الفصل السابع

إليزابث جاريت أندرسون

في أواسط الخمسينيات في القرن ١٩ كان يُنظَر بقتامة إلى المرأة غير المُتزوجة التي لا يتَّفق لها أن تكون ذات ثروة مستقلة؛ فعليها إما أن تُقاسيَ طول حياتها وضع القريبة غير المرغوب فيها، أو أن تُحاوِل العمل لتَعُول نفسها. وبالنسبة للسيدات المُهذَّبات سليلات الطبقتَين العليا والوسطى كانت فرص العمل محدودة؛ في وُسعهن أن يكنَّ مرافقات مأجورات يشغلن لدى مخدومتهن منزلةً وُسطى بين عضو دوني في الأسرة وبين خادم راقية، أو أن يعملن مُربِّيات.

وكان من أهداف حركة حقوق المرأة النامية في إنجلترا الوصول إلى التحرر من هذا الوضع. ومن سنة ١٧٩٢م كتبت ماري ولستونكرافت (١٧٥٩–١٧٩٧م) دفاعًا عن حقوق المرأة قالت فيه: «لقد حان الوقت لإشعال ثورة في الأحوال النسوية لتستردَّ النساء كرامتهن المفقودة، ولكي يعملن، ولكي يُصلحن العالم بإصلاح أنفسهن … ويقينًا أنه يجوز للنساء أن يدرسن فن المُداواة ليُصبحن طبيبات كما أنهن مُمرضات.»1 ولما كانت إنجلترا يومئذٍ تعدُّ النساء بدون حقوق فقد صدمتها هذه الفكرة، ولم يحدث تقدمٌ ما حتى انقضت خمسون سنة على وفاة ماري ولستونكرافت، ولكن في سنة ١٨٥٩م استأجرت مدام بوديشون (١٨٢٧–١٨٩١م) — واسمها قبل الزواج بربارا لي سميث — حجرات في لنجهام بليس بلندن، وافتتحت أول مكتب تشغيل لإتاحة وظائف مُشرفة غير يدوية (ذات ياقة بيضاء) للنساء، واجتذب المكتب لا «السيدات» العزبات فحَسْب اللواتي يُرِدن عملًا، بل أيضًا الفتَيات الساخطات على حياة الكسل في بيوت أسرهن.

ومن بين الصنف الأخير كانت إليزابث جاريت (١٨٣٦–١٩١٧م)، وترتيبها الثانية بين عشرة أطفال أنجبهم نيوسن جاريت رجل الأعمال الثري في ألدبرج بمقاطعة سافولك، من زوجته التي كان اسمها قبل الزواج لويزا دانل. ومثل صمويل بلاكويل، كان مستر جاريت يؤمن بأن أطفاله يجب أن يحظَوا بتعليمٍ أعلى من المستوى السائد.

وفي سن الثالثة والعشرين كانت حياة إليزابث من ألطف ما يكون، ولكنها شعرت بأنها يجب أن تصنع شيئًا لتستخدم قدراتها وتعليمها، وشجَّعتها زميلةٌ قديمة من زميلات الدراسة هي إميلي ديفيز (١٨٣٠–١٩٢١م)، كانت تؤمن منذ وقتٍ طويل بضرورة إتاحة الفرصة للمرأة للحصول على تعليمٍ أفضل، وأن المهن — ولا سيَّما الطب — يجب أن تفتح أبوابها لها. ولم تشعر إميلي ديفيز أنها شخصيًّا «تصلح رائدة في الطب؛ فهي بحاجة إلى مساعدة في هذا الجزء من برنامجها».2 وكانت أهدافها الشخصية أن تقوم مدارس بنات جيدة بها مُعلمون ومُعلمات مؤهَّلون، وقبول النساء في الامتحانات العامة والجامعات.

اتخاذ قرار

وفي سنة ١٨٥٩م تخلَّفت إليزابث بعض الوقت في لندن قبل أن تذهب لزيارة إميلي في جيتسهيد حيث كان والدها راعيَ الكنيسة. وأثناء وجودها بلندن قابلت إليزابث بلاكويل، وكانت قد قُيِّدت لتَوِّها في السِّجل الطبي. قابلتها في مكتب مدام بوديشون، ثم حضرت سلسلة محاضراتها الثلاث عن «الطب كمهنة للسيدات».

وفي ذلك الحين لم تكُن إليزابث جاريت قد عقَدت العزم على الاشتغال بالطب، ولكن الدكتورة بلاكويل قفزت إلى استنتاج أنها عقدت عزمها على ذلك. وكانت المرأة الأصغر سنًّا (إليزابث جاريت) مبهورة جدًّا بحيث لم تستطع تعديل تفكير الكبرى (إليزابث بلاكويل). وقد كتبت فيما بعدُ تقول: «أتذكَّر أنني شعرت بالذهول وكأنني أُلقيَ بي فجأةً وسط مهمة أكثر مني بكثير.» أما الدكتورة بلاكويل فتتذكر مس جاريت في صورة «سيدة شابَّة لامعة ذكية أُثيرَ فيها الاهتمام بدراسة الطب.»3
ولما وصلت إليزابث جاريت إلى جيتسهيد كانت لا تزال غير مُستقرة الرأي، وتولَّت «إميلي ديفيز» وزن جانبَي القرار فقالت: «الآن وقد أشرت إلى هذا يا إليزابث أعتقد أنك الشخص المثالي لإدخال نساء إنجلترا مجال مهنة الطب.»4
ولما أخبرت إليزابث والدَيها بنيَّتها دُهِش مستر جاريت وتحيَّر، وكتبت إلى إميلي ديفيز تقول: «أظنه لا يحب هذا، أو هو — على الأقل — يُفضل استقراري لأغدوَ سيدةً شابَّة ليست لها أنشطةٌ مُحرِجة …»5

وكان مستر جاريت رجلًا عادلًا، فقال لابنته إنه وإن لم يُقرَّ خُطَطها ولن يُساندها فيها مساندةً إيجابية، إلا أنه لن يقف في طريقها. ثم لان في موقفه هذا إلى حد مصاحبة ابنته في جولةٍ مرَّا بها بكبار الأطباء الاستشاريين في هارلي ستريت، يَنشُدان النصح؛ ففي سنة ١٨٦٠م كان من المستفظَع من المرأة أن تذهب للطبيب بمفردها.

وكان الاستقبال الذي لقِياه منهم لا يتَّصف بالدفء؛ فقد سارَع زعماء المهنة هؤلاء إلى توضيح أن التعليم الطبي للمرأة مضيعة للوقت؛ لأنه لن يُقيد اسم امرأة في السجل الطبي، وبدون ذلك لن تُباح للآنسة جاريت أن تُمارس الطب بصفةٍ قانونية في إنجلترا.

وكان موقفهم هذا تحديًا لإيمان مستر جاريت بالمساواة في التعليم بين الرجال والنساء، فسارَع بالاحتجاج. وكانت ابنته قد أخبرته أن اسم إليزابث بلاكويل مُدوَّن في السجل الطبي في وقتٍ سابق من ذلك العام. وردُّوا على اعتراضه بقولهم: «إن الدرجات الأجنبية لم تعد مقبولة كما كان الحال عندما قُيِّدت المرأة القادمة من أمريكا في السجل، وما من لجنة امتحان بريطانية يمكنها مطلقًا أن تقبل إدخال أي امرأة امتحاناتها.»6 (وكان الحصول على ترخيص من لجنة امتحان شرطًا مُسبقًا أساسيًّا للقيد في السجل.)
وفعل هذا الاستقبال فِعله في زحزحة مستر جاريت عن موقفه المُحايد. ولما سأل أحد هؤلاء الأطباء إليزابث لماذا لم تصبح مُمرضة بدلًا من طبيبة، ردَّت عليه بسرعة: «لأني أُفضِّل أن أكسب ألف جنيه بدلًا من عشرين جنيهًا في السنة.» فكسبته بهذا الرد إلى صفها.7

ومرةً أخرى قامت إميلي ديفيز بدور الحافز، وكانت صديقتها إميليا باتن مُتزوجة من راسل جنري مسجل لندن، وكان آل جنري أصدقاء للدكتورة بلاكويل. ولما عادت الدكتورة بلاكويل إلى أمريكا في سنة ١٨٥٩م كان آل جنري قد وعدوها بمقابلة أي امرأة تريد التقدم للتدريب على الطب. ورتَّب شقيق إميلي ديفيز — وهو جون لين راعي كنيسة المسيح في ماريلبون — المقابلة بينهم وبين إليزابث جاريت.

وكان اتصالًا سعيدًا، وكتبت إليزابث إلى إميلي في ٤ يوليو سنة ١٨٦٠م: «كان مستر ومسز جنري غاية في اللطف والعطف والمعاونة هذا الصباح، ووجدنا شخصًا يمكن أن يُعتمد عليه في إعطاء والدي فكرةً مؤيدة بشدة للحركة … فقد تحدَّث مستر جنري عن وليم هاوز، وقد تبيَّن لي أن مستر هاوز هذا هو الذي يعرفه أبي جيدًا؛ فمنذ سنواتٍ قليلة كانت بينهما صلاتُ عمل كبيرة، وأنا واثقة بأن رأيه سيكون له وزنه عنده …»8

وكان مستر هاوز عضوًا في لجنة مُديري مستشفى ميدلسكس، فعرض اقتراحًا عمليًّا؛ فقَبْل أن تُواجِه الآنسة جاريت المشاقَّ والتحاملات، بل الاضطهادات، في مدرسةٍ طبية، لماذا لا تستوثق أولًا من أن الحياة في الطب تُلائمها حقًّا؟ واقترح أن تعمل ستة أشهُر كمُمرضة في عنبر الجِراحة بالمستشفى. وكان مستر هاوز يعتقد أن مناظر وأصوات وروائح عنبر العمليات ستكون بمثابة اختبار عسير. وأمسكت إليزابث بنفسها بالفرصة. وكانت ميدلسكس من مستشفيات لندن التعليمية العظيمة، فلْتَدخله كمُمرضة، وعندئذٍ تصنع كل شيء ممكن لتتحوَّل إلى طالبة طب.

في مستشفى ميدلسكس

لم تكُن درجة الذكاء العالية شيئًا مألوفًا بين مُمرضات ذلك الوقت. وقد سُرَّت مسز يارو (كبيرة المُمرضات) من هذه المُجنَّدة الجديدة التي لم تكُن تفهم الأوامر فحسب، بل وتُنفذها بلا تقصير. واستطاع ظرفها ولباقتها أن يكسبا لها مودَّة زميلاتها المُمرضات، اللواتي ظننَّها ستتجاهلهن أو تستعلي عيلهن. وكان أفضل شيء هو ما تركته من أثر على أطباء المستشفى، ولا سيَّما عميد مدرسة الطب، وهو ت. و. تن، وكذا على كبير الأطباء النواب واسمه ويليز. وقد أفضت إليهما بهدفها من العمل بالمستشفى، وقد بذلا كل ما في وُسعهما لمساعدتها، فرتَّبا لها الحضور أثناء إجراء الجِراحات ومصاحبة الطلبة في دوراتهم على المرضى، وأن ترى أنواعًا كثيرة من الحالات التي تمرُّ بالعيادة الخارجية. وكان قرار إليزابث بالشروع في الاشتغال بالطب، مُوجهًا إلى حدٍّ كبير لتحسين وتعزيز قضية حق المرأة في المساواة في التعليم، وأما الآن فقد أحبَّت العمل لذاته.

وكانت خطوتها التالية أن تعرض دفع المصروفات التي يؤديها طلبة الطب، مُحتجةً بأنها — فعلًا — تقضي كطالبة طب وقتًا أكثر مما تُمضيه كمُمرضة، واعتقدت أنهم إذا ما قبِلوا منها مصروفات طالب فلا بد — تلقائيًّا — أن يعترفوا بأنها طالبة طب كاملة الحقوق، ولكن إدارة المستشفى لم تقع في هذا الفخ، وأبلغت الآنسة جاريت أن المستشفى يسرُّها أن تتعلم فيها كل ما تستطيع أن تتعلمه، ولكن بوصفها هاوية لا أكثر. ومع ذلك مُنِحت استخدامًا مؤقتًا لحجرةٍ لطيفة جدًّا، تستطيع فيها أن تقرأ وتحتفظ بأشيائها. وسألت مستر دي مورجان أمين صندوق المستشفى: ألا يمكن — يومًا ما — أن يَقبلوها طالبة؟ فأجابها بأن ذلك لم يحدث في بريطانيا؛ فمن المؤكد أنه ما من كلية في لندن يمكن أن تقبلها؛ فإن كانت مُصممة على أن تغدوَ طالبة طب فعليها بالذهاب إلى أمريكا. فقالت إليزابث: «مع هذا سأبذل كل جهدي لأحصل على التعليم في إنجلترا وبطريقةٍ قانونية، وإن كنت أعتقد أن الكثير يمكن عمله بطريقٍ غير قانوني.»9

وبينما كانت إليزابث تتعلم الشيء الكثير عن طريق الملاحظة، كانت ممنوعة من حضور المحاضرات، وخفَّ والدها لنجدتها، وعرض أن يُوقِّع بالوفاء على أي وثيقة بأجر أي عدد من المُدرسين الخصوصيين يُوافقون على التدريس لها. وتخلَّت عن كل تظاهر بأنها مُمرضة؛ إذ كان وقتها في المستشفى مُخصصًا للدراسة الإكلينيكية تحت إشراف مُدرسيها الخصوصيين. وبعد لَأيٍ حصلت على الإذن بحضور المحاضرات، وتم لها هذا بالاتصال بالأساتذة فُرادى، فتطلب منهم بلطفٍ شديد وتواضُع إذا كان لديهم اعتراض على حضور محاضراتهم، وقلَّ من اعترض منهم؛ فها هي امرأةٌ مُتواضعة ذات هدف تُحاول أن تمضيَ قُدمًا، ويقينًا أنها ليست واحدة من أولئك المناضلات في الحركة النسوية اللواتي يخدشن الاحتشام بزيِّهن نفسه، بل كانت إليزابث جاريت تُذكرهم ببناتهن وأخواتهن كما يتصورونهن. أما أستاذ التشريح فكان هو وحده الذي خشيَ أن تتعرض شابَّةٌ رقيقة مُهذَّبة لسلوك طلبته البذيء في المشرحة، ولكن في نهاية عامها الأول في ميدلسكس كانت قد كسبت رضاه أيضًا.

وانتهى وضع إليزابث غير الرسمي بِناءً على التماسٍ من الطلبة الذكور؛ فقد حصلت على مراتب شرف في كل المواد التي درستها، ولكن ذلك أُبقيَ سرًّا فلم يَعرفوا به، ولكن عندما انتابتها فورة حماس — في إحدى الجولات ذات يوم على المرضى مع الطلبة والأستاذ — وأجابت بالصواب على سؤالٍ أخفق فيه سائرهم، ثار استياؤهم … فثَمة فرقٌ بين التسامح مع امرأةٍ تلعب لعبة الطب وبين أن تُظهرهم بمظهر المُغفَّلين والبُلهاء أمام طبيب زائر، ولكن الطلبة المُتفوقين تجمَّعوا صفًّا للدفاع عنها. ومع هذا ففي يونيو ١٨٦١م أُبلغت أن اللجنة الطبية قرَّرت أنه مما يضرُّ بالمدرسة حضور النساء المحاضرات، إلا أن المحاضرين أسِفوا لأن القرار صدر بصدد سيدة شابَّة، كان سلوكها طوال مدة بقائها في المستشفى مُتصفًا باقتران الحكمة والرِّقة؛ مما استدعى تقديرهم التام.»10

حركة الْتِفاف

وعندئذٍ حاولت إليزابث — مؤيدة بوالدها — أن تلتحق بإحدى الجامعات الكبرى. لم تَقبل كيمبريدج وأكسفورد مجرد مناقشة الموضوع، وبدت التوقعات في جامعة لندن أفضل من هذا بمقدارٍ ضئيل؛ فميثاقها ينص بوضوح على أنها وُجدت كي «تُوفر التعليم لجميع الطبقات والفئات بدون تفرقة من أي نوع».11 ولكن طلبها القائم على هذا الأساس رُفِض بحُجة أن النساء لَسْن طبقة أو فئة. وفي ٨ من مايو سنة ١٨٦٢م كتبت إلى الدكتورة بلاكويل: «لست أتخيَّل أن هناك فرصةً كبيرة لإمكان عمل ما هو أكثر من ذلك في أي جامعة أخرى في المملكة المتحدة؛ ولذا أخشى أن يكون إمكان الحصول إطلاقًا على درجة دكتوراه إنجليزية في الطب أمرًا بعيد الاحتمال جدًّا.»12
ولما كانت مُصممة على أن تكون مُمارِسةً مُجازة، وليس — فيما يبدو — هناك طريق مفتوح إلى درجة دكتوراه الطب، فقد بحثت مع أبيها ووجدت وسيلةً أخرى للقيد في السجل الطبي؛ ذلك أن جمعية الصيدلة تمنح إجازة الصيادلة، وهي إجازة ليس لها مقام دكتوراه الطب، ولكن الحاصلين عليها يُعَدون أطباء مُعتمدين وتُقيَّد أسماؤهم في السِّجل الطبي. وكتبت إليزابث إلى الدكتورة بلاكويل: «أفكر الآن في محاولة دخول مدرسة والحصول على إجازة الصيدلة.» ولكنها عدَّت ذلك نوعًا من الحل الوسط: «إن شعوري الخاص مُتجه إلى الحصول على دكتوراه الطب، وحتى لو كانت أجنبية فإنها تفرض احترامًا أكبر من إجازة الصيدلة وحدها.»13

وينصُّ ميثاق الصيادلة على أن جميع الأشخاص الذين قضَوا مدة تمرين مدتها خمس سنوات تحت إمرة دكتور، وحضروا محاضرات في موادَّ مُعيَّنة، يُرشَّحون لدخول امتحان التأهيل. وإنه لمن العسير إنكار أن الآنسة جاريت ليست شخصًا، ولم يُحاول الصيادلة ذلك. وفي ١٧ من أغسطس سنة ١٨٦١م طلبوا من الآنسة جاريت العودة إليهم متى استوفت الشروط. وكانوا مُطمئنين إلى أنها لن تعود؛ فشابَّة في مِثل جاذبيَّتها ستكون قد تزوَّجت وانشغلت بتربية أطفالها قبل مضي خمس سنوات، ولكنهم لم يُدخِلوا في حسابهم إصرار إليزابث جاريت ومثابرتها.

وكانت مسألة التمرين سهلة؛ فإن أحد مُدرسيها الخصوصيين، يشوع بلاسكيت في ميدلسكس، صار الآن صاحب عيادة خاصة، وسرَّه أن يرعاها.

أما المحاضرات فشيءٌ آخر. لقد تمكَّنت من الحصول على شهادات بالمحاضرات التي حضرتها في ميدلسكس، وبالنسبة للباقي يتحتم للحصول عليه دخول جامعة. ولما كانت قد استنفدت الإمكانيات المتاحة في إنجلترا، فقد اتَّجهت إلى اسكتلندا.

وكادت تظفر بالقيد في جامعة القِديس أندروز؛ ذلك أن مُسجلًا مُسنًّا اسمه مستر ماك بين قبِل منها رسوم الماتريكوليشن، وقدره جنيهٌ واحد، وتركها تكتب اسمها في سِجل الجامعة. وقد جعل هذا الفعل إليزابث جاريت عضوًا في الجامعة، وهي الآن لا يمكن قطعًا رفض قبولها في المحاضرات الطبية، ولكن مجلس شيوخ الجامعة أمر مستر ماك بين أن يرد إليها الرسوم، فقبِلتْها إليزابث منه وأعادتها على الفور بالبريد إلى مجلس شيوخ الجامعة، مُرفَقًا بها رسالة تقول إنه: «إلى أن يُبَتَّ في المسألة قضائيًّا بحكمٍ يمنع السماح لي بالاحتفاظ ببطاقة الماتريكوليشن، فإني لا أقبل أن تُعاد إليَّ الرسوم التي دفعتها في مُقابل هذه البطاقة.»14 وهدَّد مستر جاريت برفع قضية. وانقسم الرأي الرسمي، فأعلن المُحامي العامُّ والمدَّعي العامُّ السير فيتزروي كيلي أن مجلس الشيوخ لا يمكنه قبول امرأة حتى لو أراد ذلك. ومن جهةٍ أخرى قال جيمس مونكريف النائب العام لاسكتلندا إن ميثاق الجامعة لا ينص على استحالة حضور امرأة دروس الكلية. بيدَ أنه أقرَّ بأن مجلس الشيوخ له السُّلطة التقديرية المطلقة، وله أن يرفض أي شخص يشاء ذكرًا كان أو أنثى. وأصرَّ مجلس الشيوخ على موقفه، وقرَّر المستر جاريت وابنته أن الدعاية التي تَنجم عن رفع دعوى قد تضرُّ بالقضية أكثر مما تنفعها. ولبِثَت إليزابث في مدينة سانت أندروز فصلًا دراسيًّا تعمل بصفةٍ خاصة مع الأستاذ داي الأستاذ الملكي للطب، والذي شجَّع محاولتها الحصول على الماتريكوليشن، وحصلت بذلك على شهادةٍ أخرى ثمينة. وكان هجومها التالي على جامعة إدنبره فاشلًا، ولكنها قضت صيف سنة ١٨٦٣م في إدنبره تعمل تحت إشراف السير جيمس سمبسون الذي كانت إميلي بلاكويل قد درست معه بعد تَخرُّجها من مدرسة الطب، في سنة ١٨٥٤م. والسير جيمس مُعجَب كبير بالدكتورة إميلي بلاكويل، وكان استثناءً كبيرًا في إيمانه بالطبيبات.
وفي سبيل حصول إليزابث على مُحاضِر في مدرسة طب مُعترَف بها يرضى بتدريبها على التشريح والتشريح الجِراحي، وجَّهت خطابات إلى أطباء بعيدين، حتى أبردين في المرتفعات الاسكتلندية. وأخيرًا، في فبراير سنة ١٨٦٤م، مُنِحت الإذن بزيارة عنابر مستشفى لندن تحت ستار أنها مُمرضة في قسم الولادة، وهناك أُتيحَ لها أن تدرس على أستاذ التشريح في مدرسة الطب. ويبدو أن الاستياء من حضورها نما بسرعة بعد ظهورها في المستشفى، فطُرِدت منها في أكتوبر. وكتبت إلى إميلي ديفيز تقول: «يبدو أنهم تَذرَّعوا بخسَّة تظاهري بأني مُمرضة … ولكني قلت إنها ليست غلطتي؛ فقد أعطيتهم فرصتَين لقبولي طالبةً نظامية.»15
وعادت إلى مستشفى ميدلسكس حيث لم يُعطوها تصريحًا مُهمًّا بزيارة العنابر، بل «أصبح لكل طبيب وجرَّاح الحقُّ في منح التصريح حسب تقديره لعنبره أو عنابره.»16 وظلَّ ذلك الترتيب غير المُرضي حتى مارس سنة ١٨٦٥م.

إليزابث جاريت مجازة في الصيدلة

وحصَّلت إليزابث جاريت التعليم المطلوب جزءًا جزءًا؛ ففي خريف سنة ١٨٦٥م قدَّمت إلى جمعية الصيادلة — المُنزعجة — الدليل على أنها استوفت كل الشروط المطلوبة. وشعرت لجنة الامتحان في الجمعية بالإحباط؛ فإن أعضاءها لم يقصدوا طبعًا ما سبق أن أبدَوه من عدم قبول الآنسة جاريت في امتحانهم.

وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لنيوسن جاريت والد إليزابث، وهدَّد بمُقاضاة الجمعية ولو كلَّفه ذلك كل بنس يَملِكه. وبِناءً على نصيحة مُحاميهم تراجع الصيادلة عن موقفهم. وفي سبتمبر دخلت إليزابث الامتحان الذي اتَّضح أنه سهل بصورةٍ مُضحِكة. وفي سنة ١٨٦٦م قُيِّد في السِّجل الطبي اسم إليزابث جاريت المُجازة في الصيدلة.

لقد كانت إليزابث بلاكويل، الإنجليزية المَولد والأمريكية النشأة، أول من شقَّت طريقها إلى هذا السِّجل من ثغرة الدرجة العلمية الأجنبية، ولكن هذه الثغرة سُدَّت بعد ذلك مباشرة. والآن ها هي إليزابث جاريت — الإنجليزية الصميمة — وقد تسلَّلت باعتبارٍ فني، هو أن المرأة شخص. ولن يتكرر هذا؛ فقد أصدر الصيادلة أنفسهم ميثاقًا جديدًا يطلب التخرج من مدرسة طب معتمدة كشرطٍ مُسبَّق لإجازتهم في الصيدلة. ولما كانت النساء مُبعَدات من تلك المدارس، فالسِّجل الطبي بإنجلترا صار — إذَن — مُغلَقًا في وجوههن بصورةٍ مزدوجة.

وفي سنة ١٨٦٥م استأجر مستر جاريت وأثَّث لإليزابث المنزل رَقْم ٢٠ في شارع بركلي الشمالي، وكانت لافتتها تحمل: «إليزابث جاريت، مُجازة في الصيدلة.» وقد كتبت عن ذلك تقول: «لا أحب كلمة مس جاريت على بابي؛ فما أشبه ذلك بلافتة خيَّاطة.»17

وكانت عيادتها الخاصة ناجحة منذ البداية. وقد أنشأت إلى جانبها عيادةً صغيرة هي «مستوصف القِديسة ماري للنساء»، وهناك كانت تستقبل ما بين ٦٠ و٩٠ امرأة من المنطقة الفقيرة جدًّا المُجاورة بعد ظهر ثلاثة أيام من كل أسبوع. وقد نما المستوصف، فصار المستشفى الجديد للنساء الذي تَعدَّل اسمه إلى «مستشفى إليزابث جاريت أندرسون» في سنة ١٩١٧م.

وكانت لم تزَل بحاجة إلى وظيفة في هيئة مستشفًى نظامي، وسنحت لها فرصة في سنة ١٨٦٩م، عندما خلا مكان بمستشفى شادويل للأطفال (الذي صار فيما بعدُ مستشفى الأميرة إليزابث أوف يورك للأطفال). وكان أحد أعضاء مجلس مُديري المستشفى، ومن أكرم المُساهمين في أنشطته، هو الاسكتلندي الأعزب الوسيم رئيس مؤسسة ضخمة لبناء السفن، ويُدعى جيمس جورج سكيلتون أندرسون. وقد جاء إلى الاجتماع مستقرًّا على رأيٍ مُسبَّق؛ سيُصغي بأدبٍ جم إلى قائمة مؤهلات الآنسة جاريت المُجازة في الصيدلة، ثم يستخدم حقه في الفيتو (الاعتراض)، ولكنه نكص على عقبَيه بعد أن راقَبها واستمع إلى ردودها على أسئلة الأعضاء، فحصلت على التعيين في المستشفى. وبعد سنتَين تزوَّجت مستر أندرسون.

إليزابث جاريت: الدكتورة في الطب

وكانت إليزابث حسَّاسة لكونها مجرد «الآنسة جاريت، المُجازة في الصيدلة»، وصحَّحت لكاتبٍ خاطَبها — على سبيل الخطأ — بلقب دكتورة قائلةً: «ليس لي الحق في لقب الدكتورة إليزابث، ولا أحب أن أتمتَّع بما ليس من حقي.»18

وقبل ذلك بسنة، في سنة ١٨٦٨م، كانت جامعة باريس قد جعلت درجاتها في الطب متاحة للنساء، فقرَّرت أن تدخل امتحان جامعة باريس، بشرط أن يسمحوا لها بذلك من غير أن تعيش في باريس كطالبة، وعن طريق السفير البريطاني في باريس، اللورد ليونز، حصلت على الترخيص اللازم لذلك. وفي يونيو سنة ١٨٧٠م صار من حقها قانونًا أن تكتب بعد اسمها: د. ط. (دكتورة في الطب). وبينما ظلَّت تُمارس المهنة في لندن بصفتها مُجازة في الصيدلة، رفعت شهادتها من جامعة باريس مكانتها المهنية رفعة لا شك فيها.

ومن غير أن تُهمل واجباتها كزوجةٍ مُخلِصة وأم لطفلَين، استمرَّت تقوم بالزيارة في الطب والتعليم. وفي سنة ١٨٧٨م قامت بما يُعتقد أنه أول إزالة ناجحة بالجِراحة لمبيض تُجريها امرأة. ومن ١٨٨٣–١٩٠٣م عملت عميدةً لمدرسة طب لندن للنساء التي أُنشئت سنة ١٨٧٤م، وكان لها نشاط أيضًا في الجمعية الطبية البريطانية.

عضوية الجمعية الطبية البريطانية

تدل مُدوَّنات الجمعية الطبية البريطانية على أن الدكتورة إليزابث جاريت قُبِلت «سهوًا»19 للعضوية عن طريق فرع بادنجتن (بلندن) في سنة ١٨٧٣م، وهي حقيقة لم يعرفها العموم حتى سنة ١٨٧٥م عندما حُدِّد لها وقت لقراءة بحث علمي في الاجتماع السنوي بإدنبره. وكان السير روبرت تشرستيزون رئيسًا حينئذٍ للجمعية، وكان مُتطرفًا عنيفًا في معارضته للطبيبات، ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئًا بالنسبة للدكتورة جاريت ما دامت عضويتها قانونية ولا يمكن إلغاؤها، فاتَّخذت خطواتٍ إجرائيةً لاستبعاد أي امرأة تتقدم للعضوية بعد ذلك، ووُزِّع استفتاء على الأعضاء وعددهم ٦٢٣٠، فجاء منهم ٤١٦١ ردًّا، منها ٣٠٧٢ ردًّا تُحبِّذ استبعاد النساء.
وفي اجتماع سنة ١٨٧٨م تمَّت إضافة فقرة إلى مواد الجمعية تقول: «لا تُقبَل طلبات التقدم لامتحانات عضوية الجمعية من أي أنثى.»20 ولم تُلغَ هذه الفقرة إلا في سنة ١٨٩٢م، حيث لم يُصوت في ذلك العام إلى جانب بقائها إلا ثلاثة أعضاء أو أربعة.21

وظلَّت الدكتورة جاريت المرأة الوحيدة لمدة ١٩ سنة، وكانت تحضر الاجتماعات بانتظام، وتتكلم فيها عادةً، وشغلت عِدَّة وظائف.

التقاعد

وفي سنة ١٩٠٢م تقاعد آل أندرسون إلى بيت آل جاريت في ألدبرج. وبعد وفاة زوجها سنة ١٩٠٧م انتُخبت للعمادة، وكان ذلك أمرًا غير مألوف قطعًا في ذلك الحين.

وكما قال الدكتور برنتون: «لا جدال في أنها صنعت لقضية المرأة في الطب بإنجلترا أكثر من أي شخص آخر. إن غيرها أكثر نارية منها. وكثيرًا ما تورَّطت في مآزق، ولكن النظرة المُتزنة إلى الأمور والمثابرة الهادئة اللتَين تمتَّعَت بهما إليزابث جاريت، نجحتا أكثر بكثير من الحماسة المُتقدة والعنف في التقدم بقضية المرأة.»22

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤