الفصل الرابع

الدكتورة باري

إن الصعاب التي واجهت امرأة القرن ١٩ المُصمِّمة على تحصيل تعليم طبي والوصول إلى مكانةٍ مهنية، والمدى الذي كان عليها أن تذهب إليه في كفاحها في ذلك السبيل، إنما تُصوِّره جيدًا وتُمثِّله حالة الدكتور جيمس باري (١٧٩٧–١٨٦٥م).

فعندما تُوفي الدكتور باري تبيَّن من تشريح الجثة أن «سيادته» لم يكُن امرأة فحسب، بل وكان أيضًا أمًّا لطفلٍ واحد على الأقل. وكان تَخفِّيها — الذي استمرَّ أكثر من نصف قرن — أمرًا يصعب تصديقه؛ فلا بد أنها كانت مُمثلةً بارعة؛ لأن الدكتور جيمس لم يَخدُم كمُفتش عام للجيش البريطاني من ١٨٥٦–١٨٦٥م فحسب، بل صار أيضًا نائب رئيس القسم الطبي بالجيش.

وتاريخ جيمس باري (واسمها الأصلي غير معروف) قبل ذلك اليوم من سنة ١٨١٢م الذي برزت فيه وفي يدها دبلوم من جامعة إدنبره يَلفُّه الغموض. وكما عبَّر عن ذلك الدكتور ألفريد سوين تيلور: «متى وأين وكيف قضى باري دراسته الطبية، ذلك أمرٌ غير معروف، ولكنه تمكَّن من الحصول على دبلوم يُفيد أنه دكتور في الطب من إدنبره وهو في الخامسة عشرة من عمره فقط.»1

ولكن هذه الطبيبة كانت حتمًا ذات حسَب ونشأة؛ فما إن تبيَّن جنس الدكتور باري بعد وفاته على حقيقته حتى نشِطَت طواحين الشائعات تطحن بكل نشاط، وأُشيعت الأقوال بأنها ابنةٌ غير شرعية للأمير الوصي على العرش من سيدةٍ اسكتلندية معروفة، وهذا يتَّفق وسُمعة من صار — فيما بعد — الملك جورج الرابع. ولما كانت الأم المُجلَّلة بالعار مُدرِكةً أن هذه الأنثى التي لا حاميَ لها ستُضطرُّ إلى شق طريقها في عالم الرجال؛ لذا قرَّرت أن تُزودها بكل مميزات الرجال.

وهذا لا يقتصر على الزي والتعليم العام، بل امتدَّ أيضًا إلى إعدادها لدخول مدرسة طبية. ويروج الدكتور «لافجوي» هذه الصورة بافتراض أن الدكتور باري «لعلها تنتمي إلى ذلك الطِّراز العُذري من النساء الذي يتمثل جيدًا في مهنة الطب، وهذا النمط من النساء يتقزز من العلاقات السوية في الحياة، ويَهرُب إلى مجالاتٍ شتَّى من الخدمة.»2
ومهما يكن من أمر خلفية الدكتور باري ودوافعها، فالذي يبدو واضحًا أن الناس تقبَّلوها على النحو الذي قدَّمت نفسها به إليهم، وقد وصفها الجنرال الإنجليزي جورج توماس، إيرل أليمول كما بدت له في سنة ١٨١٩م، بهذه الكلمات: «كان ثَمة شخص في ذلك الوقت في رأس الرجاء الصالح له تصرفاتٌ مُتطرفة استرعت انتباه الجميع، وهو الدكتور جيمس باري، وهو جرَّاح الحامية والمُستشار الطبي للحاكم. وقد وصفه لي لورد تشارلز (سومرست) بأنه أبرع الأطباء وأشد الرجال تمردًا وتقلبًا … وبعد ذلك بقليلٍ جلست بجواره على العشاء في أحد مطاعم الفرقة … فكان أسلوبه في المحادثة أرقى مما يُسمع عادةً على موائد الجيش في تلك الأيام التي كانت امتحاناتها غير تنافسية.»3
وكان تَرقِّي الدكتور باري في الجيش لافتًا للنظر. يقول الدكتور برانتون: «في الواقع أن تَرقِّيَها كان أشبه بقفزات القنغر، فكانت أحيانًا تقفز درجتَين في المرة الواحدة.»4 وفي سنة ١٨٢٧م كانت قد ارتفعت إلى رتبة رائد جرَّاح.

كانت تتقلد سيفًا وتستخدم المِبضع ببراعة، وتنقَّلت في أصقاعٍ كثيرة من الكرة الأرضية. وكانت أساليبها في الجِراحة تدل على تمكن، وكسبت لها استحسان أندادِها. ومع أنها لم تَظفر بأي نوط أو لقب شرف من أي نوع، إلا أن شجاعتها — ولا سما في «واترلو» و «بلاكلافا » — استحقَّت التسجيل والتنويه. وشاركت في الخدمة العسكرية في أوروبا وجنوب أفريقيا وكندا وجمايكا والهند، ولعلها كانت في سكوتاري (بتركيا) سنة ١٨٥٤ في الوقت الذي كانت فيه هناك فلورانس نايتنجيل.

ولا شك أن الروغان من نظرات الجيش النفَّاذة في الميدان عملٌ خارق. وقد قضت الدكتورة باري أكثر من خمسين سنة عضوًا في هيئة ضباط الجيش ممتازة من غير أن يتضح سرها، رغم قِصر قامتها ونحافة بنيتها وصوتها الحاد الذي يميل للصرير، مما كان يثير عليها سخرية زملائها الضباط. ولكن الدكتورة باري تدربت حتى صارت تحذق إصابة الهدف، وكل من عرَّض في استخفافٍ بذقنها الأجرد وميلها للعزلة وشدة عنايتها بزيها أو رفضها شرب الكحول بأي صورة، كان يتعرض لدعوتها إياه للمبارزة بالمسدسات. وفي إحدى المناسبات التي وصلت إلينا أنباؤها ضاقت بمضايقات أو مغايظات أحد الضباط، فدعته للمبارزة وأصابته في رئته، وقد جرح الدكتور باري نفسه في مبارزة بعد ذلك.

كانت سريعةَ الغضب، مما أدى إلى اشتباكها في عدد من المشاجرات. وكثيرًا ما وُصفت بعدم الطاعة للرؤساء، وفي مناسبات كثيرة أعيدت إلى بيتها تحت التحفظ، کي تواجه إجراءات المحاكمات العسكرية، بيد أنها كانت تُعاد للخدمة بدون عقاب. والواقع أنه لم يكن من غير المألوف لها أن تحصل على ترقية في الطريق. وهذه المحاباة تغدو مفهومة عندما تدرك أن شجاعتها لم تكن موضع شك، وكذلك ولاؤها للواجب وبراعتها كطبيب.

وقد رفضت الدكتور باري العلاج الطبي في مرضها الأخير. ولما كشف فحص جثتها أنها امرأة، استبدَّ الغيظ والغضب بالرسميين في وزارة الحرب وفي قيادة القسم الطبي المشهورة بمحافظتها، وعجزوا عن تجاهل الحقيقة.

فلا جدوى من الاحتجاج بأنها كانت رجلًا بلا شك، لأن سجلات الجيش تقول ذلك، ولأن شعرها كان قصيرًا، وكانت تلبس بنطلونًا، ولما كان نبش رماد الموتى مما لا فائدة فيه، فقد قررت السلطات أن الدكتور باري رجل، وذكروا ذلك في شهادة الوفاة، وعلى صحيفة الرخام فوق قبرها في كنسال جرين بلندن.

وذهب بعض الناس إلى أن هؤلاء الرجال في وزارة الحرب كانوا يعرفون حقيقتها طيلة الوقت، وأن هذا هو السر في محاباتها. ومهما يكن من شيء فقد اختفت كل مدوناتها بصورة غامضة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤