الفصل الأول

مقدمة: الدراسة النقدية للغة

«كيف نتبيَّن الأصفاد التي كبَّلَتنا بها التقاليد؟ فإننا إذا استطعنا أن نتبيَّنَها استطعنا أيضًا أن نكسرَها.»

فرانز بوس

موضوع هذا الكتاب اللغة والسلطة، أو بمزيد من الدقة، الروابط بين استعمال اللغة وعلاقات السلطة غير المتكافئة، خصوصًا في بريطانيا الحديثة. وقد كتبتُه لغرضَين رئيسيَّين: الأول نظري، وهو المساعدة على تصحيح ظاهرة واسعة الانتشار، ألَا وهي التقليل من أهمية الدور الذي تضطلع به اللغة في إنشاء علاقات السلطة الاجتماعية والحفاظ عليها وتغييرها. والثاني عملي، وهو المساعدة على زيادة الوعي بالأسلوب الذي تُسهم به اللغة في تمكين بعض الناس من السيطرة على البعض الآخر؛ لأن الوعي يمثِّل الخطوة الأولى على طريق التحرر.

أما الهدف النظري فيرجع إلى خلفيتي الأكاديمية، وهي علم اللغة. إذ إن الباحثين في علم اللغة، وخصوصًا في علم اللغة الاجتماعي (الذي كثيرًا ما يقال إنه يتناول «اللغة في سياقها الاجتماعي») قد قالوا الكثير فعلًا عن اللغة والسلطة ولم يوفُّوها حقَّها. فلقد شهدنا — على سبيل المثال — دراساتٍ كثيرةً عن اللهجات الاجتماعية «المعيارية» و«غير المعيارية»، وكيف تعتمد الهيبة المرتبطة بهذه اللهجات على سلطة مَن يستعملها. كما شهدنا أيضًا دراسات عن أساليب ممارسة السلطة في المحادثة وغيرها من صور التخاطب بين الأفراد، وإن كانت دراسات قليلة، وهو أمر قد يدعو إلى الدهشة. والواقع أن هذه الدراسات تنشد — بصفة عامة — وصفَ الأعراف السائدة الخاصة بعلم اللغة الاجتماعي من حيث تفاوتها في توزيع السلطة، ولكنها لا تنشد شرحَ هذه الأعراف باعتبارها من ثمار علاقات السلطة وضروب الصراع على السلطة. والقضية أن الأعراف المذكورة ذات علاقة مزدوجة بالسلطة؛ إذ إنها من ناحية تتضمن أشكالَ الاختلاف في السلطة، ومن ناحية أخرى تنشأ من علاقات محددة للسلطة، وتُنشِئها أيضًا.

وتركيزي في هذا الكتاب ينصبُّ على الناحية الثانية، أي محاولة شرح الأعراف القائمة باعتبارها من ثمار علاقات السلطة وضروب الصراع على السلطة. وسوف يؤكد مدخلي الافتراضات «المنطقية» الكامنة في الأعراف التي تُحدِّد التفاعل اللغوي بين الناس، والتي لا يتمتع الناس عادةً بالوعي بها. ومن الأمثلة على هذا كيف أنَّ أعراف الاستشارة التقليدية بين الطبيب والمريض تُجسِّد افتراضات «منطقية» تعتبر السلطة والمراتبية أمرًا طبيعيًّا، بمعنى أن الطبيب يعرف الطب والمريض يجهله، وأن الطبيب في موقع يسمح له بالبتِّ في كيفية التصدي لمشكلة صحية، والمريض لا يتمتع بهذا الموقع؛ وأنه من الصحيح (و«الطبيعي») أن يتولَّى الطبيب اتخاذ القرارات والتحكم في مسار الاستشارة والعلاج، وأن على المريض أن ينصاع له ويتعاون معه، وهلمَّ جرًّا. ومن القضايا الجوهرية أننا نستطيع، كما سوف نرى، أن نجد افتراضاتٍ من هذا النوع كامنةً في الأشكال اللغوية المستخدمة.

إن أمثال هذه الافتراضات أيديولوجيات. والأيديولوجيات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلطة؛ لأن طبيعةَ الافتراضات الأيديولوجية الكامنة في أعراف محددة — ومن ثَم طبيعة هذه الأعراف نفسها — تعتمد على علاقات السلطة التي ترتكز عليها الأعراف؛ ولأنها وسيلة لإضفاء الشرعية على العلاقات الاجتماعية القائمة ومظاهر التفاوت في السلطة، من خلال التواتر وحسب لطرائق السلوك العادية المألوفة، وهي التي تقبل دون مناقشة وجودَ هذه العلاقات وأوجه التفاوت في السلطة. والأيديولوجيات وثيقة الارتباط باللغة؛ لأن استعمال اللغة أشدُّ صور السلوك الاجتماعي شيوعًا، كما أنها صورة السلوك الاجتماعي الذي نعتمد فيه أكثر من غيره على الافتراضات «المنطقية». ولكن مفهوم الأيديولوجيا، على الرغم من أهميته للغة، نادرًا ما كان يظهر في المناقشات حول اللغة والسلطة في إطار علم اللغة الاجتماعي، وهذا في ذاته دليلٌ على أوجه قصورها.

ولكن التجاهل النسبي للبعد الأيديولوجي لم يكن السببَ الوحيد الذي دعاني إلى التركيز عليه، وأما السبب الرئيسي لاختياره فهو أن ممارسة السلطة في المجتمع الحديث يزداد اعتماد تحقيقها على الأيديولوجيا، وبصفة أخص على الجوانب الأيديولوجية الفعالة للغة. فنحن نعيش في حقبة لغوية، وهو ما يشهد عليه كبارُ المنظِّرين بين الاجتماعيِّين المعاصرين من أمثال بییر بورديو، وميشيل فوكوه، ويورجن هابرماس؛ إذ عبَّروا عن إدراكهم للأهمية المتزايدة التي يولونها للغة في نظرياتهم. ويشير البعض إلى التحول إلى «المدخل اللغوي» في النظرية الاجتماعية، وإن كان مَن يكتبون عن «ما بعد الحداثة» في الآونة الأخيرة يزعمون أن الصور البصرية بدأت تحلُّ محلَّ اللغة، ويشيرون إلى ثقافة «ما بعد الحداثة» باعتبارها ثقافة «ما بعد اللغة». ولا تنحصر المسألة في أن اللغة قد أصبحت ما يمكن وصفه بالوسيط الأوَّلي للسيطرة الاجتماعية والسلطة، وإن كان ذلك مبررًا كافيًا في ذاته؛ ولكن اللغة قد شهدت نموًّا هائلًا من حيث المهام الملقاة على عاتقها؛ ومن حيث النطاق [الواسع] لأنواع اللغة، ومن حيث تعقيد الطاقات اللغوية المتوقعة من المواطن الحديث. فإذا صحت الحجة التي سوف أُقيمها على أن اللغة تزخر في ثناياها بالأيديولوجيا، فلا بد أن تعنيَ هذه الحقيقة أن الطبيعة الأيديولوجية للغة يجب أن تكون من بين الموضوعات الرئيسية للعلوم الاجتماعية الحديثة.

ومن ثَم فإن أهميةَ اللغة جديرةٌ باجتذاب اهتمام جميع المواطنين. وبصفة خاصة، وفي حدود موضوع هذا الكتاب، لا يملك شخصٌ مهتمٌّ بالمجتمع الحديث، وقطعًا إذا كان مهتمًّا بعلاقات السلطة في المجتمع الحديث، أن يتجاهل اللغة. وهذا يعني — إلى حدٍّ ما — جميع الناس. ومع ذلك، فإن عددًا من الأشخاص الذين يُبدون الاهتمامات المذكورة على وجه الدقة يعتقدون أنهم يستطيعون آمنين أن يتجاهلوا اللغة. وربما لم يكن في هذا ما يدعو للدهشة؛ نظرًا للقصور في المستوى العام للاهتمام باللغة والحساسية لها، وخصوصًا لأن تعليم اللغات في المدارس قد تمكَّن إلى حدٍّ كبير من تجاهُل أشدِّ وظائفها الاجتماعية حسمًا، وهو أمرٌ يدعو للأسى. وليس الذنب في هذا ذنبَ المعلِّمين؛ فإن هذه الحقيقة تصدق على معظم وجوه العمل الأكاديمي في مجال اللغة وهو الذي يُقدَّم إلى المعلمين باعتباره نماذجَ [تعليمية]. وهكذا فإن هذه الفجوةَ بين مستوى الوعي الذي يتطلبه الموقع المعاصر للغة وبين المستوى الذي تمثِّله في الواقع الفعلي، سببٌ آخر من أسباب اختياري هذا الموضوع.

ومن المهم أن أؤكد أنني لا أقول إن السلطة تنحصر وحسب في اللغة. فنحن نُواجه دائمًا، عند التركيز على جانب واحد من جوانب علاقة اجتماعية أو عملية اجتماعية، خطرَ الإغراء باختزالها في ذلك الجانب وحده، خصوصًا إذا كان هذا الجانب يُعاني من التجاهل، كما هو الحال هنا. فالسلطة قائمة في شتى الصور والأشكال، ومن بينها الشكل المادي الذي لا يمكن أن تُخطئه العين، أي القوة المادية. ومن الحقائق، وإن كانت هذه حقيقة مؤسفة، أن السلطة كثيرًا ما يمارسها البعض بحرمان الناس من وظائفهم، ومن منازلهم، ومن أرواحهم، على نحو ما ذكَّرَتنا به الأحداث الأخيرة في جنوب أفريقيا. وربما يكون من المفيد أن نميِّز تمييزًا عامًّا بين ممارسة السلطة من خلال القسر بشتى أنواعه، بما في ذلك العنف المادي، وممارسة السلطة من خلال خلق الرضا بها، أو على الأقل قبولها والانصياع لها. وعلاقات السلطة تعتمد على هذا وذاك، ولو بنِسَب متفاوتة. والأيديولوجيا هي الوسيلة الأولى لخلق الرضا.

وأما الهدف العملي المذكور في الفقرة الافتتاحية فهو زيادة الوعي باللغة والسلطة، وخصوصًا كيف تُسهم اللغة في سيطرة البعض على غيرهم. ولمَّا كان تركيزي ينصبُّ على الأيديولوجيا، فإن هذا يعني مساعدةَ الناس على أن يتبيَّنوا إلى أيِّ حدٍّ تستندُ لغتُهم إلى افتراضات منطقية، والأساليب التي يمكن أن تؤديَ علاقات السلطة بها إلى التشكيل الأيديولوجي لهذه الافتراضات المنطقية. وعلى الرغم من أنني سوف أرسم صورةً تدعو إلى بعض الانقباض للغة التي يزداد استغلالها للسيطرة والقهر، فإنني أرجو أن أضعَ في الكفة الأخرى إيماني بقدرة البشر على تغيير ما خلقه بشرٌ مثلهم. وأما المقاومة والتغيير فليسا ممكنَين وحسب بل إنهما يحدثان باستمرار، ولكن فاعلية المقاومة وتحقيق التغيير يعتمدان على نشأة الوعي النقدي لدى الناس بالسيطرة وأشكالها، لا الاقتصار على مكابدتها. وهكذا فإن الهدف العملي لهذا الكتاب الإسهام في الرفع العام لمستوى الوعي بالعلاقات الاجتماعية القائمة على الاستغلال، من خلال التركيز على اللغة.

كان هدفي أن أكتب كتابًا لا يقتصر فهمُه على الطلاب والمعلمين في التعليم العالي، بل كتابٌ يستطيع أن يفهمَه شتى الأشخاص في ميادين أخرى، ومن ثَم لم أفترض أن القُرَّاء يتمتعون بخلفية متخصصة في دراسة اللغة، بل ولا في النظرية الاجتماعية، وإن كنت أتصور أن معظم القراء يتمتعون ببعض الإحاطة بهذه أو تلك. وكنت أقصد بصفة خاصة مَن يتمتعون أو سوف يتمتعون بما يؤهلهم لممارسة التعليم بمعناه الواسع، أو قُل مَن يستطيعون الاستفادة من كتب مثل هذا الكتاب في إعداد مواد علمية أو تعليمية مناسبة تُلبِّي الاحتياجات والظروف الخاصة لجماعات خاصة من الناس. ومن الواضح الجليِّ أن هذه الجماعات تشمل الطلاب والمعلمين، ومَن يتولَّون تدريب المعلمين، وكلَّ مَن يعمل في شتى أشكال التدريب المهني والحِرَفي (للاختصاصيِّين الاجتماعيِّين أو الصحيِّين على سبيل المثال). ولكننا قد نُصادف آخرين، مثل النشطاء السياسيِّين أو النقابيِّين، أو الناشطين في الحركات السلمية أو النسوية أو الخاصة بالسود أو غيرها من الحركات الاجتماعية، الذين نَصِف جانبًا من جوانب نشاطهم بأنه تعليمي بهذا المعنى الواسع.

لقد حاولتُ أن أجعل هذا الكتاب سهلَ التناول وذا نفع عملي قدر الطاقة، لكنه مهما يبلغ توجيهُ كتاب مثل هذا للإتيان بفائدة عملية، فالواضح أنه لن يكفيَ وحدَه لبلوغ معظم الذين يستطيعون أن ينتفعوا خيرَ انتفاع بشكل ما من أشكال التحليل النقدي للغة، وهذا — كما قلت — يعني في الواقع جميع الناس. إذ لا بد من استكماله بكُتَيِّبات منوعة وبغيرها من المواد (مثل الأفلام والفيديوهات والرسوم الكاريكاتيرية) التي يجد الكثير منَّا أنها أيسر هضمًا من الكتب. وأرجو أن يكون من بين قُرَّاء هذا الكتاب رجالُ التعليم القادرون على المُضيِّ قُدُمًا بهذا العمل.

إنني واثق أن القُرَّاء قد تكوَّن لديهم انطباعٌ ما، بعد قراءة ما كتبتُ، عن الموقف السياسي الذي انطلقتُ منه لكتابة هذا الكتاب. فمن المفهوم على نطاق واسع أن مَن يبحثون القضايا الاجتماعية ويكتبون عنها، يتأثرون في أسلوب النظر إليها، وكذلك في اختيارهم للموضوعات ومداخلهم إليها، بخبراتهم وقِيَمهم الاجتماعية والتزاماتهم السياسية. وأعتقد أنه من المهم أن نعترف بهذه المؤثرات لا أن نصطنعَ حيادًا زائفًا إزاءَ القضايا الاجتماعية، ولكن علينا أيضًا أن نُصارحَ قُرَّاءَنا بالمواقف التي نتخذها. ولسوف أُفصح بالتفصيل — إلى حدٍّ ما — عن رأيي في المجتمع الذي أنتمي إليه في الفصل الثاني، وأما الآن فدَعْني أقول إنني اشتراكيٌّ وإنني لا أُعْلِي من قدر العلاقات الاجتماعية في مجتمعي، وإنَّ عندي التزامًا بتحرير الأشخاص الذين يتعرَّضون للقهر بسببها. وأرجو ألَّا يعنيَ ذلك أنني أكتب دعايةً سياسية؛ إذ إن الفحص العلمي للمسائل الاجتماعية يتفق تمامَ الاتفاق مع عمل الباحثين الملتزمين ذوي الآراء الثابتة (لا يوجد غير هؤلاء!)، وإن الالتزام يُعفيك من إقامة الحجج العقلانية أو تقديم الأدلة التي تثبت بها صحة ما تقوله.

والمدخل إلى اللغة الذي سوف أتبعه يسمَّى الدراسة النقدية للغة. فأما صفة النقدي فتستخدم هنا بالمعنى الخاص الذي يُفيد السعيَ إلى تبيان الروابط التي قد تخفَى عن عيون الناس، مثل الروابط بين اللغة والسلطة والأيديولوجيا المشار إليها عاليه. فالمدخل المذكور يُحلِّل وجوه التفاعل الاجتماعي بأسلوب يركز على عناصرها اللغوية، ويسعى إلى الكشف عن العوامل التي تتحكم فيها، والتي تختبئ بصفة عامة في نظام العلاقات الاجتماعية، إلى جانب ما يمكن أن تُحدثَه في النظام من آثار خفية.

(١) المداخل إلى دراسة اللغة

المداخل القائمة لدراسة اللغة كثيرة، فلماذا نحتاج إلى الدراسة النقدية للغة؟ يقول السبب إنه إذا كان كلُّ مدخل من المداخل التي أعرضها أدناه يُسهم بشيء ما في الدراسة النقدية للغة، فإنها تتسم جميعًا بأوجه قصور كبرى من وجهة النظر النقدية. ومن المهم أيضًا أن أذكر أن العلاقة التي تعتبر — معياريًّا — قائمةً بين هذه الفروع المنوعة لدراسة اللغة معيبةٌ من المنظور النقدي، وهي مسألة سوف أتناولها بالتفصيل في آخر هذا القسم. وأما مداخل الدراسة اللغوية التي سوف أعرضها فهي مداخل: علم اللغة، وعلم اللغة الاجتماعي، والتداولية، وعلم النفس المعرفي، والذكاء الاصطناعي، والمحادثة، وتحليل الخطاب. وسوف أقول شيئًا ما عن الآراء في اللغة وفق النظرية الاجتماعية الحديثة. وينحصر هدفي في تقديم تعريف موجز لهذه المجالات المعقدة من مجالات الدراسة من منظور نقدي. وسوف أُشير في معظم الأحوال إلى العمل الجاري في «التيار الرئيسي»، وإن كان معظم المجالات المذكورة يتضمن أعمالًا أخرى تُخالف التيار الرئيسي، وأحيانًا ما تكون أقربَ إلى المنظور النقدي منها إلى التيار الرئيسي.

(٢) علم اللغة

يُستخدم مصطلح علم اللغة (أو اللغويات) استخدامًا يكتنفه الغموض داخل التيار الرئيسي: فأحيانًا ما يُشير إلى جميع فروع دراسة اللغة داخل المبحث الأكاديمي لعلم اللغة (وبعضها لا ينتمي إليه) ولكنه يُشير أحيانًا إلى الفرع الذي يتمتع بأقصى درجة من درجات التميز، أي «علم اللغة الحقيقي» كما يسمِّيه البعض أحيانًا. وأنا أُشير هنا إلى «علم اللغة الحقيقي» الذي يتضمن دراسة «النحو» بمعناه الواسع، والنظم الصوتية للغة («الصوتيات»، والأبنية النحوية للألفاظ («علم الصرف»))، وللجمل («علم التراكيب»)، والجوانب الشكلية للمعنى («علم الدلالة»). ولقد ظفر علمُ اللغة بقبول واسع النطاق داخل العلوم الإنسانية وما يتجاوزها بسبب المكانة المركزية للغة بين الظواهر البشرية، ولدراسة اللغة بين العلوم الإنسانية. وكان سببُ نجاحه في هذا قدرتَه على وضع مجموعة منتظمة باهرة من التقنيات المنهجية لوصف اللغة، التي أصبحت منهلًا واسع النطاق للنماذج المستعملة في العلوم الإنسانية الأخرى، والتي يستطيع كذلك أيُّ مدخل حديث لدراسة اللغة (بما في ذلك الدراسة النقدية للغة) أن ينتفع بها.
ومع ذلك فإن الثمن الذي دُفع في شراء علم اللغة كان تصورًا ضيقَ النطاق لدراسة اللغة. فمن المفارقات أن علم اللغة لم يلتفت إلا التفاتًا ضئيلًا نسبيًّا إلى الكلام المنطوق أو الكتابة المكتوبة فعلًا؛ إذ يصور اللغة في صورة الطاقة الممكنة، أو النظام أو المقدرة المجردة، بدلًا من محاولة وصف الممارسة اللغوية الفعلية. وحسبما يقول فردیناند دي سوسير، أحد مؤسِّسي علم اللغة الحديث، يهتم علم اللغة بدراسة اللغة (langue) لا الكلام (parole). وقد أخذ التيار الرئيسي لعلم اللغة افتراضَين حاسمَين عن اللغة من سوسير، الأول يقول إن لغةَ أيِّ مجتمع معين يمكن، من زاوية الأغراض العملية جميعًا، أن تعتبر ثابتةً لا تتغير في شتى أرجاء ذلك المجتمع، وأن دراسة اللغة يجب أن تكون آنيةً لا زمنية، أي يجب أن تدرس باعتبارها نظامًا ساكنًا في أي لحظة زمنية، لا باعتبارها نظامًا ديناميًّا يتغير عبر الزمن. ويؤدي هذان الافتراضان، وتجاهل الممارسة اللغوية، إلى نشأة صورة مثالية للغة، تعزلها عن إطارها الاجتماعي والتاريخي الذي لا تستطيع أن توجد في الواقع خارجه. فالتيار الرئيسي لعلم اللغة أسلوبٌ غير اجتماعي لدراسة اللغة، وليس لديه ما يقوله عن العلاقات بين اللغة والسلطة والأيديولوجيا.

(٣) علم اللغة الاجتماعي

نشأ علم اللغة الاجتماعي، إلى حدٍّ ما، تحت تأثير بعض المباحث من خارج علم اللغة (وأهمها الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع) وكان يمثِّل ردَّ فعلٍ على التجاهل الذي يُبديه «علم اللغة الحقيقي» للتنوع اللغوي نتيجةً للأحوال الاجتماعية. ويرى بعض الممارسين أن علم اللغة الاجتماعي يتكامل مع علم اللغة الحقيقي، بمعنى أن الأخير يدرس النظام اللغوي الثابت، وأن الأول يدرس الممارسة اللغوية المتغيرة اجتماعيًّا («الاستعمال»). ويرى آخرون أن علم اللغة الاجتماعي يطعن في الجوانب غير الواقعية اجتماعيًّا للتيار الرئيسي لعلم اللغة. ولقد بيَّن الباحثون في علم اللغة الاجتماعي بعضَ جوانب التوافق المنتظمة بين الاختلافات في الشكل اللغوي (صوتيًّا، وصرفيًّا، وتركيبيًّا) وبين المتغيرات الاجتماعية، مثل الطبقات الاجتماعية التي ينتمي إليها المتحدثون، والعلاقات الاجتماعية بين المشاركين في ضروب التفاعل اللغوي، والاختلافات في الأُطُر أو المناسبات الاجتماعية، والاختلافات بين الموضوعات المطروحة، وما إلى ذلك بسبيل. ويرجع الفضل إلى أصحاب علم اللغة الاجتماعي في اعتبارنا أن الممارسة اللغوية التي يُشكلها المجتمع مقدمة منطقية عامة للدراسة النقدية للغة.

ولكن علم اللغة الاجتماعي يبدو فيه التأثر الشديد بالتصورات الوضعية للعلوم الاجتماعية؛ إذ يميل الباحثون إلى النظر في الاختلافات «اللغوية الاجتماعية»، في مجتمع معين، باعتبارها مجموعات من الحقائق التي يلاحظونها ويصفونها باستخدام مناهج مناظرة لمناهج العلوم الطبيعية. أي إن علم اللغة الاجتماعي يُبدي القوة في طرح الأسئلة المبدوءة بالحرف «ماذا؟» («ما حقائق الاختلاف؟») ولكنه يُبدي الضعف من حيث الأسئلة الخاصة بالسبب والكيفية. («لماذا أصبحت هذه الحقائق على هذا النحو؟ وكيف — من حيث نشأة علاقات السلطة في المجتمع وتطورها — جاء إلى الوجود النظام اللغوي الاجتماعي الحالي؟ وكيف يتسنَّى له البقاء؟ وكيف يمكن تغييره حتى يعود بالفائدة على الذين يخضعون لسيطرته؟»)

وترتبط المعاملة السطحية للحقائق بتناول الطبقة الاجتماعية. وأنا أستخدم تعبير الطبقة الاجتماعية هنا، وإن كان الغالب أن تستخدم في الإشارة إلى ما يستحسن وصفه بتعبير «الطبقات الاجتماعية»، أي مجموعات الأشخاص الذين يتشابهون في العمل أو التعليم أو غير ذلك من المتغيرات الاجتماعية. والطبقات الاجتماعية، طبقًا للمعنى الماركسي الكلاسيكي، قوى اجتماعية تشغل مواقع مختلفة في الإنتاج الاقتصادي، ولها مصالحُ مختلفة ومتعارضة، وصراعها هو الذي يحدِّد مسار التاريخ الاجتماعي. وفي ضوء هذا التصور للطبقة الاجتماعية، يمكن النظر إلى الحقائق اللغوية الاجتماعية باعتبارها نتيجة للصراع الطبقي، والقول بأنها تمثل توازنًا معينًا للقوى بين الطبقات. وهذا التصور للطبقة الاجتماعية يتعلق بالأسئلة الخاصة بالسبب وبالكيفية.

ويرتبط كذلك بالتوجه الوضعي إلى الحقائق عدم حساسية أصحاب علم اللغة الاجتماعي، بصفة عامة، إزاء علاقة التوجه المذكور بالنظم اللغوية الاجتماعية التي يسعى إلى وصفها. فحين يركز المرء على الوجود المجرد للحقائق، دون أن ينتبهَ إلى الأحوال الاجتماعية التي أوجدتها، والأحوال الاجتماعية التي تجعل تغييرها ممكنًا، فلن يفطن إلى أن الباحث في علم اللغة الاجتماعي قد يساهم هو نفسه في التأثير في هذه الحقائق. ولكن المرء يفطن إلى ذلك في السيناريو البديل الذي رُسمت خطوطه العريضة. أي إذا اعتُبرت حقائق النظام اللغوي الاجتماعي خطوطَ توتر، بمعنى أنها تشكيل مؤقت يمثل التوازن الراهن للقوى الطبقية، فإن تأثير البحث في علم اللغة الاجتماعي قد يؤدي إما إلى إضفاء الشرعية على هذه الحقائق، وإما إلى إثبات أن هذه حقائق عارضة طارئة على الرغم من صلابتها الظاهرة، وبالتالي — وبطريق غير مباشرة — الإشارة إلى أساليب تغييرها. فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما يصف علم اللغة الاجتماعي الأعراف اللغوية الاجتماعية من حيث تحديد الأشكال اللغوية «المناسبة» لحالة اجتماعية معينة، ومهما يكن القصد من ذلك، فإن استعمال هذا المصطلح من المحتمل أن يُضفيَ الشرعية على «الحقائق» وما تستند إليه من علاقات السلطة.

(٤) التداولية

لا بد لنا من التمييز بين التصور الأوروبي القاري الواسع النطاق للتداولية (Pragmatics) باعتبارها «علم استخدام اللغة» (وفقًا لما جاء في العدد الأول من مجلة التداولية) وبين التصور الأنجلو أمريكي ذي النطاق الضيق للتداولية باعتبارها مجرد مبحث فرعي من بين عدة مباحث فرعية تتناول استعمال اللغة، ومن بينها علم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة النفسي. وتتضمن التداولية بالمعنى الأول اتجاهات تناظر ما أسميه الدراسة النقدية للغة. ومع ذلك فسوف أقتصر في تعليقي على التقاليد الأنجلو أمريكية؛ لأنها أكثر ما نألفه في الكتابات باللغة الإنجليزية.

ترتبط التداولية الأنجلو أمريكية ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة التحليلية، وخصوصًا بعمل أوستن وسيرل في مجال «أفعال الكلام». واللمحة الثاقبة الرئيسية تقول إن اللغة يمكن اعتبارها شكلًا من أشكال الفعل، بمعنى أن الكلام الملفوظ أو المكتوب يمثل أداء لأفعال الكلام مثل الوعد أو الطلب أو التأكيد أو التحذير؛ أو على مستوى آخر، الإشارة إلى الناس أو الأشياء، أو الافتراض المسبق لوجود أشخاص أو أشياء أو صدق مقولات معينة، والإحالة إلى معانٍ ضمنية لم يعبر المتحدث عنها تعبيرًا سافرًا. وفكرة التلفظ باعتباره فعلًا فكرة مهمة، وهي تشغل مركزًا رئيسيًّا أيضًا في الدراسة النقدية للغة، وتتخذ صورة المقولة التي أقدمها في الفصل الثاني، وهي أن الخطاب ممارسة اجتماعية.

وأما الضعف الرئيسي في التداولية من وجهة النظر النقدية فهو طابعها الفردي: إذ يُنظر إلى الفعل نظرة أحادية باعتباره نابعًا برمَّته من الفرد، وكثيرًا ما يدرج في نظرية عن «الاستراتيجيات» التي يستخدمها المتحدث الفرد لتحقيق «أغراضه» أو «مقاصده». وهذا يستهين بمدى سيطرة الأعراف الاجتماعية على الناس، ومدى القيود التي تفرضها عليهم، ومدى ما يستمدونه منها في تشكيل هوياتهم الفردية، كما يُوحي بانطباع لا يقبله المنطق يقول إن المتحدث «يعيد ابتكار» الطرائق العرفية أو التقليدية للكلام أو الكتابة في كل مناسبة، ويصطنع استراتيجية خاصة تلائم أهدافه الخاصة. وفي مقابل هذا تُبالغ التداولية في تصويرها لمدى تلاعب الأشخاص باللغة لأغراض استراتيجية. ولا شك أن الأشخاص يتصرفون بأساليب استراتيجية في ظروف معينة، ويستغلون الأعراف بدلًا من الاقتصار على اتِّباعها، ولكنهم في ظروف أخرى يقتصرون فعلًا على اتِّباعها، والذي نحتاج إليه يتمثل في نظرية للفعل الاجتماعي — أو الممارسة الاجتماعية — تستطيع تفسير التأثير المسيطر للأعراف والإبداع الاستراتيجي للمتحدث الفرد، من دون قصر الممارسة على أيهما وحده.

وإلى جانب ذلك فإن التداولية تفترض فيمن تصوره من الأفراد أنهم، عمومًا، يشاركون في ضروب تفاعل «تعاونية» يتمتعون فيها بالسيطرة المتكافئة على قواعدها الأساسية، ويستطيعون الإسهام المتكافئ فيها. وهكذا فإنها ترفع من مكانة التفاعل القائم على التعاون بين الأكفاء بحيث تجعله نموذجًا أوليًّا للتفاعل الاجتماعي بصفة عامة، بدلًا من اعتباره شكلًا من أشكال التفاعل الذي يحدث في حالات محدودة ويخضع لقيود اجتماعية. والنتيجة أن تنشأ صورة مثالية يوتوبية للتفاعل اللفظي، وهي صورة تتناقض تناقضًا صارخًا مع الصورة التي ترسمها الدراسة النقدية للغة. أي صورة نظام لغوي اجتماعي يتشكل في غمار الصراعات الاجتماعية وتغشاه الصدوع الناجمة عن ضروب التفاوت في السلطة. وهكذا يبدو أن التداولية تَصِف الخطاب كما ينبغي أن يكون عليه في عالم أفضل، لا على نحو ما هو عليه في الواقع.

كما تتسم التداولية بنطاقها المحدود؛ إذ إنها نشأت أساسًا استنادًا إلى أقوال مفردة موضوعة، لا استنادًا إلى خطاب حقيقي مديد، واتضح أيضًا أن بعض أفكارها الرئيسية، مثل فكرة أفعال الكلام، تكتنفها الإشكاليات كلما حاول الناس استخدامها في تحليل الخطاب الواقعي. وأخيرًا فإن التداولية الأنجلو أمريكية تحمل الندوب التي أصابتها عند نشأتها من رحم «علم اللغة الحقيقي». وإذا كانت قد أتاحَت المساحة اللازمة للبحث في اعتماد اللغة والسياق الاجتماعي على بعضها البعض، ولم تكن تلك المساحة متاحةً قبل نشأة التداولية، فإنها مساحة تحدُّها قيودٌ صارمة، ما دمنا نميل إلى اعتبار التداولية «مستوًى» إضافيًّا من مستويات الدراسة اللغوية، ونرى أنها تسدُّ الفجوات التي خلَّفتها المستويات «الجوهرية» أي مستويات النحو وعلم الدلالة. وهكذا فإن التداولية تعترف بالسياق الاجتماعي ولكنها تُبقيه في مكانه، وهو ما لا يَفِي بحقه الوفاء الكامل.

(٥) علم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي

كان من مشاغل التداولية النظر في ضروب التفاوت التي دائمًا ما تنشأ بين ما يقوله المرء وما يعنيه، وبالأسلوب الذي يستعمله الناس لإدراك المعنى الكامن في الكلام المنطوق أو المكتوب، ولكن البحث التفصيلي في عمليات الفهم وعمليات «إنتاج» [النصوص] من ورائها، يتولاه أصحاب علم النفس المعرفي، والباحثون في الذكاء الاصطناعي المختص بمحاكاة الحاسوب لعمليتَي الإنتاج والفهم. وأما أهم نتائج البحث في عملية الفهم، من منظور الدراسة النقدية للغة، فقد كان تأكيد طبيعته الفعالة: أي أنك لا تقتصر هنا على «فك شفرة» قول معين، بل تَصِل إلى تفسير له من خلال عملية فعالة تتضمن موازاةَ معالم ذلك القول على مستويات شتى بالصور «التمثيلية» التي خزَّنتها في ذاكرتك الطويلة الأجل. وهذه الصور «التمثيلية» نماذجُ أوليةٌ لمجموعة بالغة التنوع من الأشياء، مثل أشكال الكلمات، والأشكال النحوية للجُمل، والبناء المعتاد للقصة، وخصائص أنماط الأشياء والأشخاص، ومسار الأحداث المتوقع في نمط معين من أنماط المواقف، وما إلى ذلك بسبيل. وبعض هذه المعالم لغويٌّ، والبعض الآخر غير لغوي. واستباقًا لمناقشتنا اللاحقة، دعونا نشير إلى هذه النماذج الأولية مجتمعة بمصطلح معين وهو «موارد الأعضاء»، [أي Member’s Resources الذي يشير إلى ما يختزنه الذهن من معارف وخبرات بالدنيا، المجرد منها والمجسد، ويمكن وصفها بأنها جماع الخبرة الذاتية وتوازي ما نسميه الخلفية الذاتية، كما سوف يتضح في الفصول التالية، وعندها سأشير إليها بالموارد الذاتية وحسب]. والمسألة الرئيسية هنا هي أن الفهم ينجم عن التفاعل بين القول المنطوق أو المكتوب الذي نريد تفسيره وبين «موارد الأعضاء».

ولم يكن من المدهش ألَّا يُوليَ علمُ النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي أهميةً تُذكَر للأصول الاجتماعية أو المغزى الاجتماعي لموارد الأعضاء. وسوف أسوق الحجةَ فيها بعدُ على أن الاهتمام بعمليات الإنتاج والفهم عاملٌ جوهري لتفهُّم العلاقات المتداخلة بين اللغة والسلطة والأيديولوجيا لأن «موارد الأعضاء» يتحكم فيها المجتمع وتُشكِّلها الأيديولوجيا، وإن كان كساؤها المنطقي وطابعها التلقائي عادةً ما يُخفيان هذه الحقيقة. ولجوء المرء عادةً ودون وعيٍ إلى «موارد الأعضاء» في الخطاب العادي، كما سوف أُبيِّن، يعتبر آليةً قوية للإبقاء على علاقات السلطة التي تستند إليها آخر الأمر.

(٦) تحليل المحادثة وتحليل الخطاب

يُوصَفُ تحليل الخطاب في الآونة الأخيرة بأنه «مبحث بيني» جديد، يُسهم في عدد كبير من المباحث الراسخة (ومن بينها علم اللغة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس المعرفي وغير ذلك من العلوم). ويتضمن تحليل الخطاب بهذا المعنى الواسع عناصر قريبة الشبه بما أُطْلِقُ عليه أنا مصطلح الدراسة النقدية للغة. وسوف أركز على تحليل المحادثة، وهو مدخل بارز من مداخل تحليل الخطاب الذي أنشأَته مجموعة من علماء الاجتماع تُعرف باسم «علماء المنهجية العرقية».

ويبحث هؤلاء عمليَّتَي الإنتاج والتفسير لكل حدث يومي باعتبارهما من المنجزات التي تدل على مهارة «الفاعلين» الاجتماعيِّين، كما يهتم هؤلاء العلماء بالمحادثة باعتبارها نموذجًا شائعًا إلى حدٍّ كبير للحدث الاجتماعي القائم على المهارة. ومن جوانب القوة في تحليل المحادثة أنه يستخدم عيِّناتٍ مديدةً من المحادثة الحقيقية. وقد أثبت أن المحادثة تتسم ببناء منهجي، وأن الأدلة متوافرة على توجهات المشاركين في هذه الأبنية، وذلك إلى جانب الطرائق التي يحددون فيها أدوارهم في المحادثة ويردون على أدوار الآخرين. وهذه الأبنية أبنية اجتماعية، ومن إحدى المهام الرئيسية للتحليل المذكور إثبات وجود هذه الأبنية الاجتماعية وظهورها في كل عمل يومي، أي إنها ليست مجردَ خصيصة من خصائص الأبنية المجتمعية المجردة الكبرى.

ولكن تحليل المحادثة يُبدي مقاومةً لإقامة الروابط بين الأبنية «الصغيرة» في المحادثة وبين الأبنية الكبيرة للمؤسسات الاجتماعية والمجتمعات. وكان من نتيجة ذلك تقديمه صورة لا يقبلها المنطق إلى حدٍّ ما (وتُشبه الصورة التي نسبتُها إلى التداولية) عن المحادثة باعتبارها ممارسة اجتماعية تستند إلى المهارة والقائمة في فراغ اجتماعي، كأنما لا يجري التحادث إلا من أجل التحادث وحسب. ومما يدعم هذه الصورة المكانة المتميزة التي يُوليها هؤلاء إلى المحادثة العارضة بين الأكفاء، وخصوصًا المحادثة التليفونية، وربما تكون هذه أكثر المحادثات التي تُخفي التأثير الحاسم للأبنية المؤسسية والمجتمعية؛ إذ يبدو أقل وضوحًا فيها وإن كان حقيقيًّا رغم ذلك. كما يدعم هذه الصورة أيضًا التركيز على المحادثة باعتبارها إنجازًا حققه «الفاعلون» الاجتماعيون الذين شاركوا فيها، والتأكيد الذي يتفق مع هذا في التحليل لدور منظور «الفاعل»، وهو الذي يشعر بالأعراف السائدة في الأحداث اليومية باعتبارها أعرافًا قائمة وحسب، لا باعتبارها خاضعة للأبنية الاجتماعية الكبرى وقادرة على التأثير فيها. وهكذا فإن تحليل المحادثة يتعرض للانتقاد الذي وجهتُه إلى علم اللغة الاجتماعي عاليه؛ أي إنه يجيب عن الأسئلة المبدوءة بالحرف «ماذا؟» لا بالحرفين «كيف؟» و«لماذا؟»

(٧) كلمة عن النظرية الاجتماعية الحديثة

دعني أخيرًا أُشير بإيجاز إلى المساهمات الحديثة في النظرية الاجتماعية، وهي التي استكشفت دور اللغة في ممارسة السلطة والحفاظ عليها وتغييرها. وسوف أشير إلى مساهمات ثلاث وحسب منها. الأولى هي العمل في مجال نظرية الأيديولوجيا، وهو الذي أشار من ناحية إلى زيادة الأهمية النسبية للأيديولوجيا باعتبارها آليةً من آليات السلطة في المجتمع الحديث، وذلك في مقابل ممارسة السلطة بالأساليب القسرية، ومن ناحية أخرى أصبح يرى اللغة باعتبارها مركزًا رئيسيًّا للأيديولوجيا (أو المركز الرئيسي لها فعلًا) ومن ثَم فهي ذات دلالة كبرى فيما يتعلق بالسلطة. وأما الثانية فهي العمل ذو النفوذ الكبير الذي قام به ميشيل فوكوه، وهو الذي ينسب إلى الخطاب دورًا رئيسيًّا في نشأة أشكال السلطة الحديثة بشكل خاص وتطورها. وأما الثالثة فهي العمل ذو النفوذ المكافئ الذي قام به يورجن هابرماس؛ إذ إن «نظرية الفعل التواصلي» التي وضعها تؤكد الأسلوب الذي تستطيع به طرائق الاتصال الشائهة الحالية أن تبشر، على الرغم من تشوهها، بطرائق تواصل بريئة من أمثال هذه القيود. وأما القصور الرئيسي الذي يشوب هذه المساهمات، من منظور الدراسة النقدية للغة، فهو أنها لا تزال نظرية، بمعنى أنها لا تصلح للتطبيق في تحليل نماذج محددة من الخطاب.

(٨) علاقة الدراسة النقدية للغة بهذه المداخل

وأخيرًا فربما تكون أفضل طريقة لفهم الدراسة النقدية للغة ألَّا نعتبرَها مجردَ مدخل آخر من مداخل الدراسة اللغوية، أي مجرد مدخل يستكمل المداخل التي أشرتُ إليها بإلقاء الضوء على القضايا التي عادةً ما تتجاهلها، ولكن باعتبارها توجهًا بديلًا للدراسة اللغوية، وهو ما يعني ضمنًا تقسيمًا مختلفًا للدراسة اللغوية، أي تقسيمها إلى مداخل أو فروع، ذات علاقات مختلفة فيما بينها، وتوجهات مختلفة داخل كلٍّ منها. وتفصيل هذا القول تفصيلًا وافيًا يحتاج إلى كتاب آخر؛ ولذلك سأقتصر على الإيضاح السريع لما أقصده.

من سمات السلطة قدرتُها على فرض هيكلة معينة لمجال ما والحفاظ عليها، أي فرض طريقة معينة لتقسيمه إلى أجزاء، والحفاظ على انفصالِ كلِّ جزء عن سواه، وفرض تنظيم معين لهذه الأجزاء من حيث علاقاتها المراتبية الخاصة بالسيطرة والخضوع. وقد فرض التيار الرئيسي لعلم اللغة هذه الهيكلة على الدراسة اللغوية، والمداخل التي أشرتُ إليها عاليه تمثِّل بعض الأجزاء التي تفصل الدراسة اللغوية بينها، ويشغل «علم اللغة الحقيقي» مكانةً متميزة داخل هذه الهيكلة للدراسة اللغوية. والواقع أن جميع المداخل الأخرى عادةً ما تعتبر مباحثَ فرعيةً تتوسع في النتائج التي يحرزها «علم اللغة الحقيقي» في شتى الاتجاهات المتخصصة، وإن كانت أحيانًا ما تقاوم مثل هذه المواقع الثانوية. وأما من المنظور النقدي فإن هذا غيرُ مرضٍ لسببَين، أولهما: الفصل بين بعض فروع الدراسة اللغوية التي ترتبط بعلاقة وثيقة فيما بينها — وهو ما يصدق على الفصل بين علم اللغة الاجتماعي وبين التداولية، وعلى الفصل بين علم اللغة الاجتماعي وبين الدراسة النفسية للإنتاج والفهم، على سبيل المثال — وثانيها: أنه يعني الهبوط بالطبيعة الاجتماعية للغة إلى مرتبة المبحث الفرعي. وأما الدراسة النقدية للغة فتضع التصور العريض للدراسة الاجتماعية للغة في قلب الدراسة اللغوية. وهي أيضًا تفضل توكيدات معينة داخل مختلف فروع الدراسة؛ ففي دراسة النحو مثلًا نجدها تفضل المداخل «الوظيفية» (مثل علم اللغة المنهجي الذي يرتبط خصوصًا باسم مايكل هاليداي) وتجد فيه فائدةً أكبر من المداخل «الصورية» (مثل تلك التي ارتبطت باسم نعوم تشومسكي ورفقائه).

ولكن نطاق هذا الكتاب لا يسمح بتقديم بديل كامل للتيار الرئيسي لعلم اللغة. وللقراء المهتمِّين بأمثال هذه البدائل أن ينظروا في شتى المقترحات المطروحة التي تسير إلى حدٍّ ما في هذا الاتجاه والتي تتفق إلى حدٍّ ما مع الدراسة النقدية للغة؛ مثل علم اللغة المنهجي، والتداولية الأوروبية، أو الاتجاهات البينية في تحليل الخطاب. وأما هذا الكتاب فهو يركز على إجراء تحليلات نقدية لعينات من الخطاب، ولسوف ينتفع إلى حدٍّ ما بجميع المداخل التي أشرت إليها، ولكنه يحاول أن يتجاوزها فيقدم شكلًا مُركَّبًا من المفاهيم النظرية والأُطُر التحليلية اللازمة لإجراء التحليلات النقدية.

(٩) استعمال هذا الكتاب

يمكن استعمال هذا الكتاب في الدورات التدريبية والتعليمية، أو في المناقشات غير الرسمية في مجموعات معينة، أو من جانب القراء الأفراد. وأفترض أن القراء في جميع الحالات سوف يودون المشاركة الفعالة في إجراء الدراسة النقدية للغة، لا مجرد القراءة عنها. وقد أدمجت في الكتاب هذا التوجه لإجراء التحليل بطريقتَين رئيسيَّتَين. الأولى دعوة القراء إلى التعليق على النصوص أو إجراء شتى التمارين القصيرة في معظم الفصول التالية. وأنا أُقدِّم إجاباتي عن بعض الأسئلة الموجَّهة للقارئ في بعض الحالات، ولا أُقدِّمها في حالات أخرى. وينبغي ألَّا تعتبرَ هذه الإجابات إجابات «صحيحة»؛ إذ يقتصر الغرض من تقديمها على إتاحة شيء يمكن للقراء مقارنة إجاباتهم به، خصوصًا عند استخدام الكتاب خارج قاعات الدرس أو مناقشات المجموعات. ومن المحتمل أن تختلف إجابات القراء عن إجاباتي، ويجب ألَّا يعتبرَ هذا من دواعي الذعر بل ربما كان ظاهرةً جديرة بالفحص في ذاتها، فمن الجائز أن ترجع مثلًا إلى الاختلافات في «موارد الأعضاء» [أي الخبرة الشخصية] المستخدمة في تفسير النص، وهكذا فإن أهميتها لأسلوب تفسير النص لا تقل عن أهمية النص نفسه، وأما الجانب الثاني للتوجه إلى التحليل فيتمثل في إجراءات التحليل الواردة في الفصلين الخامس والسادس (انظر أدناه).

(١٠) وفيما يلي ملخص لمحتويات الفصول

  • الفصول ٢ و٣ و٤ تقدم القاعدة النظرية لباقي الكتاب؛ إذ تعرض العلاقة بين اللغة والمجتمع، مع التركيز على السلطة والأيديولوجيا. وموجز موقفي هو أن اللغة ترتبط بالمجتمع بسبب كونها المجالَ الأوليَّ للأيديولوجيا؛ ولأنها تمثل موقع الصراعات على السلطة، كما تضرب فيها بسهم وافر. فالفصل الثاني يقدِّم صورةً عامة لموقع اللغة في المجتمع، والفصلان الثالث والرابع يركزان على السلطة والأيديولوجيا، على الترتيب.
  • الفصلان ٥ و٦ يقدِّمان شكلًا منتظمًا لإجراءات التحليل النقدي. فالفصل الخامس يتناول وصفَ النصوص، والفصل السادس يركز على عمليَّتَي إنتاج النص وتفسيره، وتحليل العوامل التي تتحكم فيه وضروب تأثيره. والفصل الثاني يتضمن التمييز بين هذه جميعًا.
  • الفصلان ٧ و٨ يستكشفان تغييرَ الخطاب في علاقته بالتغيير الاجتماعي. فالفصل السابع يؤكد الطاقة الإبداعية الفردية وظروفها الاجتماعية. إلى جانب دراسة حالة حول الخطاب السياسي للمذهب الثاتشري [أي نسبةً إلى السيدة مارجريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة، والمقصود المذهب اليميني المتشدد] وهي التي أستخدمها في التطبيق الموسع لهذه الإجراءات في الفصلين ٥ و٦، ويتحول التركيز في الفصل الثامن إلى الاتجاهات الواسعة النطاق في الخطاب المعاصر فيما يتعلق باتجاهات التغيير الرئيسية في المجتمع الرأسمالي المعاصر، منتفعًا إلى حدٍّ ما ببعض ملامح النظرية الاجتماعية الحديثة (خصوصًا عند هابرماس وفوكوه).
  • والفصل ٩ يركز على قضية تشغل الكتابَ كلَّه، ألَا وهي: كيف يمكن للدراسة النقدية للغة أن تُسهم في الكفاح من أجل التحرر الاجتماعي؟ ويبيِّن الفصل أيضًا كيف يُنمِّي القراء اهتمامَهم بالدراسة النقدية للغة؟
  • والفصل ١٠ يتناول الآثار المترتبة على «العولمة» و«الليبرالية الجديدة» لمسألة اللغة والسلطة.

وهذه أخيرًا كلمة عن الأسلوب. لقد كتبت الكتاب بضمير المتكلم، ولم أشأ إخفاء آرائي وتفسيراتي الشخصية بالأسلوب «غير الشخصي» التقليدي في العمل الأكاديمي. ومارستُ العمل وقد رسمتُ للقارئ صورةً تختلف عن صورةِ مَن أتوجَّه إليه بالحديث وحسب (وإن كنت أحيانًا أفعل ذلك!) بل باعتباره مشاركًا لي في مغامرة «تعاونية». وهذا هو سبب لجوئي أحيانًا إلى استعمال ضمير الجمع (نحن) الذي يشير إلينا معًا، أنا والقارئ. ولكن استخدام هذا الضمير، كما أُبين في الفصل الخامس، قد يدل على «التلاعب»، بمعنى الزعم بوجود تضامن زائف، على نحو ما يستخدمه رجل السياسة مثلًا لإقناع الجمهور أنه «واحد منهم». وأرجو ألَّا يشعرَ القراء أنني أُرغمهم على أن يكونوا شركاءَ لي، كما يفعل رجل السياسة، فمن الواضح أن بعض القراء لن يرَوا أنهم شركاء في التحليل النقدي للغة، ولكن الأهداف العملية لهذا الكتاب جعلَتني أرى أنه من الأيسر لي أن أكتب على هذا النحو. ويرتبط هذا بمخاطرة عامة يُواجهها مَن يكتبون عن الدراسة النقدية للغة: أي إن «جهازهم النقدي» يمكن استعماله في تحليل كتاباتهم، ويكاد يكون من المؤكد أن يحقق بعض النجاح، ما دام تأثير السلطة والأيديولوجيا في اللغة ليس بديهيًّا، وليس مما تستطيع بالضرورة الفرار منه في حالات معينة بفضل وَعْيك به بصفة عامة.

المراجع

عن الأيديولوجيا انظر: ماكلين (١٩٨٦م)، وإيجيلتون (١٩٩١م). وعن العلاقة بين الأيديولوجيا والسلطة واللغة انظر: ج. ب. طومسون (١٩٨٤م)، وكراماراي وآخرين (١٩٨٤م) مجموعة من الدراسات الخاصة باللغة والسلطة من منظور مختلف عن منظوري. والدراسات التالية تمثل شتى المداخل للدراسة اللغوية المشار إليها: رادفورد، وآركنسون، وبریتان، وكلاهسن، وسبنسر (١٩٩٩م) (علم اللغة)؛ كوبلاند ویافورسكي (١٩٩٧م) (علم اللغة الاجتماعي)؛ شیفرین (١٩٩٤م) (تحليل الخطاب)؛ آركنسون وهيرتيج (١٩٨٤م) (تحليل المحادثة). وأما وصف تحليل الخطاب باعتباره «مبحثًا بينيًّا» جديدًا فهو من مقدمة المحرر لكتاب فان دييك (١٩٨٨م) (المجلد الأول). ودراسة ماي (١٩٨٥م) نموذج للتداولية الأوروبية، وكتابا هالیداي (١٩٧٨م) و(١٩٩٤م) يقدمان وصفًا لعلم اللغة المنهجي. وعن الآراء في اللغة في النظرية الاجتماعية الحديثة انظر: ج. ب. طومسون (١٩٨٤م)، وتشولياراكي وفیركلف (١٩٩٩م). وعن مذهب «ما بعد الحداثة» انظر: جیمسون (١٩٨٤م)، وهارفي (١٩٩٠م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤