الفصل الخامس عشر

دوروثيا لند ديكس

وُلِدت دوروثيا لند ديكس (١٨٠٢–١٨٨٧م) — التي ستُعرَف بِاسم حامية المخبولين — في مزرعة على مشارف هامبدن، على مسافة ستة أميال من بانجور فيما يُعرَف اليوم بِاسم مين، ووالدها جوزيف ديكس كان قد اضطُرَّ لمغادرة هارفرد ونُفيَ إلى ذلك المكان القاصي المُوحِش غير المأهول تقريبًا من تُخوم ماساشوستس، عندما تزوَّج ماري بيجاو رغم مشيئة أبيه الدكتور إيليا ديكس. وترتَّب على إنذار الدكتور ديكس النهائي ما هو أكثر من إخراج الزوجَين الشابَّين من بوستن، حيث أبدى أعضاء الأسرة اعتراضًا قويًّا على ماري؛ ترتَّب عليه أنْ باع الدكتور الفدادين الشاسعة من الأرض الكثيفة الشجر على طول نهر بينو بكسوت التي كان الدكتور قد اشتراها قبل سنوات. وكان سكان منطقة هامبدن فقراء، وكانت أكواخهم البدائية المصنوعة من كُتَل الأشجار تتكون عادةً من حجرةٍ واحدة وسندرة، مع مُلحَقٍ مُكوَّن من امتدادٍ مُنحدِر السطح، وأكثر ألواح النوافذ الصغيرة من المشمع بدلًا من الزجاج، والمصاريع الخشبية فيها الحماية من برد الشتاء، والمِدفأة تمد بالحرارة والتهوية والضوء وتُستعمل في الطهو. والرجال والنساء والأطفال عليهم أن يعملوا بجِدٍّ ليَكفلوا ضروريات الحياة. ولم يكن العمل وحده هو الذي يَحرم الأطفال من مُتَع الصِّبا، بل إن للآباء معتقدات كلفينية تُحرم المرح الصاخب. ومن المألوف لهؤلاء الأطفال على تُخوم الحدود أن يَنضَجوا قبل أوانهم. وهذا هو العالَم الذي وُلِدت فيه دوروثيا لند ديكس في ٤ أبريل سنة ١٨٠٢م.

لم يكُن جوزيف ديكس مُؤهَّلًا لحياة تُخوم الحدود لا جسميًّا ولا عقليًّا، وقرَّر أن زراعة وإدارة أرض أبيه ليست العمل الصالح له، فشرَع يبحث عن وسيلةٍ أخرى للتعيش. وكان قد درس علوم الدين في هارفرد، وأخذ يُحسُّ نداءً باطنًا يدعوه للوعظ، فوضع أمتعته في خَرْجَين للسَّرْج، ومضى «ليَحمل الإنجيل إلى أقصى النجوع».1 وكان جوزيف ديكس أفضل تعليمًا من قساوسة الطائفة الميثودية في أيامه، وله شخصيةٌ لطيفة، ويتحدث باقتناعٍ عميق. ومع أنَّ وعظه عاد عليه بالفضل والاحترام إلا أن العائد الماليَّ كان ضئيلًا. ولما كانت ماري ديكس عاجزة عن إدارة المزرعة وحدها، فقد شعرت بهبوط الهمة والتعاسة. وشرع جوزيف ينتقل من عمل إلى آخر، مُتنقِّلًا بأُسرته من قرية إلى قرية، وبين حين وحين كان الدكتور إيليا ديكس يأتي ليتفقَّد أرضه. ولما كانت دوروثيا مُهمَلة من أبيها الكثير الغِياب، ومن أمها المُتعَبة الكثيرة المرض، فقد وجدت في الجَد ديكس كل ما كان ينبغي أن تتلقَّاه من أبوَيها. وقد توثَّقت العلاقة بزياراتٍ تقوم بها دوروثيا إلى بوستن بين حين وآخر.

وكانت دوروثيا في الرابعة عندما وُلِد أخوها جوزيف، وبعد نحو سنتَين وُلِد تشارلس ويسلي، وكان مَولدهما إيذانًا بعنايةٍ أقل بها، وبمزيدٍ من المهام تُسنَد إليها. وفضلًا عن أعمالها المنزلية كُلِّفت بثَنْي وتدبيس الرسائل التي كان أبوها يطبعها ويبيعها كمَوردٍ إضافي للدخل.

وتُوفِّي الدكتور ديكس عندما كانت دوروثيا في السابعة، وبعد ثلاث سنوات أقنعت جَدتها بأن تتركها تعيش معها في بوستن، وثبت أنها في هذه النقلة كانت كالمُستجير من الرمضاء بالنار؛ ذلك أن مسز ديكس كانت تُبغض زوجة ابنها ماري؛ ولذا عجزت عن أن تمنح ابنة ماري الحب الذي كانت بحاجةٍ ماسَّة إليه. وبعد سنتَين كفَّت عن محاولة الاستمرار في هذا الصراع مع الطفلة التي نضِجَت قبل الأوان، وأرسلت دوروثيا إلى سارة لند دنكان وابنتها سارة دنكان فيسك في ورشستر.

وكان هذا من حُسنِ طالع دوروثيا؛ فالعمَّة سارة كانت امرأةً لَبِقة عطوفًا، وسارة فيسك كانت حنونًا وذات فَهْم، وقد استجابت دوروثيا لعنايتها وتغيَّر موقفها من المهام التي طُلِب إليها القيام بها. وعلى نحوٍ ما اكتسبت دوروثيا تعليمًا في وقتٍ كانت فرص التعليم محدودةً أمام الفتَيات. وفي سنة ١٨١٦م، وهي في سن الرابعة عشرة، حصلت على إذْن عمَّتها بأن تقوم بافتتاح مدرسة لصغار الأطفال. وكان عدد الأطفال يَبلغ نحو العشرين، ومنهم أيضًا «خيرة العائلات في ورشستر».

وبعد ثلاث سنوات أغلقت المدرسة، وعادت إلى بيت جدتها المُسمَّى «أورانج كورت» في بوستن، «وقد تحسَّنت كثيرًا جدًّا آدابها وعاداتها في النظافة والأناقة والنظام».2 وخصَّصت السنتَين التاليتَين للدراسة استعدادًا للعمل في التدريس. وفي سنة ١٨٢١م فتحت مدرسة في أورانج كورت. وفي البداية عارضَت الجدة ديكس الفكرة قائلةً: «إنه لا ضرورة تُحتِّم على حفيدة إيليا ديكس أن تهدر حياتها في التعليم بالمدرسة؛ ففي بوستن نساءٌ أُخريات بحاجة فعلًا للتدريس، ثم هناك صحة دوروثيا التي يجب أن تُراعى» (وكانت دوروثيا منذ وقتٍ مُبكِّر قد ظهر عليها استعداد لأمراض الحلق والرئتَين). وأخيرًا «انقادت لرغبة حفيدتها؛ لأنها أحبَّتها ولم تجد في نفسها موهبة الجدل ولا القدرة على معارضتها.»3

وعاشت مدرسة أورانج كورت حتى ربيع سنة ١٨٣٦م عندما عانت دوروثيا انهيارًا جسديًّا تمامًا، وسافرت إلى إنجلترا في ٢٢ من أبريل. وفي خريف ١٨٣٧م عادت لتُطالب بإرث طبقًا لوصية جدتها التي ماتت في الربيع السابق.

المخبولون لا يُحسُّون البرد

وفي مارس ١٨٤١م — وكانت دوروثيا ديكس قد بلغت التاسعة والثلاثين — سمِعَت أن هناك حاجة إلى شخصٍ يُعلم فعلًا في مدرسة الأحد في سجن إيست كمبريدج، فتطوَّعت لهذا العمل. وبعد أن أعطت أول درس تمشَّت في السجن وتحدَّثت إلى السجينات، وكانت من بينهن نساءٌ مخبولات كانت عِلَّتهن هي جريمتهن الوحيدة ضد المجتمع. وتبيَّنت أنه لا يوجد مَوقد أو أي مصدر حراري في قِسمهن من السجن. ولما سألت السجَّان عن ذلك أجاب أن وجود النار غير مأمون الجانب، وقال إنه فضلًا عن ذلك فإن المجانين لا يشعرون بالبرد كغيرهم، واتَّضح أن قرارها بأن تصنع شيئًا لتغيير هذه الأحوال غير الإنسانية كان بداية عمل حياتها. وكانت أول خطوة أنِ استعانت بعدد من المُحسِنين المعروفين. وبعد أن قاموا باستقصاءاتهم عن سجن شرق كمبريدج، كتب أحدهم — تشارلز سمنر — تقريرًا عما رآه:
«كنَّ مُكدَّسات معًا في حجراتٍ رديئة التهوية تتراكم فيها الأقذار … ولن أنسى الحجرة الصغيرة التي حُبِست فيها المخبولات الهاذيات، اللواتي طار صوابهن منذ زمنٍ طويل ولن يعود، وتلك الشابَّة الطريفة التي كان عقلها مُضطربًا اضطرابًا يسيرًا جدًّا، بحيث يُخيَّل إليك أن السحابة التي تَرِين على عقلها تُوشِك — ونحن ننظر إليها — أن تنقشع. وفي قفصَين أو مِذودَين بُنِيا بألواح الخشب داخل الجدران الحجرية الأربع في نفس الحجرة، قضت المرأتان عِدَّة شهور. وتتجاوب في جميع أرجاء السجن أصداء سِباب وتجديف المرأة العجوز المسكينة، بينما زميلتها الشابَّة الرقيقة تُعاني، وقد حُكِم عليها أن تقضيَ أيامها ولياليَها عن كثب منها، وهي تنطوي من سماع كلماتها وكأنها صفعات. وحُقَّ لها أن تفعل، فهي ألفاظٌ لا يليق أن تسمعها أي امرأة بقيَ فيها أي أثر من العقل. لقد كانت عقوبةً قاسية أيام الأوثان أن يربط الأحياء إلى الموتى، وهذا المشهد في سجن كمبريدج لا يكاد يقلُّ عنه قسوة.»4

لم تكُن هذه الأحوال خروجًا على المألوف؛ فقد كانت في ذلك الحين قلة من المستشفيات التي تُنفق عليها الموارد العامة، تتظاهر بإعطاء مرضى العقول أي علاج في وسطٍ لَطِيف نسبيًّا. وظلَّت مزارع الفقراء والسجون حيث يعيشون مع المُجرِمين والمُتشردين والمُعدمين هي مصير العصابيين المُعوزين. وفي سنة ١٨٤٠م كان تَعْداد المخبولين ١٧٤٣٤ من ٢٣٢٩٢٨٧٦ نسمة من السكان، ومعظمهم — لا بد — من المُعوزين؛ لأن المُوسِرين كانوا حريصين على إخفاء مخبوليهم. أما «المارستانات» لمرضى العقول التي تُنفق عليها ولاياتٌ قليلة وبعض المدن فلم تكُن تعدو — إلا في النادر — أن تكون ملاجئ فقراء مُتخصصة. وقد يوجد مستشفًى يقوم بعملٍ جيِّد في هذا السبيل، ولكن معظم مرضى العقول كانوا محرومين من أي علاج طبي يمكن — بأي حال — أن يُعَد عمليًّا أو إنسانيًّا. وكان مستشفى ورشستر (في ماساشوستس) الذي افتُتح سنة ١٨٣٥م من تلك المستشفيات القليلة؛ إذ قام تحت إشراف الدكتور صمويل وودوارد في ٨ سنوات بالعناية بأكثر من ١٠٠٠ مريض، وأمكن ردُّ ما يَقرُب من نِصفهم إلى الصحة والنفع، ولكن مستشفى ورشستر لم يكُن في مقدوره أن يبدأ في العناية بكل مُختلِّي العقول في ماساشوستس. وبفضل جهود صمويل إلبوت — الذي صار عمدة بوستن في سنة ١٨٣٧م — شرع مستشفى مجاذيب بوستن العمل يوم ١١ من ديسمبر سنة ١٨٣٩م. وبعد ١٥ شهرًا استطاعت دوروثيا أن تكشف الأحوال المُذهِلة التي تسود مستشفى شرق كمبريدج، وهو على أقلَّ من مسيرة ساعة من مستشفى مجاذيب بوستن.

الآنسة ديكس تعمل في ماساشوستس

رفعت دوروثيا أمر سجن شرق كمبريدج إلى القضاء، وكانت النتيجة تَوفُّر وسائل التدفئة وتجديد مساكن المخبولين، وشجَّعها أن تجد النزلاء أهدأ وأقل خوفًا. وكلما زادت من زياراتها لهؤلاء «السُّجناء» زاد تساؤلها عن أحوال السجون وملاجئ الفقراء الأخرى. وأقنعتها رِحلات إلى المدن القريبة بأنَّ مسح الولاية كلها خليقٌ أن يتكشَّف عن سَوْءاتٍ أشد، وقرَّرت أن تقوم بذلك المسح على حسابها الخاص. وعلى مدى ١٢ ميلًا من بوستن رأت كائناتٍ بشريةً عاثرة الحظ، «حبيسة في أقفاص وخزانات ومخازن مئونة وزرائب وحظائر … مُقيَّدين، عرايا، مضروبين بالعِصي والسِّياط كي يخضعوا ويُطيعوا.» والتقيت بشابَّة كانت قبل اهتزاز عقلها محترمةً وجادَّة وذات قدر ونفع، «وهناك وقفت المريضة مُتشبثةً بقُضبان قفصها أو تضرب عليها، وهو قفصٌ ضيِّق لا يسمح إلا بتراكم مزيد من الأقذار، وإنه لمَنظرٌ كريهٌ مُقزِّز. وهناك وقفَت عارية الذراعَين مُشعَّثة الشعر، وجسمها غير المغسول عليه أسمالٌ قذرة، والهواء من حولها خانق للغاية، وإن كانت التهوية مُتاحة من كل جانب إلا واحدًا، حتى إن المرء لا يستطيع أن يبقى أكثر من بضع لحظات من غير أن يتراجع إلى الهواء الخارجي. ودفع بها تهيُّج الجلد الذي ينجم عن القذارة المُتناهية والعُري إلى تمزيق جلدها بفظاعة لعِدَّة بوصات؛ وبذلك تَشوَّه وجهها وعنقها وجسمها لدرجة البشاعة، وكانت تُمسِك بيدها قطعةً من جِلدها انتزعتها لتوِّها. وعندما أبديتُ جَزعي الشديد قالت السيدة: لا حيلة لنا في ذلك … فلسنا نستطيع أن نصنع معها شيئًا، وأيًّا كان ما تأكله؛ لأنها تستهلك أقذارها طواعيةً كما تستهلك الطعام الذي يُقدَّم إليها.»5
ومضت مس ديكس في الميدان إلى أبعد من ذلك، فوجدت في ملجأ فقراء وستفورد شابَّةً جالسة على الأرض وقد غطَّت جزءًا من جسمها العاري ببطانيةٍ قديمة، «وحول خاصرتها سلسلةٌ ثقيلة وقد شدَّت طرفها في الجدار. ولما دخلت عليها مس ديكس احمرَّ وجه الشابَّة وحاولت أن تُحيط نفسها بالأسمال المُتبقية من البطانية، فركعت الآنسة ديكس بجوار الفتاة وسألتها ألا تريد أن تُكسى؟ فأجابتها: بل أريد ثيابًا. فقالت لها المُشرِّفة: «ولكنك ستُمزِّقينها. أنت تعرفين هذا.» فصرخت الفتاة وهي تهمُّ بالقيام: كلا! لن أُمزقها! ولكن السلسلة أقعدتها. وأشارت الفتاة إليها وانفجرت في ضحكٍ أجش: «انظري هناك! ملابس جميلة.» ورغم مطالبتها بالملابس ظلَّت المُشرِفة تَسخَر منها وتتجاهل التماسها المُثير للشفقة.»6
وفي نهاية سنة ١٨٤٢م كانت مس ديكس قد زارت — على الأقل مرةً واحدة — كل بيوت الصدقة والملاجئ والسجون في ولاية ماساشوستس فوجدت نفس الأحوال الفظيعة في كل مكان، وكانت مستعدة لكتابة مذكرتها إلى المجلس التشريعي، وقد بدأتها: «إني أُقدِّم هذه المطالبة القوية من قِبل الإنسانية المُعذَّبة.»7 قدَّمت مذكرتها في يناير سنة ١٨٤٣م، فكانت المعارضة التي برزت أكبر من كل تصوُّر. وأخذت مس ديكس تتعلم — بالتجرِبة المباشرة — أن المجتمع تسوءُه أي حقيقة غير سارَّة تفضح تنكُّبه لطريق الخير، ولا سيَّما إذا اقتضى القرار زيادة في الضرائب، وأخذ كل المُشرفين على الفقراء يتَّهمونها بعنفٍ أنها تتعمد الافتراء والإثارة. وقيل إن الحالات التي مرَّ ذِكرها «مُستحيلة في جماعة كجماعتنا».8 وأجَّل المجلس التشريعي المناقشة من يوم إلى آخر حتى ٢٥ فبراير، ثم لما وجد المجلس أن القضية تَلْقى تأييدًا من مُواطنين محترمين مثل تشارلز سمنر الخطيب ورجل الدولة، والمُربِّي هوراس مان، والدكتور لوثر ف. بل، من مستشفى ماك لين للعلاج النفسي، أقرَّت اللجنة التي حولت إليها المذكرة ما جاء بها، وطالبت بالتنفيذ الفوري. ولما أُعلنَ تقرير اللجنة أفاق الجمهور واعترف بالأحوال المحلية الفظيعة، وسحب الساسة اعتراضهم، وصدر القانون الخاص بالإغاثة الفورية لمرضى العقول بأغلبية لا بأس بها.

جبهة النضال المُقدَّس تتَّسع

وأثناء قيامها بتقصِّي الحقيقة في ماساشوستس، كثيرًا ما عبَرت الآنسة ديكس الحدود إلى الولايات المُجاورة؛ نيويورك ورود أيلاند وكونكتيكت. وفي يناير سنة ١٨٤٤م قدَّمت مذكرةً إلى المجلس التشريعي لولاية نيويورك. وكانت خليقةً أن تُقدِّم مذكرةً مُماثلة إلى المجلس التشريعي في ولاية رود أيلاند أيضًا، لولا أن الإحسان الشعبي كان قد قدَّم مساعداتٍ أسرعَ من القطاع الحكومي. ولما مات نيقولاس براون مُؤسِّس جامعة براون في سنة ١٨٤٣م ترك ثلاثين ألف دولار لتُستخدم في بناء وصيانة مأوًى للمخبولين «في بروفيدانس». ولم يكن هذا المبلغ كافيًا، فشرَعت الآنسة ديكس تجمع المزيد، فاتَّصلت بسيروس بتلر، وهو عزبٌ مُسنٌّ صاحب ملايين، وله سُمعةٌ مُدوِّية في الشُّح، وقالت له: «أريد منك أن تُعطيَ خمسين ألف دولار لتوسيع مستشفى المجاذيب بالمدينة، على أن يُسمى بعد ذلك مستشفى بتلر.» فقال بتلر إنه سيُعطي أربعين ألف دولار إذا ما تعهَّد بدفع مِثلها أفرادٌ مسئولون في مدى ستة أشهُر. وبفضل جهودها تم الاكتتاب بأكثر من هذا المبلغ. كان ما دعا أهاليَ رود أيلاد للعمل هو حالة «أبراهام سيمونز» من «تل كومبتون»؛ فقد وجدته الآنسة ديكس في زنزانةٍ مساحتها سبع أقدام، وأرضها وجدرانها مغطاة بالصقيع، وحتى الأرض كانت من الحجر، وبالزنزانة جدران مزدوجة وباب مزدوج، وقال المشرف إن ذلك لأن «صرخاته تُزعجنا في المبنى». وكان سيمونز مُقيَّدًا إلى الأرض بسلسلة ثور.9  10 وفي مقال بجريدة بروفيدانس نُشِر في يوم ١٠ من أبريل سنة ١٨٤٤م كتبت الآنسة ديكس بعد أن رصفت «آلام وعذاب أبراهام سيمونز» لتُطلِق ذلك التحدي: «لو أن أي شخص في هذا العصر المُتسم بالإحسان دفعَتْه دواعي الفضول لزيارة المكان، فله أن يثق بأن السفر يُعَد مأمونًا تمامًا في ذلك الجزء من القُطر، وإن كان السفر لا يبدو كثير الوقوع.» ومع أنها كانت مريضة في أحيانٍ كثيرة إلا أنها عملت بدون كلل. وفي ٢٥ من مارس سنة ١٨٤٥م اعتمد المجلس التشريعي في نيو جيرسي إنشاء مصح عقلي للولاية. وفي مذكرة بالْتِماس إنشاء مستشفى الولاية للمخبولين في بنسلفانيا، قدَّمتها في هاريسبرج في ٣ من فبراير سنة ١٨٤٥م، أعلنت الآنسة ديكس أنَّ سجن إقليم ألليجيني في بتسبرج يجمع الأخطاء والمساوئ المُتفرقة في أردأ سجون الأقاليم في الولايات المتحدة. وفي ١٥ من أبريل أقرَّت الجمعية التشريعية إنشاء مستشفى مجاذيب ولاية بنسلفانيا في هاريسبرج.

وفي غضون ثلاث سنوات قطعت أكثر من عشرة آلاف ميل بالعربة والقارب البخاري وسكة الحديد، بل وعلى صهوة الخيل أيضًا. وما كانت لتُطيقَ هذه المشاقَّ إلا امرأةٌ شجاعة ذات إرادة. وذات مرة كادت تغرق في عربة وهي تخوض بها نهرًا. وفي بعض الأحيان كان هناك جانبٌ مُشرِق للرِّحلات؛ فعندما أوقف اللصوص عربتها في متشيجان قالت لهم إنهم حمقى. وعرف أحدهم صوت المرأة التي تكلَّمت في عنبر المجانين في سجن بفيلادلفيا حين كان مسجونًا هناك، وفي الحال أُعيدت إليها الأسلاب.

وكانت الآنسة ديكس تريد أن تعرف كل ما يمكن معرفته عن أسباب المرض العقلي، وكيف تمكن معالجته، فكانت تقضي أكثر وقت ممكن في قراءة كتب عن الموضوع. وكان أصحاب الخانات يُطفئون النار ويأتون إلى الفِراش ليلًا، ويتركونها تقرأ على ضوء شمعة أو مِصباح مَوقد بزيت الحوت. وتحوَّلت ساعات الانتظار إلى المحطات الفرعية فيما بين مراحل العربات والقطارات إلى ساعات درس. وأثناء تجولها في أنحاء البلاد كانت تُهاجَم، وتُفتَن، وتُطرى، وتُشجب، وتُناشِد الجمعية التشريعية في نيو جيرسي وبنسلفانيا وإلينوي وكينوكي وتنيسي ومسيسي ولويزيانا وألاباما وكارولينا الشمالية والجنوبية وميريلاند، وكانت المارستانات تنبت في أعقاب مسيرتها، واستُبدل بالسفَّاحين الساديين أطباء مؤمنون بأنه من الممكن عمل شيء للحالات العقلية.

اعتراض رئاسي

وفي الأربعينيات من القرن التاسع عشر أعدَّت الآنسة ديكس خطة للإنفاق على مرضى العقول في الحاضر وفي المستقبل معًا، على أساس استخدام الأراضي العامة. وكانت السياسة المُقرَّرة للحكومة الفيدرالية أن تمنح قِطعًا من الأرض للولايات الجديدة لإنشاء التحسينات، ولا سيما تأسيس المدارس. وفي سنة ١٨٤٥م كان قد تبقَّى حوالَي مائة وخمسة وثلاثين مليون فدَّان من الأملاك العامة. وتساءلت الآنسة ديكس: لماذا لا يوضع جزء من هذا كرصيد لنفقات المخبولين المُعوزين؟ إن الحكومة التي تُقدِّم المدارس والمساكن والطُّرق الكبرى للأصحَّاء عليها أن تفعل شيئًا للمخبولين المُعدمين. وقدَّمت مذكرة إلى الكونجرس في ٢٧ من يونيو سنة ١٨٤٨م، طلبت فيها — مبدئيًّا — تخصيص حوالَي ١٢ مليون فدَّان. وكانت كلما ماطَل الكونجرس في الموضوع زادت هي في رقم المطلوب. وفي سنة ١٨٥٢م كان رقم الفدادين المطلوبة قد تضاعف، وطلبت أيضًا مائة ألف دولار لمستشفًى يُعالج مخبولي الجيش والبحرية ومنطقة كولومبيا. وفي ٩ من مارس سنة ١٨٥٤م أقرَّ مجلس الشيوخ قانونًا يتضمَّن ما الْتَمسته وبأغلبيةٍ طيبة، وبدا أن جهود ١٤ عامًا آتت ثمارها أخيرًا. ولما وصَلها نبأ اعتماد مجلس النواب للقانون استطارها الفرح. وكل ما بقيَ الآن هو توقيع الرئيس فرانكلين بيرس، وكان قد أعرب شخصيًّا عن اهتمامه بالمشروع، فجاء قراره بالاعتراض على القانون مَثار دهشة مريرة لمؤيدي المشروع الكثيرين. وأعلن الرئيس بيرس في رسالة اعتراضه أنه اضطُرَّ لمقاومة مشاعره القلبية الشخصية المتعاطفة مع المقاصد الإنسانية المُراد تحقيقها بهذا المشروع، ولكن هناك اعتبارات أكبر من ذلك؛ «فإذا كان الكونجرس يَملِك تدبير الموارد للمخبولين المُعوزين خارج حدود هذه المنطقة، فله إذَنِ الحق في تدبير الموارد أيضًا للمُعوزين غير المخبولين؛ وبذلك ينقل إلى الحكومة الفيدرالية إعالة جميع الفقراء في كل الولايات … وستَنضب ينابيع الإحسان في الوطن وفي الولايات المختلفة، بدلًا من إضفاء وسائلها ومواردها على الاحتياجات الاجتماعية لشعوبها، فتغدو هذه الشعوب في موضع استجداء مكارم الحكومة الفيدرالية؛ وبذلك ينعكس وضعها بالنسبة للاتحاد.»11 وفي يوليو تأيَّد هذا الاعتراض؛ وبذلك خسرت دوروثيا لند ديكس أعظم معاركها.

أسفار للخارج

كانت رغبة الآنسة ديكس القوية مُتجهة إلى مغادرة واشنجتن، ولكنها كانت مرتبطة بعِدَّة مواعيد. وفي سبتمبر تسنَّى لها أن تُبحر إلى ليفربول، وهناك قابَلها عددٌ من الأصدقاء القدامى، وأخذها وليم راثبون — عمدة ليفربول السابق — وزوجته إلى بيتهما «جرينبانك» وهو في ضيعةٍ ريفية جميلة، ووعدت دوروثيا أن تستجمَّ هناك شهرًا. وكان من المُستحيل تحويل سيدة مناضلة في سبيل الإحسان وحب البشرية إلى سائحة، وفي أقل من أسبوعَين «انشغلت جدًّا مع المنظمات الخيرية واجتماعات الجمعية العلمية البريطانية. وكل هذا ما يُتعبني جدًّا، ولكني سآخذ الأمور بمزيد من اليُسر بعد أسبوع، وفي نيَّتي أن أذهب إلى اسكتلندا لأرى مستشفياتها بعد عشرة أيام.»12
وقد وجدت حالة المخبولين في اسكتلندا تحتاج إلى الشيء الكثير من العناية، ومستشفيات المرضى العقليين بحاجةٍ ماسَّة إلى الإصلاح. «لقد أتيتُ إلى هنا للمُتعة، ولكن هذا ليس سببًا كافيًا كي أُغلق عيني على حالة أقل خلق الله حيلةً … إني واثقة بأن «الإصلاح» سيَظلُّ يُلازمني، وأنني كلما أسرعت إلى هذا العمل الإنساني أسرع ضميري إلى الكف عن مطالبتي ببذل الجهد أو لَوْمي على التبطل.»13 وكان أصدقاؤها الإنجليز قد ثبَّطوا عزيمتها عندما اتخذت قرارها باستقصاء حالة المنظمات الاسكتلندية، وقالوا لها إنهم سينظرون إليها نظرتهم إلى أجنبيةٍ مُتطفِّلة. ولكن في ٩ من أبريل سنة ١٨٥٥م كانت الملكة فيكتوريا قد أثابت جهودها وعيَّنت لجنة لتقصِّي حالة المخبولين في اسكتلندا.

وكان هجومها التالي على الأحوال السائدة في جيرسي في جُزرِ القنال الإنجليزي، وكانت النتيجة إنشاء مستشفًى للمجاذيب بها. أجل، إنه لم يتم إلا في سنة ١٨٦٩م، ولكن بدون جهود الآنسة ديكس ما كان العمل فيه ليبدأ.

وأقنعوا دوروثيا بالسفر إلى سويسرا لقضاء شهرَين انتجاعًا للراحة، فقرَّ رأيها على انتهاز الفرصة للقيام بدورةٍ تتفقَّد فيها المستشفيات والسجون ومستشفيات المجاذيب في أوروبا، وكان في عزمها أن تذهب حتى تركيا، بل وربما أيضًا إلى الأراضي المقدسة، وهو حُلمٌ قديمٌ عزيز عليها.

وفي باريس لم تُصادِف أي حَجْر على زياراتها، وأدهشها وسرَّها أن تجد نقيصتَين فقط في عمل المنظمات المختلفة؛ الأولى هي قلة التهوية، والثانية أنَّ سلوك الأطباء المُقيمين كان ذا طابع عملي تجريبي واضح جدًّا. وفي نابولي وجدت مستشفًى لمرضى العقول غطَّى ببهائه على كل المستشفيات الأخرى في إيطاليا، ولكنها من جهةٍ أخرى صُدِمت بصفةٍ خاصة بما وجدته في ظلال الفاتيكان، وتمكَّنت من مقابلة البابا بيوس التاسع الذي وعد شخصيًّا بتقصِّي الفظائع التي وصفتها. وفي مقابلةٍ ثانية شكرها؛ لأنها استرعت انتباهه إلى تعاسات مرضى العقول في رعيَّته.

ووصلت الآنسة ديكس إلى القسطنطينية في أبريل سنة ١٨٥٦م، وكانت قد سمِعَت حكايات عن عذاباتٍ فظيعة في السجون والمستشفيات التركية، ولكن بعد أن تفقَّدت كل السجون والمستشفيات العصبية التي يُديرها تُركيٌّ تعلَّم في باريس كتبَت إلى مسز راثبون: «إن المخبولين في القسطنطينية حالتهم أفضل من حالة نُظرائهم في روما وتريستا، ومن بعض الوجوه يلقَون عناية أفضل مما يُبذَل في تورين وميلانو وأنكونا. وقد أدهشتني ترتيبات الراحة والسرور المُتاحة للمرضى بما في ذلك الموسيقى. ويقترح المشرف العام تحسينات، ولم أجد الكثير مما اقترحه، ولا أي شيء يوجب استعجالي إياه.»14
ونبذت الآنسة ديكس فكرة الذهاب إلى القُدس على أساس أنها ترفٌ شخصي؛ فقد كرَّست «أسفارها لتلك الأماكن التي بها مستشفيات أو التي هي بحاجة إليها».15 وعند عودتها إلى إنجلترا في أول أغسطس كانت قد زارت باريس ونابولي وروما وفلورانسا وتريستا وتورين وفينتسيا وقبرص والقسطنطينية وبوادبشت وفينا وموسكو وسان بطرسبرج وكرستيانيا وستوكهولم وبروكسل وأمستردام. وقُرْب نهاية سبتمبر أبحَرَت عائدةً إلى أمريكا.

حتى النهاية

وفي السنوات السابقة مباشرةً للحرب الأهلية كانت الآنسة ديكس مُرهفة السمع وهي تتجول في أنحاء البلاد طولًا وعرضًا، وهناك اجتمعت واستمعت للمُتحمِّسين الدينيين وأنصار تحريم الرِّق وحرية التجارة والسياسيين من مختلف الألوان. وليس معنى أنها لم تنحَزْ لطائفةٍ دون أخرى أنها لم تكن ذات عقائد شخصية قوية، كل ما هناك أنها رأت ألا تُعرَّض للخطر أو تُورِّط قضيتها الأساسية؛ فمسئوليتها الكبرى عن المخبولين، وقد تفقَّدت ملاجئ الفقراء في تورونتو، واختارت الموقع لمستشفى سانت إليزابث في واشنطن بمنطقة كولومبيا، وفتَّشت السجون وملاجئ الفقراء في تكساس، وحاولت استصدار تشريعات في ولايات الجنوب للحصول على ثلث مليون دولار للمستشفيات. ولما اندلعت الحرب في أبريل سنة ١٨٦١م تخلَّت الآنسة ديكس عن اهتمامها الرئيسي وتطوَّعت لتجنيد الممرضات لجيش الاتحاد. وفي ٢٣ من أبريل قبل وزير الحرب كاميرون طلبها. وفي ١٠ من يونيو عُيِّنت مُشرِفةً عامة على ممرضات جيش الولايات المتحدة، وكانت تُناهز الستين. ولم تكن صحتها قوية في أي يوم، ومع هذا أقبلت على مَهمَّتها ببأسها المعهود، وخدمت طول مدة الحرب، ولقيَ عملها الاعتراف الرسميَّ في ٣ من ديسمبر سنة ١٨٦٦م؛ فقد أصدر وزير الحرب — وهو حينذاك إدوين ستانتون — أمرًا نصُّه كما يلي:
«رمزًا للاعتراف بالخِدمات الجليلة التي قدَّمتها الآنسة دوروثيا ديكس، للعناية والمساعدة وإسعاف جنود الولايات المتحدة الجرحى والمرضى في ميدان القتال وفي المعسكرات والمستشفيات أثناء الحرب الأخيرة، ولجهودها الحميدة الدائبة المُخلِصة لكل ما من شأنه أن يُساعد على راحتهم وسلامتهم، قد أمرنا بتقديم شعار الجيش وعلم الولايات المتحدة إلى الآنسة ديكس.»16
وفي سنة ١٨٦٧م فتَّشت الآنسة ديكس السجون وملاجئ الفقراء ومؤسسات مرضى العقول. وفي خلال الخمس عشرة السنة التالية عبَرت البلاد من مين إلى فلوريدا ومن نيويورك إلى كاليفورنيا. وسنة ١٨٧٧م — وهي في سن الخامسة والسبعين — كتب الدكتور تشارلسن فولسوم في كتابه «المرض العقلي»: «إنَّ زياراتها المُتكرِّرة لمنظماتنا لمرضى العقول الآن، ونقدها الفاحص المُدقِّق، هي في حد ذاتها لجنة للخبال أفضل مما يمكن أن تُشكِّله ولاياتٌ كثيرة.»17 وفي أكتوبر سنة ١٨٨١م، وبعد رحلةٍ أخرى مُضْنية للتفتيش في نيويورك ونيو إنجلند، ذهبت للاستجمام في مستشفى ولاية نيو جيرسي في ترنتون، وكانت عاملًا أساسيًّا في إنشائه سنة ١٨٤٨م، ولم تُبارحه بعد ذلك قط، وظلَّت هناك خمس سنوات، وتُوفِّيت في مساء ١٨ يوليو سنة ١٨٨٧م.
ولئن نُسِي — إلى حدٍّ كبير — ذِكر الآنسة ديكس وعملها الضخم، فذلك «راجع — إلى حدٍّ كبير أيضًا — إلى الآنسة ديكس نفسها؛ فهي لم تسمح قط بأحاديث شخصية أو ما يُسمى اليوم بالدعاية، ورفضت أن يُطلِقوا اسمها على أي مارستان. والأرجح أنها أفضل امرأة أنجبَتها أمريكا في ٣٠٠ سنة أو أكثر … فلو لم تُولَد في الوقت الذي وُلِدت فيه، لتأخَّر — على الأرجح — الاهتمام بمرضى العقول في أمريكا نِصف قرن آخر.»18

وعلى قبرها في جبَّانة ماونت أوبرن قُرْب بوستن يُرفرِف العَلم الأمريكي، وبَيرق سلاح ممرضات الجيش، والشاهد الرخامي البسيط مكتوبٌ عليه: «دوروثيا ل. ديكس.» بدون تواريخ أو كلمة تأبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤