الفصل السادس

إليزابث بلاكويل

في أكتوبر سنة ١٨٤٧م تلقَّى الدكتور تشارلز أ. لي، عميد كلية جنيفا الطبية الواقعة في شمال ولاية نيويورك، رسالة من الدكتور جوزيف وارنجتن بفيلادلفيا تُوصي بسيدةٍ شابَّة اسمها إليزابث بلاكويل، كانت تدرس دراسةً خاصة في عيادته، وكانت هذه السيدة قد كتبت إلى معظم المدارس الطبية الكبرى طلبات لقبولها بها فرفضتها جميعًا. وقال الدكتور وارنجتن إنه «بما أن جنيفا في الأرياف، فعسى أن تكون أكثر تحررًا من التحامل من مدارس المدن الكبرى، ولعلها تنظر في تسجيل طالبة بها.»1

والعميد لي سيدٌ ريفي مُتقدم في السن عصبي المزاج؛ لذلك حمل مشكلته إلى رئيس الجامعة بنيامين هيل الذي كان ضد الاقتراح، ولكنه لم يشَأ أن يرفض رجاء الدكتور وارنجتن بطريقٍ مباشر؛ فالدكتور وارنجتن من طائفة الأصحاب «الكويكر». وقد قال الدكتور هيل للدكتور لي إن الكويكر يتوقعون من الآخرين أن يُشاركوهم آراءهم التحرُّرية، ولكنه وجد له مَخرجًا؛ فالطلاب معظمهم من فِتيان الريف القادمين من القُرى والمزارع المُجاورة، وفيهم طِيبة قلب إلا أنهم ميَّالون للفظاظة، فلن يُطيقوا وجود أنثى بين صفوفهم؛ فالأوفق أن يُترَك القرار للطلبة ثم يُخطَر الدكتور وارنجتن (بكل أسف) بقرارهم.

وطرح الدكتور لي الموضوع على هيئة الطلبة، وبيَّن لهم أن القرار بالقبول يجب أن يَصدُر بالإجماع، وطلب منهم الإسراع بالاقتراع. وكانت ثقته بنتيجة الاقتراع تكاد تُضارع ثقة الدكتور هيل، ولكنهما لم يُدخِلا في حسابهما طريقة تفكير أبناء الفلَّاحين والتُّجار والميكانيكيين هؤلاء، الذين كانوا يدرسون بجِدٍّ أسابيع كثيرة مع قليل جدًّا من الراحة. وبدا الاقتراح مُبشرًا بإثارة كافية لجذب اهتمامهم، وتعاقبت الخُطب، بعضها جادٌّ وبعضها ساخر، وبعضها هازل؛ فاستمرَّ التداول حتى المساء، وكانت النتيجة قرارًا إجماعيًّا بأن الآنسة إليزابث بلاكويل يجب أن تُقبَل زميلةً لهم في الدراسة.

وصُعِق العميد، فلم يَخطُر بباله أن هيئة الطلبة قد ترى في قبول طالبة أنثى تسريةً لطيفة، ولا خطر لإليزابث بلاكويل خاطر كهذا عندما تلقَّت نسخة من قرار الترحيب الذي نصه:
«نُقرر: أن أحد مبادئ الحكومة الجمهورية أن يكون التعليم شاملًا للجنسين كليهما، وأن باب كل فرع من فروع التعليم ينبغي أن يكون مفتوحًا أمام الجميع، وأن طلب إليزابث بلاكويل بأن تغدوَ عضوًا في فرقتنا يُقابَل بموافقتنا التامة. وإننا إذ نُبْدي هذا الترحيب الإجماعيَّ نتعهد بأنه لن يكون في سلوكنا شيءٌ يجعلها تندم على القدوم إلى هذه المؤسسة.»2

الأيام الأولى

وُلِدت إليزابث بلاكويل (١٨٢١–١٩١٠م) في بريستول بإنجلترا، وهي ابنة صمويل بلاكويل. ولم يكُن مستر بلاكويل عضوًا في كنيسة إنجلترا فحسب، بل كان مُنشقًّا عاليَ الصوت على الكنيسة الإنجليكانية. وفي الثلاثينيات من القرن ١٩ كانت المدارس الجيدة الوحيدة هي التي تُديرها الكنيسة بإنجلترا، وكان أبناء المُنشقين عليها ممنوعين من دخولها، وكان مستر بلاكويل يريد لأطفاله — بنين وبنات على السواء — أن يحظَوا بتعليمٍ جيد جدًّا، فتوصَّل إلى ذلك باستخدام المُؤدِّبين، ولكن مستر بلاكويل كان — كالكثيرين ممن هم على شاكلته — يرنو بشوق إلى العالم الجديد وما فيه من حرية التفكير وغير ذلك من المُثل الديمقراطية. وفي سنة ١٨٣٢م دمَّرت النيران معمل مستر بلاكويل لتكرير السكر في بريستول، فكانت هذه هي الفرصة التي ينتظرها، وقرَّر أن يبنيَ مصنعه الجديد في أمريكا.

وقد وجد آل بلاكويل في القُطر الجديد أصدقاء من بين الناس الذين يُشاركونهم أفكارهم عن مشكلات زمنهم؛ أي من أنصار إلغاء الرِّق وزعماء حركة المطالبة بحقوق المرأة. وفي سنة ١٨٣٨م انتقلوا إلى سنسناتي، وهي يومئذٍ مدينةٌ صغيرة، ولكنها مُزدهرة على نهر أوهايو، وقد تمَّت الرحلة من نيويورك بزَورق في قناة، ثم بعربة للسفر على مراحل، وبزَورق في النهر.

وما كادت الأسرة تستقرُّ في سنسناتي حتى تُوفي مستر بلاكويل تاركًا زوجته وأطفاله التسعة في ضِيق، وسرعان ما وجد الابن الأكبر هنري عملًا في محكمة سنسناتي، بيدَ أن مكاسبه لم تكُن كافية لمصروفات البيت، فكان من الضروري أن تصنع البنات الثلاث الكبيرات (آنا وماريان وإليزابث) شيئًا ما، ولكن ما هو؟

وكما لاحظ جون بليك أمين المكتبة القومية للطب: «كان العملان الوحيدان المفتوحان أمام المرأة المُتعلمة هما: الكتابة — وقليلون من الجنسَين من لديهم الموهبة الكافية للكتابة — ثم التعليم. ولما كانت لجان المدارس قد اكتشف أنها تستطيع استئجار النساء بنصف الأجر الذي يطلبه الرجال أو أقل، فقد خطر لهم أن النساء هن — بعد كل شيء — المُعلمات الطبيعيات للصغير … ولذا بدأت كثيرات من زعيمات حركة المطالبة بحقوق المرأة، وكثيرات من أوائل الطبيبات في أمريكا، حياتهن العملية مُدرسات.»3

وافتتحت الشقيقات الثلاث مدرسةً داخلية للشابَّات، وصارت إليزابث بنت السابعة عشرة، والتي لا يكاد طولها يتجاوز خمس أقدام، ضابطة النظام. وبعد أربعة أيام حصل الشقيقان الأكبران على عملٍ مُستقر يكفي لاحتياجات الأسرة، فأغلقت الأخوات الثلاث المدرسة.

وفي ذلك الحين كانت إليزابث «واحدة من نساء الجيل الجديد الساخطات»، وقد ضاقت بما تراه من مشكلات التعليم النسوي،4 وصارت تقبل التلميذات في دروسٍ خاصة حتى سنة ١٨٤٤م عندما تلقَّت عرضًا لتتولَّى تنظيم مدرسة للبنات في هندرسون بولاية كنتوكي. وأسرعت بالقبول، ولكنها لم تلبث إلا فترةً دراسية واحدة في هندرسون؛ فالحياة في اتصالٍ مباشر بالرق كانت أقسى من احتمال إليزابث نصيرة إلغاء الرق.
«إن كراهيتي للرق تزداد في كل يوم.» هكذا كتبت يوم ٤ من أبريل سنة ١٨٤٤م … «وأحسبني أشاهد الرق هنا في أشد صوره تلطفًا … ولكن الحياة وسط كائنات تُمتهن كرامتهم إلى أقصى حدٍّ جسديًّا وعقليًّا، كائنات تكدح من بكرة الصباح إلى مَوهِن من الليل، ويزجرهم ويصفعهم كل إنسان، ويتلقَّون التوبيخ طول النهار، ويُلامون بلا مُسوغ، وليس لديهم الهمة على الرد، وليست هناك أي مراعاة لمشاعرهم، ولا أمل لهم في المستقبل، رائحتهم فظيعة، وكل ما يمسُّهم قبيح كالشيطان … إن الحياة وسط هؤلاء وأنا عاجزة تمامًا عن مساعدتهم لأمرٌ بغيض إلى نفسي جدًّا، ولن أبقى طويلًا هنا بأي شكل.»5

واستقالت من عملها، وعادت إلى سنسناتي حيث آل بيتشر وآل ستو وآل تشاننج، الذين يُشاركونها أفكارها ومشاعرها.

قرار العمل

وقبل مُضيِّ مدة طويلة على عودتها إلى سنسناتي قالت لها صديقةٌ مريضة بالسرطان وهي تحتضر: «أنتِ شغوف بالدرس، ولديكِ الصحة ووقت الفراغ، فلماذا لا تدرسين الطب؟ لو أن من يُعالجني طبيبةٌ سيدة لكانت جنَّبتني أسوأ آلامي.» ورفضت إليزابث الفكرة وعدَّتها مُستحيلة، قائلةً إنها: «تكره كل ما يتَّصل بالجسد، ولا تُطيق رؤية كتاب طبي.»6
وحاولت إليزابث أن تطرد الفكرة من ذهنها، ولكن الفكرة أبَت أن تُفارقه، لم تكُن هي نصيرةً مُتحمسة لحقوق المرأة فحسب، وإنما لم تكُن امرأةً أمريكية في عام ١٨٤٥م قد انتظمت بمدرسةٍ أمريكية للطب، وكما كتبت فيما بعد: «إن قوةً أعظم مِراسًا من نفسي بدأت تقودني وقتئذٍ وفيما بعد، فإذا أمامي هدف لا مناص لي من محاولة بُلوغه.»7

وما إن حزمت أمرها على تحطيم التقاليد التي تستبعد المرأة عن مجال الطب، حتى كانت أول خطوة هي الحصول على المال لمصروفات تعليمها، فظلَّت سنتَين تعمل مُعلمة في مدرسة في كارولينا الشمالية أولًا ثم كارولينا الجنوبية. وفي آشقيل قام المُبجَّل جون ديكسون — ناظر المدرسة الذي عمِل فيما مضى طبيبًا — بإقراضها كتبًا في الطب. وفي شارلستون أباح لها الدكتور صمويل ه. ديكسون — وهو طبيبٌ مُمتاز وأستاذ في كلية الطب — استخدامًا مطلقًا لمكتبته الطبية الواسعة، وقام بإرشادها في دراستها علوم الطب الأساسية.

وبحلول صيف سنة ١٨٤٧م كانت إليزابث مُستعدة، وكانت أول نقلة لها إلى فيلادلفيا حيث عملت مع الدكتور جوزيف وارنجتن في عيادته، وحضرت محاضراته، ودرست التشريح في مدرسةٍ خاصة يَملِكها الدكتور ألان، وهو من الكويكر أيضًا. وبدا دخول كلية للطب مُستحيلًا، وكان اقتراح بعض الأطباء أن الأمل الوحيد أمامها أن تتنكَّر في زي رجل، وتدخل مدرسة للطب في فيلادلفيا (حيث يُساندها بعض الطلبة الجديرين بالثقة في هذا التمويه) أو أن تذهب للدراسة في باريس. وقال لها ناصحها الكويكري: «يا إليزابث، لا جدوى من المحاولة؛ فلن تحصلي على القبول في هذه المدارس، ويجب عليك أن تذهبي إلى باريس وتتخذي زي الرجال لتحصلي على المعرفة الضرورية.»8 وكانت إليزابث مُستعدة للتفكير جديًّا في هذا الاقتراح، وكان صديقها حريًّا أن يُثبِّط عزمها قائلًا في وصف باريس إنها «مدينة فيها إباحيةٌ مُخيفة بحيث تجرح فيها مشاعرك جميعًا … فالرذيلة فيها هي المناخ العام.»9 ولكن بالنسبة لإليزابث كان خوض «حرب صليبية خلقية، والسير في طريق العدل والعقل السليم يقتضي المُضيَّ في وضح النهار»؛ ولذلك كان الاقتراحان كلاهما غير مقبول لديها.10

وأنفذت طلبات بالالتحاق إلى كل مدرسة طب كبيرة، وكل المدارس الأقل منها مكانة، ولم يُجشم بعضها نفسه مئونة الرد، والردود الواردة كانت معظمها رفضًا قاطعًا، ولكن في ٧ من نوفمبر سنة ١٨٤٧م سُجِّل اسم إليزابث بلاكويل في دفاتر القسم الطبي بجامعة جنيفا.

مدرسة الطب

وفي جنيفا تمخَّضت الأشياء عن أمورٍ تختلف تمامًا عما توقَّعته الكلية وهيئة الطلاب. كانت الكلية تخشى أن ينتهز الطلبة فرصة وصول الآنسة بلاكويل للقيام بحركات شغب أكثر من المُعتاد منهم. وبرغم تَعهُّدهم بألا يَصدُر منهم سلوك يدعوها للندم على القدوم، فقد يكون الطلبة مُبيِّتين في قرارة سرائرهم شيئًا آخر، إلا أن إليزابث الحييَّة المُتحفظة، ولكن في عزم وإصرار، سرعان ما كسبَت إعجابهم، بل ومودَّتهم. وقد قال أحد زملائها في الدرس بعد ذلك بسنين، هو الدكتور ستيفن سميث: «ولأول مرة ألقيت محاضرة من غير أن تحدث فيها أدنى مقاطعة أو شوشرة. وكانت كل كلمة تُسمَع بوضوحٍ تام وكأنها كلامٌ مُوجَّه إلى شخصٍ واحد في الحجرة. وثبت أن هذا التحول المُفاجئ الذي حدث للفرقة من عصابة من المُتهورين المُتمردين على كل قانون إلى سادةٍ مُهذَّبين لمجرد وجود سيدة بينهم أصبح سلوكًا دائمًا بكل آثاره.»11

وفي مدى أسبوع أو أسبوعَين من وصولها توجَّه إليها أستاذ التشريح — الدكتور جيمس ويبستر — بالرجاء أن تظلَّ خارج قاعة درسه لعِدَّة أيام؛ لأنه سيُحاضر خلالها عن الجهاز التناسلي. وردَّت عليه إليزابث بخطابٍ انتقَت ألفاظه بعناية، قائلةً إن دراسة التشريح دراسةٌ جِدية، وإن كل فروعها وموضوعاتها تعكس مجد الخالق وحكمته؛ ولذا فهي لا تتصور أن رجلًا مثله كرَّس نفسه للعلم قد يُزعجه أن يكون الطالب رقم ١٣٠ مُرتديًا قبعةً نسائية، ولكن إذا كان ذلك سيُقلِّل من تحرُّجه فإنه ليَسرُّها أن تخلع غطاء رأسها المُتميز، وتجلس في الصف الأخير. ومضت محاضرات التشريح في مسارها ونظامها المُعتادَين، وأصبح الدكتور ويبستر بعد ذلك صديقها المُخلِص، بل وعندما أجفل الدكتور لي أمام فكرة ممارسة امرأة للجِراحة، ساند الدكتور ويبستر حقها في ذلك.

ولئن كان رفاق الفرقة الدراسية والكلية قد قبِلوا وجودها هناك بلا مناقشة، فلم يكُن الحال كذلك من جانب أهالي جنيفا الطيبين الذين عدُّوها إما امرأةً سيئة السمعة وإما مخبولة. وكانت إليزابث مشغولة جدًّا بحيث لم تجد مُتسعًا لإلقاء بالها إلى محاولاتهم نبذها وتجنُّبها، بيدَ أنها وجدت في موقفهم منها إرهاصًا بالتحامل الذي تُزمِع أن تُواجِهه مستقبلًا. وفي يناير سنة ١٨٤٩م كان عليها أن تؤديَ امتحانها النهائي؛ فإذا نجحت في اجتيازه يكون من حقها حمل لقب دكتور في الطب. واستولى الذُّعر على إدارة الجامعة؛ فإن هي منحت الدكتوراه في الطب لامرأةٍ لصارت المدرسة أضحوكة، كما قالوا. وهدَّد الدكتور ويبستر دفاعًا عن إليزابث؛ فهي قد أدَّت رسوم الدراسة وأتمَّت جميع الدراسات الضرورية في كل المواد، فماذا يُراد منها أكثر من هذا؟ وتزعزع موقف الإدارة. وأخيرًا عندما أُعلنت نتائج الامتحانات، وتبيَّن أنها حصلت على أعلى مستوًى في فرقتها، استسلمت الإدارة. وفي ٢٣ يناير سنة ١٨٤٩م سلَّمها الدكتور هيل درجة الدكتوراه.

لقد عُدَّ حضور إليزابث وتَخرُّجها من جنيفا بمثابة ضربة حظ، ولم تصبح سابقة يُقاس إليها، ولم تتخرج من مدرسة الطب بها سوى امرأة أخرى هي ماري روجرز في سنة ١٨٥٦م. وحتى إميلي بلاكويل (١٨٢٦–١٩١٠م) — وهي شقيقة إليزابث — فقد رفضوا طلب قبولها هناك.

ولئن كانت درجة الدكتوراه في الطب من جنيفا هي كل ما يحتاج إليه رجلٌ كي يبدأ ممارسة مهنة الطب بنجاح، فإن الوقت لم يَطل بالدكتورة إليزابث بلاكويل لتُدرك أن ذلك ليس كافيًا لامرأة، فقرَّرت أن تزور إنجلترا، وبعدها تُحاول مزيدًا من الدراسات الطبية الإضافية في فرنسا.

وكانت مدة إقامتها في إنجلترا أشبه بأعياد نصر؛ لأن مؤهلاتها وكفاحها نُشِر عنهما الكثير داخل وخارج نطاق المهنة، فأُقيمت لها حفلاتٌ كثيرة، وكان عليها أن تحضر محاضرات وتزور مستشفيات.

وأما وصولها إلى باريس فكان نوعًا من خيبة الأمل، فما من أحدٍ كان قد سمِع بها. ولما علِم الأطباء الفرنسيون أن الدكتورة بلاكويل تنوي الدراسة في مستشفيات باريس العامة، عارَضوا الفكرة مُعارضةً حاسمة، فكانت المُؤسَّسة الوحيدة المفتوحة أمامها هي مستشفى الولادة، وهي مَركز للقبالة تدرس فيه فتَياتٌ قادمات من كل أنحاء فرنسا ويتدرَّبن ليُصبحن مُولِّدات. ولما كانت درجة إليزابث العلمية غير مُعترَف بها في نظر السلطة، فسبيلها الوحيد للدخول في المنظمة هو سبيل أي فتاة في الثامنة عشرة تريد أن تكون تلميذة قبالة. ومعنى هذا أن تكون تحت إشراف صارم، وسجينة عمليًّا، فضلًا عما يُطلَب منها القيام به من أعمالٍ حقيرة. ولم تتردد إليزابث، فما هو وزن الوضع العلمي إذا كان يحول دون فرصتها في دراسة فن التوليد في مستشفًى يولد بها ٣٠٠٠ طفل كلَّ سنة؟ وصادَقها كبير الأطباء المُقيمين إيبوليت بلوت الذي أراها حالاته غير العادية، وأعطاها دروسًا خاصة، وعرفها بالمكتشفات المُثيرة التي توصَّل إليها علماء فرنسيون.

وفي ٤ من نوفمبر سنة ١٨٤٩م وقع حادثٌ كاد يقضي على عملها وهو في مستهله؛ فبينما هي تُعالج طفلًا مُصابًا بالتهابٍ حادٍّ في عينَيه، «طرطشت» نقطة من السائل المُلوَّث بالميكروب واقتحمت عينها اليسرى. وعند المساء كانت عينها قد ورِمت وأقفلت. ولما كان لا يوجد في ذلك الزمن علاجٌ أكيد ضد الالتهاب الحاد في العين، فقد صار موضع التساؤل إمكان إنقاذ إحدى العينَين، ورقدت إليزابث في الظلام ثلاثة أسابيع تحت عناية الدكتور بلوت، وبعد مدة شُفيَت عينها اليمنى، ولكن لم توجد وسيلة لإنقاذ عينها الأخرى التي تحتَّمت إزالتها بعد ذلك ببضع سنين لتجنُّب التهاب العين اليمنى السليمة.

ومضت شهورٌ كثيرة قبل أن تتمكن حتى من استعمال عينها اليمنى السليمة للقراءة، وعندئذٍ علِمَت أنها يجب أن تتخلى عن أمنيتها في أن تكون جرَّاحة. ومن سخرية القدر أن الأطباء الفرنسيين الذين ندموا على موقفهم منها صاروا يدعونها الآن إلى العيادات والمحاضرات في أي مستشفًى تختارها، ولكنها بدلًا من ذلك أمضت فترة استجمام في جرينبرج بألمانيا، وعادت إلى لندن في بداية أكتوبر عام ١٨٥٠م، وهناك سمح لها بالدراسة في أي عنبر، ومتابعة زيارات أي طبيب أو جرَّاح في مستشفى القِديس بارثلوميو ممن يرغبون في إتاحة تسهيلات قِسمه لها.12 وكان القسم الوحيد الذي مُنِعت من دخوله هو قسم أمراض النساء. وحضرت المحاضرات في المستشفى، بما فيها محاضرات التشريح الباثولوجي التي يُلقيها جيمس باجيت. ويعدُّ هنري جيمس بيجلو جرَّاح نيو إنجلند المرموق محاضرات باجيت غايةً في الأهمية، حتى إنه كان يُسافر أسبوعيًّا من باريس إلى لندن لسماعها.
وفي ذلك الوقت الْتقَت إليزابث بلاكويل بفلورانس نايتنجيل، وهي الابنة الصغرى لأسرةٍ ثرية من الطبقة العليا. ولم يبدُ لإليزابث أنه من المحتمل أن تتمكن فلورانس إطلاقًا من تحطيم الأغلال التي يفرضها عليها مولدها ونسبها وحسبها ومركزها الاجتماعي. وقد اعترفت الدكتورة بلاكويل فيما بعدُ أنها مَدينة لفلورانس نايتنجيل بأنها «نبَّهتها إلى أن صيانة وسلامة الصحة العامة هي الهدف الأسمى من الطب؛ فهي أساسه وإكليله.»13
وفكَّرت الدكتورة بلاكويل جديًّا في الاستقرار بلندن، ولكنها كانت فقيرة للغاية، وليس لديها رأسمال تَركَن إليه، وينتابها الفزع من الاستدانة.14 وفي ٢٧ من يوليو ١٨٥١م أبحرت إلى نيويورك، وهناك اتَّضح لها أن فكرة الاستقرار والشروع في ممارسة المهنة أصعب مما كانت تظن. وكانت المشكلة الأولى هي وجود «مساحة للعيادة»؛ كانت هناك «حجرات كثيرة للإيجار»، ولكن عندما كانت المالكات يعرفن فيمَ ستُستخدم الحجرات كنَّ يُغلِقن الأبواب في وجهها بسرعة، فاضطُرَّت لاستئجار طابق بأكمله في بيتٍ مفروش، وهو أكثر مما تحتاج إليه ومما تستطيع تحمُّل تكاليفه؛ لأنه على حد تعبير مالكة البيت «لا أحد آخر يمكن أن يطلب منه الاشتراك في الطابق مع طبيبةٍ أنثى».15

ها هي الآن الدكتورة بلاكويل صاحبة عيادة، ولكن لا مرضى لديها. وكانت لافتتها الصغيرة لا تجلب لها إلا خطابات مُهينة تُصارحها بأنها غير مرغوب فيها في هذا الجوار. وظلَّت كل جهودها عقيمة للعثور على وظيفة بين أطباء المستشفى، فلا قيمة للمؤهلات لأنها امرأة.

ووجدت إليزابث أمامها ساعات طويلة بلا عمل، فشرعت تكتب سلسلة محاضرات عن التربية البدنية للفتَيات، وكان الموضوع قد أثار اهتمام الشقيقات من آل بلاكويل منذ أيام وجودهن في بريستول. ولما تمَّت السلسلة استأجرت إليزابث بدروم كنيسة، ونشرت إعلانًا مُتواضعًا في النيويورك تايمز، فكانت هذه الخطوة نقطة تَحوُّل في حياتها المهنية.

كان عدد الحاضرين قليلًا، ولكنه جمهورٌ ذكي من بيئة مجموعة ذات نفوذ من نساء طائفة الكويكر. ولم تُدهشهن الأفكار المُستنيرة التي أدلت بها هذه الطبيبة فحسب، بل ووافَقنَها على آرائها السديدة في اللبس والتغذية والتدريب البدني والتربية، وكانت النتيجة أنه صارت لديها مجموعةٌ صغيرة خاصة من المريضات الثريات، بيدَ أنها نظرت إلى هذا النجاح على أنه مجرد خطوة نحو الأهداف التي عملت لها بجدٍّ عظيم؛ فقد كانت لها رسالة غلابة؛ أن تُعالِج المحرومين من نساء وأطفال الأكواخ الحقيرة. أجل إن المستشفيات والمستوصفات حاولت أن تُعنى بهم، ولكنها تعتقد أن هذه المؤسَّسات لا تقوم بما فيه الكفاية في هذا السبيل، ثم إنها ممنوعة من العمل عن طريقها. وبمساعدةٍ مادية من بعض الصديقات، فتحت عيادةً صغيرة قُرْب ميدان تومكين على الجانب الشرقي المُنخفض، وهو من أسوأ الأحياء، حيث كانت تقضي هناك ثلاثة أيام كلَّ أسبوع (وفي الليل أيضًا عند الحاجة) لخدمة من لا تَصِلهم مساعدات المدنية. ومن هذه البداية الصغيرة نما «مستوصف نيويورك لفقراء النساء والأطفال» الذي تأسَّس عام ١٨٥٤م.

زملاء ومشروعات

أما وقد صارت إليزابث مُستقرة تمامًا، فقد شجَّعت شقيقتها إميلي على أن تدخل ميدان الطب. ولم يكُن طريق إميلي أسهل من طريقها؛ فقد حضرت الدروس في كلية راش الطبية بشيكاغو خلال عام ١٨٥٢-١٨٥٣م، ولكنها مُنِعت من الاستمرار بقرار من الجمعية الطبية لولاية إلينوي. وعندما منحت كلية الطب بكليفلند عميدها في مُستهل عام ١٨٥٣-١٨٥٤م «حرية التصرف في قَبول الطالبات»،16 انتهزت إميلي هذه الثغرة على الفور، وتخرَّجت في عام ١٨٥٤م، وكانت إحدى المرأتَين في فرقتها، ثم ذهبت إلى إدنبره لتَدرُس علم الولادة على السير جيمس ي. سمبسون مولد الملكة فيكتوريا. وبعد عودتها إلى نيويورك في عام ١٨٥٦م (في الوقت المُلائم لمساعدة إليزابث في مخاطرتها الأخيرة)، كتب السير جيمس إلى إميلي قائلًا: «نادرًا ما التقيت بطبيبٍ شابٍّ أفضل منك معرفة باللغات القديمة والحديثة، أو أعظم اطلاعًا على الأدب والعلم والتفاصيل العملية لمهنته. واسمحي لي أن أضيف أنك في علاقتك بالمرضى وفي عنايتك وعلاجك الرحيمَين لهم وجدتك امرأة بمعنى الكلمة، كاملة الأنوثة.»17

وأثناء غياب إميلي في الخارج وصلت المرأة التي كُتِب لها أن تكون ثالثة المجموعة، وبدون مقدمات طرَقنَ باب إليزابث، إنها ماري زاكر سيفسكا (١٨٢٩–١٩٠٢م)، وهي بولندية في السادسة والعشرين من عمرها، كانت رئيسة المُولِّدات في مستشفى الرحمة ببرلين، وكان في أسرتها ثلاثة أجيال من النساء بين شهيرات القابلات. ولما جاءت ماري إلى أمريكا لدراسة الطب واجَهَتها المُثبِّطات المعتادة، فنصحها الأطباء الألمان أن تتَّجه إلى التمريض، فزادها ذلك تمسكًا بخطتها، ولكن سرعان ما نفدت نقودها، وعندئذٍ أشار عليها شخص في بيت «من لا أصدقاء لهم» بأن تُقابل الدكتورة بلاكويل.

وأُعجبت بها الدكتورة بلاكويل فدعتها للعمل في المستوصف، ودرَّبتها على الإنجليزية التي كانت تتكلمها ماري بتَعثُّر، ورتَّبت لها الذهاب إلى مدرسةٍ طبية. وكتبت إليزابث إلى إميلي في ١٢ مايو سنة ١٨٥٤م: «إن مَعدِنها حسن، وسأبذل قُصارى جهدي لاستخراج خير ما فيها، لا بد أن تحصل على درجة في الطب.»18 وفي سنة ١٨٥٦م حصلت ماري على دكتوراه الطب من كلية طب كليفلند، وكانت واحدة من أربع نساء في دفعتها.
وفي ١٢ مايو سنة ١٨٥٧م حقَّقَت الدكتورة بلاكويل أحد أهدافها؛ فبعد حملةٍ عاصفة من جمع التبرعات بقيادة الدكتورة زاك (وهو الاسم الذي صارت تُعرَف به اختصارًا الدكتورة ماري سيفسكا)، فتح مستشفى نيويورك للنساء والأطفال في قرية جرينتش، فكانت أول مستشفًى للنساء في العالم كما قالت ماري.19 وبالرغم من أن الغوغاء الناقمة اقتحموا المبنى في مناسبتَين كانت فيهما مريضة بالداخل تحتضر، إلا أن بلاكويل والدكتورة زاك عالَجنَ أكثر من ٣٠٠٠ مريضة في العام الأول. وكانت فكرة وجود مستشفًى تُديره النساء بأكمله مصدر إزعاج لكثيرين جدًّا من الناس، لولا أن إليزابث كانت مؤيدة من الكويكر.

وحقَّقَت المستشفى هدفًا آخر من أهداف الدكتورة إليزابث؛ فمع أنه في سنة ١٨٥٧م صارت الصعوبات أقل مما كانت أمام المرأة للحصول على دكتوراه الطب، إلا أن مستقبل الكثيرات كان ينتهي بالتخرج؛ لأنه ما من مستشفًى في البلاد يرضى بقبول امرأة طبيبة امتياز أو نائبة، ولكن مستشفى نيويورك أتاح للدكتورات فرصة اكتساب الخبرة فيه. ومنذ سنة ١٨٦٨م حتى سنة ١٨٩٩م كان المستشفى النسائي يُدير مدرستَه الطبيةُ النسائية أيضًا.

العودة إلى إنجلترا

ومنذ إقامة الدكتورة بلاكويل في إنجلترا سنة ١٨٥٠-١٨٥١م كانت تَحلُم بالممارسة في أرض مولدها. وبينما كانت تعمل في نيويورك ظلَّت على صلة باللوائح الطبية الإنجليزية، وكان لديها عِلمٌ مُسبَّق بالقانون الطبي الصادر سنة ١٨٥٨م. وهذا التشريع يَكفُل للأطباء الحاصلين على مؤهلاتٍ أجنبية الحق في التسجيل بإنجلترا بدون امتحان، إذا كانوا مُمارسين عاملين فعلًا ببريطانيا العظمى قبل شهر أكتوبر سنة ١٨٥٨م، فعادت إلى إنجلترا في أغسطس سنة ١٨٥٨م لتشرع في الممارسة وتستفيد من القانون الجديد، وحصلت على ما يرضيها من «تسجيلها في السجل الطبي في أول يناير سنة ١٨٥٩م طبيبة مُعترفًا بها في أرض مولدها».20 وفي ٢ مارس حاضرت في معهد ماريلبون عن التعليم الطبي النسوي، فكانت أول طبيبة يُعترف بها في بريطانيا.

وكان مما يُسعِد الدكتورة بلاكويل أن تبقى في إنجلترا، ولكن المستشفى استدعاها للعودة، وظلَّت بنيويورك حتى افتتاح مدرسة الطب النسوية، وصار في مقدورها أن تنسحب من المشروعات المُزدهرة التي رعتها.

وواصلت الدكتورة إميلي بلاكويل العمل الذي بدأ، فعملت رئيس اللجنة الطبية بالمستشفى وعميدة لمدرسة الطب من ١٨٦٩ إلى ١٨٩٩م. وعلى حد قول المُعلم الطبي فردريك س. ويت: «إن الدكتورة إليزابث بلاكويل معروفة على مدًى أوسع بسبب سبقها في التخرج، غير أن الأخت الصغرى كانت أفضل تعليمًا منها، وكانت تقوم بمعظم العمل الإداري في مؤسسات نيويورك، وأصبحت أول طبيبة تعمل بتَوسُّع في الجِراحات الكبرى.»21
وفي سنة ١٨٦٩م عادت إليزابث إلى وطنها الحبيب إنجلترا، وهناك كتبت وحاضرت عن الجوانب الاجتماعية والخلقية للطب، وماتت في سن التاسعة والثمانين، بعد أن كرَّست حياتها «لتلك الغايات الخلقية التي من أجلها شرَعَت في دراسة الطب».22

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤