الفصل العاشر

اللغة والسلطة عام ٢٠٠٠م

تغير العالم منذ نشر الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام ١٩٨٩م، بل إن عام ١٩٨٩م نفسه كان بدايةً لمجموعة كبرى من التغيرات، ألَا وهي انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية في وسط أوروبا وشرقها. ولم تكن هذه التغيرات عميقةً في ذاتها وحسب، بل إنها أحدثَت آثارًا عميقة في الطرائق التي يُبصر الناس بها العالم في العادة. وبصفة عامة فقد ازدادَت نظرةُ الكثير من الناس إلى العالم عمَّا كانت عليه منذ عقد واحد من زاوية الأبنية والعمليات والعلاقات العالمية. وهذا لا يعني قطعًا أن العالم قد «تعولم» في غضون عشر سنوات، أو أن الدول الأمم فقدَت فجأةً دلالتها، ولكنه يعني أن الاتجاهات نحو العولمة التي كانت قويةً أصلًا منذ الثمانينيات وما قبلها أصبحت تبدو في عام ٢٠٠٠م أهمَّ مما كانت عليه آنذاك.

ولهذا تأثير مباشر في مسألة السلطة. لا تزال علاقات الهيمنة قائمةً بطبيعة الحال ولا تزال دلالتها قائمة داخل الدولة الأمة ومؤسساتها، ولا يزال مَن يحتاجون إلى الطعن في علاقات الهيمنة في حاجة إلى العمل على هذا المستوى (إلى جانب زيادة نشاطهم المحلي). ولكنني أعتقد أن ساحة الهيمنة الأولية أصبحت الآن عالمية لا قومية. وعلينا أن ننظر إلى العلاقات والأبنية والعمليات الاجتماعية على المستوى الدولي حتى نفهم ونحارب الآثار السلبية (التي يمكن تجنُّبها) للمجتمع الرأسمالي المعاصر، ومن بينها الفقر والفجوة التي تتسع ما بين الأغنياء والفقراء؛ وعدم المساواة؛ و«الإقصاء الاجتماعي»؛ وبعث النزعة القومية، والوطنية المتطرفة، والعنصرية؛ والاستغلال المزدوج للكثيرات باعتبارهن نساءً وعاملات؛ والاستغلال الذي من المحال استمراره لموارد العالم الطبيعية. وهذا يعني أننا إذا أقمنا التحليل على أسس قومية أو محلية، فمن المهم لنا أن نُدرك أن هذه الأسس تقع في إطار دولي يتولَّى تشكيلها. والواقع أن الأسلوب الأفضل للتعبير عنها اعتبارها جدلًا بين العالمية والقومية/المحلية، بمعنى أنها عملية ذات اتجاهَين للتكييف والتشكيل.

وأرمي في هذا الفصل إلى مناقشة بعض جوانب هذا النظام العالمي الجديد من حيث قضية اللغة والسلطة. وتعتبر مسائل اللغة والسلطة ذوات أهمية جوهرية في تفهُّم النظام الجديد، وفي سياسات النظام الجديد، ما دامت للغة أهميةً متزايدة في الحياة الاجتماعية. وضروب الصراع من أجل فرض النظام الجديد أو مقاومته، تعتبر في جانب منها صراعات على اللغة، أي حول الطرائق الجديدة لاستعمال اللغة، وحول الصور اللغوية الممثلة للتغيير. وأنا أناقش «عولمة الخطاب»، و«خطاب العولمة» الذي ما فتئ يزداد قوة وبأسًا. وسوف أوضح دور اللغة في فرض النظام الجديد وفي مقاومته بأمثلة من أساليب عمل الشركات المتعددة الجنسيات، وظهور خطاب سياسي دولي جديد يمثل يسار الوسط («الطريق الثالث») والمعارضة من بعض التيارات السياسية مثل حزب الخضر. وسوف أختتم هذا الفصل بمناقشة للعلاقة بين الدراسة النقدية للغة والبحوث الاجتماعية والسياسية داخل النظام العالمي الجديد.

(١) اللغة في النظام العالمي الجديد

العولمة في المقام الأول نشاط اقتصادي، ومذهب الليبرالية الجديدة الذي ترتبط به يرتكز على توفير الحد الأقصى من حرية التجارة، وحرية انتقال البضائع والأموال والأشخاص على المستوى الدولي. وأما مضمونها فهو التحول في العلاقة ما بين السوق والدولة، وهي العلاقة التي اتسمت بها الرأسمالية في معظم فترات القرن العشرين، بحيث تُحرر السوق من الضوابط التي تضعها الدولة، وتقوض دور الدولة في توفير الرعاية الاجتماعية، وتحويل الدولة إلى مُدافعٍ محليٍّ عن حرية السوق وداعية لها. والمؤازرون لهذا النظام الجديد يُشيرون إلى طاقته الهائلة على خلق الثروة، مفترضين أنه إذا كانت مكاسب البعض سوف تزيد عن مكاسب البعض الآخر، فإن الجميع سوف يكسبون شيئًا ما. ويقول المعارضون: إن السوق المتحررة من ضوابط الدولة تزيد الفجوةَ اتساعًا بين الأغنياء والفقراء دوليًّا وداخل الدولة الواحدة، وتحرم معظم الناس حرمانًا جذريًّا من الحياة الآمنة، وتتسبب في أضرار بيئية لا حدود لها. والعولمة لم تكتمل إلا جزئيًّا، ويسعى إلى توسيع نطاقها الذين يجنون منها أقصى فائدة، ويتخذ سعيهم صورة الكفاح من أجل فرض نظام جديد قلنا إنه بالدرجة الأولى نظام اقتصادي، ولكنه ليس اقتصاديًّا وحسب، فإلى جانبه تجري عولمة أعم وأشمل، وتتضمن على سبيل المثال السياسة والثقافة.

وأقول أنا إن مسألة اللغة والسلطة مسألةٌ جوهرية في التحليل الأكاديمي للنظام العالمي الجديد وضروب الصراع حوله. لماذا؟ لأننا نشهد ظاهرةً مهمة ومستمرة هي «التحول إلى اللغة» في الحياة الاجتماعية المعاصرة، أي إن اللغة أصبحت عنصرًا تزداد أهميتُه باطراد في الحياة الاجتماعية. والعولمة نفسها تشير إلى جانب من أسباب هذه الظاهرة. فالعولمة تقتضي «العمل عن بُعد»، ومعنى هذا أن العمليات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية قد اتسعت رقعتُها فأصبحت في مساحات شاسعة من حيث الحيز الجغرافي والاختلافات الاجتماعية والثقافية. ومن ثَم فإن الصور الممثلة لهذه العمليات وهذه العلاقات في الخطاب تزداد أهميتُها باطراد للحفاظ على نوع ما من النظام داخل التعقيد الظاهر، فإن جانبًا مما يربط الأشخاص بعضهم إلى بعض — كترابط العاملين في شركة متعددة الجنسيات على سبيل المثال — يعتمد على اشتراكهم في تصور ما يؤدونه من أعمال. ولكن اللغة، في الوقت نفسه، تزداد أهميتها لما يؤدونه من أعمال؛ إذ إن ما تقوم به الشركات المتعددة الجنسيات، وما تُنتجه وتبيعه من بضائع وخدمات، يزداد ارتباطُه بالطرائق الخاصة لاستخدام اللغة. وانظر على سبيل المثال إلى سلسلة فنادق متعددة الجنسيات مثل فنادق هيلتون، تجد أن جانبًا كبيرًا من «بضائعها» يتكوَّن من أسلوب استعمال اللغة في المعاملات بين موظفي الشركة وعملائها، في الوثائق المطبوعة واللافتات، وفي الدعاية لهذه الفنادق وهلمَّ جرًّا.

و«التحول إلى اللغة» يعني أن الكفاح في سبيل فرض النظام الجديد أو مقاومته يعتبر إلى حدٍّ كبير كفاحًا في سبيل لغة جديدة أو ضدَّها. وهكذا يُصبح البحث النقدي في اللغة عنصرًا مهمًّا من عناصر السياسة الخاصة بالنظام العالمي الجديد. وهذه فرصة متاحة، مثلما هي تحدٍّ للدراسة النقدية للغة، فلها أن تُسهمَ إسهامًا له وزنه في القضايا ذات الأهمية الحيوية لمستقبل البشرية (انظر الخاتمة).

(٢) عولمة الخطاب

تشترك اللغة مشاركة مزدوجة في الصراع من أجل فرض نظام الليبرالية الجديدة؛ إذ نرى أولًا أن الطرائق الجديدة للوجود والسلوك التي يقتضيها هذا النظام تعتبر من جانب معين طرائقَ جديدة لاستعمال اللغة. ونرى ثانيًا أن جانبًا مهمًّا من فرض النظام الجديد يكمن في الحصول على قبول صور خاصة تمثِّل التغيير. وضروب الكفاح ضدَّ النظام الجديد تُقاوم الطرائق الجديدة لاستعمال اللغة وهذه الصور الجديدة. فأما عن الطرائق الجديدة لاستعمال اللغة فلنا أن نتحدَّث عن «عولمة الخطاب»، ولا يعني ذلك أن الخطاب أصبح متجانسًا على نطاق عالمي (وإن لمحنا اتجاهات لتحقيق التجانس)، بل يعني أن ما يحدث في مكان ما يحدث في إطار عالمي؛ إذ تُشكله الاتجاهات الدولية المؤثرة في الخطاب (مثلما يُسهم الخطاب في تشكيلها).

ولنضرب مثالًا على ذلك: إن معظم مشاهدي التليفزيون في عالم اليوم يستطيعون مشاهدةَ قنوات محلية وعالمية. وهذه القنوات (مثل سي إن إن) تملكها وتُنتجها أساسًا هيئاتٌ في عدد محدود من البلدان الغنية في أمريكا الشمالية وأوروبا، وخصوصًا في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من زعمها أنها عالمية، فإن صورةَ العالم التي تظهر على الشاشة صورةٌ ذات نطاق بالغ الضيق، ومن المؤشرات على هذا أن «الأخبار العالمية في قناة سي إن إن مثلًا تتكون أساسًا من أخبار الولايات المتحدة (مثل فضائح الساسة الأمريكيِّين). ومن مظاهر ضيق النظر لهذه القنوات اللغة التي تستخدمها. فالذي يشاهده الناس في شتى أرجاء العالم تغلب عليه ضروب الخطاب في شمال الأطلسي من إعلان وأخبار وسياسة ورياضة وأزياء وهلمَّ جرًّا. وهكذا تُسهم هذه القنوات في عولمة أسلوب حياة وأسلوب لغة خاصة بشمال الأطلسي (وخصوصًا الولايات المتحدة).»

ومن عواقب هذا الحضور «العالمي» في بلدان كثيرة مختلفة وجود مرجعية خارجية دائمة وأفق خارجي دائم لممارساتها في الخطاب. فإن مجموعة أنواع الخطاب التي تُشكِّل الخطاب السياسي في البرازيل أو في المجر أو في تايلاند سوف تتغير بالضرورة في المستقبل في إطار أفق يتضمن مجموعةَ الأنواع التي تُشكِّل الخطاب السياسي في «شمال الأطلسي». ويعني هذا أن ممارسات الخطاب في أيِّ بلد معين تتغير الآن بطرائق معينة داخل إطار العلاقات الدولية للسلطة. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الخطاب السياسي للبرازيل سوف يتغير باطراد حتى يتماثل مع الخطاب السياسي «لشمال الأطلسي».

لكلِّ مجتمعٍ نظامُ خطابٍ خاص وقوة محركة خاصة، ويتوقف على هذه القوة أسلوبُ استعمار الممارسات «العالمية» له أو امتلاكها إياه. فقد أُجريت دراسة، على سبيل المثال، على خطاب الأنباء الخاص بالتليفزيون المجري، وبيَّنت أنه على الرغم من أخذه بالحِيَل الشكلية الباهرة (مثل استخدام الرموز العالمية في الاستهلال وديكور الاستوديو المتحذلق) وبمعالم كثيرة من طرائق التقديم (مثل الانتقال بين الاستوديو وبين التقارير المصورة) الخاصة بأنباء التليفزيون في «شمال الأطلسي»، فإن تغطيته السياسية لا تزال مختلفة إلى حدٍّ بعيدٍ. وهو يمثل بصفة خاصة نوعَ الخطاب الخاص بالمناظرة البرلمانية ونوع الخطاب باجتماعات اللجان على سبيل المثال بصدق نسبي، بعيدًا عن تدخُّل «المحررين»، والتغييرات التي نعتادها في بريطانيا. وبناء السياسة يُوحي بأنها مجال مستقل تمثِّله «الأنباء»، لكن خبرتنا بالسياسة تقول بأنها متحورة و«مضمومة» إلى غيرها. وتعتبر هذه الاختلافات جزءًا من الاختلافات في النظام الاجتماعي ونظام الخطاب. كما تدل على أن عولمة الخطاب مجالٌ للصراع لا مجرد مجال لإضفاء التجانس.

(٣) خطاب العولمة

إذا كنَّا نشهد عولمة الخطاب، فنحن نشهد أيضًا خطاب العولمة. والواقع أن لدينا مشكلة شعر عددٌ من كبار المعلقين على العولمة بضرورة التصدي لها، ألا وهي السؤال التالي: هل «العولمة» و«المرونة» وما لفَّ لفهما عمليات حقيقية أم مجرد جوانب للخطاب؟ إنها قطعًا من جوانب الخطاب؛ إذ تُستخدم هذه المصطلحات على نطاق واسع عندما يتحدث الناس عن حالة العالم الراهنة وكيف تتغير. وإذن فإن أحد الاحتمالات يقول: إن هذه كلمات جوفاء، أي مجرد خطاب، مجرد أيديولوجيا. ولكن لدينا أدلة كثيرة على أن العولمة الاقتصادية مثلًا (بمعنى النشاط الاقتصادي الجاري على نطاق عالمي ما فَتِئ يتزايد) كيانٌ حقيقي. هل نقول إذن إن «العولمة» و«المرونة» وما إلى ذلك أنشطة حقيقية وجانب من جوانب الخطاب؟ ولكن السؤال التالي يطرح نفسه: ما العلاقة بين عملية العولمة وخطاب العولمة؟

وينقلنا هذا السؤال إلى قضية مهمة عن علاقة اللغة بالسلطة في العالم المعاصر. وقد اقترح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو إجابةً له مفادها: إن العولمة عملية حقيقية ولكنها ناقصة، فهي تُفيد بعض الناس وتضرُّ البعض الآخر. ويسعى الذين يستفيدون منها إلى توسيع نطاقها، ومن بين الموارد التي يستخدمونها خطاب العولمة الذي يصوِّرها في صورة تُوحي بأنها «أكمل» مما هي عليه في الواقع، بل يُوحي أيضًا بأنها من حقائق الحياة البسيطة التي من المحال علينا (إن كنَّا نتمتع بالعقل السليم) أن نتشكك أو نطعن فيها. وهكذا فإن خطاب العولمة يتوسل في عمله بالأيديولوجيا. فهو خطاب سلطة، أي إنه خطاب يستخدمه إلى جانب موارد فعالة أخرى (مثل التبرعات التي يقدِّمها للأحزاب السياسية) أصحابُ السلطة ليزيدوا من سلطتهم. أَضِف إلى ذلك أن جانبًا مما يسعَون إلى تحقيقه يتمثل في عولمة خطاب العولمة؛ إذ إن مصطلحاتها الأساسية تُترجَم إلى لغات كثيرة، وتُستخدم على نطاق واسع (في السياقات المهنية للإدارة، والصحافة، والتعليم وهلمَّ جرًّا) في مجتمعات كثيرة. وما يترتب على هذا كلِّه أن علينا أن نُبديَ الحذر من تعبير «العولمة»، بمعنى أننا نُواجه مهمةً شاقة تتمثل في فصل الألفاظ الطنانة عن الحقيقة الواقعة، إن صح هذا التعبير.

لقد أشرتُ إلى خطاب العولمة مستخدِمًا أداةَ التعريف، ولكن القضية المطروحة هنا في الواقع قضية خطاب عولمة معين من بين شتى الضروب الفعلية أو المتصورة الأخرى. ولا يقتصر ما يُبنى في صورة حقيقة لا تقبل التغيير من حقائق الحياة على ظاهرة العولمة، بل إنه يعني عملية «التعولم» التي يجري تنفيذُها بأسلوب الليبرالية الجديدة على أسس السياسات الحديثة لبعض المؤسسات والمنظمات؛ مثل الاتفاقية العالمية حول التجارة والتعريفات الجمركية (اتفاقية الجات)، ومثل البنك الدولي، ومثل صندوق النقد الدولي. أي إن هذه عولمة ذات صورة خاصة.

(٤) إغلاق عالم الخطاب

تتسم الحياة الاجتماعية في مطلع القرن الحادي والعشرين بمفارقة معينة؛ فإذا كانت قد أُتيحَت فيما يبدو مساحة غير مسبوقة للاختلافات الفردية والجماعية، فإننا نواجه في الوقت نفسه نوعًا من «التقنين» لبعض جوانب الحياة الاجتماعية، وهو يعتبر — إلى حدٍّ ما — تقنينًا للخطاب. وأعني بذلك تضييق نطاق أساليب استخدام اللغة ونطاق ضروب الخطاب المتاحة لتمثيل العالم، أي ظهور أشكال قوية من ضروب الخطاب المهيمنة وطرائق استخدام اللغة، وانتشار هذه جميعًا عبر شتى مجالات الحياة الاجتماعية، وكذلك (من خلال عولمة الخطاب) عبر مختلف البلدان. ويتضح هذا الاتجاه إلى «الإغلاق» في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، أي في العمل، وفي السياسة، وفي الحياة الثقافية. ولكنه اتجاه لم يَسْلم من التشكيك فيه، ومن أساليب ذلك اعتبار المفارقة التي أشرتُ إليها عاليه محاولةً لتقويض الانفتاح في أسلوب الحياة الاجتماعية وفي الخطاب الذي شهدته الستينيات والسبعينيات والإيحاء بأن الاتجاه إلى التقنين اتجاهٌ خلافيٌّ تُحاصره الشكوك. فلننظر في بعض الأمثلة.

(٥) «التيسير» التقنين في مجال العمل

فيما يلي مقتطف من وقائع اجتماع عُقدَ في شركة كبيرة لصناعة المنسوجات في أستراليا. ويَصِف الباحث السياق على النحو التالي: «يعتمد بقاء الشركة على احتفاظها بعدد معين من عملائها الدوليِّين في شركات صناعة السيارات. ويشترط هؤلاء العملاء أن يلتزم موردوهم بأساليب عمل محددة لتحقيق «الجودة»، وتدور هذه الأساليب حول تنظيم العمل على أساس روح الفريق، وتوثيق الخطوات المتخذة. ويقدِّم العملاء كُتيِّبًا يتضمن إرشاداتٍ عمليةً بشأن تنمية الأساليب المذكورة، ويقومون بالتفتيش وتقييم أداء الشركة على فترات منتظمة». والمقتطف مصدرُه اجتماعٌ عقده المشرفون أساسًا لمناقشة الاجتماعات التي عقدوها في الآونة الأخيرة وفقًا لما هو مشترط من ممارسات «الجودة». والمشاركون هم: سالي، المُيسِّرة [facilitator وهي كلمة لا تُوردها أحدث المعاجم على الرغم من شيوعها في النصوص الإدارية الحديثة بمعنى مدير الجلسة أو moderator] وهي أستاذةٌ تُعلِّم القراءة والكتابة في المصنع، وقد عيَّنَتها الشركة بموجب نظام وضعَته الحكومة؛ و«بِنْ» المشرف على غرفة الخيوط الطولية أي السَّدَى [warp في مقابل الخيوط العرضية أي اللُّحمة woof]؛ وجريس، المشرفة على غرفة النسج؛ وبيتر، منسق الإنتاج؛ وجيمز، عامل السَّدَى.
بن : خطر لنا أن — كما تعرفين — أقصد ربما، قمت بدور المُيَسِّر لمجموعة جريس أو شيء من هذا القبيل حيث أبتعدُ عن الناس قليلًا ومم.
سالي : نعم.
بن : فعندي خلفية عمَّا يحدث وأودُّ الحفاظ على مسارهم الصحيح وأدعهم … أي عليهم فعلًا أن يعتمدوا على بعضهم البعض بدلًا من اعتمادهم على قيام المشرف بالعمل.
جريس : يعني. أظن أنه يعني. في المجموعات التي سنُصادفها أن ذلك ما ينبغي أن يحدث. أعني أعرف الوحدات الأولى التي تبدأ العمل، وأعتقد أن علينا أن نسير في هذا الطريق ونحاول توجيهَ الناس إلى هذا الطريق وهكذا سوف نصبح، يعني، مسئولين عن الاجتماع ولكن علينا أن ندفع الأشخاص لتكوين فِرَقهم الخاصة ونكون نحن بمثابة الميسر فقط لا.
جيمز : رئيس الفريق.
 […] نعم.
جريس : أعني أن البداية صعبة. وأظن أن الناس يُقابلون المشاكل فيها وهذا هو السبب الذي يدفعهم إلى التطلع إليك يا «بن» وكما تعرف أشياء من هذا القبيل.
بيتر : لست الوحيد الذي يصادف مشكلات في الحفاظ على ذلك.
[متحدث مجهول.]
بيتر : لكنني لا أستطيع الحفاظ عليه الآن كما تعرف. منذ يومين كما تعرف صادفت متاعبَ وأنت تعرف حجم العمل الذي يتزايد بمعنى أنه يُعيدني إلى آخر الصف كما يقال والأمر فظيع.
جيمز : إذن فما تريده حقًّا هو اﻟ (غمغمة) أن يكون لديك فريق. أن تنشئ فريقًا وتريد أن تكون من بين الأشخاص الذين ينبرون لتيسير […] عمل الفريق.
بيتر : لمجرد الحفاظ على الفريق كما تعلم لمجرد الحفاظ عليه، أي الحفاظ على تدفُّق العمل.
بن : الذي أحاول أن أقوله.
بيتر : والسبب؟
بن : هو أنني أقرب مما ينبغي لهؤلاء الأشخاص؛ لأنني أخرج من الفريق كما أنني المشرف على أفراده خارج اﻟ… خارج مكان العمل حيث. ربما. أي إنني كنت أقول بتيسير عمل فريق آخر حيث لا أشغل موقعًا فوقهم كما تعرف فلست المشرف عليهم أو مهما يكن الأمر.
 [متحدث مجهول] نعم.
بن : لي أن أعود إلى عملي ولهم أن يعودوا إلى أعمالهم ولا يزالون [غمغمة] كما تعرف أنه فريقهم أكثر من كونه.
سالي : فريقك أنت.١

هذه مناقشة حول أسلوب إدارة اجتماعات فريق ما، وهو تدور حول تحديد معنى كلمتَي «ييسر» و«الميسر» من خلال إقامةِ علاقاتِ تعادُلٍ واختلافٍ بين هاتين الكلمتين وغيرهما. وفيما يلي ملخص تقريبي لعلاقات التعادل والاختلاف المذكورة؛ فأما علاقة التعادل فتقوم بين التعابير الموجودة في العمود الأيمن، وأما علاقات الاختلافات فتقوم بين هذه المجموعة من العبارات وبين العبارات في العمود الأيسر:

يُيَسِّر/المُيَسِّر قائد الفريق
الحفاظ على مسارهم الصحيح الاعتماد على المشرف
نجعلهم يعتمدون على بعضهم البعض توجيه الأشخاص إلى المسار الصحيح
الأشخاص يُنشئون فرقتهم الخاصة أن يتولَّى المسئولية
الحفاظ على الفريق المشرف
الحفاظ على تدفُّق العمل

من المعالم البارزة في هذا المقتطف معلمٌ يؤكد العمل «التفاوضي» الذي يجري من خلال التفاعل، ونعني به التحرز أو الاحتراز، وتدل عليه التعابير المرتبطة بإقامة علاقات تعادُل؛ مثل «كما تعرف»، «يعني»، «مجرد»، «نوع من» وهلمَّ جرًّا. ولكن أهم ما يعنينا في المقتطف الحالي أن مصطلح «التيسير/الميسر» ينتمي (مع الفريق) إلى خطاب «الجودة» الجديد الذي فُرِض على الشركة فرضًا. ونرى الأشخاص يُنشئون من هذا المصطلح مجموعةً من علاقات التعادل والاختلاف من خلال كلمات وتعبيرات مألوفة، وبهذا المعنى يتخذون خطوةً على طريق استيعابه في خطاب مكان العمل.

والأمثلة من هذا النوع تُوحي بأمرين. الأول أن العلاقة بين الشركات المتعددة الجنسيات ذات الجبروت وبين مئات الآلاف من الشركات التابعة لها أو التي تعتمد عليها بطرائق شتى علاقة قائمة على العنف الرمزي. فالأولى تُرغم الأخيرة في الواقع العملي على استخدام اللغة بطرائق جديدة. ويتعلق هذا بالأسلوب الذي تُصور به ما تفعله (خطاب عمل الفريق الذي لدينا في هذا المثال) وكيف تفعل ما تفعله (كتنظيم الحوار في الاجتماعات على سبيل المثال). وهذه الشركة في أستراليا، وهي بلد تتمتع بثراء نسبي وقوة نسبية. وأما في الدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية، فإن العنف الرمزي ذو طابع أشد حدة.

ولكننا نري ثانيًا، أن هذا المثال يُوحي قطعًا بوجود طاقة كامنة على المقاومة. فما أندر ما يتخذ الناس لأنفسهم لغةً جديدة أو خطابًا جديدًا في أذهان خلَت من كل شيء، وما أندر أن ينحصر الأمر في مجرد نبذ القديم واستقبال الجديد. والأقرب للمعتاد ما يحدث في هذا المثال، ألا وهو استيعاب القديم للجديد، الأمر الذي يؤدي إلى تهجين الجديد والقديم. ومن المسائل ذات الأهمية البالغة أنه حيثما يحدث ذلك فربما تتمكن الشركات الجبارة المتعددة الجنسيات من فرض اللغة الجديدة، لكنها لا تستطيع بالسهولة نفسها أن تتحكم في عمليات التهجين المعقدة التي نشأت منها، ولا في الإمكانات الطويلة الأجل لاحتواء اللغة الجديدة التي تقاومها، أو السيطرة عليها أو تهميشها أو حتى الاستيلاء عليها.

(٦) الخطاب السياسي «للطريق الثالث»

(٦-١) التقنين في السياسة

فلنأخذ مثالًا ثانيًا على الاتجاه نحو «التقنين» في عولمة الخطاب. والخطاب السياسي «للطريق الثالث» يرتبط في المقام الأول بحزب العمال الجديد في بريطانيا، وخصوصًا حكومة حزب العمال التي تولَّت السلطة في مايو ١٩٩٧م بزعامة توني بلير؛ إذ تمثل الزعم بأنها تتجاوز الانقسام «القديم» بين اليسار واليمين، فأنصارها يقولون: إن «الطريق الثالث» ليس حزبَ «العمال القديم»، ولا الاتجاه «اليميني الجديد» عند المحافظين، بل يمثِّل موقعًا يتجاوز هذا الانقسام.

وكثيرًا ما يلخص البعض فحوى «الطريق الثالث» بعبارات مثل «الجمع بين المبادرة الحرة والعدالة الاجتماعية»، أي الزعم بأن حزب العمال الجديد لديه سياسات تُحرِّر ممارسةَ النشاط الاقتصادي لتوليد الثروة وتُحقِّق العدالة الاجتماعية في الوقت نفسه. وكان الافتراض القديم يقول: إن على أية حكومة أن تختار هذا أو ذاك، ولكن حزب العمال الجديد يزعم أنه قادر على الجمع بينهما. ويعتبر «الطريق الثالث» جزءًا من الاتجاه إلى إزالة الفوارق السياسية بين الحزبَين الرئيسيَّين، وقد علَّق عليه الكثيرون، والاتجاه إلى تهميش مفهوم السياسة الذي يقول إنها صراع بين الأحزاب التي تمثِّل مصالح مختلفة حول توزيع الموارد الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة. ولنا أن ننظر إلى هذا من زاوية العلاقة المتغيرة بين قطاع الأعمال العامة والدولة، وهو ما أشرتُ إليه آنفًا، أي إننا لا نكاد نري ضرورة أو مساحة لشكل السياسة الذي يجعل الدولة تقوم بوظيفة الفرع المحلي للشركات الدولية. فإذا نظرنا إلى الطريق الثالث من زاوية اللغة، وجدنا أنه «يُغلق» الخطاب السياسي: أي إنه خطاب سياسي يُنشَأ من تهجين نوعَي الخطاب «القديمين» لليسار واليمين، وبذلك يُضيِّق من نطاق ضروب الخطاب السياسية الرئيسية.

وتنتشر في هذا الخطاب صيغة «لا يقتصر على بل يشمل»، كما نرى مثلًا فيما يلي: «رؤيتي للقرن الحادي والعشرين تقوم على سياسة شعبية تُمزج وتوفِّق بين اتجاهَين كانا يعتبران متضادَّين في الماضي، وهذا خطأ، وهما النزعة الوطنية والنزعة الدولية؛ والحقوق والمسئوليات؛ وتشجيع المبادرات الفردية والهجوم على الفقر والتمييز» (توني بلير). ومن معالم لغة العبارات المتوازية (حيث يستند تنظيم الكلمات أو العبارات أو الجمل إلى قوائم أو إلى سلسلة ترتبط بحرف العطف والتنسيق، أي الواو، كما في هذه الحالة) أنها تُضفي بعضَ الغموض على العلاقة بين الوحدات المترابطة. فقد يُفهم مثلًا من جمعك بين «س» و«ص»، أن «س» = «ص»، وهو فهمٌ غير مؤكَّد، ولكننا لا نستطيع أن نزعم في هذه الحالة أن توني بلير يناقض نفسه إذا قامت حكومته مثلًا بتأكيد المسئوليات أكثر من تأكيدها للحقوق (وهو ما تفعله حقًّا). وإذا أردنا التعبير عن القضية تعبيرًا أشد حدة وإثارة للخلاف، قلنا: إن صيغة «لا يقتصر على بل يشمل» — أي ما يزعمه حزب العمال الجديد من التوفيق بين الأضداد — تعتبر أسلوبًا بالغ الفعالية لطمس حدود الخيارات وتعميتها. فما الذي يمثل الأولوية لحزب العمال الجديد: تشجيع المبادرة الفردية أم الهجوم على الفقر والتمييز؟ الواقع أن إجراءات حكومة حزب العمال الجديد تدل على أنه لا يُولي الأولوية للأول على الأخير بالأفعال وإن لم يُولها له بالأقوال.

ويتضح إخفاء الأولويات والامتيازات أيضًا في المصطلحات الأساسية التي يستخدمها حزب العمال الجديد، وعلى سبيل المثال في أسلوب استعمال مصطلح «الشراكة». ونحن نجد أن المركَّبات اللفظية الأساسية التي يستخدم فيها هذا المصطلح تتضمن تعبيرات معينة مثل «الشراكة بين القطاعين العام والخاص»، ومفاده أن تُصبح الحكومة شريكًا لرجال الأعمال. وهنا أيضًا لا نجد إلا إيحاءً طفيفًا بتساوي كفَّتَي الشريكين، ولنا أن نتشكك في صحته إذا اهتدينا بقرارات السياسات الحكومية. فعلى سبيل المثال كتب مارتن وولاكوت، مراسل صحيفة الجارديان، مقالًا عن الاتحاد الأوروبي يقول فيه «إن الشركات الأوروبية الضخمة قد بدأت تُحدد، بنبرات عالية صارخة، ما يجوز للساسة أن يفعلوه وما لا يجوز لهم»، و«إن الحكومة تبذل جهودًا مخلصة في محاولتها تلبية متطلبات رجال الأعمال» (صحيفة الجارديان، ٦ أغسطس، ١٩٩٩م). وهاك مثالًا عمليًّا: إذ تُشجع حكومة حزب العمال الجديد «شراكات» معينة، مثل بيع ٤٩٪ من أسهم هيئة الرقابة على الطيران المدني إلى القطاع الخاص، ولو كانت حكومة المحافظين قد أقدمت على ذلك لوصفه حزب العمال الجديد «بالخصخصة» وهو المصطلح الذي يعارضه الحزب الآن بكل قوة.

ولكن ما شأن هذا بالعولمة؟ ليس «الطريق الثالث» ظاهرة بريطانية وحسب؛ إذ يؤكد توني بلير أنه سياسة دولية جديدة، كما اتخذ خطوات عملية لتحقيق ذلك؛ إذ دعا إلى عقد «حلقات دراسية» دولية عن «الطريق الثالث» مع رؤساء الحكومات المتعاطفة، ومن بينهم بل كلينتون، الرئيس الأمريكي، وشرودر، المستشار الألماني، ورؤساء بعض الحكومات الأخرى؛ مثل البرازيل والسويد وإسبانيا. وقد علمنا بجانب كبير من المبادئ السياسية «للطريق الثالث» من كلينتون ومن الديموقراطيِّين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن الحكومات التي تمثِّل تيارَي الوسط ويسار الوسط على المستوى الدولي تُطبق سياسات منوعة شديدة الشبه بالسياسة المذكورة؛ إذ نلمح اتجاهًا على المستوى الدولي لخفض مستوى الرعاية الاجتماعية الحكومية. ولنا أن نَصِف «الطريق الثالث» بأنه تيارٌ يسارُ الوسط الذي تخلَّى عن الديموقراطية الاجتماعية مفضِّلًا قبول الصورة الجديدة للرأسمالية العالمية القائمة على الليبرالية الجديدة والتكيف معها.

ومن المعالم البارزة في الخطاب السياسي «للطريق الثالث» اشتماله على ما أشرتُ إليه عاليه بتعبير خطاب العولمة، أي تمثيل العولمة بصورة تنتمي لليبرالية الجديدة. فخُطَب حزب العمال الجديد ووثائقه حافلةٌ بما يمكن أن نُسمِّيَه «قصص الاقتصاد العالمي»، أي القصص التي تحكي كيف تغيَّر العالم الحديث، وخصوصًا الاقتصاد الحديث. ويصدق هذا نفسه، مثلًا، على الحزب الديموقراطي الجديد في الولايات المتحدة. وهاكم على سبيل المثال ما كتبه بل كلينتون عن التغيير:

في غمار انتقالنا من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات، ومن الحرب الباردة إلى القرية العالمية، يكتسب التغييرُ سرعةً هائلة ونطاقًا شاسعًا. إذ تستطيع المعلومات والأموال والخدمات أن تنتقل حول العالم، بل وتنتقل فعلًا، في طرفة عين. والقوة الحاسوبية في كمبيوتر فورد تاوروس أكبر مما كان كمبيوتر الصاروخ أبوللو ١١ يتمتع به عندما اصطحبه نيل آرمسترونج إلى القمر. وفي الوقت الذي يستغرقه طفلٌ وُلِد اليوم في تعلُّم القراءة، تكون الإنترنت قد أصبحت متاحة لأكثر من ١٠٠ مليون شخص. بل إن قط الأسرة نفسه، واسمه سوكس، لديه صفحته الخاصة على الشبكة العالمية. والفرص التي يقدِّمها هذا العصر فرص فذة … ولكن تحديات هذا العصر فذة كذلك وتكاليف عدم مواجهتها عالية.

وبلاغة كلينتون تُشبه بلاغةَ بلير؛ فكلٌّ منهما يستخدم الصورةَ المجازية التي نستطيع وصفها بأنها تمثِّل «شلال التغيير»، وهو ما يعني تقديم نماذج للتغيير ذات تأثير متراكم، بحيث ينوء القارئ بأثقال النماذج مثلما يجرف الشلال المرء بقوة اندفاعه المياه. وها هو ذا بلير يتحدث عن التغيير:

يكمن التحدي الحاسم في الربط بين أهدافنا وبين عالم تعرَّض لثورة حقيقية من التغيير. فالتكنولوجيا والتجارة والأسفار تُحول شكل حياتنا. إذ سوف يعمل شبابُنا في صناعات مختلفة، كثيرًا ما تتعلق بالاتصالات ووضع البرامج، لا بالإنتاج بالجملة الذي بلغ أرذل العمر. فسوف يعمل الكثيرون بأعمال تجارية صغيرة أو يملكونها. مضى عهدُ الالتزام بعمل واحد مدى الحياة. ولم يَعُد نظام العمل من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً نظامًا عالميًّا. كما أن المرأة تعمل، وهو ما يأتي بفرص جديدة وإن كان يتسبب في مظاهر توتُّر جديدة في الحياة الأسرية، وأصبحت بلدان جنوب شرقي آسيا قادرةً على منافستنا، وعلى قدم المساواة، في مجالات عديدة. ويجري تبادل الأموال عبر الحدود الدولية بمقادير هائلة على مدار ساعات اليوم. جديد، جديد، جديد: كل شيء جديد. وأمامنا مهمة عاجلة تتمثل في تجديد النموذج الديموقراطي الاجتماعي للتصدي لهذا التغيير.

(من بيانه أمام مؤتمر الاشتراكيِّين الأوروبيِّين، يونيو ١٩٩٧م)

ولكن ما يهمنا هنا أساسًا هو رسم التغيير في صورة سلسلة من النتائج التي تتخذ شكلَ قائمة غير منهجية. وأما العمليات التي تؤدي إلى إنتاج هذه الآثار والعوامل التي تحركها فهي غائبة. فعلى سبيل المثال، نجد أن عبارة: «مضى عهد العمل الواحد مدى الحياة» تمثِّل القلق على العمل باعتباره حقيقة واقعة بسيطة (إذ تعتمد العبارة على ما يمكننا اعتباره «عملية وصفية»؛ فعلى الرغم من أن كلمة «مضى» فعل، فإنها تقوم هنا بوظيفة الصفة) لا باعتبار هذه «الحقيقة» نتيجة للقرارات التي تتخذها الشركات لتحقيق مصالحها الخاصة في ظروف خاصة. والنص يبني المستقبل من خلال التنبؤات («سوف يعمل الكثيرون بأعمال تجارية صغيرة أو يملكونها») مع استعمال الحرف «سوف»، بدلًا من كلمات مثل الخطط أو الاستراتيجيات (مثلًا: «سوف نُشجع إنشاء الصناعات الصغيرة»). وحيثما تكون آثار التغيير عمليات في ذاتها، (مثل: «تستطيع المعلومات والأموال والخدمات أن تنتقل حول العالم بل وتنتقل فعلًا في طرفة عين» [كلينتون] و«يجري تبادل الأموال عبر الحدود الدولية بمقادير هائلة على مدار ساعات اليوم» [بلير]) فإن النص لا يحدد الفاعل في هذه العمليات. وهكذا تغيب عن النص القوى الفاعلة الرئيسية في الاقتصاد العالمي، ويغيب عنه كذلك المسئولون عن الاتفاقات الدولية التي ساعدت على إنتاج هذا العالم «الجديد، الجديد، الجديد» أي الشركات التجارية العملاقة والحكومات. والشكل الأساسي لهذه القصص في غاية البساطة؛ إذ يقول: هذا هو حال العالم اليوم، ومن ثَم فهذا ما يجب أن نفعله. والواقع أن المنتمين إلى يسار الوسط قد اعتنقوا منطقًا سياسيًّا يقول: إن الاقتصاد الرأسمالي حقيقة لا تقبل الجدل من حقائق الحياة، ولا تستطيع الحكومات أن تفعل أيَّ شيء لتغييرها، وكل ما تستطيع الحكومات أن تفعله ينحصر في توفير الظروف اللازمة لنجاح «شركاتها» وسكانها في الاقتصاد العالمي باعتباره حقيقة مُسلَّمًا بها. ومعنى هذا التخلي عن الديموقراطية الاجتماعية التي تعتبر الرأسمالية وحشًا خطرًا يتسبب في إلغاء الضوابط على السوق، وترى أن مهمة الحكومات فرضُ هذه الضوابط.

(٦-٢) أسس المقاومة

إذا أقررنا بوجود اتجاهات ترمي إلى التقنين والإغلاق، فلا بد أن نُقرَّ بأنها تلقَى معارضة معينة، وربما تتمكن من السيطرة في بعض الحالات (كأن تُفرض داخل الشركات الكبرى دون مقاومة تُذكر على سبيل المثال) ولكنها تلقَى المعارضة من الأحزاب السياسية الصغرى، والحملات، وجماعات الضغط، وبعض قطاعات أجهزة الإعلام وهلمَّ جرًّا.

وهاك على سبيل المثال مقتطفًا من كتيِّب نشره حزب الخضر البريطاني عشيةَ انتخابات الاتحاد الأوروبي عام ١٩٩٩م:

طعن في العولمة

سياسات حزب الخضر تُقدِّم بديلًا جذريًّا عن تقبُّل العولمة، الذي يشغل مكان القلب في المشروع الأوروبي الحالي بأعين معصوبة.

ولكن حزب الخضر يؤمن بأن مستقبل أوروبا يكمن في تدعيم اقتصادات محلية أقوى وأكثر تنوعًا، وأشد التزامًا بالمعايير البيئية والاجتماعية والديموقراطية. وترمي سياساتنا الصريحة إلى تقليل اعتماد البلدان على الاقتصاد العالمي، وزيادة استجابتها للحاجات المحلية …

ومدخل حزب الخضر يتناقض تناقضًا مباشرًا مع مدخل جميع الأحزاب الأخرى الذي عادةً ما يتسم «بالقدرية»، فهي تزعم أن العولمة محتومة ويمكن أن تكتسب المزيد من الأبعاد الإنسانية من خلال بعض التعديلات الطفيفة. ولكن هذا يتجاهل الأدلة المتزايدة المستقاة من شتى أرجاء العالم، وهي التي تبيِّن العواقب الوخيمة لمذهب حرية التجارة المعهود الذي لا يخضع لضوابط: مثل تجريف الديموقراطية، وارتفاع مد التفاوت الاجتماعي، وتدمير الموارد الطبيعية، وتشتيت المجتمعات المحلية.

ويزداد اتخاذ القرارات الأساسية التي تؤثر في حياتنا من جانب شركات متعددة الجنسيات لم ينتخبها أحد، ولا يحاسبها أحد، ولا يعرف هويَّتَها أحد. وتستطيع أكبرها أن تَصِل إلى كلِّ بلد من بلدان العالم تقريبًا. والشركات العشر الكبرى ذات رأسمال يفوق ميزانيةَ مائة من أصغر البلدان.

إن العولمة الاقتصادية تغذو مظاهرَ التفاوت المتنامية. ويزداد انقسامُ العالم إلى شطرين، شطر يتمتع بثراء لا يُجارى، وشطر يضمُّ مَن يعيشون في فقر بلا أمان.

وإلى جانب انتقادات «الخُضْر» للتأويلات التي وضعها خصومهم للعولمة (وهو ما سوف أعرض له أدناه) فإن هذا النصَّ يختلف عن نصوص حزب العمال الجديد أولًا في وصف العولمة باعتبارها عمليات تتحكم فيها قُوًى مسئولة (فالنص يُشير فعلًا إلى الشركات المتعددة الجنسيات، وهو ما لا يُشير إليه السياسيون في حزب العمال الجديد قط) كما يحدد النصُّ المشاركين في هذه العمليات («مَن يتمتعون بثراء لا يُجارى»، و«مَن يعيشون في فقر بلا أمان»)، كما يُشير النص إلى العولمة باعتبارها «مذهب حرية التجارة المعهود بلا ضوابط»، وهذه إشارة إلى ما أسميتُه الليبراليةَ الجديدة أعلاه، ويشير إلى أن العولمة تُبنَى لها صورة محددة. ويقيم النص مجموعة من التعادلات بين «العولمة»، و«الاقتصاد العالمي»، و«مذهب حرية التجارة المعهود بلا ضوابط» و«الشركات المتعددة الجنسيات التي لم ينتخبها أحد ولا يحاسبها أحد ولا يعرف هويَّتَها أحد» و«الشركات العشر الكبرى». كما يُقيم النص التضاد بين «الاقتصاد العالمي» وبين «الاقتصادات المحلية»/«الحاجات المحلية» (مع الإشارة إلى أن الأول يمثِّل خيارًا لا شيئًا من المحال أن نتحاشاه كما يقول حزب العمال الجديد). وألوان التعادل والتضاد المذكورة تمثِّل — نصيًّا — في مجموعها نظامًا للتصنيف يختلف كلَّ الاختلاف عمَّا يجده المرء في نصوص حزب العمال الجديد. ويصدق هذا أيضًا على الربط هنا بين الخطاب البيئي والخطاب اليساري، فالجملة التي تقول: «إن الشركات العشر الكبرى ذات رأسمال يفوق ميزانية مائة من أصغر البلدان» تنتمي إلى الأسلوب اليساري الذي يجسد مظاهر التفاوت الاجتماعي الشديد أو مظاهر الظلم الفادح في عبارة إحصائية.

ويتضمن النص إحالات معينة إلى نوع اللغة التي يستخدمها حزب العمال الجديد وغيره؛ فعبارة: «إنها تزعم أن العولمة محتومة» وعبارة «إنها قدرية» تُشيران فيما يبدو إلى أسلوب تصوير الاقتصاد العالمي الجديد في صورة الحقيقة التي لا تتغير ولا تقبل التشكيك في صحتها (انظر تعليقاتي على ذلك عاليه). ولكن النص لا يتضمن فعلًا انتقاداتٍ صريحةً للغة. ما الذي يمكن لمثل هذا الانتقاد أن يُضيفَه إلى طعن حزب الخضر في العولمة؟ أو فلنأتِ بصيغة أخرى لهذا السؤال، وهي: ما الذي يمكن للخطاب النقدي أن يقدِّمه إلى النشطاء السياسيِّين أو الاجتماعيِّين بحيث يتجاوز الموارد التي لديهم فعلًا؟ تقول صياغة المقتطف إن الأحزاب الأخرى: «تزعم أن العولمة محتومة، ويمكن أن تكتسب المزيد من الأبعاد الإنسانية من خلال بعض التعديلات الطفيفة»، وإن هذا يتجاهل الأدلة المتزايدة المستقاة من شتى أرجاء العالم على «العواقب الوخيمة». ولكننا إذا أنعمنا النظر في لغة حزب العمال الجديد فسوف نجد انتقادًا أشد وأقوى هنا، وهو ما بدأتُ أُشير إليه في تعليقاتي عاليه: أي إن حزب العمال الجديد «يزعم» أحيانًا أن العولمة محتومة، ولكن الذي يفعله باستمرار هو افتراض ذلك سلفًا، كأنما كان مجرد حقيقة واقعة، لا تقبل التشكيك فيها كالحقيقة التي تقول: إن المطر يهطل من وقت لآخر، و«يتجاهل» الاتفاقات الحكومية الدولية، والاستراتيجيات القائمة على التواطؤ بين الحكومات والشركات التجارية والتي أدت إلى نشأة الاقتصاد العالمي ذي الصبغة الليبرالية الجديدة بشكله الحالي. فإذا شئنا صياغة القضية بأسلوب يُثير الخلاف قلنا: إنها ترسم للعولمة صورةً مضلِّلة وتقصد التعمية. والسياسيون المعاصرون يتمتعون بالوعي بأهمية اللغة بصفة عامة، لكنني أعتقد أننا إذا تعمقنا في فحصنا النقدي للخطب والنصوص السياسية فسوف نزيد من تفهمنا للممارسة السياسية والكفاح السياسي.

(٧) الخاتمة الدراسة النقدية للغة، والبحث الاجتماعي والسياسة

تعتبر الدراسة النقدية للغة، وما تتضمنه من التحليل النقدي للخطاب، من التطبيقات لمدخل معين إلى البحث الاجتماعي في إطار دراسة اللغة. وتوجد أساليب مختلفة للبحث الاجتماعي تتميز بما يُطلق عليه هابرماس «اهتمامات معرفية» مختلفة. ونحن نميِّز هنا بين البحث الاجتماعي الموجَّه إلى تحسين الأداء («تحقيق الانضباط في مواعيد القطارات») وبين البحث الاجتماعي الرامي إلى تحرير الإنسان. ويتميز الأخير، أي البحث الاجتماعي النقدي، بآرائه الخاصة في الأنطولوجيا الاجتماعية وعلم المعرفة الاجتماعي، أي بماهية الحياة الاجتماعية وكيف نُجري البحوث فيها.

ولديه كذلك قائمته الخاصة بأسئلة البحث. فالعاملون في مجال البحث الاجتماعي النقدي يرون أن قائمتهم تتشكل على ضوء المشاكل التي يواجهونها بسبب التغير الذي يطرأ على العالم، كما تتغير صورتها وفقًا لهذه المشاكل. إذ إننا، في أية لحظة مهما تكن، نُواجه مشكلات كثيرة متنوعة، وهو ما يتوقف في جانب منه على فئات الناس الذين ندرسهم وعلى مجال الحياة العامة الذي ننظر فيه. ونحن نحاول هنا تلبيةَ حاجة جوهرية، وإن شابَت ذلك صعوبةٌ ما، ألَا وهي أن نحاول، من خلال البحوث والمناقشات، أي نعمل معًا على تحقيق الاتفاق حول الأولويات، وتحديد القضايا الكبرى لعصرنا. ومن المفارقات أنه لا بد من التوصل إلى اتفاق كفيل ببلورةِ هدفِ البحث النقدي، وضمان استمرار الاختلاف حتى نتجنب الجمود المذهبي المعهود.

وتتلاقى اليوم فروعٌ كثيرة من البحث النقدي حول انتقاد الليبرالية الجديدة. وأرى أن ذلك المجال هو ما ينبغي للتحليل النقدي للخطاب أن يركز فيه جهودَه، أي حول الصراع المعاصر حول النظام العالمي الجديد المصطبغ بالليبرالية الجديدة؛ إذ لا توجد قضيةٌ أكبر من السؤال الذي يقول: هل يمكن تبرير التدمير الهائل للمجتمعات البشرية والموارد الطبيعية، الناجم عن الرأسمالية الجديدة، بما يمكن أن يأتي به من الثروة؟ وقد تكون لدى الآخرين أولويات أخرى، مثل تحرير البشر من التعصب العرقي البشع الذي شهدناه أخيرًا في شبه جزيرة البلقان، أو وضع حدٍّ للاستغلال المنتظم للعاملات المأجورات في المنازل وفي المصانع (وهو الذي يتبدَّى بصورة صارخة حاليًّا في بعض بلدان العالم الثالث مثل المكسيك وإندونيسيا). أما أنا فأجد أن علينا تحديد أهم القضايا الأساسية للغة والسلطة التي تشكِّل غيرها.

ينتقد البعض البحث الاجتماعي النقدي بسبب انحيازه، ما دام التزام المرء بالاهتمام بالمعارف التحررية يعني — بطبيعة الحال — أنه منحاز! ولكنني أتصور أن الأوهام الخاصة بحياد البحث الأكاديمي قد انقشعت قطعًا هذه الأيام، إذ تحوَّلت الجامعة على امتداد العقدَين الماضيَين، بصراحة متزايدة، إلى فرع من فروع الاقتصاد العالمي الجديد، وذلك في إطار تعبئة غير مسبوقة للحياة الاجتماعية من أجل تلبية مطالب الذين يسيطرون على الاقتصاد. ولا تزال النظرة إلى التعليم الجامعي والتعليم على مستويات أخرى تزيد من اختزاله في مجرد إعداد الناس للعمل. وتدور معظم البحوث الممولة في مجالات تُوصَف بأنها أولويات قومية للحكومة ورجال الأعمال. أي إن الحياة الأكاديمية قد فُرضت عليها علاقة وثيقة ومتشابكة مع دنيا الأعمال والحكومة، والحديث عن استقلال الجامعات يمثِّل في معظمه الحنين للماضي. ولا تتمثل القضية فيما إذا كانت الجامعات سوف تُفضِّل إقامة روابط معينة مع شرائح اجتماعية معينة أخرى، بل تتمثل في أنواع الروابط التي تفضِّلها. ولكن تفضيل أية روابط لا ينبغي أن يعني: «التخلي عن المعايير الأكاديمية»، فالعمل الأكاديمي ضربٌ متميز من الممارسة الاجتماعية، ونتائجه تخضع — كما ينبغي — لتقييم الأقران له داخل الجامعات، وللتقييم خارجها، وهو ما ينطبق على البحث النقدي أيضًا.

ويمثل البحث الاجتماعي النقدي نضالًا — ومحاولة كثيرًا ما تكون شاقة — لتصحيح هذا التحيز الشديد. إنه نهج يمكِّن الجامعات من إعادة اكتشاف دورها المهم باعتبارها أماكنَ عامةً أو ساحات تُتيح للدارسين أن يناقشوا بعض جوانب الحياة الاجتماعية ويطعنوا فيها بعيدًا عن ضغوط القسر والمصلحة الخاصة.

وبعد انقضاء ما يزيد على عقد منذ صدور الطبعة الأولى من اللغة والسلطة أودُّ أن أُكرر أن التحليل النقدي للخطاب يدين بقيمته إلى كونه موردًا من موارد الكفاح ضد الهيمنة. وأرى أن غايته والغرض من التحليل النقدي للخطاب تزويد المنغمسين في الكفاح الاجتماعي بمورد للبحث النقدي في اللغة، في الظروف الحالية التي يؤدي فيها «التحول إلى اللغة» إلى جعل البحث النقدي في اللغة جانبًا مهمًّا من جوانب ذلك الكفاح. وأنا أعتقد أن الكفاح الأول لا بد أن يكون الآن ضد الليبرالية الجديدة.

(٨) مواصلة البحث

هذا الجزء الأخير من الكتاب موجَّهٌ بصفة خاصة إلى القراء الذين يودون مواصلة الاهتمام بالدراسة النقدية للغة، وهو يتضمن ملاحظات عملية موجزة عن مكان تحقيق ذلك وأسلوبه وما يصلح للتركيز عليه، ومقترحات للمزيد من القراءة.

إن أنجع طريقة لتنمية الاهتمام بالدراسة النقدية للغة تطبيقها، أي القيام بالتحليل النقدي لنمط معين أو أنماط معينة من الخطاب. وقد يتخذ هذا صورةَ الجهد الشخصي المحض، ولكن أهداف الدراسة النقدية للغة تتطلب القيام به من خلال فريق من نوع ما. وفيما يلي عدد محدود من الإمكانات المتاحة:
  • المكان: المدرسة، الكلية، الجامعة.

    فرع إحدى النقابات.

    مجموعة نسائية.

    فرع هيئة أهلية.

    مركز شباب.

    حزب سياسي.

    مركز استشارات قانونية.

  • الأسلوب: قاعة الدرس.

    حلقة بحثية غير رسمية أو خارج المقررات الدراسية.

    عروض فيديو أو أفلام.

    عروض بصرية، واستخدام اللافتات.

    لعب الأدوار (التمكين).

  • موضوع التركيز: العنصرية، أو التمييز بين الجنسين (في المحادثات العارضة مثلًا).

    أجهزة الإعلام (تغطية أنباء النقابات أو الهيئات الأهلية).

    الإعلان (عن لعب الأطفال مثلًا).

    التعامل مع المسئولين والمحاكم إلخ (لأصحاب القضايا).

    الدور الأيديولوجي للصور (المطبوعة أو المذاعة تليفزيونيًّا).

    هل يمكن لجلسات التشاور أن تخلوَ من التوجيه؟

من المستحسن عند اتخاذ قرار القيام بمبادرة للدراسة النقدية للغة أن يضع المرءُ نصبَ عينَيه عدةَ أمور، أولها: أن أفضل مجال لتطبيق هذه الدراسة يشمل أنماطَ النصوص التي يرى المشاركون أنها ذات أهمية حقيقية لحياتهم وخبراتهم، وثانيها: أن أشدَّ الناس انفتاحًا على المداخل النقدية من نوع هذه الدراسة هم أشد المنغمسين في الكفاح الاجتماعي. وثالثها: أن التركيز على اللغة لن تكون له دلالة تُذكَر عند معظم الناس، وهكذا فلا بد من إثبات أهمية اللغة بصفة عامة من خلال جهود مضنية، وذلك هو السبب الذي جعلني أتجنب صياغة موضوعات التركيز أعلاه بالإشارة الصريحة إلى اللغة.

(٩) مواصلة القراءة

ذكرت في الفصلين الخامس والسادس بعض المراجع التي قد يجد القراء فيها فائدةً من حيث إجراءات تحليل الخطاب، بما في ذلك شتى مستويات التحليل النصي. كما أشرت في الفصل الأول وفي الكتاب كلِّه إلى الأعمال الرئيسية الخاصة بالنظرية الاجتماعية، والتي سوف يُفيد من قراءتها كلُّ مَن يرغب في تنمية اهتمامه بالدراسة النقدية للغة.

وفيما يلي قائمة بكتب راعيتُ الدقة الشديدة في اختيارها وأردفت بها شرحًا موجزًا، وهي تتناول الدراسة النقدية للغة أو تعالج مسائل متصلة بها. وقد رتبت الكتب وفق صعوبتها، تقريبًا، مبتدئًا بأسهلها تناولًا وفهمًا.

  • كريس ١٩٨٩: هذا وصف موجز لرأي كريس في الدراسة النقدية للغة؛ إذ يستخدم موادَّ توضيحيةً جيدة لتقريب القضايا النظرية المعقدة إلى الأذهان. وهو يستكشف كيف تتفق القدرة الخلاقة مع السيطرة الاجتماعية. وهو مفيد كمقدمة للدراسة النقدية للغة.
  • فاولر وآخرون ١٩٧٩: هذا يمثِّل العمل المهم في «اللغويات النقدية» وهو المبحث الذي نشأ وترعرع في جامعة إيست أنجليا. ويتضمن تحليلًا أيديولوجيًّا للمعالم النحوية واللفظية لنصوص معظمها مكتوب. ويرمي إلى تقديم إطار تحليلي يمكن استخدامه لغير اللغويِّين. ونُزكِّي هذا الكتاب بشدة.
  • كريس وهودج ١٩٧٩: يستكمل استكمالًا دقيقًا كتاب فاولر وآخرين ١٩٧٩م.
  • ج. ب. طومسون ١٩٨٤: دراسة قام بها عالمُ اجتماع للنظريات الاجتماعية حول الرابطة ما بين اللغة والأيديولوجيا. ويعتبر عرضًا شاملًا قيِّمًا لعمل بورديو وبيشيه وهابرماس وغيرهم.
  • فولوسينوف ١٩٧٣: نُشر باللغة الروسية أول مرة عام ١٩٢٩م. وهو وصفٌ مهمٌّ وذو تأثير كبير للأيديولوجيا واللغة، ويتضمن بحثًا نقديًّا للتيار الرئيسي لعلم اللغة، ولا يزال ملائمًا للأوضاع الحالية إلى حدٍّ بعيد.
  • ليمكه ١٩٩٥: دراسة نقدية للغة في إطار التغيرات الاجتماعية والثقافية المعاصرة.
  • فوداك ١٩٩٦: مجموعة من الأبحاث التي تبيِّن شتى أساليب تطبيق «منهج الخطاب والتاريخ» في التحليل النقدي للخطاب.
  • تشولياراكي وفيركلف ١٩٩٩: مناقشة نظرية للتحليل النقدي للخطاب باعتباره شكلًا من أشكال العلم الاجتماعي النقدي، وموردًا للبحث النقدي حول «المراحل الأخيرة للحداثة». وهو يعتبر أن تحليل الخطاب جزءٌ من مبحث أعم وأشمل وهو التحليل الاجتماعي للممارسة الاجتماعية.
  • فيركلف (1992a): إطار لتحليل الخطاب باعتباره جانبًا من جوانب التغيير الاجتماعي (ارجع إلى الفصل الثامن من هذا الكتاب).
  • فيركلف (1995b): مجموعة من الأبحاث تشرح تطبيق التحليل النقدي للغة على شتى مجالات التغير الاجتماعي، بما في ذلك التغير في التعليم وأجهزة الإعلام الجماهيرية.
  • كريس وفان لويفين ١٩٩٦: تطوير تجديدي لإطار «السيميوطيقا الاجتماعية» ويتميز بتحليلات تطبيقية حافلة للمادة البصرية.
  • سكولون ١٩٩٨: مدخل أصيل لدراسة خطاب الأنباء.
  • ج. وليامز ١٩٩٩: وصفٌ عميق للتطورات في تحليل الخطاب النقدي الفرنسي.
  • فان دييك ١٩٩٣: يطبق التحليل النقدي للخطاب في مجال البحث في العنصرية في المجتمعات المعاصرة.

المراجع

فيما يتعلق بالعولمة انظر — على سبيل المثال: هارفي (١٩٩٠م)، وجيدنز (١٩٩١م)؛ وفيما يتعلق «بالتحول إلى اللغة» في الحياة الاجتماعية المعاصرة وعلاقة التحليل النقدي للخطاب بالبحث الاجتماعي، انظر تشولياراكي وفيركلف (١٩٩٩م)، وفيركلف (2000a). ويوجد تحليل للخطاب السياسي لحزب العمال الجديد في فيركلف (2000b) وفكرة «شلال التغيير» في خطاب حزب العمال الجديد مقتبسة من كلارك ونيومان (١٩٩٨م)، وأُعرب عن امتناني إلى لزلي فيريل للسماح لي باستخدام المقتطف من النص الخاص «بتيسير» العمل في الاجتماع الذي عُقد في مقر العمل.
١    الترجمة ترمي إلى النقل الصادق لصورة النص الأصلي بفساد أبنيته نحويًّا وأسلوبيًّا تحقيقًا لغرض المؤلف في تقديم قطعة «حية» من الحوار الواقعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤