يُمرِّضون مرضاهم بصورةٍ طبيعية وعادية.»1

وتحدَّدت وظائف ومواصفات الممرضة منذ القرن الرابع قبل الميلاد؛ فهذا «شراكا» الطبيب الهندي الممتاز قد كتب في خلاصته الوافية:

«الطبيب، والعقاقير، والممرضة، والمريض؛ مجموعةٌ رباعية، وينبغي أن يكون معلومًا ما هي الفضائل التي يتحلى بها كلٌّ منهم ليكونوا أسبابًا لشفاء المرض:

الممرضة: معرفة الطريقة التي تُحضَّر بها العقاقير أو تُخلَط لتعاطيها، والمهارة والولاء للمريض الذي ترعاه، والطهارة (عقلًا وجسدًا على السواء).

تلك هي المواصفات الأربع للممرضة المعالجة.»2
وهناك تعريفٌ مُماثل عاش لنا من جزيرة سيلان:

«يجب أن تكون الممرضة ماهرة ومُخلِصة للمريض وطاهرة الجسم والعقل.

ويجب أن تعرف كيف تخلط العقاقير، وعلى مهارة في طهو الطعام، وبارعة في غسل أجسام المرضى، وخبيرة بتدليك الأطراف والجسم، ورفع المريض ومساعدته في المشي، وماهرة في تسوية وتنظيف الفِراش، ومُستعدَّة، وصبورًا، وغير مُتأبية أن تقوم بأي شيء تؤمر به.»3
وقد شيَّد الملك أزوكا (مُتوفًّى ٢٢٥ق.م.) ملك سيلان ١٨ مستشفًى كان القائمون بالرعاية فيها رجالًا، ولكنهم كانوا بداهةً مُمرضين. وأحد سابقيه الملك «براكراما باهو» (ويبدو أنه عاش قبل ٥٥٠ق.م.) شيَّد «مستشفيات كبيرة للمرضى، وزوَّدها بالمؤن والعبيد والجواري لخدمة المرضى وتغذيتهم».4

وكان الفُرس الأقدمون أيضًا لديهم بيوت للمرضى الفقراء الذين يقوم على خدمتهم العبيد والجواري.

كان بمعبد أسكولاب في أبيداوروس جناح مستشفًى تقوم الكاهنات بالخدمة فيه، وربما كنَّ ممرضات.

ويتكلم أبقراط عن المُساعد الشريك للطبيب في العمل، ولا يُشير مباشرة إلى الممرضات وعملهن، ولكنه أمرٌ واضح أن الإغريقيات كنَّ يعملن ممرضات. وبما أن سيدة البيت كانت مُكلَّفة بتمريض العبيد المرضى فقد كان العبيد بطبيعة الحال من أثمن الممتلكات.

والجندي الروماني عماد الإمبراطورية كان يُوفَّر له خير تمريض ممكن. وفي البداية كانت هذه الخدمة تُؤدَّى في البيوت الخاصة، ثم صار يُعنى بالمرضى والجرحى في خيام أو مبانٍ مُنفصلة على يد نساء ورجال مُسنِّين. وبعد ذلك أيضًا كانت هناك مستشفياتٌ عسكرية، بها طبقة من جنود المراسلات يقومون بمهامِّ الممرضين.

وفي أوائل عهد المسيحية صارت للنساء نحو ١٢ مُنظَّمة؛ فالشمَّاسات والأرامل والراهبات كنَّ مُكلَّفات — بصفةٍ خاصة — بالتمريض. وكانت الشمَّاسة تُرسَّم من الأسقف للقيام بنفس المهام التي يقوم بها زميلها الرجل. وأول شمَّاسة هي فيبي (٦٠م) التي يقول عنها القِديس بولس: «لقد حمَت كثيرًا من الإخوة، وحمَتني أنا أيضًا» (رسالة إلى أهل روما ١٦: ٣).

ويجب أن ننظر إلى عمل الشماسة على أنه تمهيد لمنظمات الممرضات الزائرات؛ لأنهن كنَّ يُعنَين بالمرضى في بيوتهم وفي المستشفيات، وكنَّ نشطات في سوريا وآسيا الصغرى وكل أنحاء إيطاليا، بل وفي إسبانيا وبلاد الغال وأيرلندا. وفي سنة ٤٠٠م كانت هناك ٤٠ شمَّاسةً يعملن ممرضات في أبرشية القسطنطينية. وبينما ظل نظامهن معمولًا به في الكنيسة الشرقية إلى القرن الثامن عشر، وكانت أيامهن — كنظامٍ ديني — معدودة، ففي القرنَين الخامس والسادس، جرَّدت المجامع الغالية نظامهن من طابعه الكهنوتي. وعندما قرَّر مجمع أورليان تحريم تكريس النساء للخدمة في سنة ٥٣٣، أُلغيَ النظام رسميًّا.

وظهرت أخوات التمريض حوالَي سنة ٥٠٠. وفي البداية لم يكن أعضاؤها مُلزَمات بأي عهود، ولا يرتدين زيًّا مميزًا. ولما صارت السلطة بيد الكهنوت صارت العهود والأزياء المميزة شيئًا معتادًا.

وأقدم نظام إخوة للتمريض الخالص في العالم هو نظام الأخوات الأوغسطينيات، اللواتي خدمن في مستشفى أوتيل دييه بباريس التي تأسَّست على يد الأسقف لاندري في سنة ١٦٠٥. وقد قدَّمت لنا م. أديلايد ناتنج ولافينيال دوك — اللتان كتبتا تاريخهما للتمريض في أوائل العقد الأول من القرن العشرين — صورةً قلمية لأولئك الأخوات:
«لمدة اثنَي عشر قرنًا كانت أجيال من الأخوات الأوغسطينيات يَكدَحن في إنكارٍ تامٍّ للذات وتواضع حتى مع تَقدُّم أعمارهن، وكثيرات منهن مِتْن وهنَّ تحت نير العمل كالخيل المُسنَّة المُنهَكة الصبور. ومنذ القرن الثالث عشر على الأقل إن لم يكن قبل ذلك، ظل نصيبهن من المهام شاقًّا وعسيرًا؛ لا لأن العمل كان قاسيًا فقط، بل لأنهن حُرِمن حتى ذلك الضوء من المعرفة والفهم الذي يصنع الكثير لتخفيف جهامة أشق الأعمال؛ فقد قطع ما بينهن وبين أي مشاركة في الحياة الذهنية، وحتى مسار التقدم الخارجي للبشر كان مُغلَقًا دونهن؛ فالتعليم المهني لم يكن موجودًا بالنسبة لهن، وغاية ما يقترب مما يمكن أن يُسمَّى تعليمًا هو ذلك الروتين الذي تتلقَّنه إحداهن عن الأخرى؛ فأي غرابة إذا أصابهن الاضمحلال بمرور الزمن وصِرْن عاجزات عن التقدم، وإنِ العلم خلَّفهن وراءه، وإن البيئة التي تغيَّرت وجدتهن عاجزات عن التكيُّف معها؟»5،6
وفي القرن السادس كان ساسردوس كبير أساقفة ليون مسئولًا عن إقامة مستشفى أوتيل دييه في مدينته، فأقنع شيلدبرت الأول ملك الفرنجة بإقامة ما قُدِّر له أن يصبح واحدًا من أكبر وأكمل مستشفيات فرنسا بأَسْرها. ولم تكن الممرضات به من المنظمات الدينية، بل كنَّ خادمات وفتَيات تائبات؛ أي بإيجازٍ عاهرات يُرِدن أن يَعِشن حياةً شريفةً أفضل، وكثيرات منهن كنَّ من مريضات المستشفى اللواتي كرَّسن أنفسهن بعد ذلك لخدمته. وبعد ذلك بثلاثة عشر قرنًا ونصف أخبرت الدكتورة آنا هاملتون المؤتمر الدوليَّ الثالث للمُمرضات في بفالو بنيويورك، أن من جئن بعدهن قد أُعطين تعليمًا مهنيًّا أوليًّا في المستشفى، وهن أفضل منهن نظامًا، ومن حقهن أن يتركن الخدمة ويتزوجن، ولكن على وضعهن الحر لم يتلقَّين أي تدريب حقيقي بالمعنى الحديث، وعملهن مُتخلف عن زمنه وفج.7
وﻟ «البيجوينيات» في إقليم الفلاندر (بلجيكا) نظامٌ فريد بين النُّظم العلمانية المُبكرة. وهناك تساؤل عن تاريخ تأسيس نظامهن، وعلى يد من، ولكن هناك دلائل توحي بأن ذلك التاريخ قد يكون في وقتٍ مُبكر، لعله القرن السابع، وإن كان هناك من جعل ذلك التاريخ مُتأخرًا حتى ١٢٣٤م.8 وأوائل البيجوينيات أصابهن التقزُّز من الشرور التي تسلَّلت إلى حياة الأديرة، أديرة الرجال وأديرة النساء على السواء، فنشدنَ التعبير عن ذواتهن وإنكار أنفسهن في عملٍ يتجاوز ما تُمليه الكنيسة، فأنشأن جماعات عِشْن فيها حياة النسك بعيدًا عن الرجال، وكنَّ يَعُلن أنفسهن بصنع المخرمات (الأربطة) وبيعها. وبسبب طبيعتهن العلمانية كان للأعضاء الحرية في ترك المنظمة والزواج متى شئن. والبيجوينيات ما زِلن عاملات إلى اليوم، ويَقُمن بالتمريض الخاص وفي المستشفيات معًا.

ولئن ذهب الظن إلى أن الأمور قد انقلبت انقلابًا تامًّا، من المُمرضين الذكور لدى الهندوس وغيرهم من الحضارات الأولى إلى الشمَّاسات والراهبات وغيرهن من النساء المُكرِّسات أنفسهن للتمريض في الألف الأولى بعد الميلاد، لَكنَّا مُشوِّهين للحقائق؛ فعلى امتداد التاريخ قامت فئاتٌ مختلفة من الناس — ذكورًا وإناثًا — بدرجاتٍ مختلفة من التمريض والعناية بالمرضى في أجزاءٍ شتَّى من العالم.

أنظمة الإسبتارية أو أنظمة الفُرسان

وفي العصور الوسطى، حينما كانت هناك مُنظَّماتٌ دينية بين الذكور (من ضِمن مهامهم التمريض)، كان التمريض بغير شك مشتركًا بين الرجال والنساء، ومع بداية الحروب الصليبية سنة ١٠٩٦م حدث اندفاعٌ ظاهر بين الرجال نحو التمريض.

ويبدو أن أول إشارة إلى مستشفًى في القدس جاءت من برنار، وهو راهبٌ فرنسي قام بالحج في سنة ٨٧٠م، فوجد هناك «مستشفًى للاتين، وفي نفس المبنى مكتبة جُمِعت بعناية وعلى نفقة شرلمان».9

وحوالَي سنة ١٠٥٠م أنشأ بعض التجار الأثرياء من أمالفي (إيطاليا) مُستشفيَين في القدس أحدهما للذكور والآخر للإناث، ومستشفى الذكور الذي كان تحت رعاية القِديس جون المتصدق (من قبرص) هو الذي أفرَخ الفُرسان الإسبتاريين المشهورين بِاسم فُرسان القديس جون المقدسي، وهم «إخوة» شيَّدوا بعد ذلك مستشفيات في رودس ومالطة.

وكان الفُرسان رجالًا من أهل المكانة، وقد اشترك بعضهم في الحروب الصليبية، وعمل بعضهم أطباء هناك، بتعليمٍ أقل أو بلا تعليم. و«أنصاف الفُرسان» أو الإخوة الخُدَّام رجالٌ من مستوًى اجتماعي أقل، كانوا يقومون بتمريض المرضى. وقد تأسَّس الفرع الإنجليزي لهذه الرهبنة في سنة ١١٠٠م، ولم يزَل يُدير المستشفيات ويقوم بالتمريض.

إن الحروب الصليبية التي استمرَّت زهاء مائتَي سنة جلبت في أعقابها انتشارًا للأخويات الإسبتارية، وأشهرها — إلى جانب فُرسان القديس جون — فُرسان الصليب الأحمر (١١١٩م) والُفرسان التيوتون الإسبتارية (١١٩١م) وفرسان القِديس أليعازر. وقد حاوَل بعض المؤرخين أن يتعقَّبوا إسبتارية القِديس أليعازر إلى المستشفى الذي بناه القِديس باسيل في قيصرية سنة ٣٧٠م، ولكن بداية هذا النظام من الفُرسان تقترن — عمومًا — بالحروب الصليبية. وكانت هناك — أيضًا — راهبات في هذا النظام (القِديس أليعازر).

المستشفيات العامة والخاصة

كانت هناك مستشفيات كبيرة قليلة قبل القرن الثاني عشر، وبنُموِّ المدن لم تعُدْ مستشفيات الكنيسة كافية للعناية بالمرضى، فشُيِّدت مستشفيات المدن لتكملة مَهمَّتها. وكانت هذه المستشفيات بديعة العمارة كمستشفيات الكنائس، ولكنها من حيث الكفاءة كانت أقل منها بكثير.

إن الرجال المُكلَّفين بالعمل في المستشفيات البلدية لم يكونوا أطباء، ولم يكونوا يعرفون شيئًا عن التمريض، ولم يكن هناك مُراقِبون مُشرِفون على الممرضين والممرضات كي يُدرِّبوا ويُرشِدوا من يقومون بالتمريض. ولما كانت الممرضات خاليات من الدوافع الدينية التي تُلهِمهن، فقد ازداد إحساسهن دائمًا بالجانب الرديء من عملهن، واعتبرن أنفسهن خادماتٍ أكثر منهن ملائكة رحمة، وكان غيرهن يُشاركهن هذا الرأي. ولم يكُن الميسورون يذهبون إلى المستشفيات، بل كانوا يُمرَّضون في بيوتهم على يد أفراد أُسَرهم وخدمهم، و«مُربِّية» الأطفال التي كانت تبقى غالبًا في الأسرة حتى بعد أن يَكبَر الأطفال كي يعملن ممرضات عند الحاجة. أما المستشفيات فكانت ملأى بعامة الناس الذين لا حقوق لهم، ولا يتوقعون اهتمامًا أو اعتبارًا، ولا يحصلون على شيء منه. ولتَحاشي إضاعة وقت الأطباء المزعومين، كان بعض المرضى يشغلون حجرة العمليات في الوقت نفسه، وكان على من سيَحلُّ دورهم للجِراحة أن يشهدوا عذاب المرضى الذين يُقيدهم إلى مائدة الجِراحة رجالٌ أشدَّاء.

وهذا الازدراء غير الإنساني للمرضى تفشَّى حتمًا إلى هيئة التمريض؛ فلم تكُن هناك محاولة لعلاج الحالات الطبية، ولم يتلقَّ المرضى من العناية إلا القليل، أو لا شيء منها مطلقًا، وكانت قرحات الظَّهر من طول الرُّقاد شائعة، والعدوى كانت تنتشر في المستشفيات كالنار المُستعرة، حتى صار كل مستشفًى مباءة للأوبئة.

وفي نهاية القرن الثالث عشر بُذِلت بعض الجهود لعلاج هذا الوضع، فقام الملوك والنُّبلاء والتُّجار الأثرياء، طلبًا للخلاص الديني، وكذلك النساء الصالحات، ببناء أُلوف المستشفيات في أنحاء أوروبا، وشرع النساء يُقبِلن من جديد على التمريض. وفي بداية القرن الرابع عشر كانت هناك مائتا ألف امرأة يَزُرن المرضى ويُعالجن الأمراض داخل المستشفيات وخارجها.

وبدأ تأسيس أنظمة دائمة من الأخوات الممرضات، وكانت الأعضاء في حماية الكنيسة والدولة معًا من كل أذًى. وكانت راهبات القِديس فرانسيس ذوات الرداء الرمادي، و«الكلارات» الفقيرات في إيطاليا، يُعتبرن مُؤهَّلات للعناية بالمرضى مِثل الأطباء المزعومين.

ولم يزَل مستشفى سانتا ماريا ديلاسكالا في سيينا، المبني في القرن الثالث عشر، قائمًا بعمله إلى الآن، وممرضاته يعملن على نفس نهج أسلافهن، ويرتدين زيًّا لم يكَد يتغير. وهناك اتجاه لافتراض أن أحوال المستشفيات ومستويات التمريض قبل القرن التاسع عشر كانت دائمًا بدائية، ولكن في مستشفى سيينا كانت أسِرَّة المرضى مُريحة، محشوَّة بالطحلب، ومُغطَّاة بالجلد لطرد الرطوبة، وعند رأس كل سرير مِنضدةٌ تُسهل إطعام المرضى، وبالقرب منه مَبولة.

ويُنسَب إلى «ماهو» كونتيسة أرتوا (المُتوفَّاة ١٣٢٩م) أنها شيَّدت قرابة مائة مستشفًى في أنحاء فرنسا، والذي شادته قُرْب قلعتها في أرتوا يتباهى بجناحٍ واسع كثير الهواء على كلٍّ من طرفَيه نوافذ. وفي الأيام المُشمسة يُوسَّد المرضى على حشايا أمام النوافذ، وكانت وسائل الراحة التي لم يكن ينعم بها المرضى في بيوتهم من ميزات المستشفيات الخاصة.

ولم يكُن كافيًا عدد المستشفيات التي بُنِيت وتم تجهيزها ورعايتها على يد حُماة ملكيِّين في القرنَين الرابع عشر والخامس عشر. وكانت الأحوال في المستشفيات العامة — مثل أوتيل دييه بباريس — فظيعة؛ فالأثرياء (إذا كانوا قد تورَّطوا في ذلك) والفقراء والمرضى المُحتضرون، يرقدون جميعًا جنبًا إلى جنب على أسِرَّة من القش ملأى بالحشرات، والمُرهَقون بالعمل والسيِّئو التغذية كثيرًا ما كانوا ينحطُّون إلى معاقبة الراهبات اللواتي كنَّ يلتمسن أجرهن الوحيد في السماء، ويبذلن خير ما في وُسعهن، فكنَّ يَصِفن ويحضرن ويُعطين الدواء، بل وكنَّ يغسلن أغطية الأسِرَّة في نهر السين، ولكن الفِراش نفسه يظل قذرًا، والجدران حافلة بالحشرات، ونتن رائحة العنابر كان من الفظاعة بحيث إن رئيسة الراهبات تقوم بجولتها والمِنديل المُعطِّر مضغوط على أنفها.

وفي إنجلترا شيَّد الملك أثيلستان مستشفًى في يورك سنة ٩٣٦م، والمَظنون أنه أول مستشفيات إنجلترا، وكان يستخدم ثمانيَ مُمرضات راهبات. وتأسَّس مستشفى القِديس بارثلوميو في روشستر سنة ١٠٨٠م، واستمرَّ عاملًا بدون انقطاع إلى اليوم.

وشيَّدت الملكة ماتلدا مستشفى القِديس جايلز بالشرق (ويُعرَف أيضًا بِاسم القديس جايلز في الحقول) سنة ١١٠١م، وأنشأت نظامًا من الراهبات «الكلارات» الفقيرات للخدمة في العنابر. وبعد خمسين سنة تقريبًا أنشأت مستشفى القِديسة كاترين تخليدًا لذكرى طفلَيها، وكان التمريض في مستشفى القديسة كاترين عملًا موكولًا إلى ذوات النَّسب النبيل.

ومستشفى لندن — الذي لم يزَل عاملًا بِاسم مستشفى القِديس بارثلوميو — أقيم سنة ١١٢٣م على يد «راهير»، وهو مُهرج للملك تحوَّل إلى راهبٍ أوغسطيني، وكان يقوم بالتمريض فيه ثمانية رهبان وأربع راهبات.

ومستشفى القِديس توماس — الذي صار بعد ذلك مَقرَّ مدرسة نايتنجيل — تأسَّس سنة ١٢١٣م على يد رتشارد رئيس دير برموندسي.

وفي الزمن القديم لم يكن ليُوجَد إلا أطباء قليلون خارج حدود المدن الكبرى، فكان رهبان وراهبات علَّموا أنفسهم بأنفسهم يطبُّون للجماعة، ونساء النُّبلاء كنَّ يُعنَين بخدمهن وأتباعهن. فكل من تعلَّم كان يُلقَّن قشورًا من الطب، ولم يكن هناك تمييز بين عمل الأطباء وعمل الممرضين.

وبعد إلغاء الأديرة في أوائل القرن السادس عشر، تولَّت المدن أمر المستشفيات الموجودة بها. وكثيرٌ مما يُعَد اليوم من اختصاص التمريض كان يقوم به الأطباء وطلبة الطب. ولم يكُن الممرضون (والممرضات) يصنعون للمرضى أكثر كثيرًا من أن يغسلوا أجسادهم، ويُشرِفوا على وظائفهم الجسدية، وتسوية أسِرَّتهم وتقديم وجباتهم، أما بقيَّة وقتهم فكان مُخصَّصًا لأعمالٍ حقيرة، مِثل حك الأرض وغسل الأطباق.

واستمرَّ فن التمريض ينحدر. فلما كان منتصف القرن التاسع عشر انحطَّ «إلى مستوًى من المهانة لا يُوصَف. ولم يظلَّ التمريض موضع اهتمام إلا لدى الأنظمة الدينية التي بقيَت لديها بعض آثار أسلوبه الفني». وفي إنجلترا، بعد إلغاء الأنظمة الدينية، لم تبقَ هناك عمليًّا طبقة تمريض، «حتى نسيَ الناس أن امرأةً مُرفَّهة يمكن أن تكون ممرضة، اللهم إلا في أُسرتها الخاصة».10  11
وكان غذاء المُمرضات سيئًا جدًّا، وأعمالهن مُرهِقة، ومعاملتهن رديئة، حتى إنه ما من امرأة كانت تَقبَل ذلك العمل لو وجدت أي عمل آخر. وتعكس تعليمات المستشفى التالية، التي نُشِرت سنة ١٧٨٩م، بوضوحٍ نمط مستوى أولئك اللواتي كنَّ يزعمن العناية بالمرضى:
  • لا أقذار ولا خِرَق ولا عظام يجوز إلقاؤها من النوافذ.

  • على المُمرضات أن يُغيِّرن بيَّاضات السرير والمريض، أي الملاءات، مرةً كل أسبوعَين، وقمصانه مرةً كل أربعة أيام، والسراويل والجوارب مرةً كل أسبوع أو قبل ذلك إن اقتضى الأمر.

  • كل الممرضات اللواتي يُخالفن الأوامر، أو يَسكرن، أو يُهملن المرضى، أو يتشاجرن مع الممرضات الأخيرات، أو مع الرجال، يُفصَلن فورًا.12
وقال أحد مُراقبي المستشفيات: «لو استطعت الحصول على مجموعةٍ واحدة من الممرضات اللائي لا يَسكرن، فذلك أقصى ما أطمع فيه.»13
ولم تكن هناك قبل سنة ١٨٢٥م أي محاولة لرفع توعية التمريض؛ ففي تلك السنة اقترح الدكتور روبرت جونسن على المنهجيِّين والأصحابيِّين (الكويكريين) إنشاء «نظام من النساء يُخترن لسلامة رأيهن والجِد والحنان والتقوى كي يكنَّ تلميذات ممرضات في مستشفيات إدنبره ولندن».14

وفي سنة ١٨٤٩م استطاع الدكتور جوش والشاعر المتوج روبرت ساوثي إقناع إليزابث فراي (المشهورة بإصلاح السجون) أن تُنشئ «أخوات الرحمة البروتستانتيات»، اللواتي أصبحن بعد ذلك «الأخوات الممرضات البروتستانتيات». وبعد ذلك بخمس سنوات أُنشئت «الأخوات البروتستانتيات للتمريض» للعمل بين الفقراء، وأول نظام ديني محض للتمريض في الكنيسة الإنجليزية ظهر في ١٨٤٨م في دار القديس جون في لندن، وممرضات دار القديس جون هن اللواتي سيذهبن إلى القوم مع فلورانس نايتنجيل.

وفي سنة ١٨٣٦م أُعيدَ إحياء نظام الشمَّاسات في ألمانيا، وهيَّأ تيودور فيلدنر، راعي كايزرسويرث على نهر الراين بين دويسبرج ودوسلدورف، ومعه زوجته فريديريكا منستر، منزلًا كمستشفًى وبيت للشمَّاسات. وكانت أول ممرضة شمَّاسة هي جرترود رايشارد (وُلِدت سنة ١٧٨٨م)، وهي ابنة طبيب، وكانت قد ساعدته في ممارسته الخاصة وفي الحرب. وفي تلك السنة أصبحت ست نساء أُخريات شمَّاسات.

وقد خدمت فراوفليدنر كمراقبة لمؤسسة كايزرسويرث حتى وفاتها، وظلَّت يوميات ملاحظاتها عن تدريب الممرضات المَرجع المعتمَد عليه طوال بقاء نظام الشمَّاسات. ولما مات فليدنر سنة ١٨٦٤م كان هناك ٣٢ بيتًا للشمَّاسات، تُؤوِي ١٦٠٠ شمَّاسة عاملات في الميدان.

ومع تقدم الطب في القرن الثامن عشر صار من الضروري ظهور أساليب فنية جديدة للتمريض. «إن الاستياء العام من تمريض ذلك المعهد، والمحاولات الفاشلة التي قام بها أناسٌ طيِّبون لإتاحة التدريب للممرضات، ونجاح نظام الشماسات، كل كذلك مهَّد الطريق لظهور امرأة جاء استعدادها وقدرتها كُفْأين للمَهمة التي تُواجهها؛ ألا وهي فلورانس نايتنجيل.»15

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤