الفصل الثاني

النساء الممارسات في العصور الوسطى

تروتولا ومدرسة سالرنو

كان تأسيس مدرسة سالرنو الطبية في جنوب إيطاليا رسميًّا على يد قسطنطين الإفريقي سنة ١٠٧٥م. غير أن مدرسةً عملية للطب كانت مُزدهرة هناك قبل ذلك على مدى مائة سنة على الأقل، وكانت هذه المدرسة مشتركة للجنسَين، وليس بها أي تمييز ديني، وفيها عدد من المُدرسات. وكانت أشهر امرأة فيها هي تروتولا، ولقبها «كبيرة الأطباء». وكان رودلف (أوراءُول) مالكورون (أو مالاكورونا) معروفًا بأنه أهم طبيب في غرب فرنسا في القرن الحادي عشر، وكان قد درَّس في مدرسة سالرنو بعض الوقت في الفترة ما بين سنة ١٠٤٠ وسنة ١٠٥٩م. وقد ذكرَ أنه لم يجد هناك إلا مُعلمًا واحدًا كفؤًا له، بحكمته في الحُجة وفي الرد على أسئلته، وهذا المُعلم امرأة، ويبدو مُؤكَّدًا أن هذه المرأة الحكيمة التي يُشير إليها هي تروتولا.

ويَرِد ذِكرها في الأدب والأسطورة تحت أسماءٍ مُتنوعة؛ تروتا، تروكتا، تروتولو، تروكولا؛ وتنويعات أخرى كثيرة تشمل كل حروف اسمها، كما يُشار إليها بأنها «زوجة بلاتريوس» و«المرأة العاقلة» و«إيروس جوليا» و«إيروسيان». وقام النُّساخ بنقل أعمالها الشهيرة في علم أمراض النساء وفن التوليد. ومع مرور الزمن يتطرق الإهمال إلى أسماء مُؤلِّفي الأعمال التي يقوم النُّساخ بنقلها. وكانت كتبها — في معظم الأحيان — تحمل اسم كاتب مسيحي هو «إيروس» أو «إيروسيان»؛ مما أدَّى إلى التساؤل: «هل تروتولا وُجِدت حقيقةً؟»

وقد راجعت الدكتورة هيردميد المخطوطات بعناية، وكذلك الطبعات التي نُشرت من أعمال تروتولا، كما تَرِد على أقلام أولئك المُؤرِّخين الذين شكُّوا في هُوية، بل ووجود، مُؤلِّفة كتاب تروتولا الكبير والصغير. وقد أخذت الدكتورة على عاتقها إثبات أن تروتولا كانت «شخصًا حقيقيًّا جدًّا في القرن الحادي عشر، وكبيرة أطبَّاء، وليست مجرد قابلة عادية، بل ولا شخصية أسطورية كما ذهب قول البعض، وأن الكتاب الذي ظل منسوبًا إليها عِدَّة قرون صحيحٌ ولم يكتبه رجل.» واستخلصت الدكتورة هيردميد من القرائن والأدلة أنه من المُمكِن أن يُقال «بدون خوف من التناقض إن كتابات تروتولا ظلَّت قرابةَ خمسة قرون بعد وفاتها مَوضع تقدير كبير، وحظِيَت بتوزيعٍ عريض، وليس هناك أي مصدر على الإطلاق يُبرِّر الشك في صحة هُويتها أو الشك في أنها مُؤلِّفة الكتب أو الأعمال المنسوبة إليها.»1
وتُوافِقها على ذلك مؤرخةٌ حديثة أخرى هي سيسيليا متلر قائلةً: «لقد خلطوا بين تروتولا وشخصياتٍ شتَّى. وقيل إنَّ الاسم إنْ هو إلا اسمٌ جمعي للقابلات عمومًا، ولكن الاتفاق الآن تامٌّ على أن تروتولا لها وجودها المستقل.»2

وليس المعروف عن تروتولا — من حيث حياتها الخاصة — كثيرًا؛ فقد كانت زوجة جون بلاتاريوس، ولها — على الأقل — ولدان، هما جون وماتيو، وأصبح عدد من ذُريتها جرَّاحين. وقد قام الزوجان ومعهما ابنهما جون بتجميع دائرة معارف طبية سُمِّيت «الموجز العملي». وجون الابن ألَّف أيضًا كتابًا عن البول اسمه «القواعد الخاصة بالبول».

ويبلغ المعروف عن عملها أكثر من ذلك؛ فقد كان يستشيرها طبيًّا الرجال والنساء. وفي علم أمراض النساء وفي القبالة كانت سابقة لزمنها بكثير، بل كانت تُجري الجِراحات القيصرية. ومن بين حالاتها مريضةٌ أُحيلت إليها من زميل في الكلية لتُجريَ لها جِراحة، وقد شخَّص هذا الزميل الحالة بأنها «فتق»، ولكن تروتولا شخَّصتها خراجًا، وبزلته وجفَّفته، ثم ردَّت المريضة إلى بيتها مُزوَّدةً بزيوتٍ طبية لإتمام شفائها.

وليس من المُرجَّح أن تروتولا شرحت جسمًا بشريًّا؛ لأن في ذلك خرقًا وتحديًا لقوانين الكنيسة؛ وبالتالي فتشخيصها قائم — إلى حدٍّ كبير — على الأعراض التي شرحتها المريضة. واستنادًا إلى ما ذكره سلفاتوري دي رنزي — مُؤلِّف الأجزاء الخمسة في تاريخ الطب الإيطالي (١٨٤٤–١٨٤٨م) وناشر مخطوطات كوبنهاجن الخاصة بمدرسة سالرنو — كانت تعليمات تروتولا إلى تلاميذها عملية: إذا ما وصَلتَ إلى المريض فسَلْه عن مكان ألمه، ثم جس نبضه وتحسَّس جلده لتعرف ما إذا كان محمومًا، وسَلْه إذا ما مرَّت به رعدة، وسَلْه عن الوقت الذي بدأ فيه الألم، وتحرَّ منه إذا كان ألمه في الليل أسوأ منه في النهار، وراقِبْ تعبير وجهه، وافحص لُيونة بطنه، وسَلْه إذا كان تَبوُّله سهلًا، وانظر بدقة إلى البول، وافحص جسمه بحثًا عن المَواطن الحسَّاسة، وإن لم تجد شيئًا فسَلْه عن الذين استشارهم من الأطباء، وماذا كان تشخيصهم، وسَلْه هل سبقت له نوبةٌ مُماثلة من الألم؛ فمتى عرفت سبب مرضه سَهُل عليك تحديد العلاج.3

وأعظم أعمال تروتولا هو كتابها عن أمراض النساء. أجل إن الكثير من مادَّته مستمَد من عِدَّة مصادر سابقة، وأنه في مواضع الأصالة لا يتجاوز المستوى العاديَّ للمعلومات الطبية في القرن الحادي عشر، بيدَ أن كتابها كان رسالةً عملية جدًّا في علم أمراض النساء وفن القبالة، بحيث عدُّوه أكبر مَرجع حُجة للطبيبات والقابلات، وظلُّوا ينسخونه ويرجعون إليه على مدى مئات السنين. ولم تكُن تروتولا دكتورًا في الطب؛ فأول درجة دكتور في الطب مُنِحت في سالرنو سنة ١١٨٠م، وللرجال فقط فيما يبدو، ولكن النساء كنَّ يَحصُلن على دبلومةٍ خاصة في القرنَين الثالث عشر والرابع عشر. وفي سنة ١٤٣٠م مُنِحت دكتوراه الطب إلى كونستنزا كالندا.

ومن بين الطبيبات في سالرنو عدد لم يترددن في التأليف في الموضوعات العلمية التي عُدَّت في القرون التالية غير لائقة بأن تَدرُسها النساء. وخير هؤلاء النساء السالونيات — كما كنَّ يدَّعين — امرأة من روما تُدعى آبيلا، وجرَّاحة تُسمى مركوريادا، وربيكا من آل جوارنا، والتي كان من بين أفراد أسرتها ملوك وعدد من أمراء الكنيسة.

هيلدجارد أوف بنجن ورئيسات أديِرة غرب أوروبا

في أوائل القرن الثاني عشر لم يكُن هناك أطبَّاء مُرخَّص لهم بمزاولة المهنة (مُجازَون)، وكان معظم أطباء ذلك العصر رهبانًا. والواقع أنه لم يكُن على الراهب إلا أن ينسخ مخطوطًا طبيًّا واحدًا كي يَنعَت نفسه بأنه طبيب. وفي مَجمع ترنت (سنة ١١٢٥م) وفي مجمع لاتران (سنة ١١٣٩م) قرَّرت الكنيسة أنه غير مسموح للرهبان أن يَفصِدوا الدم أو يقوموا بجِراحات، أما الفصد وعلاج الجروح وتجبير العظام فمتروكٌ أمرها للنساء والحلَّاقين.

وكانت هذه هي الفترة التي شهِدَت نشأة ونموَّ كثير من الزوايا والمعتزلات الخاصة بالنساء، وقامت الكثيرات من رئيسات الأديرة بأدوارٍ هامَّة في الطب؛ فهذه هلويز (١١٠١–١١٦٤م) التي يَذكُرها الناس بصفةٍ خاصة بسبب حبها لأبيلار، لعلها كانت أعلم طبيبة في فرنسا، وقد تعلَّمَت على يد أبيلار الذي كان طبيبًا وفيلسوفًا في ذات الوقت، وبعد وفاته في سنة ١١٤٢م كرَّسَت حياتها لتعليم وممارسة الطب في البرقليط، وهو معتزَل مَبني للنساء في إقليم شمبانيا.

وأسَّسَت إليزابث شوناو (١١٢٩–١١٦٥م) ديرًا للراهبات البندكتيات، قُرْب ترير في غرب ألمانيا على نهر الموزيل قرب حدود اللوكسمبرج. ومع أنها كانت تُلقَّب بكبيرة الأطباء في سنة ١١٥٧م، إلا أن ذِكرها لم يُخلَّد بسبب مهارتها الطبية وعطفها على الفقراء والمرضى، وإنما بالأخص بسبب تنبؤاتها ورؤياها.

وهيراد اللندسبرجية (المتوفَّاة ١١٩٥م) كانت رئيسة دير هومنبرج في الألزاس، وكان الدير يقبع فوق قمة القِديسة أوديليا في جبال الفوج، وتُحيط به قلاع ومنازل دينية أخرى. وفي سنة ١١٨٧م شيَّدت هيراد مستشفًى كبيرًا فوق أراضي ديرها، وصارت كبيرة أطبَّائه.

وهناك رئيسات أديرة مشهورات في القرن الثاني عشر، منهن جرترود الروبرسدوفية، وجرترود كونتسة بلاتين أوف نيفيل، وليوبا الفولدوية، وأشهرهن جميعًا هيلدجارد أوف بنجن (١٠٩٨–١١٨٠م) في إقليم الراين الألماني. وقد وُلِدت هيلدجارد من أبوَين نبيلين في بيكلهايم على نهر ناهي قُرْب سبونهايم، جنوبي غربي ماينز، ووُجِّهت منذ حداثتها إلى الدين كي تترهب، فقضت كل حياتها تقريبًا بين أسوار الديور البندكتية. وفي سن الثامنة أرسلوها إلى قُرْب «ديسيبودنبرج» لتَدرُس على يد رئيسة الدير، وهي عمتها يوتا. وفي سن الثلاثين خلَفَت عمتها في رئاسة الدير.

وكانت هيلدجارد منذ طفولتها الباكرة تَنْتابها أحلام يقظة غريبة. ويروي الطبيب والمؤرخ الإنجليزي تشارلز سنجر (١٨٧٦–١٩٤٥م) عنها أنها قالت: «هذه الرؤى التي رأيتُها لم أشهدها في منام، ولا في حُلم، ولا في حالة جنون، ولا بعينيَّ الجسديَّتَين، ولا بسمعي البدني، ولا في أماكن خفيَّة، بل وأنا مُتيقِّظة مُتنبِهة، بعينَي الفكر وبالسمع الباطن، أدركتها في مكانٍ مكشوف وبإرادة الله. أما كيف تم هذا فأمرٌ عسير حقًّا على الجسد البشري أن يُفصِح عنه أو يُفسِّره.»4
ويعتقد الدكتور لودر برنتون، وهو طبيب من العهد الفيكتوري، أن هيلدجارد أنثى هستيرية، ومن الجائز أن هذا هو أساس رؤاها، ومع ذلك فهي كلها رؤًى ذات تَشابُه واضح، وتُصوِّر الهالة البصرية المُعتادة للمُصابين بالصداع النِّصفي، وهو عبارة عن نُقطٍ مُضيئة فوق خلفية لامعة بها خطوط تقوية مُتعرجة.5

ولكن سواء أكانت تُعاني من صداعٍ نِصفي أم نوبات صرع، أو من تقلصات عضلية، أو من هستيريا كما ذهب كثيرٌ من الثقات، أو كانت رؤياها كُشوفًا حقيقية، فإن رؤاها كانت واقعية جدًّا بالنسبة لها.

ولم تكُن هيلدجارد موهوبةً ذات عقل نشط وذهن كفء فحَسْب، بل كانت أيضًا ذات طاقة كبيرة ومَقدرة أدبية عظيمة، وكتاباتها الواسعة المدى تنمُّ على أنشطتها المتنوعة وقدرتها الخارقة على التحليق الخيالي. ويُقال إنها ألَّفَت ١٤ عملًا، منها ما يقع في عِدَّة مُجلَّدات؛ رسالات طبية ونفسانية، وأعمالًا في التعليم الديني، وتقارير عن رؤاها وتنبؤاتها. وقد تنبَّأت سلفًا بسقوط الإمبراطورية الرومانية المُقدَّسة، وكان ذلك قبل حدوثه بسبعة قرون، وتنبَّأت بإصلاح الكنيسة الذي سيَتمُّ بعد وفاتها بأربعمائة سنة، وذكرت أن سبب ذلك — إلى حدٍّ ما — هو فساد الإكليروس.

وفي كتاباتها الطبية والعملية — التي وصفتها الدكتورة هيردميد بأنها أهم إسهامات لاتينية علمية في أوروبا في القرون الوسطى —6 بشَّرَت هيلدجارد بمُكتشَفاتٍ تالية عن الدورة الدموية، وأسباب العدوى والتسمم الذاتي، وأفعال الأعصاب التي مصدرها المخ وكيمياء الدم، ولها فضل رسالتَين طبيتَين على الأقل؛ الكتاب الطبي البسيط، والكتاب الطبي المركب؛ ورسالة صغيرة في الطب الإكلينيكي «الأسباب والعلاجات». والكتاب البسيط يتحدث عن الأعشاب والنباتات والمعادن والأحجار الكريمة ومواد الغذاء. وينسب مؤرخٌ طبي جليل من بوميرانيا — هو كيرت بوليكارب يواقيم شبرنجل (١٧٦٦–١٨٣٣م) — إلى هيلدجارد استخدام السرخس لمقاومة كل أعمال السحر، واستخدام الرنجة في علاج الكحة، واستعمال نبات البيقية لعلاج الثآليل.7

وفي سنة ١١٤٧م شيَّدت هيلدجارد وبعض راهباتها ديرًا جديدًا في «روبرتسبرج» على التِّلال المُطلة على نهر ناهي، في الضفة المقابلة لبلدةٍ هامَّة في العصور الوسطى هي بنجن، حيث يلتقي نهر ناهي بنهر الراين. وكان الراين هو الطريق الرئيسي لألمانيا الغربية، فكان مَوقع هيلدجارد مُلائمًا لمراقبة حركة المرور فيه وأنشطة الناس. وكانت تعرف حوض «ناهي» و«جلان» معرفةً وثيقة، ورحلت شمالًا حتى كولونيا، وشرقًا حتى فرنكفورت على نهر ماين، وجنوبًا حتى روتنبرج على التاوير، وكانت رِحلاتها بدافع من خدمة الدين، ولكن جهودها للإنعاش الروحي كثيرًا ما كانت مُوجَّهة ضد طائفة «كاتاري» المُضطهَدة بقسوة، وهم جماعة هراطقة البيجنزيين انتشرت نِحلتهم عبر إقليم الراين في القرن الثاني عشر. وكانت حماستها الدينية المُفرِطة تُقابِلها من جهةٍ أخرى أنها في أثناء تلك الرِّحلات عينها كانت تُعلِّم الطب والثيولوجيا (اللاهوت)، وتُقدِّم النصح إلى رئيسات الديور الكبيرات والصغيرات، وإلى الراهبات.

وكانت تركب الحِصان في أسفارها، وتصحبها كوكبةٌ من الراهبات والخادمات. وكان ذلك في القرن الثاني عشر وفي ظروفٍ شاقَّة خشِنة؛ مما يُعَد عملًا مُجهِدًا جدًّا لأي امرأة، ولكنها ظلَّت تقوم بهذه الرِّحلات إلى أن قاربَت الثمانين، ومعظم مُعاصريها لم يُعمَّروا إلى نصف هذه المدة.

وما لم تستطع هيلدجارد أن تُحقِّقه بشخصها وصَلت إليه بقلمها؛ فكانت على اتصالٍ مستمر بمايانس؛ مَقر كرسي كبير الأساقفة الذي تقع «بنجن» داخل دائرة سلطانه. كما كتبت بإفاضة إلى رجال الكنيسة في مدن بكل أنحاء ألمانيا والأراضي المُنخفضة وأوروبا الوسطى، ومراسلاتها مع القديس برنار أوف كليرفو — الذي كان حينذاك يُنادي بالحروب الصليبية المعروفة بِاسمه — ومع أربعة بابوات تربَّعوا على الكرسي الرسولي في مدة حياتها الطويلة — وهم أيجنيوس الثالث، وأنسطاسيوس الرابع، وأدريان الرابع، وإسكندر الثالث. ومع الإمبراطورَين كونراد وفردريك ذي اللحية الحمراء، جعلتها وسط التيَّار الرئيسي للتاريخ الأوروبي. وكانت رسائلها «تُملي على البابوات وعلى الأباطرة والملوك ما ينبغي عليهم عمله».8 وكانت لها اتصالات بهنري الثاني ملك إنجلترا وزوجته إليانور أوف أكويتان، وهي مطلقة لويس السابع ملك فرنسا.
وقد ماتت هيلدجارد في ١٧ سبتمبر سنة ١١٨٠ وهي في الثانية والثمانين من عمرها. ومع أن لقب قِديسة أُلحقَ بِاسمها فيما بعدُ إلا أنها في الواقع لم تُطوَّب رسميًّا ضِمن قائمة القديسين. وقد جرَت محاولات لرفعها إلى مصافِّهم في عهد جريجوري التاسع (١٢٣٧م) وفي عهد إنوسنت الرابع (١٢٤٣م) وفي عهد يوحنا الثاني والعشرين (١٣١٧م)، ولكن جميع تلك المساعي أخفقت. وكما قال الدكتور سنجر: «لقد زعموا لها معجزات شفاء وأعمالًا أخرى عجيبة، ولكنها لم تكُن معجزات كافية أو كانت إثباتاتها غير كافية. ومن تتبَّعوا خط حياتها بنزاهة في وثائقها سيُوافِقون على قرار الكنيسة. لقد كانت روحها نارية وتَنبُّئية ونبيلة من وجهاتٍ كثيرة، ولكنها لم تكُن قِديسة بأي مفهوم لهذه الكلمة.»9

القرن الثالث عشر وحتى عصر النهضة

ولم تشهد السنوات التي أعقبت وفاة هيلدجارد أوف بنجن نساءً طبيباتٍ كاتبات ومُمارسات في مثل منزلتها أو قدرها، ولا مُعلمات طب يُضارِعن تروتولا، ولكن ليس معنى هذا أن النساء لم يعملن بنشاط في الطب والجِراحة.

وبعض الأسماء التي انحدرت إلينا قد تبدو دليلًا على أن نساءً من سلالةٍ ملَكية كان لهن اشتغالٌ جِدِّي بالطب، وكثيرات منهن أنشأن مستشفياتٍ عمِلن فيها أيضًا، ومن بين هؤلاء بلانش القشتالية والدة لويس التاسع ملك فرنسا، وبياتريس السافوية وهي حماته، ومرجريت البرغونية ملِكة صقلية؛ وابنة بلانش وأختان لبلانش، هما أوراكا ملِكة البرتغال، وبرنجاريا ملِكة قشتالة؛ ثم اليصابات الأرغونية التي خلَفت أوراكا على عرش البرتغال، والملِكة هدويج ملكة سيليسيا البولندية وزوجة ابنها الأميرة آنا البوهيمية.

وفي إيطاليا، وحيث لم تُغلَق الجامعات قط في وجوه النساء، كانت سالرنو وبولونيا تُخرِّجان باستمرارٍ النساء الممارسات للطب. وقد يكون الدافع إلى هذا هو المرسوم الذي أصدره شارل دوق كالابريا الذي ينصُّ على أن تقوم نساءٌ مُمارسات بعلاج النساء من جميع الأمراض لا في حالات الوضع فحسب؛ وبذلك أوجد الحاجة إلى جرَّاحاتٍ مُدرَّبات.

وقد اكتشف جيمس والش — وهو طبيب وعالمٌ أمريكي في العشرينيات من هذا القرن — أن عالم التشريح موندينو دي لوتزي (١٢٧٠–١٣٢٦م) كان يُحلُّ مُساعِدته ألسندرا جيلياني (١٣٠٧–١٣٢٦م) في منزلةٍ عظيمة من التقدير؛ «فهي قادرة على أن تُنظِّف بمهارةٍ قُصوى أصغر شريان أو وريد، وكذلك كل تفريعات الأوعية الدموية، من غير أن تُمزِّقها أو تشقَّها، ثم تعدُّها للبيان العملي بأن تملأها بالسوائل المُتعددة الألوان، التي تتجمد بعد أن تنساب إلى داخل العروق من غير أن تُدمر هذه الأوعية، وهي قادرة على أن تُصور هذه الأوعية نفسها بكل تشعُّباتها الدقيقة على أكمل وجه، وتُلونها تلوينًا طبيعيًّا جدًّا بحيث إنها تُعِين الأستاذ على حُسنِ الشرح والتعليم، وتجلب له عظيم الشهرة وجميل التقدير.»10

وفي سنة ١٣٩٠ خلَفَت دوروثيا بوكي والدها بصفة أستاذة للطب والفلسفة الأخلاقية في بولونيا، وعلَّمَت الطلبة هناك على مدى أربعين سنة.

وواصلت الراهبات أعمالهن الطبية؛ فهذه هي القِديسة كاترين من سينيا (المتوفَّاة سنة ١٣٨٠م)، وهي ابنة دبَّاغ جلود، كرَّسَت حياتها للعناية بالمرضى، ولا سيَّما المُصابين منهم بالطاعون والأوبئة المُعدية. وفي القرن الخامس عشر أكسبَت أعمال طبيبتَين إيطاليتين صاحبتَيهما لقب قِديسة، وهما كاترين البولونية (١٤٠٣–١٤٦٣م) رئيسة دير راهبات شارل المسكين، التي علَّمت الراهبات الطب كي يُعالِجن مرضاهن ولا يكتفين بتمريضهم، وشمِل تعليمهن تأويل البول والنبض وتشخيص المرض، وكيفية التعرف على بوادر الموت وعلاماته، وفي الحالات المُميتة كن يُصلِّين مع مرضاهن. والأخرى هي كاترين الجنوية، صُغرى خمسة أطفال في أسرة فيسكي النبيلة، وكانت معروفة بشدة ولائها للمرضى. وأثناء وباء الطاعون لم تتردد في الانتقال لتعيش وسط المُصابين وعالَجتهم. وأي مناقشة للقِديسات الطبيبات لا بد أن تتضمَّن اسم بريدجيت الاسكندنافية (١٣٠٤–١٣٧٣م) مُؤسِّسة الرهبنة البريدجيتية، ولعلها عالقة بالأذهان بسبب دير صهيون الذي أقامه ووهبه هنري الخامس سنة ١٤١٥م، وصار أفضل مدرسة لتعليم الطب في إنجلترا. وكانت تعمل في إنجلترا في ذلك الحين امرأةٌ أخرى، هي سيسيليا الأكسفوردية التي عمِلَت جرَّاحة للبلاط الملكي لدى فيليبا زوجة إدوارد الثالث.

وفي أوائل القرن الخامس التمست جون أرملة «وليم أوف لي» — الذي قُتِل في حملة هنري الرابع ضد «أوين جلندور أوف ويلز» — من الملك أن يأذن لها في كسب معاشها من ممارسة الطب، «عسى أن يَرُوق سُموَّكم وفخامتكم السامية أن تمنحوا للمذكورة نزيلة ملجأ المساكين خطابًا ممهورًا بخاتمكم الشريف، يسمح لها بالتجول في القُطر لممارسة فنها، بحيث لا يعترض سبيلَها أو يُزعجها أحدٌ من الناس الذين يزورونها بسبب فنها ذاك. وأناشدكم ذلك بِاسم الله وعلى سبيل الإحسان.»11 ولسنا ندري هل أُجيبت إلى مُلتمَسها هذا أم لا، ولكن في سنة ١٤٢١م تَقدَّم أطبَّاء إنجلترا بمُلتمَس إلى البرلمان، يطلبون ألا يُسمَح لأي شخص بمزاولة مهنة الطب ما لم يكُن حاصلًا على درجةٍ علمية في الطب من إحدى الجامعات، وألا يُسمَح لأي امرأة بممارسة هذه المهنة تحت أي ظروف كانت.

وفي فرنسا مارسَت النساء فن العلاج العام بالإضافة إلى القبالة؛ فهذا لويس التاسع كانت تصحبه في الحملة الصليبية السادسة (١٢٤٨–١٢٥٤م) امرأةٌ طبيبة، وحوالَي نهاية القرن الثالث عشر كانت قائمة المُمارسين في باريس تضمُّ ٣٨ طبيبًا، من بينهم أسماء ثماني نساء.

وفي سنة ١٣١١ أصدر فيليب العادل مرسومًا يُحرِّم على أي جرَّاح — ذكرًا كان أو أنثى، جرَّاحًا أو جرَّاحة — أن يُمارس مهنة في باريس ما لم يكُن قد أدَّى امتحانًا دقيقًا وأجازه أساتذة الجِراحة العُدول. ويبدو أن هذا المرسوم جعل النساء على قدم المساواة مع الرجال، ولكن هذه المساواة النظرية لم تَحُل عمليًّا دون التمييز الجنسي ضد النساء عند منح التراخيص. وفيما بين سنة ١٣١٢ وسنة ١٣٢٧م حرَّم رئيس دير القديسة جنفييف الفرنسي عددًا من النساء من الكنيسة؛ لأنهن مارَسن الطب بدون ترخيص، غير أن إحداهن — وهي كلاريس الروتوماجية — تحدَّت أمر الحرمان وواصلت الممارسة.

وفي سنة ١٣٢٢م اقتِيدَت جاكوبا فيليس — وهي امرأة من عائلةٍ طيبة — أمام محكمة باريس على يد عميد وأساتذة كلية الطب، متَّهَمةً بأنها مارست الطب في المدينة والضواحي، خلافًا للأمر القديم الذي يُحرِّم على أي شخص لم يدرس ويحصل على شهادة أستاذ في الطب من الكلية معتمدة من مُديرها، وكان نص الاتهام كما يلي:

إن جاكوبا المذكورة:
  • (١)

    زارت كثيرين من المرضى المُصابين بأمراضٍ شديدة في باريس وضواحيها، وأنها فحصت بولهم ولمستهم وجسَّت نبضهم وأطرافهم وأجسامهم.

  • (٢)

    وأنها بعد هذا الفحص كانت تقول لأولئك الناس: «سأشفيكم بإذن الله إذا وثِقتم بي.» وتَعقِد معهم اتفاقًا وتتقاضى منهم نقودًا.

  • (٣)

    وأنها بعد ذلك الاتفاق المعقود بين المذكورة وبين أولئك الناس المرضى أو أصدقائهم بأنها ستشفيهم من مرضهم الباطني أو جِراحهم الخارجية، كانت المذكورة آنفًا تزورهم عِدَّة مرَّات بانتظام واستمرار فاحصةً بولهم ثم تجسُّ وتتحسَّس أطرافهم.

  • (٤)

    وبعد ذلك كانت المذكورة تُعطي المذكورين أشربة ومُقوِّيات للبنية ومُليِّنات ومُهضِّمات سائلة وغير سائلة وعطريات وجرعات، فكانوا يشربونها أمامها وبِناءً على أوامرها، دأبت على ممارسة ذلك مع أنها غير مُجازة من رئيس جامعة باريس وعميد الأساتذة.

  • (٥)

    وأنها كثيرًا ما نُبِّهت وحُذِّرت ومُنِعت.

  • (٦)
    ولكنها مضت في أعمالها كالسابق.12

وفي محاولة لكسب القضية استدعى الاتهام ثمانية رجال ونساء ليشهدوا بأن جاكوبا استخدمت فعلًا وسائل التشخيص والعلاج المُبيَّنة في الاتهام، ولكن الشهود مضَوا يقولون إنها طبيبةٌ عاقلة ورشيدة، وإنها عالَجتهم بنجاح، بل وأضاف بضعة منهم أن أطباءً ذكروا أسماءهم قد نبذوهم يأسًا من حالاتهم؛ الأمر الذي أحرج المُشتغلين بالمهنة ككلٍّ وكلية الطب بوجهٍ خاص، وشهِد الجميع بأن جاكوبا لم تكُن تَعقِد أي اتفاقات مالية مُقدَّمًا، وأن المرضى كانوا ينقدونها الأجر الذي يرَونه مُناسبًا بعد أن تشفيَهم.

ولقد كان موضع اعتراض الأطباء — في الحقيقة — أنها تستخدم كل الأساليب الأصولية في التشخيص والعلاج.

وفي خطبة ردِّها على الاتهام، قالت جاكوبا إن التشريع الذي وجَّهوا إليها الاتهام على أساسه كان المقصود منه قمع المُغفَّلين الجاهلين بفن الطب، وطالبت بأن تُحاكَم بناءً على نتائج أعمالها، ثم مضت تتحدث عن الاحتياج العام إلى طبيبات:
«إنه من الأفضل والأليَق أن تقوم امرأةٌ رشيدة تعلَّمت الفن بزيارة المرأة المريضة لتسألها وتستوضحها عما يتعلق بطبيعتها الخاصة وأعضاء جسمها الخفيَّة، ذلك أفضل وأليَق من أن يقوم به أحد من الرجال؛ إذ ليس مشروعًا له أن يرى ويتفحص هذه الأعضاء، ولا أن يتحسَّس بيدَيه ثديَيها وبطنها وقدمَيها وهلمَّ جرًّا؛ فإن الرجل ينبغي أن يتحاشى بل ويفرَّ من الاطلاع على خفايا النساء وأسرارهن وصحبتهن. وكانت المرأة قبل اليوم أهوَن عليها أن تموت من أن تكشف أسرار أنوثتها لرجل؛ لتَعلُّق ذلك بشرف جنسها الأنثوي ولما يُسبِّبه لها من الخزي، وكانت هذه الأسباب وراء هلاك نساء كثيرات. وكذلك هلك رجالٌ كثيرون بسبب عِللهم؛ لأنهم لم يرضَوا أن يزورهم الأطباء حتى لا يطَّلعوا على أعضائهم الخفيَّة. وهذه كلها أمورٌ معروفة للعام والخاص وتناولتها الشائعات؛ فالعميد والأساتذة لا يُمكِن أن يُنكِروها.»13
وتجاهَل الردُّ الذي قدَّمه الاتهام كلامها عن الطبيبات والحاجة إليهن، وركَّز كل قوته على جاكوبا نفسها، فقالوا إنها ما دامت لم تحصل على إجازة الكلية فلا بد أن تكون جاهلة تمامًا بالطب، أما بخصوص من شفَتهم فإنهم واثقون من أن رجلًا مُجازًا في الفن المذكور أقدر على الشفاء من مثل هذه المرأة. «وقالوا أيضًا إنه ما دامت النساء ممنوعات من أن يَكنَّ مُحاميات أو شاهدات في القضايا الجنائية، فمن الواجب منعهن من ممارسة الطب؛ لأن قتل إنسان أسوأ من خسران قضية.»14

وكانت النتيجة حكمًا مُسبقًا، فمُنِعت جاكوبا من ممارسة مهنة العلاج، ولم تكُن بالطبع الوحيدة التي لقيَت هذه المعاملة من كلية الطب.

وفي سنة ١٣٥٢م أصدر ملك فرنسا جون الطيب قانون ممارسة الطب على يد نساء مؤهلات لذلك خصوصًا، ولكن الجرَّاح الكبير «جي دي شولياك» (١٣٠٠–١٣٧٥م) ظلَّ مُتحيزًا لمنع النساء بسبب جنسهن، وأخيرًا وافق على السماح للنساء المُدرَّبات تدريبًا لائقًا بالفصد وإعطاء الأعشاب وتجهيز الأشربة وتجبير الكسور والقيام بالقبالة.

وفي أجزاءٍ أخرى من أوروبا كانت النساء نشيطات؛ ففي سنة ١٣٩٤م أُجيزت خمس عشرة امرأة لممارسة الطب في فرنكفورت الواقعة على الماين، ومن بينهن جرَّاحةٌ مرموقة هي ابنة هانز در فولف الذي قام بتعليمها، وحصلت على عِدَّة أنواط لمعالجة الجرحى. وكذلك مرجريت النابولية، وهي أخصائية في العيون، وقد صارت الطبيبة الخاصة للملك ليدسلاوس سنة ١٤١٤م. وفي سنة ١٤٠٦م عُيِّن الإمبراطور الروماني المُقدَّس سيجسموند نساءً بمُرتَّبات لعلاج الفقراء؛ لأن الأطباء الرجال رفضوا الذَّهاب إلى بيوت أولئك المرضى أو علاجهم بدون مُقابل.

وكانت هناك بضع نساء مُمارِسات يهوديات، برغم الوضع الحرِج لليهود في القرون الوسطى. وكان المعتقَد أن لليهوديات درايةً خاصة ومهارات طبية واستعدادات لا يوجد نظيرها لدى الذكور. ومن المعروف أنه حوالَي سنة ١٣٢٦م كانت سارة السانجيلية ترأس مدرسةً طبية خاصة في مدينة مونبلييه الجامعية بجنوب فرنسا. وكانت امرأةٌ تُدعى زولين تُمارِس الطب في فرنكفورت. في سنة ١٤١٩م منح الأسقف جوهان الثاني امرأةً أخرى اسمها سارة ترخيصها بمزاولة الطب في فيرزبرج. وكانت جاكوبا تُنعَت أحيانًا باليهودية. ومن بين معاصراتها اللواتي حُوكِمن امرأةٌ تُدعى بيلوتا.

ولم يتم قَبول النساء في المهنة الطبية إلا في المستقبل البعيد، وظلَّت حُجَج جاكوبا التي قدَّمتها في محاكمتها مُتقدمةً على زمانها بعد ستمائة سنة من ذلك التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤