الفصل السادس عشر

جين آدمز

قد تبدو علاقة جين آدمز (١٨٦٠–١٩٣٥م) بالطب، لأول وهلة، بعيدة … ولكن الواقع أن إنشاءها ﻟ «هل هاوس» كان مُمارَسة ﻟ «الطب الوقائي» قبل أن يدخل هذا المصطلح في الاستعمال الشعبي. وقد وُلِدت جين في سيدارفيل بإلينوي، وهي من الأعضاء الصغار في أسرةٍ كبيرة العدد. وأول ما تَذكُره عن طفولتها يدور حول والدها الكويكري جون ﻫ. آدمز (المُتوفى سنة ١٨٨١م) وهو فردٌ مُسيطر كان له عليها تأثيرٌ عظيم، وكانت والدتها قد تُوفِّيت وهي طفلةٌ صغيرة، ولم يتزوج والدها إلا بعد ثماني سنوات، وكانت جين دون السابعة من عمرها عندما اكتشفت أن كل الشوارع في «المدينة الصغيرة ذات العشرة آلاف نسمة … ليست جذَّابة لدرجةٍ مُذهِلة مِثل الشارع الذي به حانوت اللعب المُتلألئ وحوانيت الحلوى …» وكانت المناسبة زيارة أبيها لمصنع في أفقر أحياء المدينة المجاورة، «وفي ذلك اليوم ألقَت أول نظرة لي على الفاقة إلى حد القذارة، وشعرت بتميزٍ غريب بين الفاقة الموجودة في الريف وهذه الفاقة التي تُمثِّلها مدينةٌ صغيرة مِثل مدينتنا في أقذر شوارعها. وأتذكَّر أنني وجَّهت إلى أبي هذا السؤال الجريء: لماذا يعيش الناس في هذه البيوت الصغيرة الفظيعة مُتلاصقين هكذا؟ وأنني بعد أن تلقَّيتُ منه الإيضاح أعلنتُ بحزمٍ كثير أنني — عندما أكبر بالطبع — ينبغي أن يكون لي بيتٌ كبير، ولكنه لن يقوم وسط البيوت الكبيرة الأخرى، بل في وسط البيوت الصغيرة الفظيعة التي تُشبِه هذه …»1
وفي دير روكفورد الذي انتظمَت به ثلاث شقيقات أكبر منها، وذهبت إليه جين أيضًا سنة ١٨٧٧م، الْتقَت بفتَياتٍ مُستعدَّات لمناقشة كل شيء في الحياة. ولم تكن حماستهن كلها كلامًا؛ فإحداهن قُدِّر لها أن تتزوَّج مُبشرًا، وأسَّست مدرسةً مُمتازة للأطفال الأمريكيين، والإنجليز في اليابان؛ وأخرى قُدِّر لها أن تكون مُبشِّرةً دينية وطبيبة في كوريا، وبعد أن عالجت الملكة بنجاحٍ صارت طبيبة البلاط؛ وثالثة ستُثبِت أنها مُعلِّمة عُميان بارعة بصورةٍ خارقة للمُعتاد، ورابعة صارت أمينة مكتبة ورائدة في توصيل الكتب إلى الشعب. ومما لا جدال فيه أن اختيار جين آدمز لصديقاتها من بين بنات المدرسة، قادها في اتجاه الأعمال التي ستُكرِّس لها حياتها؛ فهي تُخبرنا «بأنه لمِمَّا يُثير الفضولَ أن الأعمال الحاليَّة لمدرسة إرسالية ليست شديدة الاختلاف عن كثير من الأعمال التي تقوم بها مؤسسة إنعاش في حيٍّ أجنبي. ومن المقطوع به أن أكثر زُوَّارنا تعاطفًا وتفهمًا في هال هاوس كانوا مُرسَلين عائدين.»2
وتخرَّجت جين في روكفورد في صيف ١٨٨١م وفي نيَّتها دخول ميدان الطب؛ ولهذه الغاية قضَت الشتاء التاليَ في كيلة الطب النسوية ببنسلفانيا، ولكنها كانت منذ طفولتها الأولى تُعاني من تَقوُّس في عمودها الفقري. وفي ربيع ١٨٨٢م بدا أن هذه الآفة زادت تعقدًا بمرضٍ عصبي، فدخلت المستشفى الخاص بالدكتور س. فير. متشل أعظم أطباء الأمراض العصبية الأمريكان في زمنه، والذي كان قد توصَّل في ١٨٧٥م إلى طريقة في العلاج أطلَق عليها اسمه. وهذا العلاج الذي لقيَ قبولًا عالميًّا على الفور عبارةٌ عن راحةٍ طويلة الأمد في الفِراش. وفي الشتاء التالي كتبَت جين آدمز: «لقد كنت مُقيَّدة حرفيًّا إلى الفِراش في بيت أختي ستة أشهُر.» وكانت تلك نقطة تحوُّل في حياة الدكتورة المرجوَّة، التي اعترفت بعد ذلك بأنه «بعد الأسابيع القليلة الأولى تسنَّى لي أن أقرأ بتلذذٍ واضح في وقت فراغي، وأتذكَّر أنني فتحتُ أول جزء من كتاب فردريك الأكبر لكالاريل بإحساسٍ عميق بالامتنان؛ لأنه لم يكن كتابًا جراحيًّا في الترشيح. وبعد ذلك نعِمتُ بعامَين من النقاهة في أوروبا، وقبل أن أعود إلى أمريكا كنت قد اكتشفت أن هناك أسبابًا أخرى حقيقية للعيش بين الفقراء عدا ممارسة الطب على مرضاهم. ولم أُواصل بعد ذلك غزوتي القصيرة لمهنة الطب.»3
وفي وقتٍ مُبكِّر من إقامتها بإنجلترا انضمَّت مس آدمز إلى جماعةٍ صغيرة من السياح أخذتهم إرسالية بالمدينة إلى الإيست إند (الطرَف الشرقي) بلندن ليَشهدوا بيع مساء السبت للفاكهة والخُضر المعطوبة التي لا يمكن إبقاؤها بالمخازن إلى يوم الإثنين. وتركت تعاسة الطرَف الشرقي بلندن انطباعًا لا يمكن إزالته لديها، وكتبت: «وفي الأسابيع التالية تجوَّلتُ في لندن خلسةً تقريبًا، وأنا خائفةٌ أن أُطلَّ في الشوارع والحواري الضيِّقة خشيةَ أن يتكشَّف لي مرةً أخرى هذا العذاب والاحتياج البشري البشع. ولازَمني أيامًا بطولها بعد ذلك هذا التعجب الغريب الذي نشعر به عندما نعود إلى الشوارع بعد أيامٍ قضيناها في مشاعر الحزن والموت؛ فنحن مذهولون حيارى لأنَّ العالم ماضٍ كسيرتِه الأولى، ولا نستطيع أن نجزم أيهما الحقيقي؛ الألم الداخلي أم المظهر الخارجي. ومع الوقت بدأت لندن الضخمة تبدو غير حقيقية، ما عدا الفاقة في الطرف الشرقي منها. وفي العامَين التاليَين اللذين قضيتهما في القارة الأوروبية، كنت أجد نفسي مُنجذبة بقوةٍ قاهرة دائمًا إلى الأحياء الفقيرة في كل مدينة، لم يكن بين مُتسوِّلي جنوبي إيطاليا ولا بين عمال مناجم المِلح في النمسا ما أشعرني وأقنعني بالفاقة والتعاسة البشرية التي طبعَتْها في نفسي تلك اللمحة العابرة من شارع بالطرف الشرقي في لندن.»4

وبعد عامَيها في أوروبا قضَت مس آدمز عامَين في أمريكا. وحوالَي آخر سنة ١٨٨٦م عادت إلى أوروبا لعامَين آخرين من السفر والملاحظة. ولم تستطع مس آدمز فيما بعدُ أن تتذكر متى خطرت لها الفكرة أول مرة؛ «أن تستأجر بيتًا في موضع من المدينة توجد به الاحتياجات البدائية والفعلية، وفيه تستطيع الشابَّات اللواتي انصرفن إلى الدراسة بالكلية أن يَسْتعدن تَوازُن نشاطهن بالطُّرق التقليدية، ويتعلَّمن عن الحياة من الحياة نفسها، وحيث يتسنَّى لهم أن يُجْرين بعضًا من الأشياء التي تعلَّمتها.» وقد يكون ذلك قبل رحلتها الثانية إلى أوروبا، أو في وقتٍ مُتأخر قد يصل إلى أبريل سنة ١٨٨٨م، عندما وصلت جماعتها إلى مدريد، وتتذكر أنها أشارت إلى الموضوع وخُطتها فيه لأول مرة بالتأكيد تقريبًا. كان هذا الخاطر قد أُوحيَ إليها كردِّ فِعل لمصارعة الثيران، «حيث جرى ما أثار دهشتي وفزعي؛ فقد رأيتُ بعينَي رأسي وبعدم اكتراث نسبيًّا خمسة ثيران وعددًا أكبر من ذلك بكثير من الخيل تَلْقى مصارعها.» وقرَّرَت في اليوم التالي أن تقوم بتنفيذ خُطتها ولو بالحديث عنها. وكانت من اعترفت لها بدخيلة نفسها هي إلين جيتنس ستار (١٨٦٠–١٩٤٠م)، وهي صديقةٌ قديمة من عهد المدرسة وعضوٌ في جماعة الرحلة، وأثبتَت مس ستار أنها مُستمِعة مُتحمِّسة. ولما افترقتا في باريس في يونيو سنة ١٨٨٨م بدأ محتملًا جدًّا أن تنضمَّ إلين إلى جين آدمز في تحويل مشروع غامض إلى حقيقةٍ حية.

وماذا كانت هذه الخطة؟ لم تكن جين آدمز تكاد تعرف عنها كثيرًا، ولكن بعد ٤ سنوات (١٨٩٢م) استطاعت أن تُحدد العمل الذي تصدَّت له أيام اجتماع جمعيات الثقافة الخلقية في بلايموث بماساشوستس بهذه الكلمات: «إن مُؤسَّسة الإنعاش مجهودٌ للمساعدة في حل المشكلات الاجتماعية والصناعية التي تَنجُم عن ظروف الحياة العصرية في المدينة الكبيرة. وهذه المؤسسة تُؤكِّد أن هذه المشكلات لا تنحصر في أي جزء من المدينة، وأنها تُحاوِل أن تُخفِّف في الوقت نفسه من التُّخمة المُفرِطة في أحد طرفَي المجتمع، ومن العَوَز في طرفه الآخر، ولكنها تفترض أن هذه التخمة وهذا العوز (كذا) أشد ما يكون الشعور بهما مؤلمًا في الأشياء التي تتصل بالمزايا الاجتماعية والتعليمية … وأخشى ما نخشاه في مؤسسة الإنعاش أن تفقد مُرونتها وقدرتها على التكيف السريع واستعدادها لتغيير مناهجها، كما تقتضي ذلك بيئتها؛ فلا بد لها أن تكون مفتوحة للاقتناع، وأن يتوفر لها إحساسٌ شديد بالتسامح، وأن تكون مِضيافة ومُستعدَّة للتجريب. وينبغي أن تطلب من المُقيمين بها صبرًا علميًّا في تكديس الوقائع والحقائق ودوام التعاطف لأن ذلك خير وسيلة لتكديسها … ويجب تذويبها بعد ذلك في فلسفةٍ تقوم على أساسٍ من تَماسُك الجنس البشري وتَسانُده؛ فلسفة لا تتردد عندما يكون الجنس البشري مُمثَّلًا في امرأةٍ سِكِّيرة أو ولدٍ أبله. إن المُقِيمين بها (أي بمحلة مؤسسة الإنعاش) يجب أن يرضَوا بالحياة بهدوء بجوار جيرانهم، إلى أن ينموَ لديهم إحساس بالعلاقة والاهتمام الطبيعي. إن الجيران يفصل بينهم اختلاف السلالة واللغة، وهما مما يستطيع سكان محلة الإنعاش أن يقهروهما. وباختصار، يتعهد السكان في المحلة بتكريس أنفسهم لواجبات المواطنة وتنشيط الطاقات الاجتماعية التي تَكمُن نائمةً في كل جوار مُنصرف بالكلية إلى التصنيع.»5  6

هال هاوس

وفي يناير ١٨٨٩م كانت مس آدمز ومس ستار في شيكاغو مُستعدَّتَين لإنشاء محلة للإنعاش، وهي تسميةٌ مُستعارة من لندن (حيث يوجد توينبي هول، وقصر الشعب، وقد درست مس آدمز كلًّا منهما) لمؤسسة تُقدِّم خِدماتٍ اجتماعيةً في المناطق المنكوبة، وتعاونتا في البحث عن أصدقاء للمشروع. ولم يطلبا مالًا من أحد؛ لأنهما قرَّرتا الابتداء على الأقل بمواردهما المحدودة، وقُوبلت أحاديثهما بالود والمجاملة المهذَّبة، وإن كان هناك بعض التشكك أحيانًا. وهاجَم أحد النُّقاد الخطة لأنها «من تلك المحاولات غير الطبيعية لفهم الحياة عن طريق المعيشة التعاونية»، وردَّ المُنظِّمون بأن المعيشة الجماعية ليست عنصرًا أساسيًّا. وبما أنَّ كل مشترك سيتحمَّل نفقاته الخاصة، فقد يأتي الوقت الذي يُقرِّرون فيه المعيشة فُرادى وسط الجوار، ولكن مس آدمز سارعت بالاعتراف بأن الناقد له بعض الحق؛ فإنه من المعلوم أن المعيشة المشتركة تُحوِّل السكان إلى الداخل صَوْب الرفقة المُغلَقة بدلًا من تحويلهم إلى الخارج صوب البيئة، ومع هذا فهي تشعر بأن هذا الاحتمال مردود عليه؛ لأن «مجرد وجود بيت بمثابة مَوطئ قدم يمكن الوصول إليه ودخوله بسهولة، وفيه اتساع وكرم ضيافة مع روح تَسامُح، ويكون موقعه في وسط جاليات أجنبية كبيرة تميل إلى عزل نفسها في المدن الأمريكية، سيكون عملًا فيه خدمةٌ كبيرة لشيكاغو.»7 وأخيرًا تم اختيار الموقع، إنه بيتٌ قريب من تَقاطُع شارع بلو أيلاند وشارعَي هالستيد وهاريسون، في الجانب الشمالي مما هو الآن حرم جامعة إلينوي. وكان البيت قد بُنِي في سنة ١٨٥٦م ليكون مَقرًّا لرائد من شيكاغو هو تشارلز هال. وفي السنوات التالية تداوَلَته أيدٍ كثيرة، واستعمل بيتًا للمُسنِّين تُديره أخوات الفقيد الصغيرات، ثم مخزنًا للأثاث المستعمل. وبعد هذا التداول أصبح يستخدم مكاتب ومخازن لمصنع يُجاوره من الخلف. ويُقال إنَّ دوره العُلوي مسكون بالأشباح. ومهما يكن من شيء فإن مُستأجري الطابق الثاني يحتفظون بجرَّةٍ ملأى بالماء على السُّلَّم؛ اعتقادًا منهم بأن الأشباح لا تستطيع أن تتخطى الماء!
وبدأت مسز آدمز ورفيقاتها باستئجار الطابق الثاني من الباطن، وكذلك ما كان في الأصل حجرة جلوس الطابق الأول من ذلك المنزل الرحب. وفي العام التالي قامت مس هيلين كلفر مالكة البيت بإعطائهن البيت كله بدون إيجار. ولم تقف عند هذا الحد في سخائها، بل استطاعت مس آدمز في سنة ١٩٢٩م أن تقول في تقريرها: «إن مجموعة الثلاثة عشر بناءً — التي تشمل الآن جهازنا — معظمها مشيد على أرضٍ وضعَتْها مس كلفر في خدمة «المحلة» التي تحمل اسم مستر هال.»8 وفي ١٨ من سبتمبر سنة ١٨٨٩م كان هال هاوس قد تأثَّث وتجهَّز، وانتقلت إليه مس آدمز ومس ستار ومس ماري كيزر. وكانت الأخيرة قد عُيِّنت لتقوم بأعمال البيت، ولكنها في السنوات الخمس المُتبقِّية من حياتها صارت شخصيةً مهمة جدًّا في الجوار وفي أعمال هال هاوس.
وما الذي يدعو الشُّبَّان والشابَّات للمعيشة في «الأكواخ القذِرة» واستخدام مالهم لخدمة قضية؟ تعتقد مس آدمز أن هناك ثلاثة دوافع كبيرة لذلك؛ أولها الرغبة في ترجمة الديمقراطية على ضوءِ مفهومٍ اجتماعي، وثانيها الرغبة في تقدم جنسنا البشري، وثالثها حب الخير أو الدافع الإنساني. وختمت بقولها إن الضرورة الذاتية لإقامة المجلات الاجتماعية هي بذاتها التي تحثُّ الأفراد على التحرر الاجتماعي والشخصي.9

تحقيق الأهداف

إن الأهداف المُحدَّدة للمشروع كما تضمَّنها ميثاقه هي «إتاحة مركز للحياة المدنية والاجتماعية العليا، وإقامة وصيانة المشروعات التعليمية والخيرية، وتقصِّي تحسين الظروف والأحوال في المناطق الصناعية بشيكاغو.»10 وهي كلماتٌ باردة بالقياس إلى الحقيقة الدافئة.

ويقع هال هاوس على حافةِ منطقةٍ تَسكُنها جالياتٌ أجنبية مُتعددة؛ فإن حوالَي عشرة آلاف إيطالي مُكتظُّون بين شارع هالستيد ونهر شيكاغو، وإلى الجنوب يوجد ألمان وسُكان من بوهيميا، والشوارع الجانبية فيها يهود بولنديون وروس، أما الكنديون الفرنسيون فيعيشون إلى الشمال الغربي، والأيرلنديون وأول جيل من الأمريكان إلى الشمال، ومن بين العناصر الأفقر في كل جماعة يوجد مَن انحدرَت مكانتهم وظروفهم بعد يُسرٍ لسبب أو لآخر. وكان هؤلاء أول من ساعَدهم المُتطوعون الذين تقاطروا صَوْب علم هال هاوس بمجرد إنشائه. وأُنشئت جماعات للقراءة وغير ذلك من الأنشطة الثقافية لأولئك المنكودين الذين عرَفوا فيما مضى ظروفًا أفضل. وكانت هذه مجرد بداية، ولكن كانت هناك احتياجاتٌ عملية أكثر من هذه تجب مواجهتها؛ كان هناك أطفال ورُضعاء كان لا بد أن تُهمِلهم أمهاتهم العاملات في محلاتٍ تستغلُّ عرَقهن بأجورٍ زهيدة جدًّا، وهناك الأطفال الذين يلعبون في شوارع ضارَّة بالصحة، والأطفال الذين يعملون في المصانع، وهناك البيوت المُؤجَّرة، والمُسنُّون المهجورون والمُهمَلون الذين يعيشون في بيوت الفقراء الفظيعة، ثم هناك أخيرًا أماكن الاتصال الاجتماعي — عدا الحانة القريبة — التي يجب توفيرها لهؤلاء الناس.

ولم يكن في وُسْع هال هاوس أن يقوم بذلك كله؛ إذ لا يُمكِنه أن يُطعِم كل الجياع، أو يكسوَ كل العُراة، أو يُؤْويَ كل المُشرَّدين، أو يُداويَ كل المرضى. وما فعلته مس آدمز ومس ستار ومعهما السُّكان المُخلِصون، أنهم لفتوا أنظار السُّلطات العامة إلى النقائص، وألهموا المُحسِنين أن يُوجِّهوا أعمال البر حيث تمسُّ الحاجة إليها. أما أول خطوة لهال هاوس فكانت فتح روضة أطفال. وألحقَت بها مطابخ لإطعام الأطفال والنساء العاملات، اللواتي كان غذاؤهن — بغير شك — مما يُباع في محالِّ الحلوى، ونظَّمت نواديَ للصِّبيان ودوائر حياكة للبنات. وكان الجميع يرقصون في الجمنازيوم، ومن تحته تحوَّل المطبخ العام إلى مقهًى. وكان الجمنازيوم والمقهى يُستعملان أيضًا لاجتماعات البالغين، بما في ذلك حفلة رأس السنة للمُسنِّين من أهل الجوار. وشَمِل هال هاوس برعايته ناديَ تغذية للفتَيات العاملات، بل وحاوَل إقامة جمعية تعاونية للفحم، وسُرعانَ ما تناقل الناس أن سكان هال هاوس كانوا مُستعدِّين للقيام بأحطِّ الخِدمات للجوار؛ غسل الأطفال الحديثي الولادة، وتجهيز الموتى للدفن، والعناية بالمرضى، ورعاية الأطفال.

وكان الأطفال يعملون في المصانع من السابعة صباحًا إلى التاسعة مساءً في ظروفٍ غير مأمونة بشكلٍ فاضح، وليس هناك أي تعويض عن الإصابات، بل ولا عن الوفاة؛ فقَبْل السماح للطفل بالعمل كان وليُّ أمره يُوقِّع إقرارًا بالتنازل عن أي تعويض يَنجُم عن الإهمال. وحثَّت مسز فلورانس كيلي — من أوائل ساكني هال هاوس — مكتب عمل ولاية إلينوي أن يقوم بالتحقيق في نظام المصانع الصغيرة التي تستغلُّ عَرَق العاملين بأجورٍ ضئيلة في شيكاغو، ولا سيَّما حين يتَّصل الأمر بتشغيل الأطفال، وأدَّت هذه الاستقصاءات إلى أول قانون للمصانع في إلينوي.

وفي التسعينيات من القرن التاسع عشر، كانت القُمامة تتراكم في صناديق خشبية ضخمة مُثبَّتة في أرض الشارع، وتُجمَّع في فتراتٍ مُنتظِمة.

وكان هذا النظام غير لائق في بيئة تُجاوِر هال هاوس، فضلًا عن أنه غير صحي؛ فالحجم العادي للنُّفايات كان يتضخم بالفواكه والخُضر المُتعفِّنة التي يُلقيها الباعة الطليان واليونان، وبالأسمال القذرة للغاية التي لا نفع فيها لباعة الملابس القديمة أو للذين يسرقونها من مَقلب المدينة طمعًا في «تقييفها». ومما جعل الأمور أسوأ أنَّ الأطفال يلعبون حول هذه الصناديق الكبيرة وفيها، ويأكلون كل ما يقع تحت أيديهم منها، فعمل هال هاوس على إزالة هذه الصناديق واتباع نظام أفضل لجمع القمامة.

وهناك معركةٌ أخرى تصدَّى لها سكان هال هاوس، وهي بيع الكوكايين للقُصَّر. وكانت القوانين القائمة غير كافية، وأخيرًا صدر تشريعٌ جديد سنة ١٩٠٧م، وبُذِل مجهودٌ مُنسَّق لتنبيه الجمهور إلى الأحوال التعسة التي تَسُود بيوت الكِراء بالحجرة، وعلى الأقل تأثَّر بعض المُلَّاك وشرَعوا في إدخال تحسينات، ولكن الأحوال ظلَّت رديئة، حتى إنه أثناء وباء التيفود في سنة ١٩٠٢م كانت نسبة الوفَيات ١٧٪ في الشق الذي يقع فيه هال هاوس، مع أن سُكَّانه يُشكِّلون ٣٪ فقط من سكان شيكاغو. ودرس سكان هال هاوس أحوال السباكة في المناطق التي كان تركيز الحُمَّى فيها أكثر من غيرها. وبإشراف الدكتورة أليس هاملتون التي قامت بدراسةٍ بِكْتريولوجية لمختلف النُّظم السائدة في السباكة (المقصود بالسباكة: التوصيلات الخاصة بأنابيب الماء والمراحيض والحمام) أثبتوا — من بين أشياء أخرى — أن الظروف التي تُشجع انتشار العدوى ما كانت لتُوجَد بهذه الشدة لو لم يكُن مُفتش المدينة مُهملًا إهمالًا إجراميًّا أو مُرتشيًا من مُلاك البيوت. وأدَّى هذا الافتضاح إلى محاكمةٍ تأديبية لنصف مُوظَّفي مكتب الصحة، وفَصْل ١١ من الأربعة والعشرين موظفًا بهذا المكتب. «إن المفتش في منطقتنا كان رجلًا مُسنًّا عطوفًا، حَزِن حزنًا شديدًا لهذه القضية، وكان عاجزًا عن فهم السبب الذي من أجله كان عليه أن يستخدم صلاحياته في الوقت المُناسِب لإرغام الملك على إدخال الوسائل العصرية.

فإذا كان هذا الملك فقيرًا أو على وَشْك أن يبيع بيته أو مُتأكدًا أن البيت سيُهدَم قريبًا ليقوم في مكانه مصنع، فلماذا إذَن يُضايقه؟»11 ونفَذ هذا التحقيق إلى صميم جريمة الكسب غير المشروع والرشوة في بلدية المدينة وخارجها، وترتَّب على ذلك أنْ سحبَ كثيرون من المُكتتبين في هال هاوس تأييدهم له، ولكن هال هاوس لم يتخاذل، وظل سُكانه يعملون لتحسين الصحة في المجتمع، وعن طريق برامجه المُتعددة الاجتماعية والتعليمية للشباب والمُسنِّين، ولرفاهية الأفراد الجُدد على الثقافة الأمريكية.

لقد قالت الطفلة جين آدمز لأبيها إنها «ستَملِك بيتًا كبيرًا، وسط البيوت الصغيرة الحقيرة الفظيعة».

وقد برَّت بوعدها، بل وبأكثر مما وعدت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤