الفصل السابع عشر

ماري كوري

للبولنديات أثرٌ في تاريخ الطب في بقاعٍ شتَّى من العالم. وقد جاءت ماري زاكر سيفسكا عن طريق برلين إلى الولايات المتحدة لتترك بصمتها على الطب. وقبل ذلك بمائة سنة تعلَّمت وتدرَّبت سالومي آن روسيتسكا (أو روسيكا) لتكون مُساعِدة لزوجها، وهو رمدي ألماني اسمه هالبير، وتفوَّقت عليه كثيرًا، بحيث صارت أخصائية في جِراحة الكتاراكت في مدينة القسطنطينية، مُعتمدةً على كفاءتها وحدها، ودرست ميلاني ليبنسكا الطب في جامعة باريس في التسعينيات من القرن التاسع عشر، وصارت مؤرخة للطب. وكان هناك كثيراتٌ غيرهن، ولكنَّ أبهى جوهرة في تاجهن جميعًا هي مُعاصِرة ليبنسكا في جامعة باريس، واسمها ماري سكولودوفسكا، التي اشتهرت باسم ماري كوري (١٨٦٧–١٩٣٤م) التي وسَّع اكتشافها للراديوم دائرة علاج السرطان.

وقد وُلِدت ماريا في وارسو، وهي الصغرى بين خمسة أطفال أنجبهم فلاديسلاف سكولودوفسكي، أستاذ الفيزياء ومُفتش مُساعِد في مدرسةٍ عامة، وولداها كلاهما ينحدران من الطبقة الصغرى من النُّبلاء التي قوَّضت ثروتها ومكانتها نكبات بولندا؛ فقَبْل ذلك بقرن من الزمان اقتسمَتها بروسيا والنمسا والروسيا. وفي ١٨٣١ و١٨٦٣م كانت هناك محاولاتٌ عقيمة في بولندا الروسية، التي تضمُّ وارسو، للتخلص من النير الأجنبي، ولكن المجارف والفُئوس والهِراوات خسِرَت المعركة أمام بنادق القيصر، ولكن بولندا رفضت أن تموت، وأصبح ما لم يكن إحرازه بالقتال يتطلب وسائل أكثر خفاءً. وهكذا تخلَّى الفلَّاحون المُتمرِّدون عن دورهم للمُعلمين والشعراء والقساوسة، فكانوا في الظاهر يَنْحنون للقيصر وأوامره كي يعملوا — سرًّا — على التأثير في شباب بولندا ويُرشِدوهم ويُعلِّموهم. وكان مطلوبًا من مُعلِّمي المدارس أن يدرسوا باللغة الروسية، وفي مدرسة الآنسة سيكورسكا الخاصة — حيث انتظمت ماريا — كان تاريخ بولندا يُدرَّس باللغة البولندية خلسةً على يد مُدرِّسين يَقِظين لرنَّات الجرس التي تُنبِّههم لاقتراب مُفتش روسي. وفي فترة الدراسة كلها لم ترَ أسرة ماريا شيئًا تقريبًا سوى المأساة؛ فقد فُصِل أبوها من وظيفته الثانوية — كمُفتش مُساعد — على يد رئيسه الذي «تروَّس»، فحرمه ذلك من المسكن المجاني الذي استمتع به مع أسرته، وصار راتبه كمُدرِّس لا يكفي. وبعد تنقلاتٍ عديدة بين المساكن استقرَّت الأسرة في مسكنٍ رحب بما يكفي لقبول نُزلاء بالأجر. وكان أيضًا يُعطي دروسًا خاصة ليَعُول أسرته. وفي يناير ١٨٧٦م مرِضَت أختان أكبر من ماريا بالتيفود وماتت كُبراهما، فكان هذا أول لقاء لماريا مع الموت. وفي ٩ من مايو سنة ١٨٧٨م ماتت أمها بالسُّل، الذي كانت قد أُصيبت به بعد وقتٍ قليل من وضعها لماريا.

وعاشت الأسرة بعد هذه الصدمات المُتكررة، وفي ١٨٨٢م صارت ماريا من ألمع الطلبة في الجمنازيوم (المدرسة الثانوية) الحكومي. وكانت المدرسة تُدار على حسب الروح الروسي — أو «المُتروِّس» — لذلك العهد، وكانت مختلفة جدًّا عن مدرسة الآنسة سيكورسكا التي كانت ديرًا بولنديًّا خالصًا للفتَيات، ولكن كان لا بد من هذا التحويل؛ فالمدارس القيصرية وحدها هي التي تُعطي الشهادات الرسمية المُعترَف بها. وتخرَّجت ماريا في ١٢ يونيو ١٨٨٣م، وحصلت على ميداليةٍ ذهبية كانت مَبعث فخر لها.

الدراسة في باريس

كانت جامعة وارسو مُغلَقة أمام النساء، وحلُمَت ماريا بالذَّهاب إلى فرنسا حيث «الحرية عزيزة على الناس، وكل المشاعر والمعتقدات محترمة، ويُرحِّبون بالتُّعساء والمُطارَدين، لا يعنيهم من أين جاءوا.»1 ولكن ذلك لم يتسنَّ لها إلا في أواخر سنة ١٨٩١م، بعد سنواتٍ عديدة عسيرة من الخدمة كمُربِّية في الأقاليم، حين أصبحت ماريا تشعر بأنها حُرَّة في الذهاب لتنضمَّ إلى أختها برونيا التي كانت فعلًا في باريس تدرس الطب. وكانت الأخت قد تزوَّجت كازيمير دولوسكي الذي تخرَّج أخيرًا طبيبًا، وهو يَكبرها بعشر سنين. وفي ٣ من نوفمبر سنة ١٨٩١م شرعت ماري سكولودوفسكا (كما عدَّلَت اسمها) في الاستماع إلى دروس كلية العلوم في السوربون، ولم يمضِ أمدٌ طويل حتى كان زوج شقيقتها يكتب إلى أبيها في بولندا: «الآنسة ماري تعمل بجد، وتقضي كل وقتها تقريبًا في السوربون، ولا نتقابل إلا على وجبة المساء. وهي شابَّةٌ مُستقلَّة جدًّا، ورغم حق الوصاية الذي بموجبه جعلتموها تحت حمايتي، فهي لا تُظهِر لي أي احترام أو طاعة فحسب، بل ولا تهتمُّ أيضًا بسُلطتي وجدِّيتي على الإطلاق. وإني لآمُل أن أردَّها إلى سبيل الرشد، ولكن وسائلي التربوية لم تُثبِت حتى الآن فاعليتها. ورغم هذا كله يفهم كلٌّ منا الآخر ونعيش في أتم وفاق.2 وكانت ماري أشدَّ خجلًا من أن تَنشُد أصدقاء بين الفرنسيين، فكانت تألَف الطلاب البولنديين الفقراء مِثلها، الذين أنشَئوا بولندا حرةً صغيرة في الحي اللاتيني الذي انتقلت إليه ماري بعد قليل لتكون بقرب الجامعة والمعامل والمكتبات. والواقع أن ماري وهي في سكنها الصغير الكائن في الأدوار العُلوية، كثيرًا ما أجاعت نفسها إلى حد الاغماء. ولم يكُن ذلك بسبب الفقر تمامًا، بل لأنها لم تكُن مُدبِّرة بيت ماهرة، ولا تعرف حتى كيف تصنع الحساء كما يقول البعض، ولكن افتقارها إلى الشهيَّة للطعام كانت تُقابلها شراهتها إلى العمل. وقد تصدَّت لدراساتٍ شاقَّةٍ باهظة العبء في الرياضة والفيزياء والكيمياء، وهي مُحبَّة للكمال، بإرادة من حديد؛ لذلك قرَّرَت ألا تحصل على درجة ماجستير واحدة، بل على اثنتَين. ومما لا يكاد يُصدِّقه العقل أنها نجحت وجاءت الأولى في امتحان ماجستير الفيزياء سنة ١٨٩٣م، والثانية في ماجستير الرياضة سنة ١٨٩٤م.

بيير كوري

وفي بداية سنة ١٨٩٤م، كلَّفَت جمعية تشجيع الصناعة الوطنية ماري لتقوم بدراسة للخواصِّ المِغناطيسية لأنواعٍ شتَّى من الفولاذ. وسرعانَ ما اكتظَّ المعمل الذي تستخدمه، فلم يتَّسع للأدوات الكثيرة الضرورية لتحليل مجموعة عيِّنات المعادن. وكان جوزيف كوفالسكي أستاذ الفيزياء في جامعة فريبورج — والذي كانت زوجته الشابَّة قد لقِيَت ماري أيام كانت تعمل مُربِّية — يزور باريس؛ فلما سمِع الأستاذ كوفالسكي بمشكلة ماري دعاها أن تأتيَ لتناوُل الشاي بعد العشاء في المساء التالي، لتُقابِل شابًّا مُتفوقًا من العلماء كان قد لقِيَه في مدرسة الفيزياء والكيمياء، وقد تكون لديه حجرةٌ مُتاحة لها هناك. وها هي الكلمات التي وصفت بها ماري أول لقاء لها مع بيير كوري (١٨٥٩–١٩٠٦م):
«لما دخلت كان بيير كوري واقفًا في تجويف النافذة قُرْب باب يؤدي للشُّرفة، وبدا لي صغير السن جدًّا، مع أنه يَبلُغ ٣٥ سنة. وقد استرعَتني نظرته الصافية وما فيها من تعبير، وما في قامته السامقة من بعض مظاهر عدم العناية. وقد أوحت لي الثقة به في الحال كلماته البطيئة المُتروِّية، وبساطته وابتسامته الوقور والشابَّة في نفس الوقت. وبدأت بيننا محادثاتٌ صارت ودية، موضوعها بعض مسائل العلم التي أسعدني أن أسأله رأيه فيها.»3
وكان بيير كوري من مواليد باريس، وهو ابن الدكتور أوجين كوري، الذي هو أيضًا ابن طبيب. وفي ١٨٩٤م كان بيير محترمًا من زملائه الأجانب، باعتباره عبقريةً علمية وإن لم يكن معروفًا جدًّا في فرنسا؛ ففي أغسطس سنة ١٨٩٣م مثلًا رحل عالمٌ إنجليزي مجيد، هو اللورد كلفين، إلى باريس وهو في التاسعة والستين ليسمع كوري يقرأ تقريره إلى الجمعية الفيزيائية، واجتهد في لقاء الفيزيائي الشاب، وعندما عاد إلى وطنه كتب إلى بيير:
«أشكرك أجزل الشكر لأنك تجشَّمتَ عناء الحصول لي على جهازٍ أستطيع به بكل راحة أن أُلاحظ الاكتشاف التجريبيَّ البديع للكوارتز الكهرومغناطيسي؛ ذلك الجهاز الذي صنعته أنت وأخوك. وقد كتبت مذكرة إلى المجلة الفلسفية أُوضِّح فيها أن عملك سبق عملي، وينبغي أن تصل هذه المذكرة في وقتٍ مُناسب لظهورها في عدد أكتوبر، وإن لم يتم ذلك فستظهر حتمًا في عدد نوفمبر.»4

وكان بيير قد حصل على درجة البكالوريوس في العلوم في سن السادسة عشرة، وعلى الماجستير في سن الثامنة عشرة، وعُيِّن مُساعِد معمل في كلية الطب في التاسعة عشرة، وعمل مع شقيقه جاك الذي كان أيضًا مُساعِد معمل. وجهازهما الخاص بالكوارتز الكهرومغناطيسي الذي أشار إليه اللورد كلفين مُصمَّم كي يسمح بقياس الكَمِّيات الصغيرة من الكهرباء قياسًا دقيقًا. وفي ١٨٨٣م افترق الشقيقيان للأسف، فصار جاك أستاذًا في مونبيليه، وأصبح بيير رئيس معمل في مدرسة الفيزياء والكيمياء بمدينة باريس، ومضى بيير يقوم باكتشافاتٍ هامَّة في فيزياء البلورات والمغناطيسية.

الزواج

في اللقاء الذي رتَّبه آل كوفالسكي شعرَ بيير بفضولٍ عميق نحو الفتاة الأجنبية التي كان كلامها قليلًا جدًّا، ومع ذلك سألها إن كان يستطيع أن يزورها، وقبل عودة ماري إلى بولندا لقضاء الصيف عرض عليها الزواج. ورفضت ماري؛ فهي بولندية بالمولد، ومُناضِلةٌ سياسية بالتربية والنشأة، وهجرُ الوطن والأسرة لتتزوَّج فرنسيًّا ضربٌ من الخيانة. وأبى العالِم الشابُّ أن تُثبِّط عزيمته بهذا الرفض أو برحيلها، وظلَّ يرشقها بالخطابات طول الصيف. ولما عادت إلى باريس في أكتوبر جدَّد حملته شخصيًّا، ومرَّت عشرة شهور أخرى قبل أن تقبل فكرة الزواج. وأعلنت ماري أن الزواج الذي سيتمُّ في ١٦ يوليو سنة ١٨٩٥م سيكون «مختلفًا عن كل الزيجيات الأخرى … فلا ثوب أبيض ولا دبلة ذهبية ولا إفطار عرس، ولن يكون هناك حفلٌ ديني؛ فبيير حر الفكر وماري كفَّت منذ زمن طويل عن ممارسة شعائر الدين. ولا ضرورة للمُحامين؛ لأن الزوجَين لا يَملِكان من عرَض الدنيا شيئًا، اللهم إلا درَّاجتَين لامعتَين اشترياهما في اليوم السابق بنقودٍ أرسلها ابن عم لتكون هدية الزواج، وعلى هاتَين الدرَّاجتَين سيذهبان للتجول في أرجاء الريف في الصيف القادم.»5 وفي يوم ١٢ سبتمبر ١٨٩٧م وضعت ماري «إيرين» التي ستحصل هي وزوجها فريدريك جوليو على جائزة نوبل في الكيمياء سنة ١٩٣٥م. ولم يخطر ببال ماري قطُّ أن تختار بين حياة الأسرة وحياة العلم؛ فالحب والأمومة والعلم يجب أن تعمل مُتعاونةً في حياتها، وليس هناك طريقٌ آخر. وبعد ثلاثة أشهُر من ولادة إيرين كانت مدام كوري قد أتمَّت بحثها المكتوب عن المغناطيسية لصحيفة جمعية تشجيع الصناعة الوطنية.

اكتشاف الراديوم

وكان هدف ماري التالي هو الحصول على درجة الدكتوراه، وكانت مُصمِّمة عند اختيار موضوع رسالتها أن يتضمَّن بحثًا فيه أصالة ونظرةٌ مستقبلية. وكان آل كوري كلاهما مفتونَين باكتشافٍ حديث على يد الفيزيائي أنطوان هنري بيكريل (١٨٥٢–١٩٠٨م)؛ فعلى أثر اكتشاف رنتجن للأشعة السينية في سنة ١٨٩٥م اقترح جول هنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢م) الرياضي الشهير أن يتم تحديدُ ما إذا كانت الأشعة تنبعث من أجسامٍ مُشعَّة بفعل الضوء. وأوحى هذا الاقتراح إلى بيكريل أن يفحص أملاح اليورانيوم، ولم يجد ما كان يتوقعه، واكتشف بدلًا منه أن أملاح اليورانيوم غير المُعرَّضة للضوء تُرسِل تلقائيًّا أشعةً ذات طبيعة غير معلومة؛ فمركب من اليورانيوم ظل محفوظًا في الظلام عدة أشهُر أحدث أثرًا في لوح للتصوير الفوتوغرافي كان معزولًا عنه بصحيفة من الورق الأسود؛ فتحديد طبيعة هذا الإشعاع تُتيح الفرصة للبحث في مجالٍ بكرٍ جدير برسالة دكتوراه. وكانت المشكلة الأساسية هي إيجاد مكان تعمل فيه ماري، وكان أفضل ما استطاعه بيير أن يُخصِّص لذلك استوديو مُسوَّرًا بالزجاج في الطابق الأرضي من مدرسة الفيزياء والكيمياء، وكان هذا المكان مَخزنًا للأخشاب والآلات غير المستخدَمة، وليست هناك أدوات للعمل، ولم تكن التركيبات الكهربائية كافية، والحجرة رطبة وغير مُلائمة إطلاقًا للبحث العلمي، والأدوات الدقيقة لا تُلائمها الرطوبة والتغيرات في درجة الحرارة، ومع ذلك ففي ٦ من فبراير ١٩٨٩م اضطُرَّت ماري أن تُثبِت درجة الحرارة فوق ٤٣ درجة فهرنهايت مباشرة. ولم تتقاعس ماري، وقرَّرت المُضيَّ قُدمًا لإنجاح البحث، واستخدمت أدواتٍ ابتكرها بيير وجاك كوري في العهد السابق حين كانا يعملان معًا، وأثبتت أن شدة الإشعاع تتناسب طرديًّا مع كمية اليورانيوم في العينة موضوع الاختبار، وفي الوقت نفسه أكَّدَت أن الإشعاع لا يتأثر بالتكوين الكيميائي للعينة التي تحتوي على اليورانيوم، ولا بالعوامل الخارجية من قبيل الضوء أو الحرارة، ووجدت أن الأشعة ذات خاصية مُنفردة خارقة للمعتاد.

وكانت المسألة التالية لذلك هي معرفةَ ما إذا كان اليورانيوم هو الجسم الوحيد الذي يمكن أن يرسل مثل هذا الإشعاع. وقرَّرت ماري أن تفحص كل العناصر الكيميائية المعروفة، وأثبتت أن الثوريوم أيضًا يرسل أشعةً تلقائية، وهي عمليةٌ سمَّتها «النشاط الإشعاعي»، وأطلقت اسم «عناصر مُشعَّة» على المواد الكيميائية ذات النشاط الإشعاعي. ولما مضت ماري تقيس إشعاعية اليورانيوم والثوريوم وجدتها أقوى بكثيرٍ مما كان مُتوقَّعًا من كمية اليورانيوم والثوريوم في العينات المفحوصة، وقادها ذلك إلى القول بأن العينات لا بد أن تكون مُحتوية أيضًا على كميةٍ صغيرة من مادةٍ أقوى إشعاعًا بكثير من اليورانيوم والثوريوم. وبما أنها سبق أن فحصت كل العناصر الكيماوية المعروفة، فهي إذَن تُواجه عنصرًا جديدًا، وعليها أن تعزل هذا العنصر، وعندئذٍ لجأت ماري إلى زوجها، وانعقد بينهما ذلك التحالف في العمل الذي سوف يستمرُّ بدون تمييز فيمن يفعل أو فيمن يُقرر حتى وفاة بيير بعد ذلك بثماني سنوات، وها هما الآن ذِهْنان وأربع أيدٍ تبحث عن العنصر المجهول. وفي ١٨ من يوليو سنة ١٨٩٨م رفع آل كوري إلى أكاديمية العلوم التقرير التالي:
«بعض المادة المُعيَّنة المُحتوية على اليورانيوم والثوريوم (البتشبلند والشالكوليت واليورانيت) نشِطة جدًّا من وجهة نظر بثها لأشعة بيكريل. وفي رسالةٍ سابقة بيَّن أحدنا أن نشاطها كان أكبر من نشاط اليورانيوم والثوريوم، وقرَّر أنه يرى أن هذه النتيجة راجعة لوجود مادة أخرى نشطة جدًّا بكميةٍ صغيرة … هذه المعادن … وكلانا يعتقد أن المادة التي استخرجناها من البتشبلند تحتوي مَعدِنًا لم يُلاحظه أحدٌ بعد، وينتمي إلى البزموت بخصائصه التحليلية؛ فإذا تأكَّد وجود هذا المعدن الجديد فإننا نقترح إطلاق اسم «بولونيوم» عليه؛ نسبةً إلى الوطن الأصلي لأحدنا.»6
وفي رسالةٍ تالية إلى الأكاديمية في ٢٦ ديسمبر، أعلنا وجود عنصر كيماوي آخر جديد في البتشبلند:
«إن الأسباب المختلفة التي عددناها آنفًا تقودنا للاعتقاد بأن المادة المُشعَّة تحتوي على عنصرٍ جديد نقترح إطلاق اسم الراديوم عليه، وهذه المادة الجديدة ذات النشاط الإشعاعي تحتوي على نسبةٍ كبيرة من الباريوم، ومع هذا فإن نشاطها الإشعاعيَّ جسيم؛ فلا بد إذَن أن النشاط الإشعاعيَّ للراديوم نشاطٌ هائل.»7

عزل الراديوم

ويوجد اليوم اتجاهٌ آخذ في النمو لتَقبُّل الافتراضات العلمية إلى أن يثبت خطؤها. ومنذ ثلاثة أرباع القرن كان الحذر هو السائد؛ فحتى زملاء آل كوبري قابلوا اكتشافهما بالتشكك؛ فمفهوم الإشعاع التلقائي المُنبعث عن أجسامٍ ذات نشاط إشعاعي، يُناقض بشدةٍ المفهومات المستقرة عن تكوين المادة، ويُزعزع النظريات التي ظلَّت معدودة لسنواتٍ طويلة نظرياتٍ أساسية؛ فالكيميائيون نشَئوا على الاعتقاد بالمواد التي يرَونها ويلمسونها ويَزِنونها ويفحصونها، ويُواجهونها بالأحماض، ويضعونها في قوارير، ولها أوزانٌ ذرية؛ ولذا كانوا أقل استعدادًا للاقتناع من الفيزيائيين. وعدم وجود وزن ذرِّي للراديوم كان الأساس الأول لرفض الكيميائيين إياه، أما الفيزيائيون فكانوا شديدي الاهتمام بعمل آل كوري، وتطلَّعوا إلى تقدمٍ حاسم من جانبهما.

وكان هدف آل كوري عزل اليورانيوم والبولونيوم نقيَّين. وأظهرت العينات ذات النشاط الإشعاعي العالي التي استخدماها حتى ذلك التاريخ آثارًا لا تكاد تبين للمَعدنَين اللذين يبحثان عنهما؛ فالحاجة ماسَّة إلى كَمِّياتٍ ضخمة من المعدن الخام، ولكن البتشبلند ركازٌ غالي الثمن، وشراء أطنان منه يتجاوز طاقة آل كوري المالية. ومن جهةٍ أخرى كانا يعلمان جيدًا أن الجامعة بباريس، أو الحكومة الفرنسية، سترفض أي التماس لاعتماد شراء البتشبلند. وكان البتشبلند مطلوبًا أولًا لما فيه من أملاح اليورانيوم التي تُستخدم في صناعة الزجاج. وخطرَ لآل كوري أنَّ النُّفاية بعد استخلاص اليورانيوم لا بد أن تكون زهيدة القيمة في نظر صانع الزجاج، ولكن هذه النفاية تحتوي حتمًا البولونيوم والراديوم الموجودَين أصلًا في البتشبلند. وكان استخراج الأملاح يجري في مناجم سانت يوافيمستال في بوهيميا، فطلب آل كوري من زميلٍ نمسوي أن يُرتِّب لهما شراء نفايات تلك العملية ونقلها إلى باريس، وإذا بطُنٍّ من البتشبلند يأتي إليهما في باريس هديةً من الحكومة النمسوية، وكل ما عليهما أن يؤديَاه هو أجر النقل، وقيل لهما إن كمياتٍ أخرى ستصل إليهما بتكاليفٍ اسمية، ومع شحن أول دفعة من البتشبلند أخذ آل كوري يُنقِّبان في البنايات الكثيرة المُلحَقة بالسوربون عن ورشةٍ مناسبة، ولكن بدون جدوى، فاضطُرَّا للعودة إلى حجرة المخزن الصغيرة في مدرسة الفيزياء والكيمياء وإلى عريشةٍ مهجورةٍ قبالتها عبر الفِناء. وكانت فتحة الضوء في سقف العريشة ترشح ماءً، والأرض بدون تبليط؛ فما من عاملٍ كان يرضى بالعمل فيها، ولكن آل كوري رضِيا بها شاكرَين.

وكتبت ماري عن هذه الفترة من حياتهما: «ولم يكن لدينا مال ولا معمل، لا مُعِين في تلك المَهمَّة الهامَّة الشاقَّة، فكان ذلك أشبه بخلق شيء من لا شيء. ولئن وصف كازمير دلوسكي ذات مرةٍ سنوات دراستي بأنها «سنوات بطولة أخت زوجتي»، فلي أن أقول بغير مبالغة إن تلك الفترة كانت، بالنسبة لزوجي ولي، الفترة البطولية في حياتنا المشتركة. ومع ذلك ففي تلك العريشة الحقيرة أمضَينا أفضل وأسعد أعوام حياتنا التي كانت مُخصَّصة للعمل. لقد كنت أحيانًا أُمضي النهار بطوله أُقلِّب كتلة في حالة غليان، بقضيب من حديدٍ يكاد يبلغ مثل طولي، وفي المساء كنت أشعر أن التعب قد حطَّمني.»8
وفي أول سنة من السنوات الأربع (١٨٩٨–١٩٠٢م) التي عمل فيها آل كوري في العريشة، ركَّزا جهودهما على فصل الراديوم والبولونيوم. وبعد فترةٍ قسَّما جهودهما، فركَّزت ماري على الوسائل الكيماوية للحصول على أملاح الراديوم النقي، وركَّز بيير على خواص الراديوم، وبدا أن الراديوم لا ينوي الكشف عن نفسه للفحص البشري، وتحوَّلت أيام العمل إلى شهور ثم إلى سنوات، وظلَّ آل كوري غير مُثبَّطي العزم. «وفي تلك الفترة كنا مُستغرِقَين تمامًا في تلك المملكة الجديدة التي — بفضل اكتشاف غير مأمول — كانت تفتح أبوابها أمامنا. وبرغم الصعوبات في ظروف عملنا شعَرْنا بسعادةٍ شديدة. وكنا نقضي أيامنا في المعمل، وفي عريشتنا الفقيرة ساد هدوءٌ عظيم. وكنا أحيانًا ونحن نرقب عمليةً ما نتمشى جيئةً وذهابًا، ونتحدث عن عملنا في الحاضر والمستقبل. وإذا شعرنا بالبرد، كان فنجان من الشاي نشربه قُرْب المَوقد يُريحنا؛ إذ كنا نعيش في عملنا الفريد وكأننا في حلم.» وذات يوم سألت ماري بيير كيف يظنُّ أن الراديوم سيبدو، فأجابها: «لا أدري.» ثم أردف: «أتمنَّى أن يكون ذا لون جميل جدًّا.»9

وببطءٍ حصل آل كوري على الاعتراف بهما، فنشرا بحوثًا عن اكتشاف النشاط الإشعاعي الحادث نتيجةَ وجود الراديوم، وعن آثار النشاط الإشعاعي، وعن الشحنة الكهربائية التي تحملها الأشعة، وأثار «تقريرٌ عامٌّ عن المواد ذات النشاط الإشعاعي» كتباه سنة ١٩٠٠م لمؤتمر الفيزياء اهتمامًا عظيمًا بين علوم أوروبا، ولكن كان لا بد لهما من عونٍ إذا كان لهما أن يُحرِزا أي تقدم. وفي سنة ١٨٩٨م قدَّم أحد رؤساء المعامل في المدرسة — وهو ج. بيمون — مساعدةً عابرة. وقُرْب سنة ١٩٠٠م انضمَّ إليهما كيماوي شابٌّ هو أندري دبيرن الذي بحث عن عنصرٍ إشعاعي جديد كان المظنون أنه موجود في مجموعة من الحديد والصلصال النادر، واكتشف الأكتينيوم.

وحوالَي ذلك الوقت اقترح بيير أن يتخلَّيا عن البحث عن الراديوم النقي، ويُركِّزا على النشاط الإشعاعي، ويبدو أنه بدأ يتعب من هذا النضال الذي لا نهاية له، ولكنه لم يحسب حساب ماري؛ فقد صمَّمَت على عزل الراديوم، ولا بد لها أن تعزله. وأخيرًا في سنة ١٩٠٢م، وبعد ٤٥ شهرًا من إعلانهما احتمال وجود الراديوم، نجحت ماري في تحضير عُشْر جرام (١٫٥ حبة تقريبًا) من الراديوم النقي في صورة أحد أملاحه، وحدَّدَت وزنه الذرِّيَّ بأنه ٢٢٥.

وفي الساعة التاسعة من تلك الليلة عاد آل كوري إلى العريشة في الفِناء، وقالت ماري في الظلام: «لا تُشعل المصباح!» ثم أضافت بضحكةٍ يسيرة: «أتَذكُر ذلك اليوم الذي قلتَ لي فيه: «أتمنى أن يكون للراديوم لونٌ جميل جدًّا»؟» وإذا بالواقع يقدم لهما ما هو أكثر من «لون جميل». لقد كان الراديوم مُضيئًا بذاته؛ «ففي العريشة المُظلِمة الخالية من الدواليب كانت الجُزيئات في أوانيها الزجاجية الصغيرة موضوعة على مناضد أو رفوف مُسمَّرة في الحائط، وحوافيها الفسفورية الضاربة للزُّرقة تتلألأ معلقةً وسط الليل.»10

ها هو الراديوم قد وُجِد، والسؤال الآن: كيف يُستخدم؟

صباح يوم الأحد من سنة ١٩٠٢م قال كوري لزوجته: «بعد بضع سنين سيكون العالم كله بحاجة إلى الراديوم.» وكان في الواقع قد تلقَّى لتوِّه خطابًا من بعض التِّقنيين في بفالو بنيويورك يُريدون استغلال الراديوم في أمريكا، ويسألونه بعض إيضاحات ومعلومات. وأردف بيير: «أمامنا الاختيار بين أمرَين؛ ففي إمكاننا أن نصِف نتائج بحثنا بلا تحفُّظ، بما في ذلك عملية التنقية، أو أن نعتبر أنفسنا مالكي — أي «مخترعي» — الراديوم، وفي هذه الحالة سيكون من الضروري قبل نشر كيفية عملك بالضبط في معالجة البتشبلند أن نُسجل الطريقة التقنية، ونحتاط لحفظ حقوقنا بالنسبة لصنع الراديوم في جميع أنحاء العالم.» وتردَّدَت ماري بضع ثوانٍ فقط، ثم قالت: «إن الحل الأخير مستحيل؛ لأنه يُناقض الروح العلمي.»11 وهكذا اختار آل كوري — إلى الأبد — بين الثراء العريض والفاقة النسبية.

صعوبات ومثوبات

خلال هذه السنوات من البحث، كان كفاح آل كوري شديدًا لتدبير أمور حياتهما؛ فحتى نهاية سنة ١٨٩٩م كان بيير يُعطي دروسه — ١٢٠ ساعة في السنة — ويُشرِف على تَجارِب تلاميذه، مُقابل ٥٠٠ فرنك في السنة كان يتقاضاها منذ زواجه بماري. وقد كانت كافية لهما طالما لم يكن لديهما أطفال، وكانت ماري تقوم بأعمال المنزل، ولكن ولادة إيرين أحوجَتْهما إلى مُربِّية وإلى خادم معًا؛ مما يتطلب دخلًا يبلغ ألفَين أو ثلاثة آلاف فرنك في السنة.

وكان الحل البسيط أستاذية في السوربون مرتبها عشرة آلاف فرنك في السنة، وكان بيير — بلا مراء — يستحق مثل هذا المنصب. ولما خلا كرسي الكيمياء الفيزيائية في سنة ١٨٩٨م تقدَّم إليه، ولو أنه كان سياسيًّا أكثر منه عبقريًّا لعرَف أن فرصته ضئيلة في الظَّفر بالمنصب؛ لأنه لم يتخرج في مدرسة البوليتكنيك، ولا في النورمال في سيفر قُرْب فرساي؛ فهاتان المؤسَّستان تؤيدان دائمًا خريجيهما، بحيث يسدُّون الطريق أمام أي شخص خارجي فلا يظفر بالتعيين. وهكذا رُفِض طلبه على أساس الشك في أن اكتشافه في مدى السنوات الخمس عشرة الأخيرة ليست — في نظر بعض الأساتذة — في صميم الكيمياء الفيزيائية.

وفي سنة ١٩٠٠م حصل بيير على وظيفة مُدرِّس بمدرسة البوليتكنيك وبمرتب ٢٥٠٠ فرنك، ولكن العمل كان مُرهِقًا، ثم عرضت عليه جامعة جنيف كرسي الفيزياء بمرتب عشرة آلاف فرنك مع بدل سكن، وأكثر من هذا ستحصل ماري على منصبٍ رسمي في معمله، وأحسَّا الإغراء، وكاد الاستقبال الحارُّ الذي لقِياه عندما زارا سويسرا في شهر يوليو أن يُغرِيَهما بالقبول، ولكنهما في النهاية قرَّرا عدم قطع عملهما في الراديوم، وهو نشاطٌ لا يمكن نقله إلى جنيف بسهولة.

وفي شهر أكتوبر استبدل بيير بعمله المُرهِق في البوليتكنيك عملًا آخر أحسن منه أجرًا، في مُلحَق السوربون الخاص بالفيزياء والكيمياء والعلم الطبيعي، ونُدِبت ماري لإلقاء محاضرات في الفيزياء في مدرسة النورمال (المعلمين). أجل إنهما كانا مُثقَلَين بعملٍ إضافي كثير، في الوقت الذي كانت تَجارِبهما تحتاج إلى كل طاقاتهما، ولكن ميزانيتهما استطاعت أخيرًا أن تتوازن. وفي سنة ١٩٠٢م أقنع بعضهم بيير، ضد رأيه الخاص، أن يتقدم لعضوية أكاديمية العلوم، ورُفِض طلبه بأغلبيةٍ كبيرة. وقيل إن ذلك بسبب أنه في طوافه التقليدي بأعضاء الأكاديمية امتدح مُنافسًا له أكثر من امتداحه نفسه، ورفض ترشيحه لوسام الليجيون دونير قائلًا: «إن ما نحتاج إليه حقًّا إنما هو معمل.» وطيلةَ هذه السنين لم يشكُ بيير إلا مرةً واحدة من الضغوط التي يُعانيان منها، وذلك عندما قال لماري: «ما أشقَّ حياتنا هذه التي اخترناها!»12
وفي ٢٥ من يونيو ١٩٠٣م — بعد خمس سنوات من ابتداء ماري لعمل رسالتها للدكتوراه — أعلن قضاة كلية العلوم رسميًّا «أن جامعة باريس تمنحك لقب دكتور في العلم الفيزيائي، وبمرتبةٍ عالية الشرف.» وكان كبير قضاتها الأستاذ جبرييل ليبمان الذي درست عليه في السوربون. وقد أضاف إلى ذلك قوله لها: «وبِاسم المُحلفين يا سيدتي أودُّ أن أُعرب لكِ عن أصدق تهانينا.»13 وبعد ذلك أتت آيات التكريم سراعًا؛ ففي يونيو من تلك السنة، عندما حاضَر بيير في المعهد الملكي بلندن، جلست مدام كوري بجوار لورد كلفن، فكانت أول امرأة تحضر اجتماعًا للمعهد. وفي ديسمبر اقتسم آل كوري جائزة نوبل في الفيزياء، مع هنري بيكريل. وأتاحت السبعون ألف فرنك ذهبًا قيمة الجائزة لبيير أن يتخلى عن التدريس، ومُنِحت جائزة أوزيريس مُناصَفةً بين مدام كوري والفيزيائي ديزيريه أوجين برانلي (١٨٤٦–١٩٤٠م)؛ مما أفاء على آل كوري خمسين ألف فرنك أخرى. وفي سنة ١٩٠٤م أنشأت جامعة باريس كرسيًّا للفيزياء ليشغله بيير كوري. وجاء هذا التعيين مُتأخرًا جدًّا؛ فالأستاذية بمعملها ومُساعديها كانت الحاجة إليها أثناء سنوات الصراع والتجريب. وقد احتاجت الجامعة كي تتحرك وتعمل أن تمنح جائزة نوبل، وميدالية دافي التي حصل عليها بيير في لندن في ديسمبر سنة ١٩٠٣م؛ فإذا بالجامعة تُظهر اعترافها في فرنسا بالعمل الذي تم على أرضها، وكان صدى هذا لدى آل كوري اللذين حصلا لأول مرة في حياتهما على ما يفيض عن حاجتهما من المال هو الشعور بالمرارة. وفي محاضرةٍ أمام جمهور كبير في السوربون تعمَّد بيير أن يُشير إلى أنهما قاما ببحثهما في مدرسة الفيزياء والكيمياء بمدينة باريس، وذكر بالعِرفان أول مدير للمدرسة الذي عنَّى نفسه بالسماح لمدام كوري بالعمل هناك معه؛ فقد كان بيير حريصًا على ألا تفوز الجامعة بهذا الشرف.

الحياة والموت

وفي ٦ من ديسمبر ١٩٠٤م وُلِدت لآل كوري ابنةٌ ثانية سمينة أسمَياها إيف (حواء). وأثناء الحمل كانت ماري تعمل في المعمل كالمعتاد، مُكتفيةً بأخذ هُدنة تستريح فيها من عملها في التدريس. وكان الوقت عصيبًا، وماري مُجهَدة وكأنما أنعشَتها ولادة إيف؛ فإذا كل شيء يُثير اهتمامها مرةً أخرى؛ بيتها وعملها والأحداث التي تجري في وطنها الأصلي، حيث سيَنبري البولنديُّون لمؤازرة الروس في ثورتهم سنة ١٩٠٥م. وفي عيد الفصح من سنة ١٩٠٦م قضت أسرة كوري بضعة أيام في الريف، واستلقى بيير على العشب الأخضر بجوار ماري وراح يَرقُب مرح طفلتَيهما، وغَمغَم: «لقد كانت الحياة معك عذبة يا ماري.»14 وفي يوم الخميس التالي، وقد عادا إلى باريس، افترق بيير وماري فذهب كلٌّ في طريقه. وكان الفراق عرضيًّا؛ فحوالَي الساعة الثالثة بعد الظهر كان بيير يسير في شارع الدوفين (ولية العهد)، وخطا وهو شاردٌ من وراء عربة عبر الشارع، وكانت العربة تحجب عربةً ضخمة قادمة من الاتجاه الآخر يجرُّها حِصانان. ولما أجفَل الحصان الأقرب إلى بيير سقط بيير على الأرض، وبمعجزة لم يدهمه الجودان، وتحاشته العجلتان الأماميتان، لكن العجلة اليسرى سحقت دماغ بيير كوري.

ماري تُواصِل الطريق

وفي يوم ١٣ من مايو ١٩٠٦م عيَّنَت كلية العلوم مدام كوري لتملأ مكان زوجها الراحل. وكانت هذه أول مرة تُعرَض فيها وظيفة في التعليم العالي الفرنسي على امرأة، وقبِلَت ماري أن تُحاوِل، مُتذكِّرةً قول بيير في أيامٍ أخرى: «مهما حدث — وحتى لو قُضِي على أحدنا أن يمضيَ كجسد بلا روح — يجب عليه أن يعمل على كل حال.»15
وفي منتصف الساعة الثانية من ٥ نوفمبر سنة ١٩٠٦م، سارت ماري كوري إلى مقعدها في قاعة المحاضرات، وسط تصفيق يصمُّ الآذان. واستأنفت مدام كوري الدرس من حيث كان قد توقَّف زوجها بالضبط16 قائلةً: «عندما يُفكر المرء في التقدم الذي تم في الفيزياء في السنوات العشر الأخيرة يُدهَش للتحسن الذي طرأ على أفكارنا في الكهرباء والمادة.»

وأخذت ماري تُربِّي ابنتَيها في السنوات التالية من غير أن تُقصِّر في رعاية عملها؛ فهي أستاذة وبحَّاثة وعاملة معمل. وفضلًا عن هذا استمرَّت تُلقي دروسها في سيفر. وكانت تُلقي في السوربون أول سلسلة دروس — بل الوحيدة يومئذٍ — في العالم عن النشاط الإشعاعي. وفي سنة ١٩١٠م نشرت «رسالة في النشاط الإشعاعي» تنمُّ على الأستاذية. وفي البحث كانت مُصرَّة على عزل معدن الراديوم؛ فحتى ذلك الحين كان الراديوم النقي على شكل أملاح، وساعَدهما أندريه دبيرن مُكتشف الأكتينيوم، فنجحت في إنتاج المعدن نفسه، وهي عمليةٌ صعبة لن تتكرر إلا بعد سنواتٍ طويلة، وأخيرًا أنشأت منهجًا جوهريًّا لقياس الراديوم بقياس ما ينبعث منه من الأشعة.

وفي سنة ١٩١٠م عُرِض عليها وسام اللجيون دونير، ولكنها رفضته كما رفضه زوجها من قبل. ورُشِّحت لعضوية أكاديمية العلوم، ورفضت بصوتٍ واحد. لقد كان الموضوع الحقيقي هو انتخاب امرأة للأكاديمية. ومرةً أخرى قامت أمة أجنبية بما أبدت فيه فرنسا عدم اكتراث، فمنحت أكاديمية السويد مدام كوري جائزة نوبل في الكيمياء، وكانت هذه أول مرة تُمنَح فيها تلك الجائزة لشخصٍ واحد مرَّتَين، رجلًا كان أو امرأة.

وفي يوليو سنة ١٩١٤م افتُتح معهد الراديوم في شارع بيير كوري، وكانت الخطوة الأولى نحو هذا التكريم التذكاري قد اتخذها في سنة ١٩٠٩م «بيير بول إميل رو»، الذي اقترح بناء معمل لمدام كوري في معهد باستير الذي كان مُديرًا له. وكان هذا يقتضي أن تترك ماري السوربون؛ فلما نما هذا الخبر إلى الجامعة اقترحوا حلًّا وسطًا، وتم الاتفاق أخيرًا على أن تشترك الجامعة ومعهد باستير في بناء وتمويل المعهد، الذي يضمُّ معملًا للنشاط الإشعاعي (تُديره مدام كوري)، ويضم كذلك معملًا للأبحاث البيولوجية تُدرَّس فيه طرائق علاج كوري للسرطان.

سنوات الحرب

كانت ماري قد استأجرت فيلَّا في بريتاني لقضاء صيف عام سنة ١٩١٤م، وكانت إبرين وإيف والمُربِّية والطاهية قد استقرَرْن هناك بالفعل. وكان في ذهن ماري — التي يجب أن تبقى في باريس حتى نهاية العام الجامعي — أن تلحق بهن في ٣ من أغسطس. وفي الثاني من أغسطس دخل الألمان فرنسا بدون إعلان حرب. أتبقى ماري في باريس أم تلحق ببِنتَيها؟ وقرَّرَت أن تبقى بجوار معملها، على أمل أن تُحافظ على أجهزته الدقيقة.

والواقع أنها لم تلبث في باريس طويلًا؛ لأنها علِمَت أن هناك عملًا يُؤدى في مجالٍ متصل بمجالها مباشرة؛ ذلك أن اكتشاف الأشعة السينية قبل ١٩ سنة من ذلك الحين، جعل من الممكن رؤيةُ ما يجري داخل الجسم. وقد أنشأ القسم الطبي بالجيش آلات للأشعة في بضعة مراكز كبرى، ولكن من الواضح في نظر ماري أن الحاجة إلى الأجهزة أكبر بكثير في مستشفيات الميدان وراء خطوط الجبهة، ولمواجهة هذا الموقف جهَّزت أول «سيارة للأشعة»، وهي عبارة عن سيارةٍ عادية بها جهاز أشعة سينية بدينامو يُدار بمحرك السيارة. وركِبَت ماري المَركبة المُحوَّلة إلى مركز أشعة، وتنقَّلت بها من مستشفًى إلى مستشفًى. ومع اشتداد أُوار الحرب زاد عدد «الكوريات الصغيرات»، كما أطلقوا عليهن. وكانت ماري قد تجاوزت الخمسين عندما انتهت الحرب في سنة ١٩١٨م. وكانت قد شهدت في حياتها الراشدة الكثير من الآلام، وناضلت بلا هوادة مرضًا في إثر مرض، ولكنها الآن وصلت إلى نوع من الطمأنينة. وكانت تُدرك أنها لن تعرف مرةً أخرى السعادة التي نعِمَت بها مع بيير، ولكنها تعلَّمَت أن تُحبَّ المناعم التافهة التي تزخر بها الحياة اليومية.

السنوات الأخيرة

وفي سنة ١٩٢١م قامت ماري كوري بزيارةٍ أشبه بمسيرة النصر إلى أمريكا، حيث حظِيَت، بين ألوان التكريم الأخرى، من يد الرئيس هاردنج، بهديةٍ عبارة عن جرام من الراديوم، وذلك يُقارب كل ما تمكَّنت من تكديسه في معملها طوال سنوات عملها، دفع ثمنه بالاكتتاب العام. وعند عودتها إلى الوطن كتبت بضع مذكرات عن مكان العالِم في المجتمع، وهو موضوع ستزداد أهميته في العقود التالية من السنين:
«إن عددًا كبيرًا من أصدقائي يؤكدون — وليس ذلك بدون مبررات صحيحة — أنه لو أننا — بيير كوري وأنا — حافظنا على حقوقنا، لكُنَّا قد حصلنا على الموارد المالية الضرورية لإنشاء معهد للراديوم نرضى عنه من غير أن نُواجه العقبات التي كانت مُعرقِلة لكلينا، والتي لم تزَل مُعرقِلة لي، ولكني — مع هذا — ما زلت مقتنعة بأننا كنا على حق. إن الإنسانية بحاجة — يقينًا — إلى أناس عمليين يحصلون من عملهم على أقصى منفعة، ومن غير أن ينسَوا الخير العام يُؤمِّنون مصالحهم الخاصة، ولكن البشرية تحتاج أيضًا إلى حالمين يستولي على قلوبهم التقدم النزيه لمشروعٍ ما، بحيث يستحيل عليهم أن يُخصِّصوا عنايتهم لمصالحهم المادية، وبدون أدنى شك، لا يستحقُّ هؤلاء الحالمون الثروة؛ لأنهم لا يرغبون فيها. وحتى مع هذا، فعلى المجتمع الحسن التنظيم أن يَكفُل لمثل هؤلاء العاملين الوسائل الكافية للقيام بمَهمَّتهم في حياةٍ خالية من الهموم المادية مُكرَّسة بأَسْرها للبحث.»17
وفي سنة ١٩٢٢م قدَّم ٣٥ من أعضاء أكاديمية الطب إلى زملائهم هذا الالتماس: «المُوقِّعون أدناه من الأعضاء، يرَون أن الأكاديمية تتشرَّف بانتخاب مدام كوري عضوًا حرًّا مُراسلًا؛ اعترافًا بالدور الذي قامت به في اكتشاف الراديوم، واكتشاف علاج جديد في الطب، وهو علاج كوري.»18 وكانت الوثيقة ثورية؛ فهي لا تقترح فقط انتخاب امرأة للأكاديمية، بل وتريد أن يتم ذلك بدون تقديم طلب العضوية المألوف. وكان هذا بمثابة صفعة لأكاديمية العلوم التي ضنَّت بعضويتها على بيير وماري كوري كليهما.
وواصلت ماري عملها؛ فهي تُغادِر بيتها إلى المعمل كل يوم قبل التاسعة، ولا تعود إلى البيت قبل الثامنة أو منتصفها، وفي بعض الأحيان كانت تُسمَع وهي تقول: «آه! شدَّ ما أشعر بالتعب!»19
وفي سنة ١٩٢٠م كانت قد تلقَّت تحذيرًا من إصابتها بكتراكت في كلتا عينَيها، وأُجريت لها جِراحات لهذا السبب أربع مرات بين سنتَي ١٩٢٣ و١٩٣٠ ولم تتراجع. وفي سنة ١٩٢٧م كتبت إلى أخيها برونيا: «أحيانًا تتخلى عني شجاعتي، ويُخيَّل إليَّ أني يجب أن أتوقَّف عن العمل وأعيش في الريف وأنصرف إلى زراعة الحديقة، ولكني مشدودة بألف قيد، ولست أدري متى يتسنَّى لي أن أُرتِّب الأمور على هذا الوجه، ولست أدري أيضًا هل أستطيع — حتى ولو انصرفت لتأليف الكتب العلمية — أن أعيش بدون المعمل.»20
وذات يوم مُشمِس في شهر مايو سنة ١٩٣٤م كانت في المعمل تعمل بيدها في الأنابيب والأجهزة التي كانت أخلص مُعِين لها على مدى قرابة أربعين عامًا. وفي منتصف الرابعة بعد الظهر قالت: «حرارتي مرتفعة، ولا بد لي من العودة إلى البيت.» ولم يُكتَب لها أن تُغادِر فِراشها بعد ذلك. وفي يوم ٤ من يونيو تُوفِّيت «بأنيميا خبيثة سريعة مصحوبة بحُمَّى، وتوقَّف نخاع العظام عن الاستجابة. ولعل ذلك ناجمٌ عن تأثره تأثرًا ضارًّا بسبب تراكم الإشعاعات.»21

وهكذا ماتت ماري كوري ضحية المواد ذات النشاط الإشعاعي التي اكتشفَتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤