الفصل الثالث

السلطة والخطاب

الغرض من هذا الفصل استكشاف شتى علاقات السلطة واللغة. وأركز فيه على جانبَين رئيسيَّين من جوانب علاقة السلطة باللغة، وهما السلطة في داخل الخطاب والسلطة من وراء الخطاب. وهذا يلتقط خيط التمييز الذي قدمتُه في الصفحات الأولى من الفصل الأول.

والقسم الخاص بالسلطة في داخل الخطاب يتناول الخطاب باعتباره مكانًا تُمارَس فيه علاقات السلطة وتتجسد في الواقع الفعلي. وأنا أناقش السلطة في الخطاب المنطوق في المحادثات المباشرة أي التي توصف بأنها تجري وجهًا لوجه؛ والسلطة في الخطاب الذي يجري عبر الثقافات؛ حيث ينتمي المشاركون إلى مجموعات عرقية مختلفة؛ و«السلطة الخفية» في خطاب أجهزة الإعلام الجماهيرية.

والقسم الأخير من الفصل يضيف شرطًا ذا أهمية حيوية لما سبقه، ألا وهو أن السلطة، سواء كانت «في داخل» الخطاب أو «من ورائه»، لا يملكها أبدًا، وبالقطع، فردٌ واحد، أو فئة اجتماعية واحدة؛ لأن السلطة لا تُكتسب ولا تُمارس إلا في غمار الصراعات الاجتماعية ومن خلالها، وقد تضيع أيضًا من هذا الطريق.

(١) السلطة في داخل الخطاب

فلنبدأ مناقشة مسألة السلطة داخل الخطاب بتقديم مثال لممارسة السلطة في نمط خطاب يجرى «وجهًا لوجه» حيث المشاركون غير متكافئين، ولنا أن نُطلق عليه تعبير اللقاء غير المتكافئ. والنص ٣–١ مقتطف من زيارة دكتور (يُرمَز له بالحرف د) لوحدة طبية للأطفال المبتسرين [أي المولودين قبل اكتمال فترة الحمل الطبيعية] ومعه مجموعة من طلاب الطب (ويُرمَز للطالب بالحرف ط) في غضون برنامج تدريب الطلاب. والنقطة التي تسبقها وتتلوها مساحة فارغة ( . ) تدل على وقفة قصيرة، والشرطة تُفيد الوقفة الطويلة، والأقواس المربعة الممتدة على سطرين تعني تدخل الكلام المنطوق، هكذا [، والأقواس المستديرة ( ) تعني أن الكلام لم يكن واضحًا بحيث يُسمح بكتابته.
النص ٣–١: المصدر: برنامج «الأولاد من مستشفى هورسفري رود»، تليفزيون جرانادا ١٩٨٠م.
أول معلم بارز، تدل عليه الأقواس المربعة، هو عدد المرات التي يقاطع الدكتور فيها الطالب، في (٣) و(٩) و(١١) و(١٣) و(١٩). (لا توجد أقواس مربعة في (١٣)؛ لأن كلامها لا يتداخل في الواقع). والانطباع الذي خرجت به هو أن الدكتور لا يقاطع الطالب بسبب رغبته في أن يستأثر بالحديث كلِّه، كما يفعل البعض. بل أعتقد أن المقاطعة ترجع إلى أنه يريد أن يتحكم فيما يقوله الطالب ويفعله، أي أن يمنعه من الشروع في الفحص قبل غسل يدَيه، وأن يمنعه من تكرار المعلومات، أو تقديم معلومات واضحة ولا علاقة لها بالموضوع، وأن يضمن أن يقدم الطالب المعلومات الأساسية المتوقعة.

ما الطرائق الأخرى التي يمارس بها الطبيب سيطرته على أقوال الطالب؟

يبدو ذلك أولًا في العبارات الاستهلالية التي يشرح فيها الطبيب ما سوف يحدث في التفاعل للطلاب، بما في ذلك طبيعة أقوالهم وأفعالهم. ويبدو ثانيًا في الأسلوب الذي يقال به للطالب صراحةً متى يبدأ الكلام والفحص، في نهاية رقم (١) (هيا إذن) ومرة أخرى في (٧). وثالثًا في التعليمات الصريحة للطالب بخصوص ترتيب أفعاله في ) ورابعًا في أسلوب تقييم سلوك الطالب في (٥) (رائع) و(٧) (هذا صحيح). وهذان وإن كانا يمثِّلان تشجيعًا إيجابيًّا، إلا أنهما من تقنيات السيطرة التي كان يمكن أن تعتبر تجاسرًا أو غطرسة لو استُعملت مع شخصٍ ذي مكانةٍ مكافئة لمكانة الطبيب أو يتمتع بسلطة أكبر.

والمسألة الخامسة والأخيرة أن الطالب «يوضع في مأزق» في سلسلة الأسئلة في (١٣) و(١٥) و(١٧) و(١٩). فالأسئلة تشكِّل تتابعًا ذا ترتيب استراتيجي يوجِّه الطالب لاتخاذ الخطوات التي عجز عن إدراكها. كما أن التزام الطالب بالإجابة تؤكده في كل حالة وقفة (يدل عليها وجود نقطة قبلها مسافة وبعدها مسافة)، وهذه لحظات سكوت موجزة تتعلق فيها به كلُّ العيون، وتقع على عاتقه مسئولية إنهائها!

لاحظ أيضًا الأشكال النحوية التي صيغت بها هذه الأسئلة: (١٣) و(١٥) سؤالان منفيان (ألمْ نفحصْ، ألَا ينبغي لنا؟)وقد يكون استعمال الأسئلة المنفية (وفقًا للنغمة وغيرها من العوامل) معادلًا لقولك «أفترض أن «س» هي الحالة، ولكنك فيما يبدو تُنكر ذلك، ولكن الحالة قطعًا كذلك؟» وهنا لا بد أن الطالب يعرف أن «س» هي الحالة، ومن ثَم فإن طرح أسئلة معقدة من هذا النوع عليه يعتبر وسيلةً لإظهاره بمظهر الغباء. وعلاقة السلطة تتجسد دون مواراة في رقم (١٧)؛ حيث تبدو لي أشكال الأسئلة المختزلة (أي المختزلة من السؤال: والآن ماذا ينبغي لنا أن نفعل؟ وما الخطوة الثانية في درجة الأهمية؟) أسئلة موجزة مفاجئة. وفي النهاية، في (١٩)، يستخدم الطبيب جملة مثبتة لا استفهامية متبوعة بالسؤال «صحيح؟» وتأثيرها يُشبه تأثير الأسئلة المنفية.
ونستطيع أن نقول استنادًا إلى أمثلة من هذا النوع، إن السلطة في الخطاب تتعلق بقيام المشاركين من ذوي السلطة بالتحكم في أقوال المشاركين من غير ذوي السلطة وفرض القيود عليها. ومن المفيد التمييز العام بين ثلاثة أنماط من أمثال هذه القيود. فبعضها قيود تُفرض على:
  • المضمون: أي ما يُقال ويُفعل؛
  • أو العلاقات: أي العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين الناس في الخطاب؛
  • أو الذوات، أو مواقع الذوات التي يستطيع الناسُ احتلالَها.

وترتبط «العلاقات» «بالذوات» ارتباطًا وثيقًا، وتتداخل الفئات الثلاث وتوجد معًا في الواقع العملي، ولكنه من المفيد أن نستطيع التمييز بينها. والمثال الذي سقناه يوضح أنماط القيود الثلاثة. فمن حيث المضمون نجد أن الطالب يُفرض عليه إجراء الفحص وفق الخطوات التي تعلَّمها، وهكذا فهو يتصرف في إطار علاقة مهنية أمام جمهوره ويشارك في علاقة الخضوع للطبيب (وهو ما يمثل القيود على العلاقات)، وهو يحتلُّ موقعين للذات: الأول بصفته طامحًا إلى موقع الطبيب، والثاني بصفته طالب علم (وهو ما يمثِّل القيود على الذوات). وهذه القيود تترتب عليها أشكال لغوية معينة.

ولكن يبدو أن بعض هذه القيود المفروضة على الطالب لا تتضمن أيةَ سيطرة مباشرة يمارسها الطبيب. لاحِظ مثلًا أن جميع أفعال الكلام التوجيهية (الأوامر والأسئلة) في هذا المثال تصدر عن الطبيب: إذ يبدو أن الطبيب يتمتع بالحق في أن يُصدر الأوامر ويسأل الأسئلة، في حين أن الطلاب يقتصرون على الالتزام بالانصياع للأوامر وإجابة الأسئلة، وفقًا لعلاقة خضوع الطالب للطبيب. ولكن الطبيب لا يمارس تحكُّمًا مباشرًا في الطالب في هذا الصدد. بل إن القيود نابعة من الأعراف الخاصة بنمط الخطاب الذي تنهل منه. ومع ذلك فإن الطبيب يشغل فعلًا موقع السيطرة، ولو من طريق غير مباشر؛ إذ إن المشاركين من موقع السلطة يتمتعون بمزية تحديد نوع أو أنواع الخطاب الذي يمكن أن يُنهَلَ منه بصورة مشروعة. وهكذا فإن هؤلاء يستطيعون، بالإضافة إلى فرض القيود على أقوال الآخرين وأفعالهم، أن يفرضوا قيودًا غير مباشرة عليهم باختيار نمط الخطاب. ولاحِظ أن نمط القيود الأخيرة يعتبر أيضًا شكلًا من أشكال القيود الذاتية: فما إن يقع الاختيار على نمط الخطاب حتى تسريَ أعرافُه على جميع المشاركين، بما في ذلك مَن يتمتعون بالسلطة. ولكن هذا العرض يتسم ببعض التبسيط؛ لأن أصحاب السلطة من المشاركين قد يستطيعون عدم المبالاة بالأعراف إلى حدٍّ ما، وكذلك السماح أو عدم السماح بدرجات متفاوتة من الحرية للمشاركين ذوي السلطة المحدودة.

توجد أوجهُ شبهٍ واضحة بين النص الوارد في المثال السابق وبين نص المقابلة الشرطية الذي نوقش في الفصل الثاني، من حيث علاقات السلطة غير المتكافئة بين المشاركين. قارن هذا النص بذاك وانظر النتائج التي يمكن أن تخرج بها بشأن جوانب التشابه والاختلاف بين الأساليب التي يتعامل بها رجال الشرطة مع الشهود والأساليب التي يعامل بها الأطباء طلاب الطب.

(٢) السلطة في اللقاءات عبر الثقافية

أعتقد أنه من المأمون أن نفترض في المثال الذي تأملناه أن الطلاب يستطيعون أن يعملوا في إطار القيود الخاصة بنمط الخطاب المشروع الذي يفرضها الطبيب. ولكن ما شأن اللقاءات غير المتكافئة التي يتصف فيها مَن لا يملكون السلطة بخلفيات ثقافية ولغوية تختلف عن خلفيات أصحاب السلطة؟ وهو أمر شائع مثلًا في لقاءات «حُرَّاس المدخل»، مثل اللقاءات التي تُجرى في المقابلات الشخصية مع الطامحين في الحصول على وظيفة، فإن «حارس المدخل» الذي ينتمي عمومًا إلى المجموعة الثقافية المهيمنة في المجتمع يتحكم في اللقاء الذي يحدد إذا ما كان شخص ما سوف يحصل على وظيفة أو يصل إلى هدف ثمين آخر. ففي بريطانيا الحديثة مثلًا نجد أن الأشخاص من ذوي البشرة البيضاء من أبناء الطبقة المتوسطة هم الذين يقومون بحراسة المدخل في هذه اللقاءات مع أعضاء شتى الأقليات العرقية (والثقافية) من ذوي الأصول الآسيوية، أو الأفريقية، أو المنتمين إلى جزر الهند الغربية وهلمَّ جرًّا.

وتتفاوت أنماط الخطاب ونُظُم الخطاب ما بين ثقافة وثقافة. لكنه من المحتمل أن يقوم حراس المدخل البيض المنتمون إلى الطبقة المتوسطة بفرض قيود على أنماط الخطاب التي يمكن أن ينهل منها المنتمون إلى المجموعة الثقافية المهيمنة في مثل لقاءات حراسة المدخل المذكورة. والواقع أن الحساسية للاختلافات الثقافية تزداد في بعض الحالات، ولكنها تزداد ببطء. فالذين يُجرون المقابلات يميلون مثلًا إلى افتراض أن مَن يقابلونهم يحيطون بالأساليب السائدة لإجراء المقابلات، ومن ثَم فهم يفسرون إجابات مَن يتقدم إليهم مفترضين أنه قادر على إدراك المطلوب وقادر على الوفاء به، من حيث هذه الأعراف السائدة. وهكذا فإذا أجابت إحدى المتقدمات على سؤال إجابةً بدَت للسائل ضعيفةً أو خارج الموضوع، فمن المحتمل أن يعزوها السائل إلى افتقارها إلى المعرفة أو الخبرة المطلوبة، أو إلى عدم تعاونها وما إلى هذا بسبيل، وأما إمكان إرجاع سبب سوء التواصل إلى الاختلافات في أعراف الخطاب فنادرًا ما تخطر على باله. وهكذا فقد يحرم الناس من الحصول على الوظائف وغيرها من «الخيرات» الاجتماعية القيمة بسبب التصورات الخاطئة القائمة على عدم الحساسية الثقافية وعلى الهيمنة.

والواقع يزخر بالأمثلة على وقوع سوء التواصل. والمقتطف التالي، على سبيل المثال، مأخوذ من نموذج محاكاة لمقابلة شخصية بشأن الحصول على وظيفة في مكتبة مع عضو من أعضاء إحدى الأقليات الثقافية الأمريكية (ويرمز لها بالرمز ث ٢):

السائل : ما أكبر ما يُثير اهتمامك في المكتبة؟
ث٢ : تقصد المكتبة من حيث الكتب؟ أم المبنى كله؟
السائل : أي جانب تودِّين أن …
ث٢ : أوه! كتب الأطفال، لأن عندي طفلًا، والأطفال … يعني ما أكثر الكتب التي يمكن أن يقرءوها، يعني: والأشياء الصغيرة التي تهمُّهم تهمُّني أنا أيضًا.
النص ٣–٢ المصدر: أكيناسو وأجيروتوتو ١٩٨٢: ١٢٤.

لاحظ أن لغة «ث٢» الإنجليزية مثل لغة أبناء البلد من حيث النحو والمفردات، وهذا في ذاته من المحتمل أن يُغري مدير المقابلة باستبعاد أية أفكار عن وقوع سوء تواصل بسبب اختلاف الثقافة، حتى ولو خطرت له هذه الأفكار. ولكن هذا مجرد احتمال فقط. فإن «ث٢» قد عجزت عن تفسير سؤال مدير المقابلة عما «يعنيه بوضوح»، أي باعتباره يدعو «ث٢» إلى أن تبيِّن ما تستطيع أن تفعله في عملها المهني إذا نجحت في التعيين في تلك الوظيفة. ولكن «المعنى الواضح» المشار إليه هو المعنى الوارد في ثقافة محددة هي ثقافة المقابلة الشخصية، ولا يوجد سببٌ مضمر يمنع الناس من تبيان ارتباط اهتماماتهم العملية بحياتهم الأسرية واهتماماتهم الأخرى ردًّا على سؤال من هذا النوع.

قد نجد ما يُبرر اللجوء إلى «سوء التواصل» في تفسير نتائج المقابلات الشخصية التي يحرم فيها الأفراد من الوظائف أو غيرها من «الخيرات» استنادًا، إلى حدٍّ ما، إلى الاختلافات الثقافية. ولكن أمثال هذه الحالات تقع بصورةٍ أشدَّ انتظامًا وأشد منهجيةً مما يُوحي به التبرير المذكور، والواقع أنها تستند لا إلى الاختلافات الثقافية في الخطاب وحدها بل أيضًا إلى اختلافات أشد سُفورًا في لون البشرة وأسلوب الحياة. فالسلطة في الخطاب بين أعضاء الجماعات الثقافية المختلفة تعتبر من هذا المنظور عنصرًا من عناصر هيمنة الأغلبية البيضاء على الأقليات السوداء والآسيوية خصوصًا، ومن مظاهر العنصرية الراسخة.

(٣) السلطة الخفية

كانت الأمثلة المقدمة إلى الآن أمثلة للخطاب في المواجهات الشخصية، ولكن نسبة لا يُستهان بها من الخطاب في المجتمع المعاصر تتضمن في الواقع مشاركين يفصل بينهم الزمان والمكان. وهذا مما يصدق على اللغة المكتوبة بصفة عامة، ولكن المجال الذي شَهِد نموَّ هذا النوع من الخطاب كان مجالَ أجهزة الإعلام الجماهيرية، أي التليفزيون والإذاعة والسينما والصحف. ويهمُّنا خطاب هذه الأجهزة؛ لأن طبيعة علاقات السلطة التي تمثِّلها كثيرًا ما تفتقر إلى الوضوح، ولدينا من الأسباب ما يُبرر القول بأنها تتضمن علاقات سلطة خفية.

وأوضح اختلاف بين خطاب المواجهات وخطاب أجهزة الإعلام أن الأخير يدور من جانب واحد؛ ففي التفاعل وجهًا لوجه يتبادل المشاركون دورَي منتج النص ومفسره، وأما في خطاب أجهزة الإعلام، وفي الكتابة بصفة عامة، فنجد انقسامًا حادًّا يفصل بين المنتجين والمفسرين، أو — ما دامت نواتج هذه الأجهزة تكتسب بعض خصائص السلعة — بين المنتجين والمستهلكين.

وتختلف الحالتان في جانب مهم آخر؛ ففي خطاب المواجهات يطوِّع المنتجون أقوالهم حتى تُلائم مَن يتفاعلون معهم، أي إنهم يُطوِّعون اللغة التي يستخدمونها ويواصلون هذا التطويع على امتداد المقابلة وفقًا لشتى ردود الأفعال التي يتلقَّونها من المشاركين. وأما خطاب أجهزة الإعلام فهو موجَّه للجماهير العريضة، ومن المحال على المنتجين أن يعرفوا أفراد الجمهور، ناهيك بتطويع الخطاب حتى يلائم شرائح الجمهور المنوعة. ولما كان على جميع منتجي الخطاب أن يوجِّهوه إلى بعض مفسريه، فإن المنتجين الإعلاميِّين يخاطبون ذاتًا مثالية، سواء كانت ذات المشاهد أو المستمع أو القارئ. أي إن الخطاب الإعلامي ينطوي في بنائه الخاص على موقع للذات مخصص للذات المثالية، وعلى المشاهدين أو المستمعين أو القراء في الواقع العملي أن يجتهدوا لإقامة علاقات ما مع الذات المثالية.

ولكن ما طبيعة علاقات السلطة في خطاب أجهزة الإعلام؟ لنا أن نقول إن المنتجين يمارسون سلطة التحكم في المستهلكين بمعنى أنهم يتمتعون وحدَهم بحقوق الإنتاج ويستطيعون من ثَم البتَّ فيما يُدرج وما يُستبعد، وتحديد طرائق تمثيل الأحداث، بل (كما رأينا) في مواقع ذوات جماهيرهم. ولكن مَن هؤلاء المنتجون على وجه الدقة؟ فلنضرب مثلًا محددًا حتى نستطيع الإجابة على هذا السؤال. النص ٣–٣ مقال منشور في صحيفتي المحلية.

مشكلة سقوط بعض حمولة المحجر

لا تزال الشاحنات غير المغطاة الخارجة من محجر میدلبارو تثير المشاكل؛ لأنها تسقط بعض الأحجار منها أثناء مرورها بقرية وورتون، حسبما بلغ أعضاء مجلس الأبرشية في اجتماعهم في شهر سبتمبر.

وقد أرسلت ملاحظات المجلس إلى إدارة المحجر، ويأمل الأعضاء في أن يروا إدخال بعض التحسينات.

النص ٣–٣ المصدر: صحيفة لانكاستر جاردیان، ١٢ سبتمبر ١٩٨٦م.
مَن الذي يمارس السلطة فعليًّا في هذا المقال القصير؟ ربما يكون الصحفي الذي كتب المقال. ولكن المشهور أن الصحفيِّين يخضعون لسلطة رئيس التحرير، وإذن فربما يكون المسئول رئيس التحرير، أو ذلك الكيان المبهم الذي يسمَّى بالصحيفة، باعتبارها مؤسسة جماعية. ولكن هل الصورة التي تمثل اجتماع مجلس الأبرشية من رسم الصحيفة وحدها؟ أو: أليس من المحتمل أن الصحيفة تقدِّم صورةً رسمها شخص آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك، أليس يعني منح قدر معين من السلطة لذلك «الشخص الآخر»؟
فلنحاول التعميم انطلاقًا من هذا المثال، واضعين نصبَ أعيننا قضيةَ نقلِ الأنباء بصفة خاصة. فمن الواضح إلى حدٍّ ما أن الأشخاص والمنظمات التي تستخدمها أجهزةُ الإعلام مصادرَ للأنباء لا يمثِّلون جميع الفئات الاجتماعية للسكان على قدم المساواة: فالوزراء يظهرون في الصحف بنسبة تفوق كثيرًا ظهورَ العاطلين، ومديرو الشركات ومسئولو النقابات يظهرون أكثر مما يظهر عمال الشركات والمصانع. وإذا كان تفاوت تأثير الفئات الاجتماعية واضحًا نسبيًّا فيما يتعلق باختيار الأشخاص الذين يُجري الصحفيُّ معهم مقابلاتِه، فإنه أقل وضوحًا، وإن كان بالغ الدلالة، من حيث المنظور الذي تتخذه الأنباء. فإذا دأبت الصحيفة على الإشارة إلى الخلافات بين أصحاب العمل والعمال بتعبير المتاعب أو تعطيل الإنتاج فإنها بذلك تُدرج بانتظام وجهةَ نظر أصحاب العمل في تغطيتها لأنباء الخلافات [والإضرابات].

والملاحظ في أجهزة الإعلام البريطانية أن التوازن بين المصادر والمنظورات والأيديولوجيا يُرجِّح ترجيحًا قاطعًا كِفَّةَ القابضين على السلطة في لحظة زمنية معينة. وحيثما كان ذلك هو الحال — وأحيانًا لا تكون الحال كذلك — فلنا أن نرى أن علاقات السلطة في أجهزة الإعلام علاقات تقوم على وسيط معين بين أصحاب السلطة وسائر السكان. وعلاقات السلطة ذوات الوسيط المذكورة تتضمن أولى العلاقات الجوهرية، وهي العلاقة الطبقية، فإذا عدنا لفكرة التوازن قلنا — من بعد وضع جميع أنواع الشروط والحدود — إن أجهزة الإعلام تعمل باعتبارها وسيلةً للتعبير عن سلطة الطبقة والكتلة المهيمنة وإعادة إنتاجها. والسلطة التي تتوسل بالوسيط المذكور والتي يملكها أصحاب السلطة في لحظة زمنية معينة تعتبر أيضًا سلطةً خفية؛ لأنها مضمرة في ممارسات أجهزة الإعلام وليست صريحة.

ولنعرض الحجة بأسلوب أوضح، وإن كان يتعلق بالمثال الذي سُقْناه عاليه. الذي أريد التركيز عليه هنا هو مبدأ العلية: أي من الذي يصوره الخبر في صورة المتسبب في حدوث ما حدث، أو من الذي يصوره في صورة مَن يفعل شيئًا يعود بالضرر على البعض. إن البناء النحوي للعنوان بناء الجملة الاسمية: أي إن الفعل معبر عنه باسم، كأنما كان له كيان مجسد. ومن بين آثار هذا الشكل النحوي ترك بعض الجوانب الجوهرية للحدث دون تحديد، فنحن، على وجه الخصوص، لا نعرف مَن أو ماذا يسقط الحمولة أو يتسبب في أن تسقط الحمولة؟ أي إن العلية غير محددة.
والفقرة الأولى من الخبر توضح الحدث، وإن لم يكن الوضوح كبيرًا. فالعِلِّيَّةُ تُنسب إلى الشاحنات غير المغطاة الخارجة من محجر میدلبارو. وهذا في ذاته يتضمن عِلِّيَّةً غير محددة، فتعبير غير مغطاة يعني ضمنًا عدمَ حدوث شيء، أي إن شخصًا ما لم يَقُم بتغطية الحمولة وكان الواجب (فيما نظن) أن يفعل. فمن الصعب أن نقبل حرفيًّا القول بأن الشاحنات سبب المشكلة، ومن الواضح أن السبب قد يكون، إذا اختلف تصوير الحادثة، مَن أشرنا إليه بأنه «شخص ما»، والمفترض أنه إدارة المحجر أو العاملون تحت سلطة هذه الإدارة. ولكن إدارة المحجر لا يُشار إليها إلا في الفقرة الثانية من هذا الخبر، باعتبارها قد تلقَّت ملاحظات المجلس، وهو مصطلح يتحاشَى من جديد نسبةَ أية مسئولية إليها (وكان من الممكن أن تستبدل بها كلمة شكاوى).
يبدو أن هذا الخبر (وربما الاجتماع الذي يُشير إليه، وإن كان ذلك يتعذر التيقن منه) موجَّهٌ للإبلاغ عما كان يمكن أن نفسره، من منظور مختلف تمامًا، بأنه من عواقب أنانية أصحاب المحجر الذين لا خلاق لهم والذين ينشدون توفير الجهد والمال، بأسلوب يقدم العواقب من دون الأسباب أو المسئوليات. وأما السلطة التي تُمارَس هنا فهي سلطة إخفاء السلطة، أي إخفاء سلطة أصحاب المحجر ومَن لفَّ لفَّهم على أن يتصرفوا بأنانية وهم بمنجى من العقاب. أي إنها شكل من أشكال السلطة القادرة على فرض القيود على المضمون لصالح تفسيرات و«صياغات» معينة للأحداث، واستبعاد غيرها (مثل الصياغة البديلة التي قدمتها للتو)، وهي شكل من أشكال السلطة الخفية؛ إذ إن التفسيرات والصياغات الراجحة تنتمي لمن يمسكون بزمام السلطة في مجتمعنا، وإن بدَا أنها تنتمي إلى الصحيفة وحسب.

فلننظر إلى مثال آخر يختلف إلى حدٍّ ما عن هذا. والمقتطف في النص ٣–٤ مأخوذٌ من بداية مقال منشور في الصفحة الأولى من صحيفة يومية في إبان حرب جزر فوكلاند:

القائد الجديد لقوات المظلات
زوجة الرائد تقول: سوف يحسن أداء مهمته

تحدثت ليلة أمس زوجة القائد الجديد لكتيبة المظلات الثانية عن مخاوفها إزاء سلامة زوجها.

قالت جیني كیبيل في أثناء اللعب في ضوء الشمس مع أطفالها الأربعة إنها تأمل ألا يشتبك زوجها في القتال مرة أخرى.

قالت: «أدعو الله أن يكون قد قام مع زملائه بما يكفي. ولكن إذا واصلوا القتال فأنا على ثقة أنه رجل سوف يقوم بالمهمة على خير ما يستطيع، وأنا واثقة من نجاحه ونجاح كتيبة المظلات الثانية».

كان قد عُيِّن الرائد كریستوفر كیبیل، وهو كاثوليكي ورع في الأربعين من عمره، خلفًا للعقيد هيربرت جونز الذي مات أثناء قيادة رجاله في الهجوم على موقع للرشاشات في معركة اقتحام جوس جرين.

وبالأمس اجتمعت أسرة جینی كیبيل وأصدقاؤها في حديقة منزلها الواقع في محيط الكنيسة العتيقة، وهو منزل مديد الأطراف من طراز تیودور في بلدة مادينجتون في سولزبري بلين، وتناول الجميع الطعام بأسلوب النزهة ساعة العصر، إذ كانت تحاول الإبقاء على جو الحياة الطبيعية من أجل الأطفال.

النص ٣–٤ المصدر صحيفة الديلي ميل، أول يونيو ١٩٨٢م.

ما صورة جیني كیبيل المقدَّمة هنا؟ ما صورة زوجات ضباط الجيش التي تخرج بها من هذا المقتطف؟ ما الانطباع الذي تتركه في نفسك صورةُ الرائد كیبيل؟ هل تجد أن عليك أن تتعامل مع موقع ذات مثالي بناه المنتج للنص في نصه؟ ما هذا الموقع؟

القضية التي يُثيرها رسم صورة جیني كیبیل تعتبر شكلًا آخر من أشكال القيد المفروض على المضمون: فإن أمثال هذه الصور تعمل تراكميًّا على تنميط صورة «زوجات رجال الجيش» وبصفة أعم زوجات الشخصيات العامة المفضلة، ومن ثَم تفرض القيود على المعاني التي يراها الناس فيهن. ويتسم هذا التصوير بالتمييز العميق بين الجنسين؛ إذ يعتمد على أن ينسب إلى جیني كیبیل صفات اقترنت تقليديًّا بتعريف «الزوجة الصالحة». لاحِظ أن المقال لا يذكر في هذا المقتطف (ولا في بقية المقال) أن جیني «زوجة صالحة» صراحة، أو حتى أنها شخص جدير بالإعجاب؛ بل يعتمد اعتمادًا كاملًا على قدرة «القارئ المثالي» على استنباط ذلك من قائمة الصفات المذكورة، فهي تعبر عن الثقة في القدرات المهنية التي يتمتع بها زوجها، ويساورها القلق على سلامته، وهي «تدعو الله» أن يكون قد أدى ما فيه الكفاية وتحاول الحفاظ «على جو الحياة الطبيعية من أجل الأطفال». ولكن هذا يدل على أن ما يخضع للقيود لا يقتصر على المضمون بل يضم الذوات أيضًا؛ فالمقال يفترض أن القارئ المثالي سوف ينجح في استنباط المعاني «الصحيحة» من القائمة، أي ستخطر له الأفكار «الصحيحة» عن صفات «الزوجة الصالحة». وأمثال هذه النصوص تُعيد إنتاج التمييز بين الجنسين، بشرط أن يحتلَّ القراء عمومًا موقع القارئ المثالي ولا يعارضونه.

تتسم اللقطات الفوتوغرافية بالتفاوت فيما بينها، فأي صورة إنما تقدم صورة واحدة لمشهد أو شخص من بين العديد من الصور الممكنة. والاختيار بالغ الأهمية؛ لأن اختلاف الصور يؤدي إلى اختلاف المعاني. ففي هذا النموذج مثلًا أجد أن انتباهي مشدود بصفة خاصة إلى عينَي الرائد، فهو ينظر إلى الأمام مباشرة، كأنما إلى وجه القارئ، نظرة تقييم إلى حد ما، ويكسو وجهَه الجدُّ الذي يُخفف منه شبح ابتسامة عند ركنَي فمه (ويمكن أن تكون ابتسامة لا مبالاة). ولاحِظ الوظيفة الغامضة للكلام المصاحب للصورة [الذي يقول: «الرائد كیبیل … سوف يقود المظليِّين في المعركة»] هل يؤكد لنا ما «تقوله» الصورة، أم يوجهنا إلى أن «نقرأ» الصورة على هذا النحو؟ مهما يكن الأمر فإن الصورة في إطارها اللغوي تدلني على أن الرائد كیبيل يمثِّل كلَّ ما أتوقع من قائد وحدة عسكرية متميزة أن يكونه.

انظر في نماذج أخرى للأسلوب الذي تتفاعل به الصور والألفاظ في الصحافة، وفي التليفزيون، وفي لوحات الإعلان الضخمة وما إليها. هل تستطيع أن تلمح تقنيات خاصة لنقل انطباعات معينة عن الأشخاص؟

تعتمد السلطة الخفية للخطاب الإعلامي وقدرة الطبقة الرأسمالية وغيرها من أصحاب السلطة على ممارسة هذه السلطة على اتجاهات منهجية في نقل الأنباء وغير ذلك من الأنشطة الإعلامية. والنص الواحد لا قيمة له في ذاته، فآثار السلطة الإعلامية تراكمية، ويرجع نجاحُها إلى تكرار طرائق معينة لمعالجة العلية والفاعلية، وطرائق معينة لتحديد موقع القارئ، وما إلى ذلك بسبيل. وهكذا يستطيع الخطاب الإعلامي من خلال تحديد مواقع القراء، مثلًا، أن يمارس تأثيرًا قويًّا ونفاذًا في مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي بسبب ضخامة أجهزة الإعلام الحديثة والارتفاع الشديد في مستوى استقبال السكان جميعًا في بلدان شتى للإنتاج الإعلامي المتسم بالتجانس النسبي. ولكن الحذر مطلوب هنا، فالناس تكافح فعلًا لتحديد علاقتها بالذوات المثالية، وهو ما يعني الحفاظ على ابتعادهم أو حتى الاشتباك في صراع مباشر ضدهم. أي إن سلطة أجهزة الإعلام ليست نتيجةً تلقائية لمجرد وجودها.
هل تتسم السلطة الخفية لأجهزة الإعلام بالتلاعب؟ من الصعب تقديم إجابة قاطعة على هذا السؤال: إذ تتسم بذلك أحيانًا من زوايا معينة، ولا تتسم بذلك أحيانًا من زوايا معينة أيضًا. وربما استطعنا النظر إلى المشكلة بأن نتساءل عن الجهة أو الطرف المحدد الذي يُخفي الخطابُ الإعلامي سلطتَه عنه؛ تراه يُخفيها عن الجمهور وحسب، أم أنه يُخفيها أيضًا، إلى حدٍّ ما على الأقل، عن الإعلاميِّين أيضًا؟ لا شك في وجود حالات يتعرض فيها إنتاج أجهزة الإعلام للتلاعب المقصود تحقيقًا لمصالح الطبقة الرأسمالية، ومن الحالات التي تكثر الإشارة إليها موقفُ إذاعة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أثناء الإضراب العام في بريطانيا عام ١٩٢٦م؛ إذ كانت هذه الإذاعة تؤيد الحكومة تأييدًا صريحًا في سياق كانت القضايا الطبقية معروفة فيه للورد ريث، المدير العام للإذاعة المذكورة. ولكن كثيرًا من العاملين في أجهزة الإعلام قد ينظرون إلى أساليب الإنتاج — التي يمكن تفسيرها بأنها تسهل على أصحاب السلطة ممارسة السلطة الإعلامية — باعتبارها أساليب عمل مهنية من وجهة نظرهم الخاصة بمعايير الامتياز «الداخلية» والمنطق الذي يتوسلون به من حيث القيود الخاصة بالوسائط التقنية، وبما يريده الجمهور، وغير ذلك من العوامل. والحق أن المعتقدات المهنية وافتراضات العاملين في أجهزة الإعلام تقوم بدور مهم في الحفاظ على إخفاء سلطة الخطاب الإعلامي عن الجماهير العريضة.
وأحيانًا ما تكون السلطة خفيةً أيضًا في خطاب المواجهة؛ فمن الواضح مثلًا وجود علاقة وثيقة بين الطلب وبين السلطة؛ ذلك أن الحق في أن يطلب المرء من شخص أن يفعل شيئًا كثيرًا ما يقوم على امتلاك الطالب سلطة معينة. ولكن الطلب يمكن أن يتخذ صورًا نحوية كثيرة، بعضها مباشر وتتسم بها علاقة السلطة صراحةً، وبعضها غير مباشر والطلب فيها ضمنيٌّ إلى حدٍّ ما. والتعبير المعتاد عن الطلبات المباشرة يتخذ نحويًّا شكلَ الجمل التي تتضمن أفعال الأمر، مثل «انسخي لي هذه الرسالة على الآلة الطابعة قبل الساعة الخامسة». والطلبات غير المباشرة يمكن أن تكون — بصورة ما — غير مباشرة، وعادة ما يتخذ التعبير النحوي عنها شكلَ أسئلة تتميز بدرجات متفاوتة من اللف والدوران مما يتفق مع الطلب غير المباشر، مثل «هل تستطيعين نسخ هذه الرسالة لي قبل الساعة الخامسة؟» أو «هل تعتقدين أنك تستطيعين نسخ هذه الرسالة لي قبل الساعة الخامسة؟» أو «ترى أستطيع أن أطلب منك نسخ هذه الرسالة لي قبل الساعة الخامسة؟» وتوجد طرائق أخرى للطلب غير المباشر من خلال التلميح فقط؛ مثل «أود أن أُرسل هذه الرسالة في بريد الساعة الخامسة».
لِمَ تختار مديرة إحدى الشركات (مثلًا) شكلًا غير مباشر كي تطلب من سكرتيرتها نسخَ رسالة على الآلة الطابعة؟ قد يرجع السبب — خصوصًا إذا لجأت المديرة إلى التلميح أو أحد الأسئلة القائمة على اللف والدوران — إلى ما يعتبر «تلاعبًا»، بمعنى أنه إذا كانت الرئيسة قد جعلت تضغط على سكرتيرتها بطلباتها طول النهار، فإن هذا الشكل من أشكال الطلب قد ينجح في تفادي تململ السكرتيرة أو حتى رفضها. ولكن الأعراف تقول، إن أمثال الموقف الذي وصفته تُستخدم فيه أشكالٌ غير مباشرة للطلب، دون اللجوء إلى الكثير من اللف والدوران؛ مثل «هل تستطيعين/هل تنسخين لي/هل يمكن أن تنسخي …» وإذن يصبح السؤال: لماذا يلجأ مديرو الشركات وغيرهم ممن يتمتعون بالسلطة بانتظام إلى تجنُّب زيادة إظهار سلطتهم عما ينبغي. ويؤدي بنا ذلك إلى العلاقة بين السلطة الخفية والصراع الاجتماعي، وهل التي أناقشها في القسم الأخير من هذا الفصل.

الأمثلة التي ضربتها في هذا القسم تتعلق بممارسة السلطة الخفية في الخطاب. ولكن ما أسميته «السلطة من وراء الخطاب» سلطة خفية أيضًا؛ وذلك لأن تشكيل علاقات السلطة لنظم الخطاب لا يتضح بصفة عامة للناس. وإذن فهذه لحظة مناسبة للانتقال إلى ما وراء الخطاب.

(٤) السلطة من وراء الخطاب

تقول فكرة «السلطة من وراء الخطاب» إن النظام الاجتماعي للخطاب يصبح كيانًا كليًّا متماسكًا بفضل التأثير الخفي للسلطة. وسوف أستهل هذا القسم ببُعد واحد من أبعاد هذه الفكرة، وهو بُعد التوحيد القياسي، وقد سبقت إشارتي إلى ذلك في الفصل الثاني، والمقصود به إعلاء مكانة لهجة اجتماعية معينة حتى تَصِل إلى ما يسمَّى في حالات كثيرة اللغة المعيارية أو حتى اللغة القومية. وسوف ينصبُّ تركيزي الآن على اللغة الإنجليزية البريطانية المعيارية أو القياسية.

(٥) اللغة المعيارية

قلت في الفصل الثاني إننا ينبغي أن ننظر إلى التوحيد القياسي باعتباره جزءًا من عملية أوسع نطاقًا للتوحيد الاقتصادي والسياسي والثقافي، وهو الذي ارتبط بظهور الرأسمالية من رحم المجتمع الإقطاعي في بريطانيا. ولهذه الرابطة بين الرأسمالية والتوحيد أساسٌ اقتصادي: ألَا وهو ضرورة وجود سوق محلية موحدة تضمن تثبيت دعائم الإنتاج السلعي. وهذا بدوره يتطلب التوحيد السياسي والثقافي. وللتوحيد القياسي أهمية اقتصادية مباشرة في تحسين الاتصالات: فمعظم المشاركين في النشاط الاقتصادي يستطيعون أن يفهموا المستوى القياسي، حتى ولو لم يستطيعوا استثماره إنتاجيًّا في جميع الحالات. كما أن له أهميةً سياسية وثقافية كبرى في إنشاء كيان الأمة، و«الدولة-الأمة» هي الشكل المفضل للرأسمالية.

كانت اللهجة الاجتماعية التي تطورت فأصبحت الإنجليزية المعيارية لهجةَ منطقة شرق وسط إنجلترا التي كانت تقترن بطبقة التجار في لندن في نهاية العصور الوسطى، وهو ما يؤكد ارتباطها بالرأسمالية، فإن هؤلاء التجار الإقطاعيِّين أصبحوا أولَ الرأسماليِّين، ونشأة الإنجليزية المعيارية ترتبط بنمو سلطة التجار. وكانت بدايات الإنجليزية المعيارية بالغةَ التواضع بالمقارنة بمكانتها البارزة اليوم؛ إذ كان الشكل المعياري الناشئ لا يُستخدم إلا في أماكنَ جِدِّ قليلة، ولأغراضٍ جِدِّ قليلة، وعلى ألسنة أشخاص جِدِّ قليلين. وكان تأثير التوحيد المعياري في البداية مقصورًا على اللغة المكتوبة، ولم يتَّسع نطاقُه إلا تدريجيًّا ليشمل شتى جوانب الكلام، من النحو إلى المفردات بل والنطق.

ولنا أن نعتبر أن نموَّها عمليةُ استعمار طويلة، تمكَّنت فيها من «الاستيلاء» على كبرى المؤسسات الاجتماعية، وطرد اللغتين اللاتينية والفرنسية، وتوسيع نطاق الأغراض التي كانت تستخدم فيها، ومواردها الصورية نتيجة لذلك، والزيادة المطردة في أعداد مَن يقبلونها (وإن لم يستعملوها على نطاق واسع). وكان من نتائج ارتباط الإنجليزية المعيارية بأبرز المؤسسات وأكبرها سلطة — كالأدب، والحكومة والإدارة، والقانون، والدين والتعليم وهلمَّ جرًّا — أن بدأ بروز الإنجليزية المعيارية باعتبارها لغة السلطة السياسية والثقافية، ولغة مَن يملكون السلطة السياسية والثقافية. ومن المحال الفصل بين نجاح استعمارها لهذه المؤسسات وبين تحديثها في فترة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، أو من السلطة النامية في داخلهما للطبقة الوسطى الناشئة (البورجوازية).
وتطورت الإنجليزية المعيارية لا على حساب اللاتينية والفرنسية فقط بل أيضًا على حساب اللهجات «غير المعيارية» الأخرى (وعلى حساب اللغات الأخرى في بريطانيا، مثل اللغة الويلزية والجيلية [اللغة السلتية في اسكتلندا وأيرلندا] ولغات كثيرة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، ومن بينها عدد من اللغات الآسوية). كانت اللغة الإنجليزية المعيارية تعتبر الإنجليزية الصحيحة، وغيرها من اللهجات الاجتماعية يحمل وصمةَ استهجان لا من حيث الصحة فقط، بل أيضًا من زوايا تستهجن أساليب حياة الناطقين بها وأخلاقهم بصورة غير مباشرة، وهم أفراد الطبقة العاملة الناشئة في المجتمع الرأسمالي، فكانوا يُوصَفون بأنهم سوقيُّون، حقراء المظهر، منحطُّون، همجيُّون وهلمَّ جرًّا. أي إن ترسيخ سيادة الإنجليزية المعيارية وفرض الدونية على جميع اللهجات الاجتماعية الأخرى كانت جزءًا لا يتجزَّأ من ترسيخ هيمنة الطبقة الرأسمالية وفرض مرتبة أدنى على الطبقة العاملة.
كان تقنين اللغة المعيارية يمثِّل جانبًا أساسيًّا من جوانب هذه الخطوة، وهي التي اقترنت بوضع القواعد الملزمة، أي وصف أشكال اللغة المعيارية بأنها الأشكال «الصحيحة» الوحيدة. والتقنين يهدف إلى عدم تجاوز الحد الأدنى من الاختلاف في الشكل من خلال وضع شفرة اللغة المملاة إملاءً في صورة مكتوبة، في كتب النحو والمعاجم ومعاجم النطق وكتب الهجاء. وقد وقعت ذروة التقنين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكان جانب كبير من قراء الأعداد الهائلة من كتب النحو والمعاجم التي نشرت في مطلع الانقلاب الصناعي ينتمي إلى رجال الصناعة وأُسَرهم.
وتتسم الإنجليزية المعيارية بعنصر من عناصر الشيزوفرينيا، بمعنى أنها تطمح في أن تُصبح لغةً قومية (وتصور قطعًا في هذه الصورة) أي بأنها تنتمي إلى جميع الطبقات وفئات المجتمع، ومع ذلك فلا تزال، من عدة زوايا، لهجة طبقية. وتتضح سلطة مزاعمها بأنها لغة قومية، حتى بالنسبة لمن يستخدمونها استخدامًا محدودًا، في انتشار تقليل أفراد الطبقة العاملة من مكانة ذواتهم حين يقولون إنهم لا يتكلمون الإنجليزية، أو لا يتكلمون الإنجليزية «الصحيحة». ولكنها من ناحية أخرى لهجة طبقية، ولا يقتصر سببُ ذلك على ارتباط سيادتها بمصالح الطبقة الرأسمالية بالأسلوب التي رسمت خطوطه العريضة، ولكن أيضًا لأن الكتلة المهيمنة هي التي تنتفع أكبر انتفاع باستخدامها، وتحظى بأقصى المكاسب باعتبارها رصيدًا ثمينًا، أي بصفتها شكلًا من أشكال «الرأسمال الثقافي» الشبيه برأس المال الاقتصادي، وفق تعبير بییر بوردیو.
والإنجليزية المعيارية رصيد ثمين؛ لأن استخدامها يمثل بطاقة دخول إلى مجال الوظائف الجيدة ومواقع النفوذ والسلطة في المجتمعات القومية والمحلية. ويصدق هذا بطبيعة الحال على الإنجليزية المعيارية باعتبارها لغةً مكتوبة، ولكنه يصدق كذلك على الإنجليزية المعيارية المنطوقة، بما في ذلك استخدام أشكال النطق المقبول أو المعتمد، وهو نمط النطق الذي يستخدمه معظم السياسيِّين وصحفيِّي التليفزيون والإذاعة، وأساتذة الجامعات، وكبار مديري الشركات الصناعية، وكبار موظفي الحكومة، وهذا على وجه الدقة ما ترمي إليه حجتي!
وكما قلت قبل فقرة، أو فقرتين، قد يعترف الناس عمومًا بسيادة اللغة المعيارية، ولكن هذا لا يعني أنهم يستخدمونها دائمًا، أو حتى أنهم يقبلونها بكل معنى الكلمة. فالواقع أنها تواجه مقاومة شديدة من جانب مَن يتكلمون لهجات اجتماعية أخرى، وكذلك مَن يتكلمون لغات أخرى في بريطانيا الحديثة المتعددة اللغات. (انظر القسم الأخير من هذا الفصل). وهذا في ذاته يعني أن الناس تدرك الشيزوفرينيا التي أشرت إليها؛ فالناس تعرف أنها لغة غيرهم، وليست لغتَهم، على الرغم من المزاعم التي تقول بعكس ذلك. ومع ذلك فلا يعني هذا أن الناس يُدركون الأساس السلطوي لهذه المعيارية، فقد يعرفون أن «المعيار» ينتمي من زاوية معينة إلى الكتلة المهيمنة، وأما مسئولية الكتلة المهيمنة عن تبيان وتحديد العلاقة والمراتب ما بين اللغات واللهجات الاجتماعية فهي عمومًا خفية.
كثيرًا ما نسمع لهجات اجتماعية غير معيارية في الإذاعة وفي التليفزيون هذه الأيام، ولكنني أشعر أن بعض الأدوار الرئيسية في الإذاعة لا تزال مقصورةً على الأشكال المنطوقة المعيارية. حاول أثناء الإصغاء أن تجد لهجات تختلف عن النطق المقبول أو المعتمد. ما الصفات الأساسية التي يظهر فيها هؤلاء (مثل قراء نشرات الأخبار، والمذيعين، ومَن يُجرون الحوارات مع الضيوف، والضيوف أنفسهم، وأصحاب برامج الترفيه)؟ هل يغلب أن يظهر هؤلاء في برامج معينة (مثل البرامج الإخبارية، أو الفكاهية، أو المسابقات، أو الأفلام الوثائقية)؟ هل توجد أنواع أو أنماط معينة من البرامج التي يظهر فيها متحدثون بغير أسلوب النطق المقبول؟ وما رأيك في إعلانات التليفزيون؟ هل تتضمن أدوارًا معينة مفتوحة أمام مَن لا ينطقون النطق المعياري؟

(٦) السلطة من وراء الخطاب: نمط خطاب

أريد الآن تغيير التركيز، مع استمرار مناقشة «السلطة من وراء الخطاب»، حتى أنظر في نمطٍ خطابيٍّ معين باعتباره «ناجمًا عن السلطة»، أي باعتبار أن له أعرافًا تُجسِّد علاقات سلطة معينة. والمثل الذي اخترته هو خطاب الفحوص الطبية، وخصوصًا فحوص أمراض النساء والولادة. وينصبُّ تركيزي بصفة خاصة على المواقع التي يشغلها العاملون بالمهن الطبية والمرضى بالنسبة لبعضهم البعض في إطار أعراف نمط الخطاب، وكيف يمكن أن ينظر إلى احتلال هذه المواقع باعتباره أثرًا من آثار السلطة التي يتمتع بها مَن يسيطرون على المؤسسات الطبية ويُملون الأعراف، ويسيطرون من ثَم على الأطباء والمرضى معًا.

وتقول إحدى الدراسات لفحوص أمراض النساء إن المشاركين فيها يتعرضون لضغوط متناقضة؛ فالأطباء يرون أنهم مضطرون لمعاملة المرضى بأسلوب ينمُّ عن عدم الاكتراث وعدم الانغماس، أي باعتبار المرضى حالات [موضوعية] تقنية، لإثبات أن اهتمامهم بأجسامهن اهتمامٌ طبيٌّ لا جنسي؛ ومع ذلك فهم يرون أنهم مضطرون أيضًا لمعاملة المريضة بالحساسية اللازمة لإشعارها أنها إنسان، أي لإلغاء المهانة الكامنة في معاملتها معاملة الحالة التقنية، ومحاولة التغلب على احتمال إحساسها بالحرج، نظرًا الغلبة التحريم الاجتماعي للكشف عن الأعضاء التناسلية لغير مَن يتمتع بالصلة الحميمة بالفرد. وتتضح هذه الضغوط المتناقضة في أعراف هذا النمط الخطابي.

فالقيود المفروضة مثلًا على مكان فحوص أمراض النساء ذات أهمية كبرى لضمان اعتبار اللقاء لقاءً طبيًّا وليس مثلًا لقاءً جنسيًّا. ولا يمكن إجراء هذه الفحوص بصورة مشروعة إلا في «مكان طبي» كالمستشفى أو العيادة، وهو ما يعني ضمنًا وجود «تشكيلة» كاملة من اللوازم الطبية التي تُضفي المشروعية على اللقاء. كما توجد قيود أيضًا على الأشخاص الذين يستطيعون المشاركة، أي إن «مواقع الذوات» المشروعة محدودة، وتشمل الطبيب والممرضة والمريضة، كما يتضمن التحديدُ الصارمُ من يستطيع أن يشغلها. وتوجد شروط خاصة بأنواع الملابس التي تؤكد خصائص المكان وتشارك في تأكيد الطابع الطبي للقاء و«السلوك» المتوقع (كما سوف نرى)، وقيود على موضوعات الحديث، أي إن الأسئلة التي يسألها الأطباء عن الوظائف الجسدية والخبرة الجنسية يجب أن تتعلق بالمشكلة الطبية المطروحة وحدها، بحيث يصبح من غير المسموح به — مثلًا — أن يتطور موضوع الحديث، على نحو ما نشهده في غير ذلك المكان، بحيث يسمح بالانتقال إلى مناقشة عن الحياة الجنسية للمريضة.
وتتسم الأنشطة المتتابعة التي يتكون منها الفحص بأنها روتينية إلى حدٍّ بعيد، أي تتبع إجراءات معتمدة، وتشمل هذه الخاصية الروتينية أيضًا الجوانب اللغوية وغير اللغوية للطرائق التي تُبنى بها علاقة الأطباء بالمرضى. فالأطباء يبيِّنون «عدم انغماسهم» من خلال نوع النظرة التي يُلقونها على جسد المريضة، فهي نظرة تقدير مهني (لا نظرة تقييم جمالي). ويتبدَّى ذلك أيضًا في تعامل الطبيب بأسلوب سريع نشط يتميز بالكفاءة مع جسد المريضة، وكذلك في الأسئلة والطلبات التي يقدمها إليها، فهي على سبيل المثال تنزع الصفة الشخصية عن الأعضاء التناسلية للمريضة بالإشارة مثلًا إلى «المهبل» لا إلى «مهبلك».
ولكن جهود الأطباء لتحقيق التوازن بين «عدم الانغماس» والحساسية، وفق الضغوط المشار إليها عاليه، تتضح أيضًا في خطابهم. فهم كثيرًا ما يتحاشَون استخدام الألفاظ التي قد تسبب الحرج لمرضاهم، بالتلطف في التعبير (هل غسلت ما بين رجليك؟) أو الاعتماد على التعبيرات الإشارية (متى كانت أول مرة شعرت فيها بصعوبة في هذه المنطقة السفلية؟) ويستخدم الأطباء نبرات الصوت الهادئة التي تبعث الاطمئنان لتشجيع المريضة على الاسترخاء (عندما يقولون كلامًا مثل: استرخي الآن قدر الطاقة، وسوف أتلطف بأقصى ما أستطيع) وهو ما يُسهم في إضفاء الطابع الشخصي على الفحص. ومن المهم أن أؤكد أنه على الرغم من الانطباع الذي تخرج به بعض المريضات من أنهن تَلَقَّينَ فعلًا فحصًا خاصًّا بهن، فإن هذه العبارات أساليب روتينية مثل التي ذكرتها في الفقرة السابقة.
كان حديثي ينحصر حتى هذه اللحظة في طرائق احتلال العاملين بالمهن الطبية لمواقعهم، ولكن هذا يصدق أيضًا على المرضى، كما سوف يبيِّن الملخص التالي لرأي الأطباء فيما ينبغي أن يكون عليه سلوك المريضة في فحوص أمراض النساء:

يجب أن يكون صوت المريضة هادئًا لطيفًا دون مغالاة، معبرًا عن الثقة بالنفس، وغير شخصي. ويجب أن يُوحيَ وجهُ المريضة بالانتباه، وبالحياد، ويميل إلى اللطف المحدود والود، كأنها تحادث الطبيب في مكتبه، مرتديةً ثيابها الكاملة وجالسة في أحد المقاعد. وعلى المريضة أن تُوجِّهَ بصرَها بانتباه إلى أعلى، إما إلى السقف أو إلى الأشخاص الآخرين في الغرفة، وأن تكون عيناها مفتوحتَين، وذواتَي نظرات غير «حالمة» أو شاردة، بل على استعداد في أية لحظة لإعادة النظر إلى وجه الطبيب لتبادل كلام محدد. ولكن المفترض أن تتحاشى المريضة النظرَ إلى عينَي الطبيب أثناء الفحص الفعلي إلا لتبادل الكلام المذكور؛ لأن تلاقي نظرات العيون مباشرة في هذا الوقت يعتبر استفزازيًّا. ودورها يتطلب السلبية وإنكار الذات. وعلى المريضة أن تُبديَ استعدادها للتخلي عن السيطرة وتركها للطبيب. وعليها أن تمتنع عن الأحاديث المطولة وعن توجيه استفسارات تقتضي إجابات مطولة من الطبيب. وعليها ألَّا تُسهبَ في الحديث عن شخصيتها حتى لا تؤكد موقعها الحالي المهين، أي إنه لا بد من طمس الذات للحفاظ على مقولة إن الطبيب يفحص حالة تقنية لا شخصًا.

هل كنت يومًا ما في موقع يُتوقع منك فيه أن تتصرف تصرفًا مماثلًا؟ كيف نُقلت إليك تلك التوقعات؟ هل أحسَّ القراء الذكور يومًا ما بضرورة «طمس الذات» بأسلوب مماثل من قريب أو من بعيد؟ هل تُعزى الدوافع من وراء هذه التوقعات إلى طبيعة المناسبة وحدها، أم أنها تتعلق بأنوثة المريضة؟

فلنُدخل السلطة الآن في الصورة. فالعاملون بالمهن الطبية، والطبيب خصوصًا، يمارسون سلطتهم على المريض (كما يمارس الطبيب سلطته على سائر العاملين بالمهن الطبية) في اللقاءات القائمة على هذا النمط من أنماط الخطاب، وفقًا لأعرافه التي تمنح حق التحكم في اللقاءات للعاملين بالمهن الطبية وخصوصًا للأطباء. ومن المحتمل أن يفرض هؤلاء، في إطار سلطتهم، نمط الخطاب على المرضى، بمعنى الضغط عليهم بطرائق شتى لاحتلال مواقع الذوات التي يحددونها للمرضى، وأن يتصرفوا بأساليب معينة مقيدة. وهذه من جوانب السلطة في داخل الخطاب، ولكن الذي يهمُّني هنا هو السلطة من وراء الخطاب، أي تأثير السلطة الذي يؤدي إلى فرض نمط الخطاب المذكور بجميع خصائصه على جميع المشاركين هنا، من العاملين بالمهن الطبية إلى المرضى، ويبدو أن سلطة فرض ذلك تنتمي إلى المؤسسة الطبية أو النظام نفسه.
ولكن السلطة من وراء أعراف نمط الخطاب لا تنتمي إلى المؤسسة نفسها (مهما يكن المعنى الذي يُفهم من الكلمة)، بل إلى مَن يملكون السلطة في المؤسسة نفسها. ويتمثل أحد المؤشرات على هذا في مراقبة تنفيذ الأعراف، والأسلوب الذي تُفرض به، سواء كان ذلك بالدلالة السلبية لنوع العقوبات التي تُفرض على مَن يخرقها أو بالدلالة الإيجابية لأنواع المكافآت التي ترصد لمن يلتزم بها. ومراقبة تنفيذ الأعراف في أيدي أصحاب السلطة في المؤسسة، على مستويات شتى. وهكذا نرى، في حالة الفحوص الطبية، أن العاملين بالمهن الطبية هم الذين يلتقون أساسًا بالمرضى، فهم أصحاب السلطة بالنسبة لهم، وهم الذين يفرضون التزام المرضى بالأعراف، وأما التزام هؤلاء العاملين بها فيخضع لسلطة الذين من فوقهم في المراتب داخل المؤسسة، من خلال إجراءات خاصة بتأديب الأفراد، والتعامل مع أيِّ انحراف مهني، وكذلك من خلال الترقيات وهلمَّ جرًّا.

وينقلنا البحث في طرائق تشكيل مَن يملكون السلطة من وراء الخطاب لهذه الأعراف إلى قضايا الفصل الرابع؛ لأن هذا التشكيل يجري من خلال الأيديولوجيا. وهكذا نرى، في المثال الذي ضربناه أننا نستطيع أن ننظر إلى الأعراف التي تحدِّد العلاقة بين مواقع العاملين بالمهن الطبية ومواقع المرضى باعتبارها تجسيدًا للأيديولوجيات المهيمنة الخاصة بالطب باعتباره مؤسسة اجتماعية، أي إنها أيديولوجيات الذين يتحكمون في الطب. والواضح أن ماهية الطبيب، وماهية الممرضة، وماهية المريضة، وما يُشكِّل سلوكًا مهنيًّا تجاه المرضى، وما إلى ذلك بسبيل، تعتبر جميعًا مسائل تقبل النقاش. والأعراف التي تُحدِّد مواقع العاملين والمرضى في فحوص أمراض النساء تقوم على أساس الأسلوب الذي تُجيب به الأيديولوجيا المهيمنة عن هذه الأسئلة. وسوف أشرح كيف يجري هذا في الفصل الرابع.

ولكن دلالة اعتبار هذه الأعراف أثرًا من آثار السلطة من وراء الخطاب لا تنتهي هنا؛ إذ يمكن اعتبار هذه الأعراف نفسها، من منظور النظام المجتمعي للخطاب (لا من منظور النظام المؤسسي للخطاب) حالة خاصة تمثِّل اتجاهًا عامًّا في الأسلوب الذي تحدِّد به العلاقة بين مواقع المهنيِّين والعملاء، في شتى التشكيلات المؤسسية وأنماط الخطاب التي يلتقي فيها مَن يتمتعون ببعض المناصب الرسمية («المهنيون») «بالجمهور» («العملاء»). وأما الضغوط المتناقضة التي يتعرض لها العاملون بالمهن الطبية، أي الجمع بين معاملة المرضى معاملة تُوحي باللامبالاة — باعتبارهم «حالات تقنية» — من ناحية، وبين إظهار الحساسية في معاملتهم باعتبارهم أشخاصًا من ناحية أخرى، فليست في نظري (على نحو ما بيَّنه وصفُ فحوص أمراض النساء الذي أشرت إليه) خصيصةً مقصورة على ظروف أمراض النساء بل ولا على الفحوص الطبية بصفة عامة، وإن كانت تلك الظروف الخاصة تُضفي لونًا خاصًّا — فيما يبدو — على هذه الضغوط. وسوف يجد المرء التقنيات الخاصة بمعاملة الناس معاملةً تجمع بين الكفاءة وعدم الاكتراث حيثما نظر في المؤسسات العامة في العالم الحديث. وعلى غرار ذلك، سوف يجد المرء ما سوف أسمِّيه «اصطناع المسحة الشخصية»، وهي اتجاه تعويضي يُوحي بانطباع، مفادُه أن المرء يعامل كلَّ فرد معاملة شخصية من أفراد الجمهور الذي يتعامل معه في الواقع معاملةً جماعية. ومن الأمثلة على ذلك رحلات الطيران (أرجو لك يومًا سعيدًا!) والمطاعم (مرحبًا بك في ويمبي!) والمحادثات المحاكاة (مثل برامج «الشات») ونماذج الدماثة التي تنتشر في أجهزة الإعلام. وهذه الاتجاهات العامة في نظام الخطاب الخاص بالمجتمع الحديث تتفق مع علاقات السلطة فيه والتقنيات الحديثة لممارسة السلطة، كما سوف أُبيِّن ببعض التفصيل في الفصل الثامن.

(٧) السلطة وإتاحة المشاركة في الخطاب

وأما الجانب الثالث والأخير من جوانب «السلطة من وراء الخطاب» الذي أريد أن أنظر فيه فلا يتعلق بتشكيل أنظمة الخطاب وأنماط الخطاب الذي يتكون منها، بل بإتاحة المشاركة فيها. فالسؤال هو: مَن الذي يستطيع المشاركة؟ وفي أية أنواع من الخطاب؟ ومَن الذي يملك سلطة فرض القيود على المشاركة وتنفيذها؟

من المدهش أن أسطورة «حرية الكلام»، أي «حرية» كل فرد في أن يقول ما يحب، أسطورة بالغة القوة، نظرًا للواقع الذي يقول بوجود أعداد بالغة الكثرة من القيود على المشاركة في شتى أنواع الكلام والكتابة. وتمثِّل هذه أجزاءً لا تنفصل عن القيود الأعم المفروضة على الممارسة الاجتماعية، أي على المشاركة في المؤسسات الاجتماعية المقصورة على فئة معينة، وفي ممارساتها، وخصوصًا في أشد مواقع الذوات تمتُّعًا بالسلطة التي تُنشئها هذه الممارسات. وبوجه خاص من حيث الخطاب، [تسري القيود] على المشاركة في أنماط الخطاب ومواقع السلطة الخطابية. وتُشبه هذه «الخيرات الثقافية»، من زاوية معينة «الخيرات» الاجتماعية الأخرى الثمينة ذات الطابع الملموس، مثل تراكم الثروة، والوظائف الجيدة، والمساكن الراقية، وهلمَّ جرًّا. وكلَا النوعين من «الخيرات» موزعٌ توزيعًا غير متكافئ، وهكذا فإن أفراد ما أشرت إليه في الفصل الثاني بتعبير الكتلة المهيمنة (الطبقة الرأسمالية، والطبقة الوسطى، والمهنيون) ينالون قدرًا من هذه الخيرات أكبر كثيرًا مما تناله الطبقة العاملة، أي إنهم أغنى في الرأسمال الثقافي.

وتصلح الطقوس الدينية، مثل الصلوات في الكنائس، لإيضاح معنى القيود المفروضة على المشاركة. فأنت لا تستطيع أن تؤديَ واجبات خدمة القداس في الكنيسة إلا إذا كنت كاهنًا، وهذا في ذاته قيدٌ على المشاركة، كما أنك لا تستطيع أن تصبح كاهنًا إلا من خلال عملية اختيار صارمة، عليك أثناءها أن تُثبت أنك تَفِي بشتى «شروط الدخول»، أي أن تكون مؤمنًا، ولديك رسالة، وتتمتع ببعض القدرات الأكاديمية، وتنطبق عليك معايير معينة من الأمانة والإخلاص والأخلاق الجنسية وهلمَّ جرًّا. وهذه قيود أخرى على المشاركة.

والدين لا يختلف في الواقع كثيرًا، من هذه الزاوية، عن الطب أو التعليم أو القانون. وقد لا تكون الفحوص الطبية، أو الدروس، أو التقاضي ذوات جوانب طقسية مثل صلوات الكنيسة أو القداس، ولكنها تمثِّل قيودًا صارمة على مَن يستطيع المشاركة فيها، وقيودًا صارمة أيضًا على مَن يستطيع الحصول على المؤهلات اللازمة لها. أما من ناحية المبدأ (وكذلك طبقًا للقانون وقواعد المهن) فإن من حقِّ كلِّ فرد أن يحصل على هذه المؤهلات، وأما في الواقع العملي، فإن الذين يحصلون عليها ينتمون بصفة رئيسية إلى الكتلة المهيمنة ومعظم الناس لا يشاركون في الطب أو التعليم أو القانون إلا بصفة «العميل» — كالمريض، والتلميذ أو الطالب، وعميل المحامي — وليس «العملاء» فعلًا من المشاركين «داخليًّا» في أية مؤسسة.

ومن الأمثلة الأخرى على التوزيع غير المتكافئ لرأس المال الثقافي، مثال لا يختص بمؤسسة معينة، ألَا وهو القدرات المتنوعة على القراءة والكتابة، والتي يمكن أن تُلخَّص بالإنجليزية في كلمة واحدة هي literacy [التي قد تعني قوةَ البيان أو ثقافة القراءة والكتابة]، وهي تتمتع بقيمة كبيرة في مجتمعنا؛ إذ إن قدرًا كبيرًا من الممارسات ذات الأهمية الاجتماعية والاحترام والهيبة يتوسل «بالكلمة المكتوبة». والتسلح بمستوًى رفيع من هذه المقدرة شرطٌ أساسي للحصول على شتى «الخيرات» ذات القيمة الاجتماعية العالية، ومن بينها الوظائف التي تُرضي الطموح وذات الأجور المرتفعة. ومع ذلك فالواضح أن إمكان الحصول على هذه المقدرة موزَّعٌ توزيعًا غير متكافئ، بل تُشير التقديرات إلى أن مليون شخص من البالغين في بريطانيا يفتقرون إلى «المهارات الأساسية في القراءة والكتابة» وفق تعريف منظمة اليونسكو، والأغلبية الساحقة من هؤلاء ينتمون إلى الطبقة العاملة.
ومن بين الآثار الواضحة والبارزة للقيود المفروضة على المشاركة أن إمكان المشاركة في أنواع الخطاب ذي الهيبة والوصول إلى مواقع النفوذ يرفع من مكانة المرء وسلطته اللتين يعترف الجميع بهما. ومن أسباب هذا أن وصول المرء إلى موقع الطبيب أو المعلم أو المحامي يعتبر — بصفة عامة — إنجازًا فرديًّا محضًا يستحق صاحبه مكافأته بالمكانة العالية والسلطة، وأما القيود الاجتماعية التي تحدد مَن يستطيع الوصول إلى هذه المواقع فإنها تلقَى التجاهل. وكثيرًا ما يقول الناس، دعمًا لهذا الرأي، إن الدراسة في هذه المهن تتطلب قضاءَ سنوات طويلة في الحصول على المعارف والمهارات الخاصة بها. وهكذا فإن المعارف والمهارات المهنية تصبح رموزًا للإنجاز الشخصي، وتُخفي القيود الاجتماعية على إمكان تحقيقه، إلى جانب كونها بطاقات عضوية للناجحين في تحقيق هذا الإنجاز، ووسيلة لاستبعاد الدخلاء. وضروب الخطاب المستخدمة في هذه المهن، بما في ذلك المفردات المتخصصة أو «لغة الحرفة»، تؤدي هذه الوظائفَ كلَّها.
وفي مقابل ذلك نجد أن إقصاء الأشخاص عن أنماط خطاب ومواقع ذوات معينة يُخفض من المكانة التي يتمتعون بها علنًا، ولكنه يقلل أيضًا من «آفاق» الوظائف المتاحة لهم وغيرها من الفرص الاجتماعية، كما سبق أن ذكرت. فلنَعُد الآن إلى موقع الأقليات الثقافية في المقابلات الشخصية، وهي التي كنت أناقشها في قسم السلطة في اللقاءات عبر الثقافية، وربما جعلت القارئ يتصور وجود تجانس داخل المجموعات الثقافية أكبر كثيرًا مما يوجد في الحقيقة. فالواقع أن عددًا كبيرًا من أفراد الطبقة العاملة البيضاء في بريطانيا، وهم الذين ينتمون إلى التجمع الثقافي السائد، يجهلون أعراف المقابلات الشخصية مثل أفراد الجماعات السوداء أو الآسيوية. ولكن الظاهرة الجديدة التي يزداد رسوخها، نتيجة لانتشار إجراء المقابلات الشخصية عبر المؤسسات الاجتماعية وتكثيف استخدامها داخل مؤسسات كثيرة، أن أصبح من المتوقع أن يستطيع كلُّ فرد التعامل مع هذه المقابلات، وذلك — بطبيعة الحال — في موقف الخاضع لأسئلة السائل! وأما الذين لا يستطيعون ذلك؛ إما بسبب خبرتهم الثقافية أو بسبب انتمائهم إلى الأجيال التي شهدت فرض القيود على المقابلات الشخصية، فمن المحتمل أن يُعانوا مما يسمَّى «العجز الاجتماعي».

ويتحمل النظام التعليمي المسئولية المباشرة الكبرى عن التفاوت في فرص المشاركة. ويقول ميشيل فوكوه: إن «أيَّ نظام تعليمي نهجٌ سياسي للحفاظ على امتلاك ضروب الخطاب أو تعديل ذلك، إلى جانب المعارف والسلطات التي تحملها ضروبُ الخطاب المذكورة». وأما ما يلفت النظر [في بريطانيا] فهو مدى اتِّباع التمييز في التعليم حدودَ الطبقات الاجتماعية، على الرغم من زعم التعليم بأنه لا يميز بين الأفراد إلا على أساس الجدارة، وهكذا فكلما ارتفعت المرتبة في النظام التعليمي ازداد نسبةُ الطلاب فيها من ذوي الخلفيات الرأسمالية، ومن «الطبقة الوسطى»، أو الخلفية المهنية. أي إن النظام التعليمي يُعيد إنتاجَ تقسيم العمل الاجتماعي القائم، ونظام العلاقات الطبقية القائم، من دون تغيير كبير. ومع ذلك، فمن الخطأ أن نعتبر النظام التعليمي مسئولًا عن القيود المفروضة على المشاركة أو ننسب إليه وحدَه سلطةَ التحكم في المشاركة، فإن هذه السلطة موزعة بين شتى المؤسسات الاجتماعية وليست مقصورةً على التعليم، وترجع أصولُها، على نحو ما أشرت إليه ضمنًا، إلى نظام العلاقات الطبقية على المستوى المجتمعي.

(٨) القيود على المشاركة «الإجراءات الرسمية»

تمثل «الإجراءات الرسمية» جانبًا منتشرًا ومألوفًا من جوانب القيود المفروضة على المشاركة في الخطاب. وهي خصيصة مشتركة، في مجتمعات كثيرة، بين ضروب الممارسة والخطاب التي تتميز بعلو هيبتها الاجتماعية والقيود المفروضة على المشاركة فيها، وهذه الإجراءات تساهم في الحفاظ على تلك القيود، فهي تطالب مَن يريد المشاركة بتلبية شروط تفوق وتتجاوز شروطَ المشاركة في معظم ضروب الخطاب الأخرى. والقدرة على تلبية الشروط المذكورة تتسم بالتوزيع غير المتكافئ هي الأخرى. كما يمكن أن تؤديَ هذه الإجراءات إلى بثِّ الرهبة في قلوب الذين تستبعدهم وتُخيفهم.

وأفضل تصوُّر للإجراءات الرسمية اعتبارُها من خصائص المواقف الاجتماعية، وأن لها آثارًا خاصة على الأشكال اللغوية. فباعتبارها من خصائص المواقف الاجتماعية، تتجلَّى فيها بشكل مركز الأنماطُ الثلاثة للقيود على الممارسة، وهي التي قُلْت إنها ترتبط بممارسة السلطة: وهذه الأنماط تضم القيود على المضمون، وعلى الذوات، وعلى العلاقات. فأما من حيث المضمون، فإن الخطاب في كل موقف رسمي يخضع لقيود استثنائية على الموضوع، وعلى الصلة بالموقف، وكذلك من حيث وجود نظم تفاعل تتسم بالثبات إلى حدٍّ ما. وأما من حيث الذوات فإن الهويات الاجتماعية المؤهلة لاحتلال مواقع الذوات في ضروب الخطاب الخاصة بالمواقف الرسمية تتعرض في تحديدها لقيود أشد صرامة من المعتاد، وكذلك من حيث المواقع العامة أو المكانة والمنزلة؛ إذ إن القيود هنا تُماثل القيود التي أشرتُ إليها آنفًا في سياق مَن يُسمح لهم بأداء واجب خدمة القداس في الكنيسة. وأما من حيث العلاقات، فإن المواقف الرسمية تتسم بتوجه شديد إلى تأكيد المكانة وإظهارها وحفظ ماء الوجه. فالسلطة والمسافة الاجتماعية هنا سافرتان، ومن ثَم ينشأ اتجاهٌ قويٌّ نحو التأدب. ويقوم التأدب على أساس الاعتراف بالاختلافات في السلطة، وفي درجات المسافة الاجتماعية وما إلى ذلك، والتوجه إلى إعادة إنتاج ذلك دون تغيير.
والآثار الخاصة للإجراءات الرسمية في الأشكال اللغوية تنبع من هذه القيود المركزة؛ إذ نجد مستويات لهيكلة اللغة تفوق وتتجاوز ما يتطلبه الخطاب غير الرسمي. وقد تؤثر هذه الهيكلة الإضافية في أيِّ مستوًى لغويٍّ. فعلى سبيل المثال قد يستند تخصيصُ أدوار الكلام للمشاركين وتنظيمه إلى صيغة معينة (إذ يجب مثلًا أن يخضع ترتيب المشاركين في الكلام لترتيب مناصبهم)، وأما في الأحاديث العادية فالناس ينظمون الكلام في أثناء المحادثة نفسها. أو قد يكون على اللقاء أن يُجرَى وفق نظام صارم يحدد مراحله في تتابع ثابت. وقد تكون لذلك مقتضيات تتعلق بنظام الإيقاع أو سرعة الكلام أو درجة ارتفاع الصوت، أي قد يضطر المتحدثون إلى الالتزام بسرعة معينة في الحديث على سبيل المثال، أو بالأبنية النحوية للعبارات، وقد يفضلون الأبنية البالغة التعقيد. ومن المحتمل أن يقتضيَ الأمر عمومًا اتساق الأشكال اللغوية، وهو ما يعني على سبيل المثال أن المفردات يجب أن تُنتخب من مجموعة محددة طيلة النقاش. كما قد يشعر المتحدثون بحرج شديد يدفعهم إلى الحرص على «صحة» النحو والمفردات، بما في ذلك مجموعة كاملة من المفردات المدخرة للمناسبات الرسمية، وعادةً ما يُشار إليها بصفة «الرسمية».

والنص التالي مقتطفٌ من النص المسجل لجزء من التحقيق الذي أجراه مجلس الشيوخ الأمريكي في فضيحة ووترجيت، ويمثِّل جانبًا من الشهادة التي أدلى بها جون إيرليكمان، أحد كبار مساعدي الرئيس نیكسون:

(١) س : مستر إيرليكمان، صرَّحتَ قبل استراحة الغداء بأنك ترى أن دخول مكتب الطبيب النفسي إلزبرج كان مشروعًا لأسباب تتعلق بالأمن القومي. أعتقد أنك شهدتَ بهذا؟
(٢) ج : نعم.
(٣) س : هل كان هذا موقفك دائمًا؟
(٤) ج : الواقع، لا أعرف.
(٥) س : يعني، هل تذكر يوم عقدنا أول مقابلة بيننا في مكتبي، وناقشنا هذه القضية، أنك عبَّرت عن صدمتك؛ لأن مثل هذا الأمر قد حدث، وأشرت إلى أنك أخبرت مستر ينج أو مستر كروغ بأن يعملَا على ألَّا يتكرر وقوعُ هذا الأمر، ولكنك لم تتخذ أيَّ إجراء؛ مثل إصدار أوامرك بفصل هؤلاء الأشخاص بسبب حساسية القضايا العامة المثارة. هل تذكر ذلك؟
(٦) ج : لم يكن ذاك بسبب عدم المشروعية يا مستر داش. لا أظن أنك سألتني آنذاك عمَّا إذا كان … عن موقفي القانوني، أيًّا كانت قيمته. كان الذي تسأل عنه هو ما فعلته، وهذا هو ما فعلته.
(٧) س : أعني، لو كان ذلك مشروعًا لكنت وافقتَ عليه في الأحوال العادية. صحيح؟
(٨) ج : الواقع، لا. كان ما أزعجني في الأمر أنه كان غيرَ متوقع بالمرة، ولم أكن أنا الذي سمح بأدائه.
(٩) س : مَن الذي سمح بأدائه؟
(١٠) ج : أتصور أن مستر كروغ هو الذي سمح بأدائه، ولكن ذلك لا يستند إلى أية معرفة شخصية.
(١١) س : يعني، في الواقع يا مستر إيرليكمان، ألم توافق أنت شخصيًّا، موافقةً كتابية، ومقدمًا، على الدخول خفية إلى العيادة النفسية للدكتور إلزبرج بغرض الحصول على تقارير ذلك المحلل النفسي؟
(١٢) ج : وافقت على إجراء التحقيق خفية. لكن إذا كان الدخول خفية يعني الاقتحام والسطو؛ فالإجابة على سؤالك هي: لا.
النص ٣–٥ المصدر: صحيفة نيويورك تايمز، ١٩٧٣: ٥١٢

إن طارح الأسئلة يتحدَّى إيرليكمان، ولكن بأسلوب ربما كان يتسم ببعض القيود الناجمة عن الطابع الرسمي للموقف. ما شكل هذه القيود؟ ما الجوانب اللغوية التي تدل على الطابع الرسمي؟

تداولُ الأدوار مقيدٌ بنسق السؤال والجواب؛ إذ يطرح داش الأسئلةَ، ويقدِّم إيرليكمان الأجوبة. وهكذا فإنَّ أيَّ طعن أو اتهام وأية محاولات لتفنيد هذا وذاك لا بد أن تدرج في هذا الإطار. فالدور (۷) يمثل طعنًا، مثلًا، ولكنه وُضع عنوة في صيغة ضمنية وغير مباشرة؛ لأن داش اضطر إلى أن يُقدِّمَه في صورة سؤال. والنتيجة أننا نشعر أنه مقيد. وهذه حالة تمثل الإجراءات الرسمية التي تحدُّ من طبيعة العلاقة بين المشاركين. وربما تكون المفردات هي المعلم اللغوي الذي يشير إشارةً قاطعة إلى الطابع الرسمي للحوار، وأقصد به الاتساق في اختيار الألفاظ «الرسمية». فالدور الأول [أي رقم (١)] مثلًا، كان يمكن أن يكون على النحو التالي في سياق ذي ملامح رسمية أقل: «اسمع يا جون! كنت تقول قبل الغداء …» لاحظ صيغة التأدب بذكر اللقب + اسم الأسرة في التخاطب من جانب السائل (إذ يدعوه مستر إيرليكمان).

يمكننا أن نقول إن المواقف الرسمية تُضيف قيدًا آخر إلى القيود الثلاثة التي ربطتُ بينها وبين ممارسة السلطة، ألَا وهو القيد على شكل اللغة، إلى جانب تعميق القيود الثلاثة المذكورة. وهذا يعني أن الخطاب والممارسة بصفة عامة، يتسمان في المواقف الرسمية بالصعوبة وعسر التناول، فهما يعتمدان على معرفة خاصة ومهارة لا بد من تعلُّمها. وكثير من الناس لا يكتسبون مجردَ المعرفة والمهارة اللازمتَين لاحتلال مواقف هامشية في المواقف الرسمية ومن ثَم يجفلون أمام المواقف الرسمية في ذاتها ويخافونها، أو يسخرون منها. ويربط محور جبار بين المواقع الاجتماعية والمعرفة؛ فما دام الذين يشغلون المواقع الاجتماعية المهيبة يتعلمون فعلًا كيف يعملون على المستوى الرسمي، فإن الذين لم يتعلموا ذلك ينتهون إلى نتيجة ساذجة قائلين «لا أستطيع لأنني لست ذكيًّا بما يكفي» بدلًا من أن يقولوا: «لا أستطيع لأنني من الطبقة العاملة». وهكذا فإن الإجراءات الرسمية تُقيِّد المشاركة وتُولِّد الرهبة. ومع ذلك فسوف أناقش في القسم الأخير اتجاهًا مناقضًا لهذا في المجتمع المعاصر، فهو مضاد للرمز السافر للسلطة، ومن ثَم فهو مضاد للطابع الرسمي.

(٩) الصراع الاجتماعي في الخطاب

سوف أُضيف في هذا القسم شرطًا بالغَ الأهمية إلى ما سبق، فأقول: إن السلطة «في داخل» الخطاب أو «من وراء» الخطاب، ليست صفةً دائمًا غير متنازع عليها لأي شخص أو فئة اجتماعية. وعلى العكس من ذلك نرى أن الذين يملكون السلطة في لحظة معينة يضطرون إلى إعادة تأكيد سلطتهم باستمرار، وأن الذين لا يملكون السلطة من المحتمل أن يحاولوا الظفر بها. وهذا صحيح سواء أكان المرء يتكلم عن مستوى الموقف الخاص، أو من حيث حالة مؤسسة اجتماعية، أو بالنسبة للمجتمع كله. فالسلطة على جميع هذه المستويات تُكتَسب وتُمارَس ويحافِظ عليها أصحابها أو يفقدونها في غمار الصراع الاجتماعي (انظر الفصل الثاني).

فلنبدأ بالنظر في نصٍّ يبدو الصراع فيه سافرًا، وهو مقابلة شخصية بين شاب «ش» يشتبه في تورُّطه في جريمة، وبين مدير مدرسته «م»:

(١) م : لماذا لم تذهب مباشرة من شارع كوین؟
(٢) ش : لن أمشيَ فيه مع ثلة من الزنوج الخارجين من مدرسة سانت هيلدا.
(٣) م : ولماذا؟
(٤) ش : يعني … المسألة واضحة … لا أريد أن أُضرب.
(٥) م : الواقع أن شارع كوین يخلو عادةً من المشاكل. صحيح؟
(٦) ش : لا. لا يذهب أحد من بيننا، نحن الأولاد البيض، من هذا الشارع. هذا حق! هل نسيت «الكبسة» التي وقعت في موقف أوديون للسيارات في الكريسماس؟
(٧) م : كان هذا من نحو عام تقريبًا، ولستُ مقتنعًا بأن ثُلَّتكم كانت بريئةً كما زعمتم. وهكذا فعندما وصلت إلى الميدان، لماذا وقفت تنتظر لمدة ربع ساعة بدلًا من العودة مباشرة إلى المنزل؟
(٨) ش : كنت أظن أن صديقي ربما أتى من ذلك الطريق بعد العمل. وعلى أي حال فنحن دائمًا ما نذهب للميدان بعد المدرسة.

قارن هذا النص بالنص الوارد عن وحدة الأطفال المبتسرين في القسم الخاص بالسلطة في الخطاب في بداية هذا الفصل من حيث درجة السيطرة التي يمارسها المدير على أقوال الشاب، ومدى استمساك كلٍّ منها بالحقوق والالتزامات الخطابية التي تتوقعها في مثل هذه المقابلة الشخصية، فأنا لا أعتقد مثلًا أنك تتوقع أن يطرح أسئلة وأن يُجيب المدير عليها.

يمارس الشاب، بطرائق منوعة، قدرًا من السيطرة على الخطاب أكبر مما قد يتوقعه المرء، وهو يتجاوز حقوقه «الخطابية» ولا يفي بالتزاماته. فهو أولًا يطعن في أسئلة المدير في مناسبتَين (الدورين ٢ و٤) بدلًا من إجابتها إجابةً مباشرة، وإن كان رقم (٢) يمثل إجابةً ضمنية ثم يقدِّمها بعد الطعن في الدور (٤). ونجد ثانيًا أن الشاب في الدور رقم (٦) يسأل سؤالًا يُجيب عنه المدير، في حين لا تتوقع، كما ذكرت من قبل أن يطرح الشابُّ أيةَ أسئلة أو أن يُجيب المدير عنها. ونلاحظ ثالثًا أن الإجابات التي يقدِّمها الشاب عن أسئلة المدير تتجاوز ما يتصل اتصالًا مباشرًا بالدورَين (٦) و(٨). ونحن نذكر أن الطبيب كان يُصِرُّ في النص الطبي على أن تكون الإجابات ردًّا على الأسئلة. ونجد رابعًا أن الشابَّ لا يُبدي أيةَ دلائل على تطويع أسلوب حديثه للطابع الرسمي نسبيًّا للمقابلة الشخصية، ويبدو أنه يتعامل معها — إلى حدٍّ ما — كما لو كانت محادثة، ومعاملة المدير كأنما كان من أقرانه. ويظهر هذا بوضوح وجلاء في مفردات الشاب «أُضرب» [والأصل قريب من العامية: «آخد علقة»] و«الكبسة» [أي هجوم الشرطة] و«الأولاد» وخصوصًا الكلمة التي تُوحي بالتمييز العنصري، أي «الزنوج». وأعتقد أننا نتوقع ممن يستخدمون هذه المفردات مع أصدقائهم أن يتأثروا بمكان المقابلة الشخصية، وظروفها، والمسافة التي تفصل بينهم وبين المدير مثلًا، فيتجنبوها.

ومع ذلك فإن المدير يمارس قدرًا كبيرًا من السيطرة. فهو يطرح معظم الأسئلة، ويتلقَّى إجاباتٍ مناسبةً إلى حدٍّ كبير عن بعضها على الأقل، الأمر الذي يبيِّن وجود مستوى ما من التمسك بالحقوق والالتزامات التقليدية. ومن الممكن دائمًا في مثل هذه الحالات أن نرى الشخص المتمتع بالسلطة المؤسسية — وهو المدير هنا — وهو يتنازل عن بعض السلطة تنازلًا تكتيكيًّا حتى يتمكن من تطبيق استراتيجية طويلة الأجل. وربما يكون لنا أن نفسر على هذا النحو عدمَ اعتراضه فورًا، أو تعبيره عن رفضه لكلمة «الزنوج» العنصرية؛ إذ إنَّ غضَّه الطرفَ عنها يُظهره بمظهر مَن يقبلها.

ولكن هل لنا أن نعتبر مثل هذه الحال مجردَ صراع بين تلميذ فرد يبيِّن مدى استهانته بسلطة المدرسة بانتهاك القيود العرفية وبين مدير مدرسة يستخدم تكتيكًا معينًا في معالجة هذا الموقف؟ فلنتذكر التمييز الوارد آنفًا في الفصل الثاني بين المستويات الثلاثة للتنظيم الاجتماعي وهي مستوى الموقف، والمستوى المؤسسي، والمستوى المجتمعي. ويبدو أن هذا وصفٌ معقول لما يحدث على مستوى الموقف، ولكنه يتجاهل النسق الاجتماعي الذي يبدو أن هذا المثال الخاص ينتمي إليه؛ إذ يبدو أن الشابَّ مثالٌ صادق للكثير من الشبان، والتكتيك الذي يتبعه المدير قد يمثِّل التكتيك المعهود في التعامل مع هذا النوع من المواقف. وبعبارة أخرى لنا أن نفسِّر هذا المقتطف باعتباره صراعًا معينًا على المستوى المؤسسي. أضف إلى ذلك أننا نستطيع قطعًا أن نجد نماذج أخرى للخطاب مستمدة من أشكال مؤسسية أخرى — وقد نجدها في القضاء وفي نطاق الأسرة — بحيث تكشف لنا عن أشكال صراع مماثلة بين الشباب وبين «السلطة». وعلى غرار هذا يستطيع المرء أن يرى في النص مثالًا على الصراع على المستوى المؤسسي داخل المدرسة باعتبارها مؤسسةً اجتماعية، ومثالًا على صراع أعم على المستوى المجتمعي بين «مجموعات معينة» من الشباب وشتى أنواع أصحاب السلطة.

ولا يستطيع المرء بطبيعة الحال أن يصل إلى نتائجَ يُعتَدُّ بها عند البحث في الصراع الاجتماعي بين الصغار والمدارس أو بين الصغار والسلطات العامة بصفة أشمل استنادًا إلى قطعة واحدة من الخطاب! ولكن الذي أقوله: إن أية قطعة من أيِّ خطاب يمكن أن تكون في الوقت نفسه جزءًا من صراع موقفي، وصراع مؤسسي، وصراع مجتمعي (بما في ذلك الصراع الطبقي). ولهذا آثاره من حيث تمييزنا بين «السلطة في داخل الخطاب» و«السلطة من وراء الخطاب». فإذا كان الصراع على المستوى الموقفي صراعًا حول السلطة في داخل الخطاب، فإن الصراع على المستويَين الآخرين قد يكون أيضًا على السلطة من وراء الخطاب.

كنت أشرت في مكان سابق في هذا الفصل إلى وجود اتجاه يعارض الإبراز السافر لعلاقات السلطة في الخطاب، وهو اتجاه ذو أهمية كبرى من منظور الصراع الاجتماعي. ولأوضح ذلك بمثال نحوي شهير، وهو الخاص بشكلَي ضميرَي المخاطب المستعملَين في الكثير من اللغات، ومنها الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية والروسية، فيما يتعلق باللغات الأوروبية، ولكنهما لا يستخدمان في اللغة الإنجليزية المعيارية «الحديثة» ويُرمز لها بحرفَي T وV، [أي أنت وأنتم على الترتيب]. فهذه اللغات تستعمل شكلَين لضمير المخاطب، وتستخدم الإنجليزية المعيارية حرفًا واحدًا هو you، وعلى الرغم من أن هذين كانا يختصان أصلًا بالمفرد (T) والجمع (V) فقد تطور استعمالُهما وأصبحا يُستعملان في مخاطبة المفرد. ولنأخذ الفرنسية مثالًا: فشكل T فيها tu وشكل V فيها vous يستخدمان الآن في مخاطبة المفرد. وفي مرحلة من المراحل كان التمييز بينهما يعتمد على السلطة؛ إذ تستعمل tu لمخاطبة المرءوسين، وتستخدم vous لمخاطبة الرؤساء، وكان أيهما يستعمل (وفقًا لطبقة المتخاطبين) بالتبادل بين المتكافئين اجتماعيًّا.
ولكن الفترة الأخيرة شهدت التحول إلى نظام يستند إلى التضامن لا السلطة، فغدت tu تستعمل بين الأفراد الذين تربطهم صلةٌ وثيقة من نوع ما (الأصدقاء، الأقارب، زملاء العمل، وهلمَّ جرًّا) وغدَت vous تستخدم بين مَن تفصلهم «مسافة» اجتماعية. وقد نشأ التوتر بين النظام القائم على السلطة والنظام القائم على التضامن، فما عساك أن تفعل إذا أردت أن تخاطب «من فوقك» اجتماعيًّا وهم وثیقو الصلة بك (مثل أبوَيك) أو مرءوسًا لك تفصله مسافةٌ اجتماعية عنك (مثل أحد الجنود إذا كنت ضابطًا)؟ كانت الإجابة تقول: إن عليك استخدام vous وtu على الترتيب استنادًا إلى السلطة، وأما الآن فمن المحتمل أن تقول إن عليك استخدام tu وvous على الترتيب استنادًا إلى التضامن.
ويبدو أن التطور الخاص للتمييز بين T وV الذي ابتعد به عن النظام القائم على السلطة، واقترب به من النظام القائم على التضامن، يتمشَّى مع التطورات الطويلة الأجل في جميع أنواع المؤسسات التي تتوافر عنها معلومات موثقة في شتى اللغات، أي إنه بمثل الابتعاد عن الإبراز الصريح لعلاقات السلطة. ويصدق هذا، على سبيل المثال في التعليم العالي في بريطانيا، ويصدق على أنماط شتى للخطاب في الخدمات الاجتماعية، ثم غدا يصدق على الشركات الصناعية التي تأثرت تأثرًا مطردًا بتقنيات الإدارة اليابانية التي أزالت مظاهر التفاوت بين الإدارة والعمال. ومن اليسير — بطبيعة الحال — أن نجد بعض الممارسة التي لم يشملها الإصلاح في أي قطاع من هذه القطاعات، ولكننا نرى الاتجاه الذي استمر ثلاثة عقود أو أكثر بوضوح وجلاء.

هل يعني هذا الاتجاه أن علاقات السلطة غير المتكافئة تقلُّ يومًا بعد يوم؟ يبدو أننا سنخرج بهذه النتيجة إذا افترضنا وجود رابطة آلية بين العلاقات والتعبير في الخطاب عنها. ولكن مثل هذه النتيجة موضعُ شكٍّ كبير؛ نظرًا للأدلة المستقاة من مصادر أخرى على أن ضروب التفاوت في السلطة لم تتغير كثيرًا، ونقصد الأدلة الخاصة بتوزيع الثروة، وزيادة الفقر منذ الثمانينيات، وأنواع التفاوت في إمكان التمتع بالمرافق الصحية، والتعليم والإسكان، وعدم التكافؤ في آفاق العمالة وهلمَّ جرًّا. بل وليس لنا أن نصدِّق أن مَن يملكون زمام السلطة يمكن أن يتخلَّوا عنها من دون سبب واضح.

وربما كانت القدرة على تحديد مدى التعبير السافر عن السلطة تمثِّل بُعدًا من أبعاد «السلطة داخل الخطاب»؛ ولذلك فقد يجوز أن يتخذ التعبير عن علاقات السلطة صورًا غير بارزة في إطار استراتيجية الحفاظ على السلطة وممارستها. وهذا — فيما يبدو — تفسيرٌ معقول للتطبيق الواعي والعامد لأساليب الإدارة اليابانية المشار إليها عالیه. أي إن هذه حالة تمثل إخفاء السلطة من أجل استغلال الغير، وانظر القسم الخاص بالسلطة الخفية عاليه. ولكن هل يُمكنها أن تفسر لنا الاتجاه الطويل الأجل عبر شتى المؤسسات بل وشتى الحدود القومية واللغوية؟ ومَن ذا الذي يقبل تفسيرها باعتبارها مؤامرة دولية؟

وأما الذي يغيب عن ذهن أصحاب التفسير المتفائل القائلين بأن التفاوت بسبيله إلى الزوال وكذلك من أصحاب التفسير «التآمري» فهو العلاقة بين السلطة والصراع الاجتماعي. وأجدني ميَّالًا إلى أن أقول: إن انحسار إبراز علاقات السلطة ينبغي تفسيرُه باعتباره تنازلًا من جانب أصحاب السلطة، وإنهم اضطروا إلى تقديم هذا التنازل بسبب الزيادة النسبية في سلطة أبناء الطبقة العاملة وغيرهم من المهمَّشين، مثل النساء والشباب والسود والمثليِّين وهلمَّ جرًّا. (وقد تعرَّض هذا التغيير في علاقات السلطة للإيقاف وعكسَ مسارَه إلى حدٍّ ما في بعض المواقع إبَّان الأزمات التي نشأت في أواخر السبعينيات وفي الثمانينيات). ولكن ذلك لا يعني أن أصحاب السلطة قد تنازلوا عن السلطة، بل يعني أنهم أُرغموا وحسب على اتِّباعِ سُبُلٍ غير مباشرة لممارسة السلطة وإعادة إنتاجها. كما ينبغي ألَّا نعتبر هذه الخطوة خطوة ترمي إلى تجميل الصورة وحسب، فإن القيود التي أُرغموا على العمل في ظلِّها أدَّت إلى نشأة مشكلات حادة خاصة بالمشروعية لأصحاب السلطة.

ويمثِّل الخطاب جزءًا لا يتجزأ من حالة الصراع المعقدة المذكورة، ولنا أن نُعمِّقَ فهمنا للخطاب بأن نذكر دائمًا إطاره العام، وأن نزيد من فهمنا للصراع إذا اهتممنا بالخطاب. وسوف أحاول مثلًا في الفصل الثامن أن أنظر في سبل اكتساب أنماط معينة من الخطاب مكانةً ثقافية بارزة، بحيث «تستعمر» مؤسسات ومجالات جديدة، وهو المنظور الذي عبَّرتُ عنه بإيجاز في الفصل الثاني، كما يعتبر التغير في مدى بروز هذه الأنماط دليلًا على تطور الصراع الاجتماعي، ويمثل جزءًا منه. وانظر مثلًا إلى تقديم المشورة [في المشكلات الشخصية] باعتباره نمطًا من أنماط الخطاب البارزة، بعد أن استعمر أماكن العمل والمدارس وهلمَّ جرًّا. فالنظرة السطحية إليه تُوحي بأنه يدل على حساسية غير عادية لحاجات الفرد ومشكلاته الشخصية. ولكن يبدو أنه تحوَّل في بعض الحالات على الأقل إلى وسيلة لزيادة السيطرة المؤسسية على الأشخاص من خلال الكشف عن جوانب معينة في حياتهم الخاصة وإخضاعهم للفحص المؤسسي بأسلوب غير مسبوق. وهكذا فإن ما يُبديه أصحاب السلطة من حساسية تجاه الأفراد يعتبر تسليمًا بقوة مَن لا يتمتعون (نسبيًّا) بالسلطة، وأما «احتواء» تقديم المشورة فيمثِّل هجومهم المضاد. ارجع إلى الفصل الثامن حيث الأمثلة والمزيد من المناقشة.

ومن الميادين الأخرى التي يدور فيها الصراع الاجتماعي محاولةُ المشاركة في أنماط الخطاب ذات الصيت والهيبة، وما يتصل بها من مواقع السلطة للذات. ولنا أن نذكر مثلًا أنواع الكفاح الذي خاضَته الطبقة العاملة من خلال النقابات وحزب العمال في مطلع القرن العشرين لدخول الميادين السياسية، ومن بينها البرلمان، وما يترتب على ذلك من المشاركة في ضروب الخطاب السياسي في المجال «العام». أو ربما ذكرنا أشكال كفاح المرأة والسود وأبناء الطبقة العاملة لاقتحام المهن الراقية، وللوصول — حسبما شهدنا أخيرًا — إلى الدرجات العليا لهذه المهن.

وتمتزج ضروب الكفاح في سبيل المشاركة مع الصراعات حول التوحيد القياسي. فلقد سبق لي أن قلت: إن أحد العناصر المهمة في التوحيد القياسي توطيدُ أقدام اللغة المعيارية باعتبارها الشكل المستعمل في شتى المؤسسات «العامة». وفي سياق الزيادة للسلطة النسبية للطبقة العاملة في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح من اللازم تقديمُ تنازلات معينة للَّهجات غير المعيارية في بعض المؤسسات، مثل الإذاعة وبعض المهن؛ حيث أصبح من المقبول استعمالُ أشكال معينة من الكلام غير المعياري الذي يتمتع بالصيت والهيبة نسبيًّا. وكذلك فقد طالبت الأقليات الثقافية بحقوق معينة للغاتها الخاصة في شتى المجالات الثقافية، ومن بينها التعليم، وأدَّت هذه المطالب كذلك إلى بعض التنازلات المحدودة.

(١٠) الملخص والنتائج

أقمت الحجة في هذا الفصل على ممارسة السلطة وتفعيلها في الخطاب من ناحية، وعلى وجود علاقات السلطة من وراء الخطاب من الناحية الأخرى، كما سُقت الحجة أيضًا على أن السلطة تُكتسب ويحتفظ بها أصحابها أو يفقدونها في ضروب الصراع الاجتماعي. وأما من حيث وجود «السلطة داخل الخطاب» فيجوز لنا أن نقول: إن الخطاب هو الحلبة التي تجري فيها ضروبُ الصراع على السلطة، وأما من حيث وجود «السلطة من وراء الخطاب»، فإنها تمثل الغاية في الصراع على السلطة، أي إن السيطرة على نظم الخطاب آلية جبارة للحفاظ على السلطة.

وختامًا لهذا الفصل أودُّ أن أرسمَ إطارًا عريضًا نستطيع من خلاله النظر إلى الميول والعواقب، في الأجل الطويل، لضروب الصراع الاجتماعي على الخطاب، مما سوف يمهِّد الطريق للفصول التالية. وسوف أبدأ بالتمييز الذي أقمته بين أنماط القيود الثلاثة التي يستطيع المشاركون في الخطاب من ذوي السلطة أن يفرضوها على مساهمات المشاركين من غير ذوي السلطة، ألَا وهي القيود على المضمون، وعلى العلاقات، وعلى الذوات. ولنا أن ننظر إلى هذه القيود إما من حيث كونُها قيودًا مباشرة ومادية ولو نسبيًّا (وهي الصورة التي قدمتها بها) أي باعتبارها نماذج للسلطة في الخطاب، وإما باعتبارها أسلوبًا هيكليًّا طويل الأجل، ولو نسبيًّا، أي من حيث أعراف أنماط الخطاب التي تُقيد مساهمات المشاركين من هذه الزوايا الثلاث. وإذا نظرنا إليها بالأسلوب الثاني، فسوف نستطيع أن نرى أن مثل هذه القيود على الخطاب قد تكون لها آثارٌ هيكلية طويلة الأجل وذات طابع عام. لقد أقمت حجتي حتى الآن على أن الخطاب يمثِّل جزءًا من الممارسة الاجتماعية ويُسهم في إعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية. وهكذا فإذا فُرِضَت القيودُ بصورة منتظمة على مضمون الخطاب، وعلى العلاقات الاجتماعية التي يجسدها وعلى الهويات الاجتماعية المشاركة في هذه العلاقات، فلنا أن نتوقع أن هذه القيود سوف تترتب عليها آثارٌ طويلة الأجل في المعارف والمعتقدات، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي الهويات الاجتماعية لمؤسسة ما أو لمجتمع ما. وهو ما يبيِّنه الشكل ٣–١.

الشكل ٣–١.
القيود الآثار الهيكلية
المضمون المعارف والمعتقدات
العلاقات العلاقات الاجتماعية
الذوات الهويات الاجتماعية
لن يخلوَ أيُّ مجتمع من وجود الآليات اللازمة لتحقيق التنسيق بين الممارسات وتعميمها فيما يتعلق بالمعارف والمعتقدات، وبالعلاقات الاجتماعية، وبالهويات الاجتماعية. فلنميزْ إذن بين الأنماط الثلاثة الرئيسية لهذه الآليات: قد نجد أولًا ممارساتٍ وأنماطًا خطابية يتبعها الجميع ويقبلونها بالضرورة، لاستحالة تصوُّر وجود بدائل — فيما يبدو — تتمتع في صُلْبها بالتنسيق ما بين المعارف والمعتقدات وبين العلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية. وقد نجد ثانيًا أن التنسيق يمكن أن يُفرَضَ في ممارسة السلطة، بأسلوبٍ خفيٍّ إلى حدٍّ بعيد، باعتباره «السلطة من وراء الخطاب»، وهي الموضوع الذي ناقشه هذا الفصل. فلنُطلقْ على هذه الآلية مصطلح التلقين. وقد نجد ثالثًا أن التنسيق يمكن تحقيقه من خلال التواصل والمناظرات العقلانية. ولنُطلق على هذه الآلية مصطلح التواصل.
والآليات الثلاث موجودة في المجتمع المعاصر، ولكن الصراع ما بين التواصل والتلقين هو أشد الظواهر بروزًا. ولنا أن نعتبر أن الدافع على التلقين يتمثل في الرغبة في إعادة العمومية والصبغة «الطبيعية» للآلية الأولى في ظل السيادة الطبقية والانقسام الطبقي. أي إنه يحاول تطبيع الممارسات المنحازة والمغرضة لتيسير ممارسة السلطة والحفاظ عليها. ونقول بصفة عامة: إن التلقين هو الآلية التي يستخدمها أصحاب السلطة الذين يرغبون في الحفاظ على سلطتهم، وإن التواصل هو الآلية المستخدمة في التحرير والكفاح ضد الهيمنة. ومن ثَم فإن التركيز في الأجل الطويل في الصراع حول الخطاب تركيزٌ في الواقع على القضية التالية: هل تُفرَض القيود على المضمون والعلاقات والذوات من خلال التلقين (وفرضها من خلال التلقين هو الموضوع الرئيسي للدراسة النقدية للغة) أم تُنَسَّقُ من خلال التواصل؟

المراجع

استوحيتُ فكرة التمييز بين الأنماط الثلاثة للقيود على الممارسة الاجتماعية (المضمون والعلاقات والذوات) والتمييز بين «التلقين» و«التواصل» من هابرماس ١٩٨٤م. وقد وجدت في فوكوه (مثل فوكوه ١٩٧٢م) وهابرماس أيضًا ثروة من الأفكار الخاصة باللغة والسلطة. انظر أيضًا بوردیو (١٩٩٢م) وبیرنشتاین (١٩٩٠م). والمثال الخاص بالتفاعل عبر الثقافي مقتبس من أكیناسو وأجيروتوتو (١٩٨٢م). وفيما يتعلق بالخطاب الإعلامي انظر فيركلف (1995a) وسكولون (١٩٩٨م). وتوجد مناقشة طريفة عن التوحيد القياسي في ليث (١٩٨٣م) وانظر الكتاب الأحدث من تأليف بیكس وواطس (١٩٩٩م). وأما المعلومات والمقتطفات الخاصة بالفحص الطبي لأمراض النساء فمقتبسة من إمرسون (١٩٧٠م). وفي مناقشة «الطابع الرسمي» وجدت كتاب إيرفين (١٩٧٠م) مفيدًا. والدراسة الطبقية لضميرَي المخاطب T وV فهي من براون وجیلمان (١٩٧٢م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤