تصدير المؤلف للطبعة الثانية

كتاب اللغة والسلطة يدور حول العمل الذي تؤدِّيه اللغة للحفاظ على علاقات السلطة وتغييرها في المجتمع المعاصر، وحول أساليب تحليل اللغة بحيث تكشف عن هذا العمل بشقَّيه، وحول زيادة وَعْي الناس به، وزيادة قدرتهم على مقاومته وتغييره. وقد وُضع الكتاب بحيث تسهل قراءته على مَن لا يتمتع بخبرة سابقة في هذا المجال. ولكن تصدير الطبعة الثانية يبدو لي فرصةً سانحة حتى أشرح — خصوصًا لمن يُحيطون إحاطةً أكبر بهذا المجال — سببَ إصداري طبعةً ثانية، وكيف تختلف هذه الطبعة عن الطبعة الأولى، والعلاقات بين كتاب اللغة والسلطة وبين المطبوعات التي تلَته.

تصدر هذه الطبعة بعد نحوِ عقدٍ كامل من ظهور الطبعة الأولى من كتاب اللغة والسلطة عام ١٩٨٩م، وباستثناء تحديث إشاراتي إلى المراجع وإجراء بعض التغييرات الطفيفة، فقد أبقيتُ على الفصول التسعة الأولى دون تعديلٍ يُذكَر. ولكنني رأيت من الضروري إضافةَ فصل جديد، هو الفصل العاشر. صحيح أن مسألة اللغة والسلطة لا تزال قضيةً مهمة وملحَّةً مثلما كانت عام ١٩٨٩م، ولكن الحياة الاجتماعية شهدَت تغييراتٍ كبيرةً في العقد الماضي، أدَّت — إلى حدٍّ ما — إلى تغيير طبيعة علاقات السلطة غير المتكافئة، ومن ثَم إلى تغيير «برنامج» الدراسة النقدية للغة. وأقول: إن علاقات السلطة على المستوى الدولي، بل والعالمي، بصفة خاصة، أصبحت تُشكِّل وتُحدِّد ما يحدث على المستويَين الوطني والمحلي إلى درجة تفوق ما كانت عليه الحال، حتى منذ عشر سنوات وحسب. وينصبُّ تركيز الفصل العاشر على هذه التغييرات، وما تتضمَّنه من دلالات لمسألة اللغة والسلطة. وليس معنى هذا أن هذه التغييرات تنفي اهتماماتِ الطبعة الأولى أو تجعلها من القضايا التي تجاوزها الزمن، ولكنها تعني أننا عندما نُجري بحوثًا في علاقة اللغة بالسلطة في أُطُر وطنية أو محلية، فلا بد لنا أن نُدرك أن هذه الأُطُر تتعرَّض للتأثر بالأحداث الدولية والعلاقات القائمة على هذا المستوى، وأن هذه الأطر يمكن أن تسهم في تشكيل هذه الأحداث والعلاقات.

كما شهد العقد الماضي تغييراتٍ أخرى متنوعة ترتبط بمسألة اللغة والسلطة. ولأكتفِ بذكر تغيير يحظَى باهتمام بالغ، ألَا وهو نشأة الإنترنت وتطورها. إذ إن الإنترنت تعتبر وسيطًا رئيسيًّا جديدًا أدَّى إلى نشأة أشكال جديدة للتواصل. كما أدَّت الإنترنت إلى تفاؤل معين بشأن أوجه التفاوت في السلطة؛ إذ تتسم بحرية الدخول إليها لكلِّ مَن يُحيط بالتكنولوجيا اللازمة (على الرغم من أن الانقسام بين مَن يملكون التكنولوجيا ومَن لا يملكونها داخلٌ كلَّ بلد وفيما بين البلدان يمثِّل في ذاته مشكلةً كبرى) كما أنها شكل من أشكال التواصل الذي يتسم نسبيًّا بالمساواة؛ إذ تسمح بأشكال من التواصل خلالها تَعِدُ بإمكانات جديدة للتعبئة الاجتماعية والسياسية، وما إلى ذلك بسبيل. ويبدو أن التواصل من خلال الإنترنت يمكن أن يؤديَ إلى تغييرات مهمة فيما أطلق عليه في الفصل الثاني «نظام الخطاب» المجتمعي، وإن كان علينا، إذا أردنا تقدير مدى هذه التغييرات أن ننظر إلى موقع الإنترنت في «الاقتصاد» الشامل لنظام الخطاب، لا أن ننظر إليها بمعزل عن سواها.

كان نشر الطبعة الأولى من كتاب اللغة والسلطة يتفق مع نشأة وتطور ما أطلقتُ عليه في الفصل الأول تعبير «الدراسة النقدية للغة»، ألَا وهو ظهور «التحليل النقدي للخطاب»، وهو الذي اجتذب أعدادًا متزايدة من الباحثين في العقد الماضي. ولا شك أن الباحثين كانوا يبذلون جهودًا مهمة قبل نشر الكتاب (خصوصًا في «علم اللغة النقدي» وفي المنهج الفرنسي لتحليل الخطاب) كما استمر تطور هذا المجال منذ ذلك الحين. وأما أعمالي اللاحقة فقد وسَّعَت من نطاق البحوث في الخطاب باعتبارها من جوانب عمليات التغير الاجتماعي الأوسع نطاقًا (وهو ما أُناقشه خصوصًا في الفصلين السابع والثامن) وكذلك، ولو إلى درجة أقل، في «الوعي النقدي باللغة» (انظر الفصل التاسع). وقد نشرتُ منذ مدة قصيرة دراساتٍ في لغة أجهزة الإعلام والخطاب السياسي لحكومة حزب «العمال الجديد» في بريطانيا. وكانت إحدى الأفكار التي تردَّدت في المراجعات المنشورة عن كتاب اللغة والسلطة، تقول: إن التناول النظري للخطاب وعلاقته بسائر عناصر الحياة الاجتماعية كان غيرَ ناضج وإلى حدٍّ ما غير مُرْضٍ، ولقد اهتممتُ أيضًا بمحاولة علاج هذا الأمر. وكان من الأفكار الأخرى الواردة في مراجعات اللغة والسلطة أن التحليل النقدي للخطاب لا بد أن يُستخدم مع مناهج أخرى، مثل الإثنوغرافيا [علم وصف الأعراق] وهو الذي تولَّاه عددٌ من الباحثين. ولقد اشتغل كثيرٌ من الباحثين بتطوير التحليل النقدي للخطاب وتطبيقه، بحيث أصبح اليوم مجالًا مهمًّا من مجالات البحث اللغوي. وأرجو أن يستمرَّ كتاب اللغة والسلطة في أداء مهمته باعتباره مقدمةً يسهل استيعابها نسبيًّا لدراسة هذا المجال (انظر المراجع الواردة في ذيل هذا التصدير).

والواقع أن التحليل النقدي للخطاب قد اجتذب اهتمامًا كبيرًا خارج إطار علم اللغة والدراسات اللغوية؛ فقد سبقت لي الإشارة إلى العمل في مجال الوعي النقدي باللغة، وهو الذي يقوم به المعلمون في المدارس والمؤسسات التعليمية على مستويات أخرى. كما يستخدم التحليل النقدي للغة في شتى العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية لأغراض البحث والتعليم، مثل علم الاجتماع، والدراسات الثقافية، ودراسات أجهزة الإعلام، ودراسات الجنسين، والسياسة والتاريخ وهلمَّ جرًّا. ولأذكر مثالًا واحدًا: قام قسم دراسات المدن في جامعة جلاسجو بتنظيم مؤتمرَين ناجحَين في عام ١٩٩٨م، و١٩٩٩م حول «الخطاب والتغير المدني»، و«الخطاب وتغير السياسات»، وكان كلٌّ منهما يستند — إلى حدٍّ بعيد — إلى تحليل الخطاب النقدي وغيره من مداخل تحليل الخطاب. ويبدو أن تحليل الخطاب النقدي قد بدأ يُؤتي ثمارًا تتمثل في تشجيع الباحثين في العلوم الاجتماعية على إدراج تحليل اللغة في عملهم. ولكن الكتاب يتضمن النظرَ إلى التحليل النقدي للخطاب أيضًا باعتباره من الموارد التي يُعتمد عليها في الصراعات الاجتماعية والسياسية من أجل العدل والمساواة. وقد يتعذر تقديرُ تأثيره في هذا المجال، ولكنه يبدو لي أن القضايا الخاصة باللغة والسلطة تحظَى اليوم باهتمام أكبر في السياسة والمجال العام مما كانت تحظَى به منذ عقد أو عقدين (ولديَّ معيارٌ عامٌّ ويعتبر انطباعيًّا تمامًا، ألَا وهو عدد المقالات السياسية التي تناقش اللغةَ مناقشةً نقدية في الصحيفة التي أقرؤها أكثر من غيرها، وهي صحيفة الجارديان [البريطانية]). أما مدى إسهام كتب مثل اللغة والسلطة في هذه الظاهرة فأمرٌ لا أستطيع القطع فيه.

(١) مراجع

يناقش كتاب تشولياراكي Chouliaraki وفِيركِلَفْ (١٩٩٩م) الجوانب النظرية للخطاب في الحياة الاجتماعية، و«البرنامج» المعاصر للتحليل النقدي للخطاب. وأما أعمالي الحديثة فتمثِّلها: دراسات فيركلف (1992a، و1995a، و1995b، و2000a، و2000b). وفيما يتعلق بالوعي النقدي باللغة انظر فيركلف (1992b)، وكلارك وإيفانيتش (١٩٩٩م). ودراسة فيركلف وفوداك (١٩٩٧م) تقدِّم صورةً شاملة للعمل الحديث في مجال التحليل النقدي للخطاب. ويمكن لمن يريد الاطلاع على محاولات الجمع بين التحليل النقدي للخطاب والإثنوغرافيا أن يجدَها في تشولياراكي (١٩٩٥م)، وبویولار (١٩٩٧م)، وفوداك (١٩٩٦م). ودراسة تشيرني (١٩٩٩م) للغة في الإنترنت.
وأدَّى أول مؤتمرَي جلاسجو المشار إليهما إلى إصدار طبعة خاصة من المجلة العلمية دراسات مدنية (١٩٩٩م) موضوعها «الخطاب والتغير المدني». وأما المجلة العلمية الخطاب والمجتمع فهي المجلة العلمية الدولية الرئيسية في مجال التحليل النقدي للخطاب. والدراسات التي نشرها بعضُ الباحثين الرئيسيِّين في هذا المجال تتضمن فان دييك (١٩٩٣م)، وفاولر (١٩٩١م)، وكریس (١٩٩٥م)، وكريس وفان لویفن (١٩٩٦م)، ولیمكي (١٩٩٥م)، وتيبولت (١٩٩١م)، وفوداك وآخرين (١٩٩٠م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤