الفصل الرابع

المعايير

هذا خاطئ، ونعلم بذلك جميعًا!

ثبَّت مؤخرًا المتجر الكبير الذي أشتري منه احتياجاتي نظامَ خدمة ذاتية لدفع الحساب، حيث تقوم بنفسك بمسح أسعار مشترياتك ودفع الحساب. بالتأكيد توجد كاميرات للمراقبة، لكن — في النهاية — المتجر يثق في أنك ستفعل الصواب.

في أول مرة أستخدم النظام الجديد لم يتعرف الجهاز على فصيلة جديدة من الشمام كانت ضمن مشترياتي، فطلبت المساعدة. أثناء انتظاري — الذي طال — أدركت كم سيكون أسهل لو أخذت الشمامة وغادرت دون دفع ثمنها، لكني لم أفعل ذلك، ولم يفعل غيري ذلك أيضًا. ولا يرجع السبب إلى الكاميرات فحسب.

عندما تم تثبيت أنظمة الخدمة الذاتية لدفع الحساب لأول مرة، خشيت المتاجر التجارية الكبرى من استغلال العملاء للموقف وتغليبهم مصلحتهم الخاصة وخداع النظام. لكن — فعليًّا — لم تحدث زيادة في معدلات السرقة من المتاجر، بل انخفضت في الواقع. واصل العملاء دفع ما يدينون به للمتجر، ولم يتمكن موظفو التحصيل من مزاولة عُرفهم الاجتماعي — كما يظنون على الأقل — بعقد صفقات تُكسبهم مصلحة خاصة مع أصدقائهم.

أغلبنا يسدد ثمن السلع، رغم أن هذا قد يتعارض مع مصلحتنا الخاصة، حتى عندما لا نُجبر على ذلك. والسبب هو المعايير الاجتماعية. المعايير الاجتماعية هي قواعد المجتمع المقبولة بوجه عام، وهي تُملي علينا ما ينبغي وما لا ينبغي أن يحدث، وكيف ينبغي أو لا ينبغي أن نتصرف.

عادة ما نظن أن الجميع يتفقون معنا حول ما يشكِّل المعيار الاجتماعي. ومن ثَمَّ ليست المعايير مجرد توقعات، بل توقعات «مشروعة». إنها ليست ما نتوقعه نحن أنفسنا فحسب، بل ما يتوقع المجتمع عمومًا. نتعلم هذه المعايير صغارًا، وتتحول إلى جزء كبير منا، لدرجة أننا نتبع هذه المعايير حتى عندما لا نُكره على اتباعها.

لا تنطبق المعايير الاجتماعية على السعر الفعلي للبضائع وحده، بل على الجوانب الأخرى كلها من الأسعار: ما ينبغي تسعيره وما ينبغي طرحه مجانًا، مَن ينبغي أن يحدد السعر وكيف ينبغي له تحديد السعر، ما ينبغي تضمينه في السعر، وما ينبغي تحصيل سعر إضافي مقابله، وكيف ينبغي دفع السعر؛ ومن ثَمَّ تنطبق المعايير الاجتماعية على كل جوانب نموذج السعر العادل.

المعايير الوصفية في مقابل المعايير التقادمية

كما ذكرنا في الفصل الأول، المعايير الاجتماعية للتسعير نوعان: وصفية وتقادمية (انظر الجدول ٤-١).1 المعايير الوصفية تصوِّر ما يُتوقع كسلوك «طبيعي». نتوقع أن يبلغ ثمن علبة الطماطم كبيرة الحجم دولارًا واحدًا تقريبًا، ونتوقع أن نحصل على أكياس محل البقالة دون مقابل، ونتوقع أن نساوم على السعر في سوق السلع المستعملة. انتهاكات المعايير الوصفية غير متوقعة، ولا نحكم عليها بأنها جائرة على المستوى الشخصي. لكن رد فعل المستهلك معتدل؛ فإن طلب البائع في سوق السلع المستعملة السعر الأصلي للسلعة، ربما يتفاجأ المستهلك لكنه لن يغضب حياله.
جدول ٤-١: المعايير الاجتماعية الوصفية والتقادمية للأسعار.
المعايير الاجتماعية الوصفية المعايير الاجتماعية التقادمية
تنتهي أسعار الوقود بتسعة أعشار السنت. ينبغي أن يحصل العملاء الدائمون على خصم.
تُوفَّر المصاعد مجانًا. لا ينبغي أن يرتفع سعر المياه بعد وقوع إعصار.
تُباع أعمال الفنون الجميلة في المزادات. ينبغي أن يعكس السعر جودة المنتج.
تحمل جميع نكهات الزبادي السعر نفسه. ينبغي إتاحة معلومات كاملة عن السعر قبل الشراء.
يشتمل سعر الهوت دوج على البهارات. ينبغي تحديد الأسعار على أساس التكاليف.
يقل سعر كيلو المنتجات كبيرة الحجم عن قياسية الحجم. لا ينبغي أن يتربح المرء من أصدقائه.

لا تشير المعايير التقادمية إلى ما يتم طبيعيًّا فحسب، بل ما ينبغي وما لا ينبغي أن يتم. ينبغي للمستهلكين أن يدفعوا مقابل ما يشترون. ينبغي للبائع أن يقدِّم خصمًا لعمليات الشراء الكبيرة. العملاء الدائمون سيحصلون على مزايا لا تُتاح للعملاء الجدد. منتهكو المعايير التقادمية يتلقَّون عقابهم لأنهم جائرون، لا عليك وحدك على المستوى الشخصي بل على المجتمع أيضًا إجمالًا.

يدعم المعايير التقادمية إحساسٌ بالاستقامة الأخلاقية؛ أي الاعتقاد بأن المفروض بالتقادم ليس طبيعيًّا فحسب بل صحيح أيضًا. وهذا لا يتضمن أن هذه المعايير صحيحة أو خاطئة فعليًّا حسب معيار أخلاقي مجرد بعينه، بل إنها تُعتبر صحيحة أو خاطئة في موقف معين في ثقافة بعينها. (وعليه، فعندما أصف شيئًا في هذا الكتاب بأنه عادل، لا أقصد سوى أنه «يبدو» عادلًا أو «يُعتبر» عادلًا.)

القوانين معايير تقادمية رسمية وواضحة. «المعايير غالبًا ما تسبق القوانين لكن القوانين تدعمها وتصونها وتعتمد عليها.»2 مثال على ذلك: المعيار الاجتماعي المناهض لرفع الأسعار بعد وقوع الكوارث الطبيعية اكتسب الآن إطارًا رسميًّا، وأصبح قانونًا يحظر مثل هذه الأعمال.

جدوى المعايير

على مدار قرن مضى، اعتُبرت المعايير الاجتماعية بمثابة رقيب غير مرئي، قوة غامضة تحوم «في الأرجاء»، وتتحكم في كل شيء نفعله.3 لكن الرأي الشائع اليوم هو أن المعايير لا توجد إلا في عقولنا. نحن نخلقها لأننا نحتاج إليها، ويبدو أننا صانعو معايير4 ومتَّبعو معايير5 بالفطرة. نحن نصنع المعايير التي نتبعها، نحن أنفسنا، ونتوقع من الآخرين أن يتبعوها بالمثل، ونقوم بذلك في المقام الأول لأن المعايير الاجتماعية مهمة لنا.

تنبع أهمية المعايير الاجتماعية من أنها تساعدنا على التنبؤ بالكيفية التي سيتصرف بها الآخرون، وكيف سيكون رد فعلهم إزاء تصرفاتنا. وعن طريق التنبؤ بالكيفية التي سيتصرف بها الآخرون في مواقف معينة، توفِّر لنا المعايير الاجتماعية الوقت والجهد، وكذا الضغط النفسي. لكن القواعد لا تُطبق من تلقاء نفسها، فمثل القيادة على الجانب الأيمن من الطريق، فإن اتباع المعيار لا يتحقق إلا عندما يتبعه الآخرون جميعًا، فالقواعد المتفق عليها جمعيًّا تقينا الاصطدام بعضنا ببعض؛ مادِّيًّا ونفسيًّا.

المعايير الاجتماعية تحمل أهمية خاصة في التبادل الاقتصادي؛ لأنها تساعدنا على تنسيق السلوك.6 على سبيل المثال: عندما ندفع السعر المنصوص عليه، فلنا أن نفترض بثقة أن البائع سيسلمنا البضائع. لا نتوقع سوى ذلك، ويعلم البائع بما نتوقع.
تُبسِّط المعايير الاجتماعية صنع القرار عن طريق تقديم ما يُعرف بالمنهج التجريبي: وهو وسيلة سريعة، يسيرة، عملية، لاتخاذ قرارات مقبولة اجتماعيًّا.7 باتِّباع المعيار الاجتماعي، لا حاجة لنا للتفكير كثيرًا فيما إذا كان علينا ارتداء بذلة عمل رسمية أو رداء سباحة في العمل؛ إذ نعرف سابقًا أيهما سيلقى القبول. لا حاجة لنا للحيرة إزاء استخدام الشوكة أو الملعقة لتناول الآيس كريم؛ فالاختيار تلقائي. ولا حاجة لنا للتفكير فيما إذا كان ينبغي الدفع مقابل سلعة أم سرقتها؛ فالإجابة المقبولة اجتماعيًّا واضحة.

والمعايير مفيدة كذلك لأنها تحول دون حدوث اضطراب. عندما لا يشيع فهم المعايير، لا يعلم الناس كيف يتصرفون. قبل حركة تحرير المرأة، كان يُتوقع من الرجال فتح الأبواب بحيث تعبُرها النساء أولًا، ومع طرح المساواة بين الجنسين، لم يعد ذلك المعيار قائمًا؛ فالآن يفتح الرجال والنساء الأبواب بعضهم لبعض، ولا يدرون أيهم سيعبُر أولًا. والنتيجة حدوث اضطراب عند المداخل.

ينطبق الأمر نفسه على التسعير، ولنتأمل دفع البقشيش كمثال: كان المعيار المتَّبع قديمًا هو دفع ١٥ في المائة من الفاتورة، لكن لم يعد هذا المعيار ساريًا، فينبغي وضع معيار جديد؛ ففي بعض المدن، البقشيش المتوقع ١٥ في المائة، وفي مدن أخرى يبلغ البقشيش المتوقع ١٧٫٥ في المائة بل و٢٠ في المائة، والنتيجة حدوث اضطراب في المطاعم.

ورغم أن المعيار قد يكون مفيدًا في مرحلة زمنية بعينها، فربما لا تستمر فائدته على مدار الزمن. مثال على ذلك: تحديد الأسعار لتنتهي بخمسة أو تسعة، وهي ممارسة شائعة اليوم. القصة وراء الممارسة هي أنها كانت متبعة من أجل إجبار الموظفين على تسجيل عملية البيع على فتح ماكينة النقدية من أجل إعطاء الباقي للعميل. ولأن المتاجر حينها كان بها سجل بعمليات البيع، لم يتمكن الموظفون من الاستيلاء على النقود. واليوم، مع انتشار عمليات البيع من خلال بطاقات الائتمان وبطاقات السحب المباشر، لم يعد لهذه العادة أي منفعة عملية، لكن لا تزال الأسعار تنتهي بخمسة أو تسعة كمعيار اجتماعي للتسعير.

رغم أن المعايير الاجتماعية يمكن أن تكون مفيدة في التنبؤ بالسلوك، وتبسيط اتخاذ القرارات وتجنب الالتباس، فلا يعني هذا أن المعايير فاعلة بالضرورة. لنأخذ مسألة تحديد السعر كمثال: المعيار في الولايات المتحدة أن يحدِّد البائع السعر ويضعه على بطاقة، لكن من قال إن هذه الطريقة أفضل من مساومة السعر كما يحدث في الهند؟ وانتهى دوجلاس نورث — الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد — إلى أن المعايير الاجتماعية تساعد على إقامة «بنية مستقرة (لكنها لا تتسم بالكفاءة بالضرورة) للتفاعلات البشرية.»8

الأناني في مقابل الاجتماعي

كثير من الأكاديميين — بخلاف نورث — أصبحوا مهتمين مؤخرًا بدور المعايير الاجتماعية في النظام الاقتصادي، وإلى جانب خبراء الاقتصاد، ثمة علماء نفس9 وعلماء اجتماع10 وفلاسفة11 ومحامون12 وخبراء تسويق13 وعلماء سياسة.14 والشاغل الأساسي لهؤلاء الأكاديميين المتنوعين هو ما إذا كانت المعايير تعزِّز أم تقيِّد المصلحة الشخصية. أما في التبادل الاقتصادي، فهل يستغلُّ الناس المعايير من أجل إكساب أفعالهم الأنانية شرعية، أم أن تقييدات المعيار تثنيهم عن الأفعال الأنانية؟
يؤيد الرأيَ الأول الأكاديميون الذين يذهبون إلى أنه في السياق المجرد لتبادل المستهلك، يكون المعيار الاجتماعي الوحيد هو الانتهازية.15 يقول هؤلاء الباحثون إن التفاعلات بين المشتري والبائع في سوق المستهلك تبلغ من قِصر الأمد والتجرد ما لا يتيح فرصة لتكوُّن المعايير الاجتماعية. يؤيد هذا الرأيَ بعضُ علماء النفس الذين يؤكدون أن تصرُّف المرء لمصلحته الخاصة هو معيار اجتماعي أساسي.16
المصلحة الشخصية هي بالتأكيد — في سياق تبادل المستهلك — دافع طاغٍ.17 يكون تحديد السعر صفقة ذات مجموع صفري؛ فخسارة المشتري هي مكسب البائع، والسعر الأقل للمستهلك هو ربح أقل للبائع. ومن ثَمَّ يتصارع كلا الطرفين حتى ينتصر أحدهما. ورغم أنه يمكن أن يكون للمعايير الاجتماعية تأثير في العلاقات طويلة الأمد الشائعة في التبادل بين الشركات، يتشكك البعض في الدور الذي تؤديه المعايير في تبادل المستهلك.
يقدِّم الإجابة جاري جورتس وبول ديل،18 عالما السياسة، اللذان يزعمان أن المعايير تتخلل جميع العلاقات، لكن المعايير لها ثلاثة أنواع مختلفة: المعايير التعاونية، وهي معايير المصلحة الاجتماعية التي تنشأ في علاقات العمل طويلة الأمد. المعايير القسرية ذاتية المصلحة التي تفرضها الشركات الضخمة مثل وول مارت على مورديها الضعاف. أما المعايير اللامركزية فهي التي تنطبق على تبادل المستهلك. هذه المعايير اللامركزية تقيِّد سعي البائع للتربح من خلال العقوبات المتنوعة من الكثير والكثير من المستهلكين، الذين يتصرفون باستقلالية. كما أنها تقيِّد مساعي المشترين ذاتية المصلحة للسرقة خلسة.
رغم أنه من الواضح أن ثمة وجودًا فعليًّا لمعايير اجتماعية في تبادل المستهلك تقيِّد كلًّا من المشتري والبائع، فإن هناك أيضًا أدلة على وجود انحياز للمصلحة الشخصية،19 فعادة ما نرى النتائج التي تعود علينا بالنفع أكثر عدلًا؛ لذا اعتاد المستهلكون أن يعتقدوا أن السعر الأقل هو سعر أعدل. لكن الانحياز للمصلحة الذاتية يؤثِّر على ما هو أكثر من مجرد تقييم السعر، إنه يؤثِّر على المعايير التي نفكر فيها عند إصدار حكم بالعدل أو بالظلم.

على سبيل المثال: العمال الذين يشعرون أنهم يبذلون جهدًا أكبر من الآخرين يقولون إن أجورهم ينبغي أن تُحدَّد على أساس إسهامهم؛ ومن ثَمَّ سيتلقَّون أجرًا يزيد على أجر من بذلوا جهدًا أقل، لكن من يشعرون أنهم بذلوا جهدًا أقل يقولون إن الرواتب ينبغي أن تكون متساوية للجميع؛ ومن ثَمَّ سيتلقَّون أجورًا أعلى من الأجور المُحددة على أساس الإسهام.

في كتابها الملهِم عن المعايير، تقول الفيلسوفة كريستينا بيكياري إن المعايير المختلفة مصدرها مواقف مختلفة،20 ففي بعض الأحيان يكون المعيار هو التصرف بناءً على المصلحة الشخصية، وفي أحيان أخرى لا يكون المعيار كذلك؛ ففي حالة تفكيرنا في شراء إحدى سلعتين متطابقتين، سننتقي بالطبع السلعة الأرخص؛ لأن ذلك يخدم مصلحتنا الشخصية، لكن في حالات أخرى سننتقي ما يكون في مصلحة المجتمع، مثلًا: ندفع مقابل ما نشتري بمحل البقالة حتى إذا كان هذا يخالف مصلحتنا الشخصية.

واتباع معيار اجتماعي معين في موقف بعينه يتحدد بناءً على سيناريوهات التفاعل الاجتماعي التي نتعلمها في طفولتنا؛ ففي موقف من المواقف، تفصِّل هذه السيناريوهات معايير الأشخاص المضطلعين بمهمة معينة، وزمان تنفيذها، وكيفية إجرائها. على سبيل المثال: المعيار الساري هو ترك بقشيش في المطعم لكن ليس في محل التنظيف بالبخار، والمعيار القائم هو المساومة على السعر في سوق السلع المستعملة وليس في المتجر الكبير. المعيار القائم هو دفع تذكرة السينما قبل الدخول في حين يُمنَح الممثلون المتجولون المال بعد عرضهم.

اعتدنا افتراض أن الجميع تعلَّموا السيناريوهات ذاتها، لكن الأمر قد يكون كذلك أو قد لا يكون، فبعض موظفي التحصيل في محالِّ البقالة يظنون أن المعيار القائم يفرض عليهم أن يحصِّلوا نقودًا أقل من أصدقائهم. هذا ما يُطلق عليه معيار شخصي لا معيار اجتماعي، وهو معيار ذو طابع خصوصي يتبنَّاه فرد وليس الجماعة؛ فالمعيار الفعلي أنه لا ينبغي للمرء التربُّح من أصدقائه.21 ومن ثَمَّ فالمعيار الساري أن لصاحب المتجر — الشخص الذي يربح من البيع — أن يقدِّم خصمًا لأصدقائه، لكن ليس للموظفين العاملين بالساعة أن يفعلوا ذلك.
تنشأ المشكلات عندما يظن الناس أن معاييرهم الشخصية هي معايير اجتماعية فعليًّا وتؤيدها المجموعة بالإجماع. يمكن أن يحدث سوء الفهم هذا بمنتهى السهولة. يطلعنا الباحثون على أن الإنسان يميل إلى تضخيم مدى اتفاق الآخرين مع معاييرنا الخصوصية.22

بالعودة إلى سبعينيات القرن العشرين — على سبيل المثال — اعتقد المتطرف آبي هوفمان أن السرقة مُباحة، بل محمودة. (انظر «المعايير الشخصية لآبي هوفمان» في نهاية هذا الفصل.) وظن أن تحصيل موظف التحصيل بالمتجر الكبير نقودًا أقل من أصدقائه أمر مقبول، وكان مقتنعًا أن أغلب الناس يوافقونه الرأي، إلا أن معياره الشخصي القائل بأن الناس لها أن تسرِق أيًّا ما تصل إليه أيديهم لم يكن معيارًا مقبولًا اجتماعيًّا.

نشأة المعايير

حتى إن كان للناس أفكار مشوهة حول ما يشكِّل معيارًا اجتماعيًّا، ينشأ التوافق العام داخل المجتمع بطريقة أو بأخرى. على سبيل المثال: في الولايات المتحدة أكياس البقالة مجانية، لكنها ليست كذلك في ألمانيا. يضيف الأمريكيون ضرائب المبيعات إلى السعر، أما الأوروبيون فيشملونها في السعر. ومن ثَمَّ فقد نشأ في كل مجتمع التوافق على المعايير الاجتماعية للتسعير بطريقة ما.

أحيانًا ما تبدأ المعايير عمدًا، فمثلًا: يمكن للبائعين — في سعيهم للتفوق على منافسيهم بتمييز أنفسهم — تجربة سياسات تسعيرية مختلفة، فإن ذاعت وانتشرت هذه السياسات، فمن الممكن أن تتطور إلى معايير.

تسعِّر الآن المطاعم المتْرَفة بنود قائمتها بالدولار دون سنتات لتُبدي أن الأسعار لا تتبع نسقًا معينًا. وتجار التجزئة يبيعون الآن جواكت البذلات النسائية وتنوراتها على حدة؛ كي ترضي مختلف مقاسات السيدات. وتفرض مدن مثل أوسلو ولندن الآن رسم دخول على السيارات؛ لتحسين جودة الحياة بتقليل الازدحام. ومراكز التسوق بصدد فرض رسوم على ركن السيارات لتعزيز أرباحها. إن أُعجب المشترون بفكرة جديدة — أو على الأقل لم يعترضوا عليها بشدة — يمكن أن تتحول إلى معيار بمرور الوقت.

في حالات أخرى، تنشأ المعايير الاجتماعية بمحض الصدفة. تتكون معايير التسعير العرضية من خلال التجربة والخطأ للأفعال المتكررة، ويعززها تكرار «الإجراءات العديدة التي تبدو تافهة في حياتنا اليومية.»23 إنها تتطور بمرور الزمن وتُنقل ثقافيًّا.

يجرب الناس أنماطًا سلوكية مختلفة ويستقرون على النمط المفيد بطريقة أو بأخرى. على سبيل المثال: من المفيد للجميع القيادة على جانب واحد من الطريق، سواء كان الأيمن أو الأيسر. ربما كان يوجد في وقتٍ ما سبب لهذه المعايير، لكن يبدو أنها نشأت مصادفة لتتحول إلى معايير وصفية للطريقة التي تتم بها الأمور بشكل طبيعي.

للمعايير الوصفية أن تترسخ بمرور الوقت بحيث يمكن أن تتحول إلى معايير تقادمية، وكما تشرح عالمة الاجتماع كريستين هورن: «أيًّا كان السبب للفعل المبدئي، عندما يشترك كثيرون في السلوك ذاته، يقترن السلوك بإحساس بالضرورة.»24 ويصير الكائن ما ينبغي أن يكون.

مثال على ذلك بطاقة الأسعار: لم تكن الأسعار تُكتَب على بطاقات حتى ستينيات القرن التاسع عشر، ثم أصبحت شائعة، حتى إنها باتت اليوم معيارًا تقادميًّا. وفي الواقع، الآن في بعض الولايات مثل نيوجيرسي قوانين تلزم جميع المتاجر الكبيرة بلصق الأسعار على السلع.

ورغم أن السلوك المتكرر يمكن أن يتحول إلى معيار وصفي، ويمكن أن يصبح بدوره معيارًا تقادميًّا، فلا يعني ذلك أن كل الأنماط السلوكية ستصبح معايير. خلْع المرء قبعته لأن الجو حار نمط سلوكي، لكنه ليس معيارًا وصفيًّا أو تقادميًّا، وليس متوقعًا بالضرورة، بل إن بعض الناس يفضِّلون اعتمار القبعات في الأجواء الحارة. وفي المقابل، خلع المرء قبعته بالكنيسة معيار اجتماعي تقادمي في الواقع.

الفارق هو أن المعايير الاجتماعية لا تؤثِّر على المرء وحده، وإنما على الآخرين في المجتمع. خلع المرء قبعته لأن الجو حار يؤثِّر عليه وحده، أما خلع المرء قبعته في الكنيسة فهو لفتة رمزية تؤثِّر على المجموعة بأسرها.25 النظرات الجانبية التي سيتلقاها المخالفون من جماعة المصلِّين كلها ستطلعهم على أنهم انتهكوا المعيار الاجتماعي.

عندما يلتزم الناس بالمعيار الاجتماعي ويخلعون قبعاتهم في الكنيسة، لا يلتفت أحد إلى ذلك. لا ينتبه أحد إلا عندما يُنتهَك المعيار. على سبيل المثال: تخيَّل أنك تشتري سيارة وتكتشف أن البطارية تكلفك مبلغًا إضافيًّا. تخيَّل أنك أعطيت سائق أجرة ١٠ دولارات مقابل توصيلة تكلفت ٦ دولارات ولم يُعْطِك الباقي. تخيَّل نزولك بفندق وإخبارهم إياك أنهم لا يقبلون الدفع نقدًا.

كل هذه الأحداث ستكون مزعجة؛ لأنها انتهاكات لمعايير التسعير الاجتماعية التي نعرفها جميعًا. في المعتاد يشتمل سعر السيارة على البطارية، وبالتأكيد سيعيد لك سائق الأجرة الباقي، وبالطبع سيقبل الفندق الدفع نقدًا. تلك هي المعايير الاجتماعية، ويرى العملاء أنها حقوق مشروعة، وأن التجار الذين ينتهكونها جائرون.

عندما تُنتهك هذه المعايير الاجتماعية، يُعاقَب منتهكها الآثم. وفي بعض الحالات، يعاقِب الآخرون المخالفَ إيجابيًّا أو سلبيًّا، فأصحاب المتجر سيفصلون موظف التحصيل الذي لا يحصِّل تكاليف البقالة من أصدقائه، أو يتجنبون الشخص الذي لا يترك بقشيشًا سخيًّا.

أي عضو بجماعة بنسلفانيا داتش (سُلَّان الألمان والسويسريين الذين استقرُّوا في بنسلفانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر) ينتهك المعايير الاجتماعية للجماعة يتجنبه باقي أفراد الجماعة؛ فلا يُسمح لأحد بالحديث إليه أو تناول الطعام معه أو الشراء منه أو البيع له. وبالمثل، يتجنب الناس الشركات عندما تنتهك المعايير الاجتماعية؛ فالعملاء يقاطعون الشركات التي لا تسير وفق القواعد.

على سبيل المثال: قاطع الجمهور دور السينما في مدينة نيويورك لأنها رفعت أسعار التذاكر من ٨٫٥ دولارات إلى ٩٫٥ دولارات،26 وقُوطعت شركة جلاكسو سميث كلاين لأنها أوقفت المبيعات إلى الصيدليات الكندية التي كانت آنذاك تبيع المستحضرات الدوائية بأسعار مخفضة للأمريكيين.27

وفي حالات أخرى نعاقِب أنفسنا، فنترك بقشيشًا لأننا سنشعر بالسوء إن لم نتركه. ندفع النقود بماكينات التحصيل ذاتية الخدمة ونحن نغادر المتجر الكبير؛ لأننا سنشعر بالذنب إن لم ندفع. في هذه الحالات يكون العقاب على انتهاكات المعايير داخليًّا.

موجز الفصل

المعايير الاجتماعية هي قواعد سلوك غير مكتوبة من أجل مواقف معينة، وهي مفهومة ضمنًا، وثمة إجماع من المجموعة على اتِّباعها. في تبادل المستهلك للمعايير الاجتماعية فائدتها، من حيث إنها تُرسي التوقعات المشتركة وتعززها، وهي تتنبأ بالسلوك، وتبسِّط من اتخاذ القرارات، وتحدُّ من البلبلة.

البائعون على علم بأن عليهم اتِّباع المعايير الاجتماعية وإلا فسيواجهون العواقب. المستهلكون على علم بأن عليهم الدفع مقابل ما يشترون. جميعنا على علم بأننا سننال العقاب إذا لم نتبع المعايير، وحتى إذا لم يضبطنا أحدهم ونحن نتسلل خلسةً بشريحة لحم كبيرة دون دفع مقابلها، فإننا سنشعر بالسوء لأننا انتهكنا معيارًا اجتماعيًّا؛ فهذا خطأ! ونحن جميعًا على علم بذلك.

تعريفات

المنهج التجريبي: أسلوب عملي لحل المشكلات؛ مثلًا: طلب ثاني أرخص زجاجة نبيذ بالقائمة على الدوام.
الانتهازية: استغلال موقف لمصلحتك الخاصة.
صفقة ذات مجموع صفري: عندما يكون ربح أحدهم خسارة لآخر، مثلًا: المساومة على سعر سيارة مستعملة.
المعايير التعاونية: القواعد الناشئة داخل علاقة قائمة لمصلحة الأطراف المعنية.
المعايير القسرية: قواعد يفرضها شخص أقوى لتعزيز مصلحته الخاصة.
المعايير اللامركزية: قواعد سائدة تنشأ بمضي الزمن لتسهيل التبادل، سواء كان اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا.
الانحياز للمصلحة الذاتية: الميل إلى التفكير أن ما ينفعك أكثر عدلًا.
السيناريو: مجموعة من القواعد تفرض بالتقادم سلسلة من الأحداث الملائمة؛ مثلًا: كيفية إجراء عملية المساومة.
المعيار الشخصي: توقع شخصي بالكيفية التي سيتصرف بها الآخرون.
النمط السلوكي: فعل اعتيادي يتكرر بمضي الزمن، لا يدعمه معيار اجتماعي.

المعايير الشخصية لآبي هوفمان

المتاجر الكبيرة … لا ينبغي للسيدات الذهاب للتسوق دون حقيبة يد كبيرة. في تلك الأجنحة المزدحمة، لا سيما تلك التي تتكدس بها الصناديق، يمكن نقل جميع أنواع السلع من عربة التسوق إلى حقيبة اليد. يمكن خياطة حقيبة صغيرة داخل معطف واقٍ من المطر من أجل الاختلاس بأقل مجهود. لا تقلقوا من المرايا، فمراقبو المحالِّ لا ينظرون إليها أبدًا. كن مشتريًا انتقائيًّا ولا تملأ جيوبك بالسلع الرخيصة … وأفضل وسيلة لتنفيذ عمليات السرقة الكبرى تكون بمساعدة موظف من الموظفين … يمكن أن تحصل سيدة على وظيفة موظفةِ تحصيل وتسجِّل فاتورة بقيمة بسيطة، في حين يغادر إخوانها وأخواتها محمَّلين بالسلع … أعرف سيدة تعمل كموظفة تحصيل تختلس أطعمة بما يزيد على ٥٠٠ دولار أسبوعيًّا.

مقتطف من كتاب آبي هوفمان «اسْرِق هذا الكتاب»28

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤