الفصل التاسع

التقدم صوب المساواة في الخارج

كان التقدم في إنجلترا أبطأ منه في الولايات المتحدة؛ فالنساء اللواتي أردن هناك أن يكنَّ طبيباتٍ جُوبِهن بقُوى معارضة يبدو أنه لم يكُن من الممكن إرضاؤها؛ فقد أُقصِين عن حجرة المحاضرات؛ إذ لا يجوز لهن تأدية الامتحان. وتقول لجان التخرج إنه لا يجوز لهن تأدية الامتحان لأنهن لم يحضرن المحاضرات المطلوبة! وفيما يتعلق بالنواحي العملية من التدريب الطبي كانت الملكة فيكتوريا نفسها تتزعم الدعوة؛ فقد كانت تفزع من «الفكرة الفظيعة» التي تجعل الشابَّات والرجال يختلطون في المشرحة.

وقد وصف الدكتور برانتون السيدة صوفيا جيكس بليك (١٨٤٠–١٩١٢م) — وهي من كبار أنصار حقوق المرأة ولا سيَّما في ميدان الطب — بأنها «من ذلك الطراز من الأشخاص الذي قيل عنه: إنهم يُسخنون الماء أولًا ثم ينزلون إليه».1 وفي الستينيات من القرن ١٩ قامت — تحت قيادتها — «حفنة من البطلات بمحاولةٍ باسلة لاقتحام جامعة إدنبره، ودام الحصار مدةً أطول من حصار طروادة؛ لأن القلعة استماتت حاميتها في الدفاع عنها.»2 وكان يقود المقاومةَ السير روبرت كرايستيسون القوي صاحب النفوذ والحجة البريطاني في علم السموم، وكان رئيس الجمعية الطبية البريطانية عندما تكشَّفت «الحقيقة الفظيعة»؛ حقيقة عضوية إليزابث جاريت في سنة ١٨٧٥م.

وفي سنة ١٨٦٩م مُنحَت — أخيرًا — شهادة المتريكوليشن من كلية الطب لصوفيا جيكس بليك ولستِّ نساء أخريات. وفي سنة ١٨٧١م رفضت الكلية أن تُعلمهن، وحرَّضت الطلبة الذكور على القيام بأعمالِ عنفٍ جسدية ضدَّهن، ويُقال إن الطلبة كان يقودهم مُساعد الأستاذ كرايستيسون، وأعلنت الآنسة جيكس بليك ذلك على الملأ، فرفع عليها السير روبرت دعوى قذف، وحكمت له المحكمة بتعويضٍ قدرُه دانقٌ واحد وهو ربع بنس. وفي سنة ١٨٧٣م رفعت الطالبة دعوى ضد هيئة إدارة الجامعة تُطالب إعلانًا بأن الجامعة يجب أن تُتيح لها ولزميلاتها الطالبات إتمام تعليمهن وأداء الامتحان لنيل درجتهن في الطب، وكسبت قضيتها. وعند الاستئناف نُقِض الحكم الابتدائي بأغلبية صوت واحد، وأُرغمت النساء على الانسحاب. ويبدو أن المَخرج من هذه المُعضِلة كان في إنشاء معهد يُتيح للنساء تعليمًا طبيًّا كاملًا. وفي سنة ١٨٧٤م، وتحت رعاية وإرشاد الدكتور فرانسيس أوستي وغيره من أعضاء المهنة ذوي الذهن المُتحرر والنفوذ، أسَّست صوفيا جيكس بليك مدرسة طب لندن النسوية، وافتُتحت في ١٢ من أكتوبر وبها ١٤ طالبة.

ولم يكُن هناك مستشفًى يَقبل أن يكون مستشفًى تعليميًّا للطالبات، ولم تكُن هناك لجنة امتحان لامتحانهن. وفي فبراير سنة ١٨٧٦ أدَّت هذه النقائص إلى فقدان عدد من الطالبات، وصار واضحًا أن المدرسة يجب أن تُغلِق أبوابها في نهاية السنة ما لم يتم تدبير تدريب مؤهل في المستشفيات.

وكان راسل جيرني، الذي سبق أنْ ساعَد إليزابث جاريت على بدء تعليمها الطبي، والذي أصبح بعد ذلك عضوًا في البرلمان، يقوم بنشاطٍ كبير في ميدان حقوق المرأة، وقد تبنَّى قانون «ممتلكات النساء المتزوجات»، وهو يرمي إلى تخليص الزوجات من القيود الحرفية للزواج، وكان مُحرِّضًا كبيرًا على إنشاء المستشفى الجديد للنساء ومدرسة طب لندن النسوية، وقدَّم للبرلمان مشروع قانون يمنح كل لجان الامتحان الحق في قبول النساء لتأديته، وصار ذلك المشروع قانونًا في ١٢ من أغسطس سنة ١٨٧٦م باسم القانون الطبي سنة ١٨٧٦م. وكانت هذه نقطة تحوُّل، وإن بقيَت بعض المعارضة من جانب الجامعات. وفي السنة التالية فتح المستشفى الملكي المجَّاني عنابره لطالبات مدرسة طب لندن النسوية. واحتفظت المدرسة بوضعها المستقل حتى سنة ١٩٠١م، عندما صارت إحدى كليات جامعة لندن.

وكانت كريستين موريل (١٨٧٤–١٩٣٣م) من ألمع الخريجات، وقد وُلِدت في عام افتتاح المدرسة. وقد كتب الدكتور برايتون عن دورها قائلًا: «لقد كانت مَهمَّة السابقات عليها أن يُنشئن حقهن في الالتحاق بالمهنة، وبقيت المَهمَّة الأصعب وهي أن تكون المرأة الطبيبة ذات مكانة وقيمة في المهنة، وهذه المهمة هي التي أتمَّتها كريستين موريل بنجاحٍ عظيم.»3 وكان أعظمَ إسهام لها في ميدان الخدمة العامة. وفي تلك الأيام كان الرجال قد قرَّروا (وقبلت النساء ذلك) أن «الجنس الأضعف أقل صحة من الذكور». وبتعليم النساء الحقيقة عن أنفسهن قطعت الدكتورة موريل شوطًا كبيرًا صوب نسف هذه الأغلوطة، وحاضرت الفتَيات العاملات والأمهات في موضوعاتٍ مثل الإسعافات الأولية والتمريض المنزلي والعناية بالأطفال. وقبل كل شيء كانت نصيرة للصحة العامة من خلال الطب الوقائي، وأنشأت عددًا من عيادات الأطفال الأصحَّاء التي كانت تعمل على نحوِ ما تعمل هذه العيادات الآن.

ولما قارَب القرن ختامه لم تكُن الصعوبات أمام المرأة للحصول على تعليمٍ طبي تفوق الصعوبات التي يُصادفها الرجل، واستطاعت المرأة أن تحصل على الدرجات بعد الامتحانات بالطريق العادي في جامعات لندن، وديرهام، وإدنبره، وجلاسجو، وسانت أندروز، وأيرلندا.

في إيطاليا

لم يوجد قطُّ في إيطاليا قانونٌ يُبيح أو يمنع المرأة من دخول الجامعات؛ وبالتالي كانت إيطاليا مُتقدمة بأكثر من قرن من الزمان على بقية بلاد العالم في تخريج طبيبات مرموقات مُمتازات.

وقد حصلت لوران ماريا كاترينا باسي (١٧١١–١٧٧٨م) على درجة دكتوراه في الفلسفة من جامعة بولونيا سنة ١٧٣١ أو سنة ١٧٣٢م، وكانت حُجة في الميكانيكا والهيدروليكا والتاريخ الطبيعي والتشريح، وشغلت كرسيَّ التشريح حتى تزوَّجت، وبعدها كرَّست نفسها لحياة الأسرة، وأنجبت وربَّت ١٢ طفلًا.

وآنا موراندي (١٧١٦–١٧٧٤م) المولودة في بولونيا تزوَّجت أستاذ التشريح في الجامعة، وهو جيوفاني مازوليني، ودرست هي شخصيًّا التشريح، وأنتجت نماذج من الشمع لعيِّنات من قطاعاتٍ مُلوَّنة تُضاهي الأصل. وكانت هذه الوسائل التعليمية أفضل من التي ابتكرها قبل ذلك بأربعة قرون «ألسندرا جيلياني». وقد اشترى الإمبراطور جوزيف الثاني إمبراطور ألمانيا عددًا من نماذجها. وأثناء المرض الأخير لزوجها حاضرت بدلًا منه. وفي سنة ١٧٦٠م خلَفَته أستاذةً للتشريح، ودَعَتها كاترين الثانية إمبراطورية الروسيا لتُحاضِر في موسكو، وعيَّنتها عضوًا في الجمعية العلمية الملكية الروسية، كذلك اختارتها الجمعية الملكية البريطانية عضوًا بها.

وفي جامعة بادوا شغلت أنجيولينا البادوية كرسيَّ علم الولادة، أما ماريا باتراتشبي التي يُقال إنها حصلت على درجتها العلمية من فلورانسا سنة ١٧٨٠م، وكذلك ابنتها زافيرا فيريني (تخرَّجت من بولونيا سنة ١٨٠٠م)، فقد قامت كلتاهما بتدريس التشريح في فيرارا.

وماريا ديللي دونه (١٧٧٦–١٨٤٢م) حصلت على دكتوراه الطب من بولونيا، حيث «أُضفيَت عليها بالإجماع كل مراتب الشرف التي تمنحها الجامعة»، وقد اعترف نابليون ببراعتها. وقد فشلت محاولته سنة ١٨٠٢م لانتخابها لكرسي الفيزياء، ولكنه جعل الأعضاء يختارونها أستاذة لعلم التوليد. وفي سنة ١٨٠٧م رقَّاها إلى عضوية الأكاديمية الفرنسية للعلوم. وفي سنة ١٨٠٤م كانت قد غدَت مديرة مدرسة بولونيا للقابلات. وأشهر جميع النساء من مُدرسات الطب اللواتي «ازدان بهن المركز العلمي العريق في بولونيا» هي جوزبينا كاتاني التي شاركت جويدو تيزوني في أبحاثه عن الكوليرا سنة ١٨٨٦م.4

في كل مكان آخر حول العالم

قيدت زيوريخ بسويسرا أول طالبة في سِجل كلية الطب بجامعاتها في سنة ١٨٦٤م، وكانت هذه الطالبة المُقيَّدة روسية يبدو أنها لم تُتمَّ دراستها، ثم أعقبتها روسيةٌ أخرى هي ناديا سوسلوفا من سانت بطرسبرج، وأحرزت درجتها العلمية في ١٤ من ديسمبر سنة ١٨٦٧م. وافتتحت خريجتان سويسريتان، هما ماري هايم فيجلين (١٨٤٥–١٩١٦م) وآناهير (١٨٦٢–١٩١٨م)، مدرسة لتدريب المُمرضات في سنة ١٩٠١م ستنال شهرة بسبب ارتفاع مستوياتها. ولم تفتح باريس أبوابها أمام النساء إلا في سنة ١٨٦٨م. وتقدَّمت مارلين بريس في سنة ١٨٦٧م إلى عميد كلية الطب لكي يسمح لها بالدخول، فقيل لها إنها يجب أن تُبرز أولًا الشهادات المُعتادة، وهي بكالوريوس الآداب وبكالوريوس العلوم. وفي العام التالي أحرزتهما وقدَّمتهما، وأُجيبت إلى طلبهما، ولكن ليس من المعروف إذا كانت قد تخرَّجت فعلًا.

وكانت الجامعات الألمانية أبطأ جامعات أوروبا في قبول النساء للتقدم للدكتوراه في الطب، وكانت بروسيا آخر ولاية أذعنت لذلك في سنة ١٩٠٨م.

أما هولندا فهي مثل إيطاليا؛ إذ لم تكُن قط فيها قوانين تُقصي النساء عن جامعاتها، ولكن لم تكن فيها لهفة على انتهاز هذه الفرصة. ويبدو أن «آليتا جاكوبز» كانت أول امرأة تدرس الطب رسميًّا، وأدَّت امتحانات الدولة في سنة ١٨٧٨م. وفي نفس السنة نالت كاترين فان توسنبروك درجة في الطب.

وفُتحت مدارس الطب البلجيكية للنساء في سنة ١٨٨٣م.

وفي البلاد الاسكندنافية فتحت السويد جامعاتها للنساء في سنة ١٨٧٣م، والدانمرك سنة ١٨٧٥م، والنرويج سنة ١٨٨٢م. وفي فنلندا عُيِّنت امرأةٌ طبيبة للبلدية في هلسنجفورس سنة ١٨٨٢م، وبعد أربع سنوات كانت هناك أربع طالبات طب في جامعة هلسنجفورس.

وفي سنة ١٨٦٨م التمست الجمعية العلمية الروسية من القيصر أن يسمح للنساء بدراسة الطب، وقد أُجيب المُلتمَس بعد أربع سنوات بأن أُنشئت في سانت بطرسبرج كلية طبية نسوية. وفي العشر السنوات التالية قُبِل بالمدرسة نحو ألف طالبة، أكملت ٦٠٠ منهن الدراسة ووجدن وظائف في الصحة العامة، وخدمات قانون الفقراء، والمستشفيات والملاجئ والمدارس والمصانع، وفي الممارسة الخاصة. وفي أثناء الحرب الروسية التركية سنة ١٨٧٧م عملت الطالبات في الفِرق النهائية بالمدرسة ضابطات مُعاونات، وامتدحهن وزير الحرب، ولسببٍ ما أُلغيت المدرسة برُمَّتها في أغسطس سنة ١٨٨٢م، ولكن أُعيدَ فتحها سنة ١٨٩٧م.

وتبدو سنة ١٨٨٧م سنة الانتصارات؛ فجامعة ملبورن وجامعة سيدني بأستراليا فتحتا أبوابهما لطالبات الطب، وفي أمريكا اللاتينية منحت جامعة شيلي وكلية طب باهيا بالبرازيل وجامعة المكسيك درجاتهن الطبية الأولى للنساء، وكان التعليم المشترك في الطب يمضي قُدمًا خارج الولايات المتحدة وداخلها. وفي سنة ١٨٩٦م صار مُمكنًا لمجلةٍ ذائعة أن تقول: «إن أبواب أريحا الطبية تسقط في كل مكان على صوت بوق «يشوع النسوي»؛ فالاقتراع الأخير في كلية الأطباء كان نصرًا أدبيًّا للنساء، ومجلس زملاء كلية الجرَّاحين مُستعدٌّ لقبولهن في عضويته، وكل الهيئات الأخرى تُعطيهن الدبلومات على قدم المساواة مع الرجال … إن أبواب المهنة تُفتح لهن في كل البلاد المُتحضرة، فيما عدا ألمانيا والنمسا.»5

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤