الفصل الرابع عشر

فلورانس نايتنجيل

كثيراتٌ من نساء القرن التاسع عشر اللواتي تركن طابعهن على الطب والعلوم والأعمال ذات الصلة به كنَّ مُلهَمات — إلى حدٍّ كبير أو صغير — بالكفاح في سبيل حق النساء في تكافؤ الفرصة مع الرجال في ميادين التعليم والطب. ولم تكن حال فلورانس نايتنجيل (١٨٢٠–١٩١٠م) كذلك؛ فهي الابنة الصغرى لآن وليم نايتنجيل من لندن وإميلي بارك. وقد كتبت ذات مرة: «إنني لا أكترث بالمرة لحقوق جنسي أو نقائصه.»1 فالقوة التي دفعتها لتحطيم حدود التقاليد والعُرف لتغدوَ مُؤسِّسة مهنة التمريض كما نعرفها اليوم، كانت شعلة من الغضب على العذاب الذي لا ضرورة له؛ فهي قد مرَّضت — عندما كانت فتاةً صغيرة — الحيوانات المريضة، وقد أعربت عن رغبتها في أن تكون نافعة للمرضى منذ أن كانت في التاسعة، وشرعت تزور وتُساعد المرضى الفقراء من جيرانهم وهي مُراهِقة. وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر كانت الأنشطة النمطية للابنة غير المُتزوجة التي تعيش في المنزل محدودة بالحياكة والرسم التخطيطي وعزف البيانو، والخروج للنزهة في مركبات الأسرة. ومن حُسنِ طالع فلورانس وشقيقتها بارثنوبي أن والدهما — شأنه شأن صمويل بلاكويل ونيوسن جاريت وجورج بالمر بوتنام — كان يعتقد أن للنساء عقولًا، وأنها يجب أن تنمو. وتولى مستر نايتنجيل نفسه تعليم بنتَيه الإغريقية واللاتينية والفلسفة والتاريخ والرياضيات، وكانتا أيضًا تدرسان وتتكلمان الإيطالية والفرنسية والألمانية.

ولم يكن هناك شيءٌ غير عادي في زيارات فلورانس للمُستأجرين في ضيعة نايتنجيل؛ فقد كان أمرًا معهودًا من السيدات الراقيات أن يركبن عرباتهن لتوصيل الطعام للمرضى، ولكن فلورانس كانت تهتمُّ فعلًا بالمرضى، وتُطعمهم، وتُسوي أسِرَّتهم، وتحكُّ لهم ظهورهم أيضًا. وهذا يتجاوز حدود اللياقة، حتى لم يعد مأمونًا أن تتَّصل مباشرةً بهؤلاء الأشخاص الذين يُخالفون قواعد الصحة.

نفذ السهم

وفي ربيع سنة ١٨٨٤م قام فاعل خير أمريكي — هو الدكتور صمويل جرايدلي هاو (وستكتب بعد ذلك زوجته جوليا «نشيد معركة الجمهورية») — بزيارة آل نايتنجيل. وكانت محادثة جرت بين فلورانس وبينه مُؤدِّية إلى قرارٍ بعيد المدى؛ فقد سألته: «دكتور هاو، أتظنُّ أنه من غير المُناسب وغير اللائق لشابَّةٍ إنجليزية أن تُكرِّس نفسها لأعمال الرحمة في المستشفيات وغيرها على نحوِ ما تصنعه الراهبات الكاثوليكيات؟ أتظنُّ ذلك شيئًا فظيعًا؟» فأجابها: «يا عزيزتي مس فلورانس، سيكون ذلك غير مألوف، وفي إنجلترا ينظرون إلى كل ما هو غير مألوف بأنه غير مُناسب، ولكني أقول لك: «امضي قُدمًا. إن كانت لديك موهبة هذا الأسلوب من الحياة فاتبعي إلهامك، وستجدين أنه ليس هناك أي شيء غير لائق أو مُنافٍ لمسلك السيدات في أداء واجبك لخير الآخرين، فاختاري طريقك وامضي فيه أينما قادك، وسيكون الله معك.»2
وعرفَت فلورانس أنها لا تستطيع أن تَذكُر كلمة «مستشفًى» الفظيعة لأُسرتها، وكان عليها أن تجد وسيلةً غير مباشرة للاقتراب من الموضوع. ومرَّت سنةٌ قبل أن تُتاح لها الفرصة، وكانت سنةً أظهرت فيها اقتدارها الكامل؛ فقد قامت بتمريض جدتها، ثم عُنِيت بصحة مُربِّيتها السابقة في مرضها الأخير. وفي خريف سنة ١٨٤٥م. كان هناك مقدارٌ غير عادي من المرضى في القرية، فكرَّست فلورانس نفسها للعناية بالقرويين. وفي ديسمبر كتبَت إلى ابن خالها وأصدَقِ أصدقائها هيلاري يونهام كارتر: «لقد رأيت امرأةً فقيرة تموت أمام عيني هذا الصيف؛ لأنه لم يكن هناك إلا الحمقى ليَسهروا عليها، والذين سمَّموها وكأنهم بالضبط سقَوها الزرنيخ.»3

الآن صارت فلورانس على قدم الاستعداد، ففتحت موضوع دراسة التمريض في مستشفى سالسبوري. وكان رد فِعل الأسرة يتَّسم بالذُّعر؛ فمعظم المستشفيات في إنجلترا لا يؤمُّها إلا الفقراء الذين ليس لديهم مكانٌ آخر يلوذون به، فهي على العموم قذرة، وما من أحدٍ يُفكِّر في هذا العمل المهين إذا أمكَنَه الحصول على عمل في مكانٍ آخر. وما زالوا بها حتى ثنَوها عن عزمها على الذهاب إلى سالسبوري، ولكنها كانت مُصمِّمة على تعلُّم كل ما كان في استطاعتها أن تتعلمه عن أحوال المستشفيات في إنجلترا والقارة الأوروبية. وقد أعانتها علاقات الأسرة في الدوائر الحكومية والدبلوماتية، فجمعت طائفةً كبيرة مُدهشة من المعلومات لتُعدَّ منها إحصائيات، وكان هذا هو أساس أفكارها عن كيف ينبغي للمستشفيات أن تُشاد وتُدار.

ومن بين المواد التي تيسَّرَت لها الكتاب السنوي لمعهد الشمَّاسات في كايزرسويرث. فهذا المستشفى ودار الأيتام النموذجية كانا — فيما يبدو — قد استأصلا السِّمات الكريهة في حياة المستشفيات، والتي أثارت فزع أسرتها. ولاحت في سنة ١٨٤٩م فرصة لزيارة كايزرسويرث، عندما اقترح صديقاها الحميمان «سلينا بريسبريدج» وزوجها أن تصحبهما في رحلة إلى مصر وبلاد اليونان، وسُرعانَ ما وافَق آل نايتنجيل. وكانت فلورانس قد أُصيبت أخيرًا بنوع من الهبوط، وكانت الرحلة خليقةً أن تُنعِشها، ويقينًا أن بلاد اليونان ومصر لا ضرر منهما. ولم يكونوا يعلمون أن آل بريسبريدج كانا يعتزمان قضاء أسبوعَين في دسلدورف في طريق العودة.

ولمَّا تكشَّفت الخطة بدَت فلورانس مُرهَقة وأتعس من أن تتحمس. وقد كتبت فيما بعد: «وأنا على وَشْك تحقيق أعظم أمانيَّ بدَوتُ غير قادرة وغير مُتأهِّبة، وكأنما ليست هذه رسالتي الباطنة …» ولكن بعد قضاء أسبوعَين في كايزرسويرث شعرت «بشجاعةٍ عظيمة كأنما لن يقوى شيء على إقعادي مرةً أخرى».4

ومع هذا ظلَّت فلورانس تتحرك بحذر. وحتى عام ١٨٥١م لم تُعلن لأسرتها أنها رتَّبت الأمور للدراسة في كايزرسويرث لمدة ثلاثة أشهر. لقد أجمعت أمرها على الذهاب سواءٌ أوافقوا أم رفضوا، ولكن آل نايتنجيل هذه المرة لم يُقاوموا، وكل ما هناك أنهم رجَوها أن تجعل خبر إقامتها هناك سرًّا.

وإذ تعود بنظرها في سنة ١٨٩٧م إلى الوراء، تُنكر فلورانس أنها تدرَّبت في «كايزرسويرث»؛ فهي تطوي الولاء الخالص الذي تتمتع به الشمَّاسات، إلا أنها كتبت أن «التمريض هناك كان لا شيء، والشروط الصحية فظيعة، أما المستشفى فهو بالتأكيد أسوأ قسم».5 ولا يعلم أحد إلى أي حدٍّ جاء هذا الوصف عادلًا ومُنصِفًا؛ ففي سنة ١٨٩٥م كانت تشكو بالفعل من فقدِ الذاكرة، وهذه بَوادر الانحلال العقلي والعمى اللذَين سيَغْشيان أعوامها الأخيرة.

من كايزرسويرث إلى القرم

وبصرف النظر عما أبدَته فلورانس نايتنجيل فيما بعدُ من حكمها القاسي على مستوى التمريض في كايزرسويرث، إلا أنها غادرَتها في أكتوبر سنة ١٨٥١م وهي مُصمِّمة على التدرُّب الجِدِّي، ربما في أحد مستشفيات لندن الكبرى. وكانت خططها المباشرة موضع معارضة مع أبيها، الذي كان يُعاني من الْتِهاب في عينَيه. وكان طبيبه قد أمره بالاستشفاء في روشستر شاير للمعالجة بالماء البارد، فرفض الذهاب ما لم تصحبه فلورانس.

وفي سنة ١٨٥٢م كانت في دبلن، حيث أملَت أن تعمل مع «أخوات الرحمة»، ولكنها استُدعيَت عندما أُصيبت أختها بارث بانهيارٍ عصبي. وقد قيل إن بارث «صمَّمت على أن فلورانس إن كان لا بد لها أن تُمرِّض أحدًا فلتكُن هي ذلك الشخص، وافتعلت سلسلة من الأمراض الهيستيرية لتُرغِمها على ذلك.»6 ولكن فلورانس لم تبقَ في إميلي أطول من الحد الضروري للتأكد من أن أختها مَوضع عناية، ثم حدث في أكتوبر، عندما كانت مُتأهِّبة للسفر إلى باريس للعمل مع أخوات الرحمة، أنَّ عمَّتها الكبرى مرِضَت فمرَّضَتها فلورانس في عِلتها الأخيرة. وأخيرًا وصلت إلى باريس في ٤ من فبراير سنة ١٨٥٣م، حيث أعدَّت لها ترتيبات لتَدخُل مستشفى أخوات الرحمة (بيت العناية) مقدمةً للتدريب على التمريض. ومرةً أخرى دُعيَت إلى البيت، هذه المرة لتُمرِّض جدتها المُحتضرة.

وفي أغسطس سنة ١٨٥٣م ذهبت لتعمل مُراقِبة في معهد العناية بالمرضى من السيدات النبيلات اللواتي هن في ضائقة. «وكانت الدار محترمة تمامًا، ولكن سوء الإدارة فيها بلغ حدًّا إجراميًّا، ولكي تُنقذ سُمعة العائلة تولَّت فلورانس العمل بدون مرتب، واستجاب والدها لذلك بأن أعطاها منحةً سنوية. وكانت لجنة السيدات الثريات التي اعتمدت تعيين فلورانس مسرورة جدًّا بفكرة قيام شابَّة راقية لطيفة ومُهتمة ومُتفرغة للعناية بالمُربِّيات والمُرافِقات المريضات. وكم كانت صدمتهن شديدة لأن أول خطوة أقدمت عليها فلورانس أنها طلبت أن تكون المؤسَّسة غير طائفية، وكانت اللجنة تريد لها أن تظلَّ تابعة تمامًا لكنيسة إنجلترا، فهدَّدَت المراقبة الجديدة بالاستقالة، وانتصرت.

وكانت العادة الجارية منذ زمنٍ طويل أن تُحمَل دِلاء الماء الساخن باليد إلى الطوابق المُتعددة، وأن تُقدَّم صواني الطعام باليد واحدةً واحدة، مع الصعود ثلاثة طوابق كل مرة، وليس أمام المريضات أي وسيلة لاسترعاء انتباه الممرضة إلا عندما تقوم الممرضة بالمرور، فأوصلت فلورانس الماء الساخن بأنابيب إلى كل طابق، وجعلت صواني الطعام تصل في مِصعدٍ خاص صغير، ووضعت زرًّا عند رأس كل سرير بحيث يُعطي إشارة عند مكتب ممرضة الطابق. وكانت هذه بدايات الإصلاح. وفي يناير سنة ١٨٥٤م كانت المؤسَّسة تُدار بانتظام وعلى ما يُرام.

ولكن فلورانس لم تكن تعرف الراحة، وبدأت تزور المستشفيات وتجمع الحقائق التي تُؤسِّس عليها قضية لإصلاح أحوال ممرضات المستشفيات. وكان سيدني هربرت وزير الحرب من المُهتمين بذلك، وكانت زوجته «ليز» هي التي رعت فلورانس وزكَّتها لوظيفة المراقبة. وكان هربرت يعرف أن المعلومات المُدعَّمة بالوثائق عن رداءة الأجر وسوء الإسكان سوف تُنبِّه الرأيَ العامَّ إلى الشرور الموجودة، ولكن ذلك كان من الصعب التغلب عليه؛ إذ كانت التعيينات في المستشفيات تتم بالرشوة والمحسوبية. والإدلاء بمعلوماتٍ تُعزِّز الإصلاح من شأنه أن يُعرِّض الوظيفة للخطر. وكان كل هذا العمل لا بد من وضعه جانبًا؛ ففي مارس سنة ١٨٥٤م أعلنت إنجلترا وفرنسا وتركيا الحرب على الروسيا، ونزلت الجيوش المُتحالفة في شِبه جزيرة القرم في سبتمبر؛ وبذلك أصبحت الحاجة إلى مواهب فلورانس نايتنجيل ماسَّةً في مكانٍ آخر.

التمريض في وقت الحرب

عندما حان الوقت كي تُبحِر قوَّات الجيش البريطاني إلى فارنا على البحر الأسود لتقوم بهجوم على القاعدة البحرية الروسية الكبيرة في سباستبول، لم تكن هناك ناقلاتٌ كافية لحمل الثلاثين ألف رجل مع معدَّاتهم، فتركت دوابَّ الحمل والخيام وأدوات الطهي وسرادقات المستشفى وصناديق الأدوية والأسرة وأدواتها والمخازن. وقد دفع جرحى الحرب ثمن هذا التخلي، وصارت عمليات البَتْر تُجرى بدون تخدير، وكان الجرَّاحون يعملون في ضوء القمر لعدم وجود شموع. وليس هناك مورفين لإخماد الألم. ومن عاشوا بعد هذه المذبحة أُعيدوا بطريق البحر إلى سكوتاري، وهي مدينةٌ تركية تُواجه القسطنطينية على مضيق البسفور حيث أقام الحُلفاء قواعدهم، وامتلأت سفن المستشفى بخمسة أو ستة أضعاف طاقتها، وطالت الرحلة من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع على حسب حالة الجو.

وفي سكوتاري لم تكن الأحوال أفضل بكثير مما كانت وراء خطوط القتال؛ فقد ظن البريطانيون أن مستشفًى صغيرًا مُلحَقًا بثُكْناتٍ هائلة أخلاها لهم سلاح مِدفعية الأتراك سيكون كافيًا لإيواء الجرحى، ولكنهم لم يُدخلوا في حسابهم وباء الكوليرا الذي كان مُتفشيًا في الجبهة؛ فغصَّ المستشفى بأكثر من ٢٠٠٠ حالة كوليرا. وحاوَل البريطانيون تحويل الثُّكنات الكبيرة كلها إلى مستشفًى، ولكن ذلك كان مُستحيلًا لأنها كانت قذِرة جدًّا، ولأنه لا يوجد أحد لتنظيفها، ولأنه لا توجد معدَّات مستشفيات لوضعها فيها، ولكنهم استخدموا تلك الثكنات على كل حال، فكان الرجال يرقدون على الأرض وسط نفس البطاطين المُشبعة بالدم والبراز التي كانوا مُلتفِّين فيها وهم في ميدان القتال. ولم يكن هناك مطبخ يُعَد لهم فيه الطعام، ولا كان هناك أطباء يَكْفون للعناية بهم.

والواقع أن الأحوال كانت لا تختلف إلا قليلًا عن تلك الأحوال التي كانت كثيرًا جدًّا ما تَسُود المستشفيات العسكرية خلال تاريخ إنجلترا العسكري الطويل، بيدَ أن الفظائع السابقة ظلَّت سرًّا مكتومًا، أما هذه المرة فكان مع الجيش مُراسلٌ حربي، فاستُثير الرأي العام ببرقياتٍ أرسلها إلى الوطن وليم هوارد راسل ونُشِرت في التايمز، وزاد الغضب عندما عرَف أنَّ الجرحى الفرنسيين تُعنى بهم بَعثةٌ كبيرة من الممرضات الممتازات هن أخوات الرحمة، وكان الجمهور البريطاني يريد أن يعرف لماذا لم تفعل النساء البريطانيات القويَّات الأجسام مِثل صنيعهن.

وفي ١٥ من أكتوبر كتب وزير الحربية هربرت إلى فلورانس نايتنجيل يطلب إليها أن تُنظم فريقًا من الممرضات يرحل إلى سكوتاري في أقرب وقت، وقال: «ليس في إنجلترا إلا شخصٌ واحد أعرفه مُستطيعًا تدبير هذا المشروع والإشراف عليه، وإنه إذا نجح هذا المشروع فسيَترتَّب عليه خيرٌ كثير الآن لأولئك الذين يستحقُّون كل شيء على أيدينا، وسيتحطم وهمٌ قائم، وتقوم سابقةٌ حسنة تتكفل بمضاعفة هذا الخير في جميع الأوقات.»7

والواقع أن فلورانس استبَقَت هذا الطلب، فكانت قد نظَّمت بالفعل بعثةً خاصة صغيرة من الممرضات مستعدةً للإبحار معها إلى القسطنطينية، وأرسلت خطابًا إلى ليز هربرت تُخبرها بنواياها، وحدث أن أرسلت هذا الخطاب في نفس الوقت الذي تلقَّت فيه خطاب استدعاء من وزير الحربية.

فلو أن فلورانس نايتنجيل كانت بحاجة إلى حافز لقبول هذه المهمة، فقد توفَّر ذلك في خطاب هربرت، حيث تنبَّأ بأن أداء المهمة بكفاءة سيُحطِّم الوهم والتحيز ضد مشاركة النساء في تمريض المرضى. ولم يخطر قطُّ ببالها أنَّ ما عرَضه عليها سيدني هربرت سيكون موضوع إثارة؛ فلم يسبق لامرأةٍ قط أنْ دعَتها الحكومة — بل جنَّدتها — للقيام بمَهمَّةٍ رسمية عسكرية. وفي ١٨ من أكتوبر أقرَّ مجلس الوزراء بالإجماع تعيينها «مُراقِبةً عامة لمؤسسة التمريض النسوية في المستشفيات الإنجليزية العامة بتركيا»، وكانت سلطتها واسعة. وكان أمر التعيين كما يلي: «كل ما هو متصل بتوزيع الممرضات وساعات نَوْبتهن وتخصيص واجباتهن فأمْرُه بيدك، خاضعًا بالطبع لإقرار وموافقة كبير الضباط الطبيين، أما اختيار الممرضات ابتداءً فأمْرُه إليك وحدك.»8
وفي ٢١ من أكتوبر، بعد تلقِّي دعوة هربرت بستة أيام، غادرَت فلورانس نايتنجيل إنجلترا إلى سكوتاري ومعها ثمانٍ وثلاثون مُمرضة، منهن ١٠ راهبات كاثوليكيات، و١٤ من الأخوات الإنجيليات، وممرضات من دار القديس جون، و١٤ من ممرضات المستشفيات. وهذا الفريق الأخير كان مَدعاة للأسف؛ لأنه نمطٌ نموذجي لمهنة التمريض البريطانية على نحوِ ما كانت عليه في سنة ١٨٥٤م. وكان أسلوب أدائهن للعمل مَدعاة لأن تكتب الآنسة نايتنجيل بعد ذلك من سكوتاري في صدد المدد المُقبل أنه: «يجب إبعاد كل السيدات البدينات السِّكِّيرات اللواتي تَزِن الواحدة منهن مائتَي رطل فما فوق.»9 وفي ٤ من نوفمبر رسَت السفينة في القسطنطينية، بعد رحلةٍ بَحرية رهيبة في «سفينةٍ فظيعة … حافلة بصراصير ضخمة ومشهورة بقلة الراحة فيها، حتى إن الحكومة كانت تجد صعوبةً في تزويدها بالملَّاحين والرجال.»10 ولم يكُن شيءٌ مما سمِعَته في لندن قد أعدَّها لحقيقةٍ ما في «مستشفى» سكوتاري؛ «فهو مشيد مباشرةً فوق مجرور كبير لم يتيسر نَزْحه منذ سنوات، وأرضيَّاته تنشع بالوُحول القذرة، والجرحى راقدون بلا عناية فوق حشايا من قشٍّ نتن تَكثُر فيها الحشرات والهوام، وليست هناك تهوية. وقد كتبت تقول: «من المستحيل وصفُ حالة الجو في مستشفى الثُّكنات ليلًا. وقد كنت على درايةٍ تامَّة بمساكن أسوأ الأحياء في مدن أوروبا الكبرى، ولكني لم أجد قطُّ مِثل هذا الجو أو جوًّا يُقارَن به.» وقالت لرفيقاتها: «سنحتاج إلى الأقوى من بينكنَّ أمام طشت الغسيل.»11
وضاق العسكريون المحليون صراحةً بالآنسة نايتنجيل، ظنًّا منهم أنها مُرسَلة من قِبَل مجلس الوزراء المدني في لندن لتتجسَّس عليهم، غير أنه لم يكُن هناك وقت للمشاحنات التافهة؛ فوراء الناقلات التي حملت الجرحى في معركة بلاكافا الرهيبة تدفَّق جرحى آخرون أُصيبوا في معركة إنكرمان الدامية، وأُصيب القسم الطبي بالذعر، وصار الأطباء يتقبَّلون بامتنانٍ أي مساعدة من أي مصدر، وسيكتب أحدهم فيما بعد: «لا أستطيع أن أتصوَّر كيف يمكن تَحاشي نتائج لا يمكن تَصوُّر مبلغ وخامتها، لولا وجود الآنسة نايتنجيل هناك.»12

ولقد عرقل جهودَها ما هو أكثر من العداوة الرسمية والغباء البشري؛ إذ هبَّ إعصارٌ على سفن المئونة، وصارت الكوليرا تحصد من الجنود من نجَوا من القذائف، فمات منهم بالمرض قَدْر من ماتوا بالجِراح، وارتفعت نسبة الوفَيات بين الحالات المَرضية إلى نسبةٍ رهيبة بلغت ٤٢٪.

ومع أنه لم يكن لديها شخصيًّا إلا وقتٌ قليل تُخصِّصه للتمريض، إلا أن الجنود عرفوها كمُمرضة وأحبُّوها، وكتب أحد الجنود إلى الوطن يقول: «أي راحة لقلوبنا في مجرد رؤيتها تمرُّ؟ وقد تُحدِّث هذا، وتُومئ وتبتسم لكثيرين غيره، ولكنها لم تكن تستطيع أن تفعل كل شيء كما تعلم؛ فنحن راقدون هناك بالمئات، ولكن في وُسعنا أن نَلْثم ظِلَّها الذي يسقط فوقنا ثم نضع رُءوسنا على الوسائد مرةً أخرى راضين.»13
وقد خلَّدها الشاعر لونجفلو باعتبارها «السيدة ذات المصباح»، وقد صوَّروها وهي تسير في الليل مُخترقةً العنابر وقد بلغ طول الأسِرَّة فيها أربعة أميال. وفي هذا شيء من التجاوز للضرورة الفنية والشعرية؛ فقد كتبت إلى سيدني هربرت:14 «إني أعمل في العنابر طول النهار وأكتب طول الليل.» وشمِل ما كانت تكتبه دائرةً تتجاوز المطالب المباشرة لتحسين أحوال سكوتاري، فهي مُصمِّمة على أن هذه الحالة المأساوية التي اضطُرَّت لمعايشتها في سكوتاري يجب تجنُّبها في المستقبل؛ ولذا كانت تُعِدُّ الخُطط المُفصَّلة لإعادة تنظيم المستشفيات العسكرية، وألحَّت في اتخاذ منهج أعدَّته لضبط الإحصائيات الطبية في مستشفيات الجيش، واقترحت إنشاء مدرسة للطب العسكري تدرس فيها قواعد الصحة في المعسكرات مع الطب العسكري. وبفضل هذا السيل غير المنقطع من التقارير إلى هربرت غادرَت إنجلترا في أوائل سنة ١٨٥٥م لجنةٌ صحية مُخوَّلة السُّلطة الكاملة لتنظيف المستشفى. ونتيجةً لجهودها، تُسانِدها هذه اللجنة، هبط معدل الوفَيات بين مرضى سكوتاري من ٤٣٥ في الألف إلى ٢٢ في الألف.

وتنقسم إقامة فلورانس نايتنجيل في سكوتاري إلى فترتَين مُتميزتين؛ فأثناء الشتاء الرهيب ١٨٥٤-١٨٥٥م تمكَّن وجودها وحده من إنقاذ المستشفى من الانهيار، واختفت المعارضة، وصارت سيطرتها مطلقة، ولكن منذ ربيع سنة ١٨٨٥م — وقد تحسَّنت الأحوال وقلَّت الضغوط — عادت موجات الحسد الحقيرة والخيانات وإساءة التأويل، تُناوشها وتُرهقها، فاستولى عليها الشعور بالفشل والإرهاق البدني.

معركة إصلاح الجيش

عادت فلورانس نايتنجيل إلى إنجلترا في أغسطس سنة ١٨٥٦م، وهي عاقدة العزم على المناضلة ضد عدم المبالاة والغباء السائدَين في الجهات الرسمية؛ مما أدَّى إلى المأساة التي شهِدَتها، ولكن الحرب كانت قد وضعت أوزارها، وكان الجمهور يريد أن ينسى أمرها، وانضمَّ سيدني هربرت إلى أُسرتها وأصدقائها في إخبارها بأنها يجب أن تَخلُد للراحة، ولكنها لم ترضَ أن تحظى بشيء منها: «إن هؤلاء الناس قد غذَّوا أبناءهم على دسم الأرض، وألبسوهم المُخمَل والحرير … أما أنا فقد كُتِب عليَّ أن أرى أبنائي في أسمال بطَّانية قذرة وسروالٍ عسكري عتيق، وأن أراهم يتغذَّون باللحم النِّيء المُملَّح. إن تسعة آلاف من أبنائي يموتون — في قبورهم الأجنبية — بأسبابٍ كان من الممكن تحاشيها، أما أنا فلن أستطيع أن أنسى!»15 وسنحت لها فرصة لخدمة قضيَّتها بعد عودتها إلى إنجلترا بستة أسابيع؛ فقد دُعيَت إلى قصر المورال في اسكتلندا لكي تشكرها الملكة فيكتوريا وزوجها على خِدماتها للأمة، فانتهزت هذه الفرصة انتهازًا تامًّا، ورجَت جلالة الملكة أن تُقنِع مجلس الوزراء بتأليف لجنة ملكية لفحص الحالة الصحية للجيش البريطاني في السلم والحرب.

لقد باتت وزارة الحرب تنظر إلى الآنسة نايتنجيل نظرتها إلى مصدر إزعاج خطر. لقد كانت ذات نفع في وقت الطوارئ على مسافة ثلاثة آلاف ميل، أما هنا في الوطن فأفكارها الثورية لا يمكن أن تُطاق؛ ولذلك لم يتم شيءٌ مما طلبَته، فلجأت فلورانس إلى التشهير المُهذَّب، فقالت للورد بانمور — الذي خلَف هربرت وزيرًا للحرب — إنها ما لم تُؤلَّف لجنةٌ ملكية فورًا، وتُقدِّم دليلًا ملموسًا على إصلاحاتٍ تتمخض عن مداولاتها، فإنها سوف تنشر في ظرف ثلاثة أشهُر تَجرِبتها عن الحرب واقتراحاتها للإصلاح والتحسين.

وفي ٥ من مايو سنة ١٨٥٧م تألَّفَت لجنةٌ ملكية رسميًّا، وعلى رأسها حامي الآنسة نايتنجيل سيدني هربرت. وكان الأعضاء الآخرون من اختيارها، أما هي فلم تكتفِ بمعاونتهم في مداولاتهم فحسب، بل أتاحت لهم الوقائع والأرقام من «مذكراتها حول الصحة والفعالية وإدارة المستشفيات في الجيش البريطاني» التي لم تكن نشرَتها بعد؛ فهذا العمل الضخم يُغطي في فصوله الإحدى والعشرين موضوعاتٍ مثل النقص في نقل المرضى، والتوصيات الصحية بخصوص المستشفيات، واستخدام الممرضات، واستخدام الممرضين، والحاجة إلى موظفين صحيين خاصين (في الوطن وفي الخارج)، وعدم دقة الإحصاءات المُتعلقة بالمستشفيات، والحاجة إلى إدارة للإحصاء، واستمارات للإحصاءات الطبية، وتقارير عن ارتفاع معدلات المرض والوفاة في بعض أسلحة الجيش، وملاحظات عن تعليم واستخدام وترقية الضباط الطبيين، وملاحظات عن الدفع والتوقف عن الدفع، وعن زوجات الجنود، وعن التغذية والطهو وبناء المستشفيات.

وسُلِّم تقرير اللجنة إلى اللورد بانمور بعد عودتها إلى إنجلترا بعام بالضبط. وكانت الوقائع التي كشف عنها مُذهِلة؛ فأحوال الجيش (الصحية) تكاد تكون في وقت السلم سيئة كالعهد بها في وقت الحرب؛ فبسبب الثُّكنات غير الصحية التي يعيش فيها الرجال مثلًا كان معدل الوفَيات بين الجنود يتراوح بين ضِعفَي وخمسة أضعاف معدل وفَيات الجيران المدنيين، مع أن الجيش يضمُّ الأصغر سنًّا والأقوى بنيةً بين السكان الذكور. وكان مجرد التفكير في مَبلغ رد الفعل العام — لو أن الآنسة نايتنجيل نفَّذت وعيدها بنشر مذكراتها — خليقًا أن يدفع اللورد بانمور للعمل، ولكنه مرةً أخرى لجأ للمُماطَلة. ومرَّت تسعة أشهُر قبل أن تُعيِّن وزارة الحرب الدكتور توماس ألكسندر — الذي عملت معه الآنسة نايتنجيل في سكوتاري — مُديرًا عامًّا للقسم الطبي بالجيش، ثم قدَّمت الوزارة سلسلة قرارات اعتمدها مجلس العموم تُعَد ثورة في أحوال الثُّكنات. وبعد عامٍ سقطت الوزارة، وتولَّى سيدني هربرت وزارة الحرب مرةً أخرى. وبدا أن كل ما حاربت فلورانس نايتنجيل من أجله بات مُحقَّق الوقوع؛ فقد اتُّفق على أن يُعاد تشكيل وصياغة الترتيبات الصحية في الثُّكنات والمستشفيات العسكرية كي يفيَ بالمواصفات التي ذكَرَتها؛ أي لكي يصبح ماء الشرب صالحًا للشرب، وأن يكون طعام الجنود مُقويًا وأكثر استساغة، وأخيرًا إقامة مدرسة للطب العسكري.

لقد كان الحصول على وعد بالإصلاح شيئًا، وكان شيئًا آخر أن تراه يُنفَّذ. وقد كتبت الآنسة نايتنجيل في نوفمبر سنة ١٨٥٩م:16 «إن وزارة الحرب وزارة شديدة البطء، وباهظة التكاليف جدًّا، ويمكن لقرارات الوزير أن يبطل مفعولها بواسطة تدخُّل المصالح الإدارية التابعة له. كذلك يمكن أن تبطل قرارات هذه المصالح بواسطة تدخُّل المصالح الأخرى.» ووافَقها هربرت على أن وزارة الحرب التي يتولَّاها يجب أن يتم إصلاحها، وصمَّما معًا على تبسيط الإجراءات، وإلغاء توزيع المسئوليات، وتحديد واضح لواجبات كل رئيس إدارة وكل قلم، وأن يكون الرؤساء مسئولين عن إداراتهم مع تمتُّعهم بحق الاتصال المباشر بوزير الحرب، ولكن هذا البرنامج أُصيبَ بنكسة عندما تُوفِّي سيدني هربرت في أغسطس ١٨٦١م (وكان قد أصبح لورد هربرت أوف لي)، وتكاد تكون آخر كلماته المفهومة كما روتها زوجته: «مسكينة فلورانس … مسكينة فلورانس … لقد انتهى عملنا المشترك.»17

التمريض المدني

في أغسطس سنة ١٨٥٧م كانت فلورانس نايتنجيل قد مُنِيَت بانهيارٍ عصبي تام، تركها شِبه عاجزة عن الحركة في السنوات الثلاث والخمسين الباقية من حياتها، ولكن ذلك لم يضَع حدًّا لأنشطتها؛ فبينما هي تُناضل ثم تُحاول إعادة تنظيم وزارة الحرب بالكلية أصدرت كتابَين؛ أولهما «ملاحظات عن المستشفيات» (١٨٥٩م) بَنَته على الوقائع والأرقام التي جمعتها على مدى ١٥ سنة، وفيه استطاعت أن تبين أن معظم وفَيات المستشفيات سببها سوء أحوال المستشفيات، لا الأمراض التي من أجلها دخلها المرضى. وكشف الكتاب أيضًا أنها كانت خبيرة في بناء المستشفيات وإدارتها. وفي السنوات الخمسين التالية قلَّ أنْ بُنيَ مستشفًى في أي مكان بالعالم بدون مشورتها. ولئن كان هذا الكتاب قد كُتِب للمُتخصصين أو الخبراء، فإن كتابها الآخر «ملاحظات عن التمريض» (١٨٦٠م) مكتوب لربَّات البيوت الإنجليزيات. وكثيرٌ من الشروط الصحية المعروفة في بيوت اليوم، والمفروغ من أمرها لأنها من المُسلَّمات، كان هذا الكتاب أول من أدخلها.

وفي سنة ١٨٥٥م عندما كانت فلورانس نايتنجيل في أوج شهرتها، أُنشئَ صندوق نايتنجيل، وكان المُراد إنشاء مدرسة لتدريب الممرضات. وعندما أبلغها هربرت بوجود ذلك الصندوق وسألها كيف تحب أن يكون تصرُّف لجنة التنظيم، أجابته من سكوتاري أنها مشغولة حاليًّا، ولكنها ستُفكِّر في المشروع عندما يتَّسع لها الوقت، ولكنها لم تنسَ قطُّ أن الصندوق موجود. والآن اتَّسع لها الوقت، واهتمَّت به شخصيًّا بكل التفاصيل، ولكنها أدركت أنها لن تتمكن من القيام بدورٍ فعَّال في البرنامج بسبب إمكانياتها البدنية المحدودة، وعهِدَت بإدارة المدرسة إلى مسز وارد روبر كبيرة ممرضات مستشفى القِديس توماس سابقًا. وفي ٢٤ من يونيو سنة ١٨٦٠م دخل أول فوج من الطالبات مدرسة نايتنجيل لتدريب الممرضات في مستشفى القِديس توماس ليندربن لمدة سنة، وكان عددهن ١٥، ولدى كلٍّ منهن شهادة بحسن السير والسلوك. ولبِثَت مسز وارد روبر في الخدمة لمدة ٢٧ سنة، وجانبٌ كبير من نجاح المدرسة يجب أن يُعزى إلى تصميمها ونشاطها الجم.

إن أصحاب المِهن الطبية (وهم — في مجموعهم — رجعيُّون) عارَضوا الفكرة، وقاد المعارضة مستر ج. ف ساوث كبير الجرَّاحين الاستشاريين في مستشفى القديس توماس ومدير كلية الجرَّاحين؛ ففي رأيه ورأي الكثيرين من زملائه أن الممرضة — ويُستحسن أن تكون امرأة نصفًا — ينبغي أن تكون أعلى قليلًا من خادمةٍ راقية، كل وظيفتها أن تُنفذ أوامر الطبيب، فلا حاجة إلى تعليهما، ولكن كل شيء يتغير مع الزمن، وسُرعانَ ما تقدَّمت إلى الأمام خريجات نايتنجيل ليَرْأسن مدارس جديدة للتمريض في جميع أنحاء العالم.

الدعوة للتمريض

وخلال الخمسين السنة الأخيرة من عمرها، كانت فلورانس نايتنجيل جادَّةً مُجدَّة في محاولتها كَسْب الاعتراف العام بالتمريض، كما يمكن وكما يجب أن يكون. وفي سنة ١٨٦٠م كتبت: «إني أستخدم كلمة تمريض لافتقاري إلى ما هو خير منها؛ فقد كان استخدامها مقصورًا على ما لا يكاد يتجاوز تقديم الدواء وعمل الكمادات، وإنما ينبغي أن تعنيَ الاستخدام للهواء الطَّلْق والضوء والحرارة والنظافة والهدوء والاختيار والتعاطي السليم للغذاء، وبأقل تكاليف من القوة الحيوية لدى المريض … إن فن التمريض — كما يُمارَس الآن — يبدو وكأنه يتعمَّد نقْضَ ما أراد الله للمرض أن يصنعه؛ أي إنه عملٌ تعويضي.» وبعد ثلاثين سنةً كتبت: «إن التمريض يجعلنا في أكثر الأحوال ملاءمةً لاستعادة الطبيعة للصحة والمحافظة عليها. إن الصحة ليس معناها أن نكون بخير فقط، بل أن نكون أيضًا قادرين على حسن استخدام كل قُوانا التي يجب أن نستخدمها.»18 وقالت في ورقةٍ سُلِّمت إلى قسم التمريض من مؤتمر المستشفيات والمستوصفات والتمريض المُنعقِد في السوق الدولية سنة ١٨٩٣م بشيكاغو: «ينبغي للتمريض ألا يكون مهنة بل «نداءً باطنًا» كالدعوة بمعناها الكهنوتي.» وقالت أيضًا: «إن الفن هو تمريض المريض — خذ بالك من فضلك! — وليس تمريض المرض … وهذا هو السبب في أن التمريض الحق لا يمكن تعليمه إلا بجوار سرير المريض وفي حجرة المريض أو في العنبر، وما المحاضرات والكتب إلا وسائل مساعدة ثمينة.»19

ومنذ سنة ١٨٦٠م تكاثرت مدارس التمريض في كل أنحاء العالم. وقد نُظِّمت أول مدرسة أمريكية للتمريض في سنة ١٨٧٢م في مستشفى نيو إنجلند للنساء والأطفال على يد الدكتورة ماري زاكر سيفسكا والدكتورة سوزان ديموك (١٨٤٧–١٨٧٥م).

لقد كانت فلورانس نايتنجيل ممرضةً بارزة، ولكنها لم تكن ممرضةً محترفة عاملة إلا لمدة ثلاث سنوات من سنوات عمرها الذي بلغ التسعين؛ فالأجدر بنا أن نَذكُرها لأنها أنشأت «دعوة» أو «رسالة» التمريض على نحوِ ما هو كائن اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤