الفصل الرابع

الخطاب والمنطق السليم والأيديولوجيا

أزيد من تفصيل القول، في هذا الفصل، في فكرة الأيديولوجيا وعلاقتها بالخطاب التي قدمتها في الفصل الثاني، وهي الفكرة التي تقول إن الأعراف التي ننهل منها باستمرار في الخطاب تجسِّد افتراضات أيديولوجية ينتهي بها الأمر إلى أن تعتبر من «المنطق السليم» وحسب، وبذلك تُسهم في الحفاظ على علاقات السلطة القائمة. ولما كانت العلاقة بين السلطة والأيديولوجيا علاقة حميمة، فمن المحتوم أن يتداخل موضوع هذا الفصل مع موضوع الفصل الثالث، فهما يشتركان في تناول السلطة ويختلفان فيما يُركزان عليه. فإذا كان الفصل الثالث يقدِّم مناقشةً واسعة النطاق للغة والسلطة، فإن الفصل الرابع يتخذ له هدفًا محددًا وهو المنطق السليم في خدمة السلطة، أي إنه يدرس أساليب إضمار الأيديولوجيات في معالم معينة من الخطاب بحيث يُسلِّم المرء بصحتها باعتبارها من سمات المنطق السليم.

كتب عالِم الاجتماع هارولد جارفینكل دراسة عن «عالَم المنطق السليم المألوف للحياة اليومية»، وهو العالَم الذي بُنيَ برمته على افتراضات وتوقعات تتحكم في أفعال أفراد أي مجتمع وفي تفسيرهم لأفعال الآخرين. وأمثال هذه الافتراضات والتوقعات مضمرة، وقائمة في الخلفية، ومُسلَّمٌ بها، وليست مما يُدركها الناس عن وعي، ونادرًا ما تُصاغ صوغًا صريحًا أو تُفحص صراحةً أو تخضع للتساؤل الصريح. والمنطق السليم للخطاب من المعالم البارزة في هذه الصورة. كما أن فعالية الأيديولوجيا تعتمد، إلى حدٍّ كبير، على مَزْجِها بهذه الخلفية القائمة على المنطق السليم للخطاب والأشكال الأخرى للعمل الاجتماعي.

ولأستبق عرضَ مضمونِ هذا الفصل بتقديم قائمة بالأسئلة المثارة فيه، بالترتيب التقريبي لتناولها:
  • ما «المنطق السليم» في الخطاب؟ وكيف يتصل المنطق السليم بالمعنى المترابط للخطاب وعمليات تفسير الخطاب؟ وما العلاقة بين المنطق السليم والمعنى المترابط والأيديولوجيا؟

  • إلى أيِّ حدٍّ تعتبر الأيديولوجيات متغيرة في مجتمع ما؟ وكيف يمكن أن تتجلَّى ملامح هذا الخطاب؟

  • ما العلاقة بين التغير الأيديولوجي والصراع الاجتماعي؟ وكيف يتولد المنطق الأيديولوجي السليم للخطاب في غضون الصراع؟

  • كيف يؤثر المنطق الأيديولوجي السليم في معاني التعبيرات اللغوية، والممارسات العرفية للكلام والكتابة، والذوات الاجتماعية والمواقع الاجتماعية للخطاب؟

  • كيف يستطيع المحللون أن ينقلوا هذا المنطق السليم من موقعه في الخلفية إلى موقع الصدارة؟

(١) الافتراضات المضمرة والمعنى المترابط والاستنباط

ماذا عليك أن تفعل حتى تفهم نصًّا كاملًا (ونحن نذكر ما جاء في الفصل الثاني من أن النص قد يكون مكتوبًا أو منطوقًا)، أي حتى تصل إلى تفسير مترابط له، على فرض أنك تعرف من قبلُ معانيَ مكوناته؟ لن أحاول أن أقدم إجابةً شاملة لهذا السؤال الكبير، بل سأقترح عليك أن تفعل شيئَين. الأول أنه يجب عليك قطعًا أن ترى كيف تتصل أجزاء النص بعضها بالبعض. والثاني أنه يجب عليك أن ترى كيف يتصل النص بخبرتك السابقة بالعالم: ما جوانب العالم التي يرتبط بها؟ بل وما مفهوم العالم الذي يفترضه سلفًا؟ وباختصار عليك أن تُقيم «مواءمة» بين النص والعالم.

وسوف أستخدم مصطلح المعنى المترابط (coherence) بحيث يُفيد هذين النمطين من الارتباط، الأول بين أجزاء النص المتتابعة والثاني بين (أجزاء) النص و«العالم». وهذه ارتباطات نصنعها نحن باعتبارنا مفسرين للنصوص، أي إن النص نفسه لا يصنعها. ولكننا لا بد لنا، حتى نصنعها، أن ننهل من «الافتراضات والتوقعات» القائمة في الخلفية والتي أشرت إليها لتوِّي. إن المعنى المترابط للنصِّ كلِّه يعتبر نتيجةَ تفاعل كيميائي، وهو يتولَّد عندما تمزج ما في النص بما يوجد من قبل «داخل» المفسر، وأعني به افتراضاتِ المفسر وتوقعاته القائمة على المنطق السليم، وهي جزء مما أطلقتُ عليه من قبل مصطلح «موارد الأعضاء» [جماع خبرة المفسر].
فلأبدأ بمثال موجز للنمط الثاني من أنماط هذا الارتباط، أي الارتباط بين النص والعالم. وهو جملة واحدة وحسب مقتطفة من مقال حول الأحجار الكريمة المرتبطة بموعد ميلاد المرء، والمقال منشور في مجلة تنشر «قصص حب حقيقية». تقول الجملة «اشتهر عن العقيق الأزرق على امتداد قرون كثيرة أنه حجرٌ سيِّئُ الطالع، بمعنى أن مَن يتزيَّن به يُصادف سوء الحظ.» (مجلة ترو ستوري، العدد الخاص بالصيف، دار نشر أرجوس، ١٩٨٦م). ما صورة العالم التي تحتاج إلى افتراضها مؤقتًا، ناهيك بقبولها، حتى تفهم هذه الجملة؟ ربما كنَّا نحتاج إلى عالم تستطيع الأشياء فيه، مثل الأحجار الكريمة، أن تؤثر في حياة الإنسان وفي حظوظه! فالنصوص من هذا النوع طريفة؛ لأنها تفترض سلفًا رؤية للعالم تتفق مع المنطق السليم عند بعض الناس، لكن الآخرين يرونها غريبةً على نحو ما. ومن الأيسر التعرف على الافتراضات المضمرة في أمثال هذه الحالات عمَّا نصادفه في حالات أخرى.
ولكن هذه جملة واحدة؛ فما شأن ترابط المعنى في نصوص كاملة؟ فيما يلي مثالٌ مختلف إلى حدٍّ ما، فهو استهلال قصة منشورة في مجلة «قصص الحب الحقيقية»، بعنوان «نوع غرامه»:

نوع غرامه …

كان المطر المنهمر يكاد يطمس التلال التي تكسوها الأشجار وأنا أسير بالسيارة في الطريق الملتوية نحو القرية التي أنشأتُ فيها حانوتي الخاص للحرف اليدوية.
وعندما عبرت السيارة في اتجاه الحانوت غمرَتني الفرحة حين تذكرت أن جيف سوف يصل ذلك المساء. ولم أكن رأيتُه منذ أن غادرتُ مقاطعةَ هامبشير وذهبت إلى اسكتلندا منذ ثلاثة أشهر.

كان جيف يشعر بالضيق آنذاك؛ إذ قال: «الواضح أنني لن أنجح في تغيير رأيك يا كاري. اذهبي إذن. انتقلي إلى اسكتلندا وافتحي حانوتك.»

وقلت ضارعة: «نستطيع أن نتزوج في العام المقبل. لا بد أن أنتهز فرصة استقلالي بعملي التجاري یا جیف.»

«في اللحظة التي اعتقدت أننا سوف نستقر، تأتيك هذه الفكرة المخبولة.»

وتنهدتُ عندما تذكرت محادثتنا …

النص ٤–١: المصدر مجلة تروستوري، عدد الصيف الخاص، ١٩٨٦م

أبرزت بعض التعبيرات المطبوعة بالبنط الأسود. ماذا تكشف عنه، في رأيك، فيما يتعلق بشخصية كاري؟ هل الرسالة التي تنقلها هذه العبارات متسقة في النصِّ كلِّه، أم أنك تسمع أمورًا متناقضة؟ ما الافتراضات المضمرة عن المرأة التي تحتاج إليها حتى تستنبط هذه الرسالة، أو هذه الرسائل، من هذه التعبيرات؟

أظن أن لدينا «رسالتَين» عن كاري: الأولى تصبغ النص بصبغةِ تحرُّر نسوي سطحية، والثانية أبوية وطيدة راسخة؛ فالأولى تقول إنها شخص مستقل (لها حانوت خاص يبيع الحِرَف اليدوية، أي عمل تجاري خاص)، والثانية تقول إنها امرأة تقليدية خاضعة (يغمرها الفرح، وتتضرع إلى «رجلها» وتتنهد، وتقبل دون اعتراضٍ وصفَ مشروعاتها بأنها مخبولة). ويَصِل القراء إلى هذه الرسائل بإقامة علاقة بين العبارات المطبوعة بالبنط الأسود في النص وبين الأطر المضمرة، وهي التي تُشكِّل وصفًا لحال المرأة وما تفعله (أو ما ينبغي أن يكون عليه حالها وما ينبغي أن تفعله)؛ وذلك بصفة عامة على النحو التالي: (١) «المرأة شخص مثل الرجل، ولها الحق في حياة عملية، واتخاذ القرارات الخاصة بحياتها، وهلمَّ جرًّا»؛ و(٢) «تخضع المرأة لأحكام الرجل حول الجوانب المهمة لحياتها، وهي أقرب إلى العاطفة والتعبير عن العاطفة، وهلمَّ جرًّا». ونجد أن مجموعة من العناصر النصية تعمل بصفتها المفاتيح لإطار معين، كما يُهيِّئ الإطار مكانًا لكل جزء من التفاصيل النصية داخلَ كيانٍ كليٍّ مترابط، بحيث يمنح ذلك الإطارُ الترابط للعناصر النصية المطبوعة بالبنط الأسود، والتي تبدو منوعةً، في عملية التفسير. أو، بالألفاظ التي ذكرتُها عاليه، نجد أن التوقعات والافتراضات الموجودة أصلًا لدى المفسر، باعتبارها جزءًا من «موارد الأعضاء»، هي التي تمنح النص ترابط معناه. (انظر الفصل السادس حيث أناقش قضية الأطر).
وعلى نحو ما نشهده في حالات كثيرة، نجد تدعيمًا بصريًّا لرسالة «المرأة الخاضعة التقليدية»، وهو صورة (للفتاة كاري وصاحبها جيف) منشورة إلى جانب الفقرة الافتتاحية للقصة؛ حيث تبدو كاري ضئيلةَ الحجم شقراء براقة العينين، ويبدو جیف وسيمًا طويلًا أسمر، وقد مال في وقفته على كاري، بطوله الفارع، قابضًا بيده على ذراعها كمَن يحميها. بل إن البنط المختار لطباعة العنوان نفسه (نوع غرامه …) مقصود به، فيما يبدو، الإيحاء بنموذج «الحب الحقيقي».
لاحظ أيضًا أن إنتاج النص وتفسير النص يتميزان، على ما في هذا من مفارقة، بأنهما يكتسيان طابعًا تفسيريًّا؛ إذ إن منتج النص يبني نصَّه باعتباره تفسيرًا للعالم، أو تفسيرًا لأوجه العالم التي هي قيدُ التفسير آنذاك، وما المعالم الشكلية للنص إلا آثار ذلك التفسير. والآثار تشكل مفاتيح يلتقطها مفسر النص، الذي ينهل من افتراضاته وتوقعاته (التي تشملها الأطر) حتى يبنيَ تفسيره الخاص للنص. وهكذا فإن تفسير النص تفسير لتفسير. فمهما يكن العالم أو يكن النص، فإن تفسير ما هو «موجود» فعلًا لا يفرض نفسه أبدًا؛ إذ إن إنتاج النصوص وتفسيرها أنشطة خلاقة بنائية تفسيرية.
ما نسبة ما يرجع إلى ذاتك وما يرجع إلى النص في تفسيراتك المعتادة للنصوص التي تقرؤها أو تسمعها في حياتك اليومية؟ تذكر أن الصور لا تفرض تفسيراتها بأكثر مما تفرضه الألفاظ؛ فالمفسر دائمًا ما يتحمل بعض المسئولية! تأمل شذرات الإعلانات التي تُحيط بنا إحاطة كاملة هذه الأيام، سواء كان ذلك في المترو أو في الحافلات أو اللافتات أو الفترينات، أو حتى التي تصلك بالبريد. ما الأطر التي تستعملها في تفسيرها؟ وما المفاتيح التي تستجيب لها؟
فلننتقل الآن إلى الجانب الأول من جانبَي الترابط اللذين ميزتُ بينهما عاليه، ألَا وهو الترابط بين أجزاء النص المتتابعة، فنلاحظ وجود افتراضات مضمرة تربط بين الأجزاء المتتابعة في النص بتقديم «الحلقات المفقودة» في السلسلة، وهي التي تربط الحلقات القائمة بعضها إلى بعض، والمقصود بها الأقوال الصريحة، وقد يقوم السامع/القارئ بتوفيرها تلقائيًّا أو يتوصل إليها من خلال الاستنباط، وهو المفهوم الذي أطللنا عليه إطلالةً موجزة في النص الخاص بالسيدة جیني كيبيل في الفصل الثالث. انظر مثلًا إلى الجملتين الثانية والثالثة في قصة نوع غرامه (وعندما عبرت السيارة الجسر)، فإنهما لا ترتبطان الارتباط الذي يحقق ترابط المعنى إلا إذا افترضت وجود عالم يشعر المرء فيه بالفرحة لقرب لقائه شخصًا يحبُّه بعد أن غاب عنه ثلاثة أشهر. ما مقدار الجهد الذي عليك أن تبذله في التحليل أو الاستنباط حتى تصل إلى هذا الافتراض؟ لا أتصور أنك ستبذل أيَّ جهد، ما دام ذلك العالم هو العالم الذي يتصوره معظمنا، وهو يمثِّل جزءًا من الأطر الخاصة بعلاقات الحب، ولن يخطر ببالنا ما ينفي أن تتابع العبارات هنا منطقيٌّ بالصورة الراهنة! وأما الافتراض الذي يربط بعضها ببعض فنحن نقدِّمه تلقائيًّا، في خطوة تُسمَّى ملءَ الفجوات أو سدَّها (ولنا أن نطبق التمييز بين الاستنباط وسد الفجوات تلقائيًّا؛ لتحقيق الترابط في معنى النص أو العالم، أي إن لنا أن نحقِّق «المواءمة» بين النص والعالم تلقائيًّا أو من طريق الاستنباط).

ولا يوجد حدٌّ قاطع يفصل بين سد الفجوات تلقائيًّا وبين الاستنباط؛ وذلك لسببَين: الأول أنه من المحتمل أن الحلقات تتدرج في صعوبتها، أي ما بين الحلقات الواضحة التي لا تحتاج إلى بذل الجهد وبين الحلقات التي تتطلب جهدًا كبيرًا في الاستنباط، والثاني أن الحلقة التي يقدِّمها أحد الأشخاص تلقائيًّا قد تتطلب من شخص آخر بذل جهد في الاستنباط (أو قد تتطلب ذلك من الشخص نفسه في مناسبة أخرى). ومن المحتمل أن النص ٤–٢ لن يتطلب أيَّ جهد في الاستنباط من القراء المنتظمين للمجلة التي اقتطفناه منها. ولكنه قد يتطلب ذلك من قُرَّاء آخرين.

النص ٤–٢ المصدر مجلة بلوجينز، العدد ٤٨٨، ٢٤ مايو ١٩٨٦م.
أشعر أن الافتراضات القائمة على «المنطق السليم»، وهي التي تُعطي الترابط للعنوان (المطبوع بصورة رأسية على جانب الصفحة) هي أولًا: أن الأسلوب الصحيح للتعامل مع «المشكلات» يتمثل في العثور على شخص تتكلم معه، وثانيًا: أن دور هذا الشخص مقصور على الإصغاء. وبعبارة أخرى، يتمثل الحل في «الحكمة الشعبية» التي تقول بأن عليك أن تتكلم مع شخص «يُحسن الإصغاء» وله «أُذُن متعاطفة»، فتحكي له مشكلاتك بدلًا من مواجهتها وحدك. وهذه الافتراضات لازمة حتى تُقيم الرابطة بين العنوان الحقيقي (مشكلات) وبين الجمل المكتوبة بخط أصغر بجانبه. لاحِظ أن عليك أن تفترض أيضًا أن الكلام والإصغاء يمكن استمرارهما كتابةً (وفي الصفحات المطبوعة) حتى يترابط معنى هذه الجمل مع الجملتَين الأوليَين!

ولكن ما بال الرسالة والرد عليها؟ ما الافتراضات المضمرة التي تحتاج إليها حتى تخرج بتفسير مترابط المعنى؟ هل تعتقد أنك تُقدم هذه الافتراضات تلقائيًّا من خلال «سد الفجوات» أم أنك تتوصل إليها من خلال الاستنباط؟ هل يصعب عليك الوعي بهذه الأمور؟

أعتقد أولًا أن إقامة صلة ترابط في المعنى بين الرسالة باعتبارها طلبًا للمساعدة والرد عليها تقتضي افتراضَ أن تقديم المشورة كتابةً يمثِّل تقديم مساعدة. وأرى ثانيًا أن عبارة على الرغم من في الرسالة تمثل مفتاح الافتراض الضروري لتحقيق الترابط بين جزأي الجملة الثالثة، أي أنه من المفترض أن تكون فتاة «جميلة فعلًا» قد بدأت تخرج مع أحد الصبيان بحلول عامها الثالث عشر. وأجد ثالثًا أن مضمون الجملة الثانية (وربما الثالثة أيضًا) يشار إليه في الجملة الرابعة بكلمة «هذه المشكلة»، استنادًا إلى الافتراض المضمر بأن إحساسها بالحرج يعتبر مشكلة. وأخيرًا أقول: إن إقامة صلة تربط بين الجملة الثالثة في الرد والجمل التي تسبقها يحتاج إلى افتراض أن حلَّ «المشكلة» يكمن في «سرٍّ» معين، أي في علاج لا يعرفه إلا البعض (ولكن «لزلي» تقدمه إلى «القلقة ب. ج فان»).
وربما كانت أمثال النماذج تتسم بظاهرة تدفعنا إلى التفكير، وأعني بها أن القارئ لا النص هو الذي يتحمل مسئولية إدخال جميع هذه الافتراضات الخلافية في عملية التفسير. فالنص لا يؤكد أو يقول بأيٍّ منها. ويُوحي هذا بوجود أسلوب «سلطوي» يفرض الافتراضات على القُرَّاء أو على المفسرين عمومًا؛ ذلك أن الكاتب يقدم بعض المفاتيح النصية إلى المفسر فيُرغمه على أن يضع تلك الافتراضات حتى يفهم معنى النص. وذلك مما يفعله على الدوام الخطاب الرامي إلى إقناع القُرَّاء بشيء ما، والكتابة الدعائية، وكثيرًا ما يفعلانه بوضوح وجلاء؛ فإذا استهل صحفيٌّ مقالًا له قائلًا: «إن التهديد السوفييتي لأوروبا الغربية …» فإنه يفترض سلفًا وجودَ تهديد سوفييتي. ومن حسن الحظ أن القراء لا يقبلون دائمًا أن يشغلوا الموقع الذي يريد الكاتب لهم أن يشغلوه!
وهذه لحظة مناسبة للانتقال إلى المسألة التالية التي أريد التصدي لها، أي العلاقة بين «المنطق السليم» وبين «الأيديولوجيا». فإن المنطق السليم في الافتراضات المضمرة التي أشرتُ إليها في المثال السابق ذو مرتبة أيديولوجية. وسوف أشرح السبب في القسم التالي. أضف إلى ذلك أننا نستطيع أن نرى عمل الأيديولوجيا في الأساليب التي تُبنى بها النصوص بحيث «تفرض افتراضات» معينة، باستمرار وبصورة تراكمية، على مفسِّري النصوص وأيضًا على منتجي النصوص، وعادةً ما لا يكون أيٌّ من هؤلاء واعين بها.

(٢) المنطق السليم والأيديولوجيا

«المنطق السليم» أيديولوجي في جوهره، وإن لم يقتصر على الأيديولوجيا، بالمعنى الذي قدمت به هذا المصطلح في الفصل الثاني، وهذه العلاقة المهمة بين المنطق السليم والأيديولوجيا هي ما يهمني هنا في المقام الأول. وقد قام الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي باستكشاف هذه العلاقة، مشيرًا إلى وجود «شكل من أشكال النشاط العملي» يتضمن «فلسفة في صورة «مقدمةٍ منطقية» نظريةٍ مضمرة»، وإلى وجود «تصور معين للعالم، يتضح إضماره في الفن وفي القانون وفي النشاط الاقتصادي وجميع تجليات الحياة الفردية والجماعية». وهذا التصور للأيديولوجيا باعتبارها «فلسفة مضمرة» في الأنشطة العملية للحياة الاجتماعية، كامنة في الخلفية ومُسلَّمٌ بوجودها، هو ما يربطها «بالمنطق السليم»، وهو المصطلح الذي يتوسع جرامشي نفسه في استعماله في هذا الصدد. وأما بقية هذا الفصل فسوف نحاول تحديد خصائص المنطق السليم الأيديولوجي.
ولعلك تذكر أنني اقترحت في الفصل الثاني اعتبار أن الأيديولوجيا ترتبط ارتباطًا جوهريًّا بعلاقات السلطة. فلنفهم المنطق السليم — وفقًا لذلك — بأنه المنطق السليم في خدمة الحفاظ على علاقات السلطة غير المتكافئة. والقضية هنا قضية اختلاف في الدرجة. ففي بعض الحالات يكون التفاوت في علاقات السلطة تفاوتًا مباشرًا، مثل الافتراض المنطقي المشار إليه في الفصل السابق، أي القول بأن «حرية الكلام» مكفولة للجميع، وهو القول الذي يُخفي ويساعد على الحفاظ على واقع الحواجز المقامة في وجه شتى أنواع الكلام لمعظم الناس. وفي حالات أخرى، قد تكون العلاقة غير مباشرة، مثل نصوص «صفحة المشكلات» في القسم السابق كما سوف أسوق الحجة عليه أدناه. ولن يُفيدنا تصنيف «المنطق السليم» بتقسيمه إلى نوع «أيديولوجي» ونوع «غير أيديولوجي»، بل المفيد أن نقول: إن الافتراضات القائمة على المنطق السليم تساهم بدرجات مختلفة في الحفاظ على علاقات السلطة غير المتكافئة.

وتؤدي الافتراضات المذكورة مهامَّ أخرى، وأيضًا بدرجات مختلفة، مثل إنشاء علاقات التضامن وتدعيمها بين أفراد فئة اجتماعية معينة. فإذا استمعت إلى خطاب أفراد أسرتك أو أصدقائك أو زملائك فسوف تلحظ كثرة الافتراضات التي يُسلِّمون بصحتها. فإذا ردَدْتَ بأن ذلك أمرٌ تقتضيه كفاءة الحديث، بمعنى أنه لا فائدة من التصريح بما يفترضه الجميع، أجبتُك: أفليست المقدرة على التسليم بهذا الكم الهائل من الأمور دليلًا مهمًّا أيضًا على «انتمائك» لهؤلاء؟

إذن، ما الذي يجعل نص «صفحة المشكلات» أيديولوجيا (بشكل غير مباشر) في افتراضاته المضمرة؟ أفلا يتناول مشكلات شخصية محضة، لا علاقة لها بالسلطة الاجتماعية؟ إنه كذلك فعلًا، من وجهة نظر سطحية. إذ إن الفتاة «القلقة»، بنت مدينة تشيستر، تتلقى نصيحة تبين لها كيف تتغلب على «مشكلتها» من خلال التكيف مع واقع العلاقات بين الجنسين في فترة المراهقة. ومع ذلك فإن مشكلتها ليست — بوضوح — مشكلتها وحدها، بل يُشاركها فيها الملايين. ثم أليست هذه مشكلة اجتماعية لا مشكلة شخصية؟ لا شك أن مرحلة البلوغ تتسبب دائمًا في صعوبات لليافعين، ولكن هذه الصعاب تبدو شديدةَ الحدة في المجتمع المعاصر، بسبب طبيعة العلاقات بين الجنسين في فترة المراهقة، وبسبب العلاقات بين الجنسين وما تتسم به من تفاوت في السلطة بصفة أعم وأشمل، وفي آخر الأمر بسبب ما يشوب علاقتنا الاجتماعية من التشوه إلى حدٍّ ما. وأعتقد أن الدور الأيديولوجي للافتراضات المضمرة في هذه الحالة يكمن في تقديم إطار وإجراءات قائمة على المنطق السليم لحل المشكلات الاجتماعية التي تُعانيها هذه الفتاة بأسلوب فردي محض. ويعتبر ذلك «استعمالًا للمنطق السليم في الحفاظ على علاقات السلطة غير المتكافئة» بمعنى أنه يصرف الانتباه عن فكرة يمكن أن تؤديَ إلى التشكيك في علاقات السلطة والطعن فيها، وهي الفكرة التي تقول بوجود أسباب اجتماعية للمشكلات الاجتماعية ووجود حلول اجتماعية لها.

وتُحقق الأيديولوجيا أقصى فاعلية لها عندما تعمل في أقصى درجات الخفاء؛ فإذا أدرك المرء أن جانبًا معينًا من المنطق السليم يتسبب في الحفاظ على ضروب التفاوت في السلطة على حسابه، لم يَعُد ذلك المنطق منطقًا سليمًا، وقد يفقد القدرة على الحفاظ على ضروب التفاوت في السلطة، أي في أداء مهمته الأيديولوجية. وأما «الخفاء» المشار إليه فيتحقق عندما تتسرب الأيديولوجيات إلى الخطاب لا باعتبارها عناصرَ صريحةً في النص بل باعتبارها افتراضات في خلفيته تدفع منتج النص إلى رسم صورة العالم في النص بأسلوب معين، من ناحية، وتدفع مفسر النص إلى تفسيره بأسلوب معين، من ناحية أخرى. فالنصوص لا تصرح عادةً بالأيديولوجيات، ولكنها تقدم للمفسر مفاتيحَ معينةً تجعله يستعين بالأيديولوجيات في تفسيره للنصوص، فيُعيد إنتاج هذه الأيديولوجيات في غمار ذلك!

ولهذا السبب، فإنني أعلِّق أهميةً خاصة، من المنظور الأيديولوجي، على ما أشرتُ إليه في القسم السابق بتعبير «سد الثغرات» التلقائي، أي توفير «الحلقات المفقودة» اللازمة لتحقيق الترابط بين الأجزاء المتتابعة للنص، من دون الحاجة إلى «الاستنباط» أو تحقيق «المواءمة» تلقائيًّا بين النص والعالم. وكلما ازداد الطابع التلقائي للعمل الذي يؤديه افتراضٌ أيديولوجيٌّ معينٌ في بناء تفسيرات ذوات معانٍ مترابطة، قلَّ احتمال إدراكنا الواعي به، واكتسبَت مكانتُه الأيديولوجية ثباتًا وصلابة أكبر، وهو ما يعني أيضًا زيادة فعالية إعادة إنتاجه من خلال الارتكان إليه في الخطاب.

كيف تختلف افتراضاتك المضمرة عن المرأة عن افتراضاتك المضمرة عن الرجل؟ حاول أن تجد أمثلة في خطابك أو في غيره من ألوان سلوكك على استناد ترابط المعنى إلى افتراضاتك. حاول أن تنتبه إلى الأساليب التي تقدم بها النصوص التي تقرؤها (بما في ذلك الصور البصرية) مفاتيح معينة قائمة على الافتراضات الأيديولوجية، بالصورة المعتادة، بحيث تصبح لازمةً لتفسير النصوص.

(٣) التنوع والصراع في الأيديولوجيا

يقوم أصحاب السلطة بمحاولات دائبة لفرض صورة من المنطق السليم الأيديولوجي يقبلها الجميع، كما سوف نرى بعد قليل، ولكن الأيديولوجيا دائمًا ما تتسم بدرجة ما من التنوع، بل والتضارب والتصارع إلى الحد الذي يحول دون التحقيق الكامل للوحدة الأيديولوجية. ولهذا نستطيع أحيانًا (والحمد لله!) أن نحافظ على المسافة التي تفصلنا، باعتبارنا «مفسرين»، عن الافتراضات التي يقدمها منتجو النصوص موحين بأنها قائمة على المنطق السليم.
ونحن نحيط جميعًا بمجال معين من مجالات التنوع الأيديولوجي، ألا وهو مجال الأيديولوجيات السياسية. وربما تكون هذه نقطة انطلاق صالحة، ما دمنا جميعًا نستطيع العثور على نصوص سياسية يختلف المنطق السليم الذي تقوم عليه أيديولوجيا عن المنطق السليم عندنا. ويصدق ذلك قطعًا في نظري على النص التالي:

تكمن كفاءة الزعيم القومي الحق، بصفة عامة وفي جميع الأوقات، في الحيلولة أساسًا دون تشتيت انتباه الشعب، وفي التركيز دائمًا على عدو واحد. وكلما ازدادت وحدة العمل القائم على إرادة الكفاح الشعبية، ازدادت القوة المغناطيسية للحركة وازدادت قوة الدفع للضربة التي يضربها. ويتمثل جانب من جوانب عبقرية الزعيم العظيم في قدرته على أن يُظهر الخصوم المنتمين إلى شتى المجالات في صورة مَن ينتمون دائمًا إلى فئة واحدة فقط، فإذا تبينت الشخوص الضعيفة القلقة وجود أعداء شتى لهم، فلن يؤديَ ذلك إلا إلى أن تنشأ لديهم شكوك في صحة قضيتهم، وبيسر بالغ.

وما إنْ تتبين الجماهير ذوات الميول المتأرجحة أنهم يواجهون عددًا من الأعداء يفوق ما توقعوه، حتى تبدأ الأحكام الموضوعية في التدخل، وإذا بهم يتساءلون إن كان الآخرون جميعًا مخطئين فعلًا، وأمتهم أو حركتهم وحدها على صواب.

ويصحب ذلك أيضًا أول شلل لقوتهم. ومن ثَم فينبغي النظر دائمًا إلى أي عدد من الأعداء المختلفين اختلافات جوهرية باعتبارهم عدوًّا واحدًا، بحيث يتجه رأي جمهور مؤيدي الزعيم إلى أنهم يشنُّون الحرب على عدو واحد فقط. فمن شأن هذا أن يدعم إيمان المرء بقضيته ويزيد من المرارة التي يُكنها ضد الذي يهاجمه.

النص ٤–٣ المصدر: أدولف هتلر، كفاحي.

ما الذي يتضمنه هذا النص من افتراضات مضمرة عن طبيعة «الشعب»، وعن العلاقة بين الشعب والزعيم؟ هل تجد فيها أية إشكاليات؟

يفترض هذا النص «افتراضًا يعتبر حيلة بلاغية عتيدة»، وهو أن «الشعب» فرد واحد مركَّبٌ يتسم بصفات شخص واحد (الانتباه، الإرادة، القوة، المرارة، ووجود أعداء له) وبأنه يتمتع بالقدرة على «العمل الموحد»، وإن كان المرض (الشلل) يمكن أن يهدر هذه الصفات، نتيجةً للضعف أو القلق. ولما كان الشعب عاجزًا عن الحفاظ على الوحدة ووضوح الأهداف بنفسه (فالجماهير متأرجحة الميول) فإن على الزعيم أن يحقق له ذلك، أي أن يمنع التشتت ويضمن تركيز الانتباه. والنص يفترض أن زعامة شعب أو أمة تكمن في «عبقرية» شخص واحد، أي إنها ليست جماعية.

قد تبدو هذه الافتراضات عن العلاقة بين الشعب والزعيم افتراضات متطرفة، ولكن الفكرة التي تقول بأن الشعب فردٌ مركَّبٌ، مثلًا، فكرة بالغة الشيوع.

حاول أن تجد فقرة من نص سياسي (وقد يكون بيانًا أو مقابلة صحفية أو كتيِّبًا) تتضمن افتراضاتٍ مضمرةً عن الشعب والزعماء تراها غريبةً عليك، وحاول أن تُفصح عنها أقصى إفصاح تستطيعه. وحاول بعد ذلك أن تقوم بالمهمة الأصعب، وهي تكرار ما فعلته نفسه بفقرة تتفق مع نظرتك السياسية!

لا شك في وجود قدر كبير من التنوع في مدى التباين الأيديولوجي بين المجتمعات، أو بين الفترات المختلفة في تاريخ مجتمع من المجتمعات. ترى ما العامل الذي يحدد مستوى التباين؟ إنه أساسًا حالة العلاقات الاجتماعية والصراع الاجتماعي، بما في ذلك العلاقات الطبقية والصراع الطبقي. فإذا كان المجتمع يتسم بعلاقات سلطة واضحة ومستقرة، فللمرء أن يتوقع وجودَ قدرٍ كبير من التنوع الأيديولوجي. وما بال المجتمع الرأسمالي المعاصر إذن؟ هل نستطيع مثلًا تفسير حاله من خلال النموذج الأيديولوجي الكلاسيكي البسيط، حيث يتوحَّد السكان جميعًا في ظل الأيديولوجية السائدة للطبقة الحاكمة؟ ربما لم نستطع ذلك، وإن كان هذا النموذج يبدو معقولًا في الخمسينيات، مثلًا، أكثر مما يبدو عليه الآن. فالصورة المعاصرة تتميز في بعض المجالات على الأقل بتكاثر الأيديولوجيات التي يُشبهها ثيربورن «بالنشاز بين الأصوات والعلامات في مدينة كبيرة». أضف إلى ذلك أننا قد نجد في داخل مجتمع ما تباينًا بين المؤسسات المختلفة فيما يتعلق بدرجات التنوع الأيديولوجي.

والواقع أن التنوع الأيديولوجي يضع حدودًا لما أسميته المنطق الأيديولوجي السليم، وعلى الرغم من وجود حالات تشهد على معاملة بعض الأيديولوجيات التي لا يقبلها إلا عددٌ جدُّ محدود من الناس معاملة المنطق السليم (مثل حالتَي الحجر الكريم المرتبط بتاريخ الميلاد ونص هتلر)، فإنَّ أشدَّ صور المنطق السليم فاعليةً صورةُ المنطق الذي يقبله معظم أفراد مجتمع أو مؤسسة ما، إن لم يقبله الجميع. ومن الواضح أنه كلما ازداد التنوع الأيديولوجي في المجتمع قلَّ احتمال تحقيق ذلك.
إذن، ما مصادر هذه الأيديولوجيات المتنوعة؟ هل تتولد عشوائيًّا عند الأفراد على سبيل المثال؟ لا! بل إنها تنشأ من التباين في الموقع والخبرة والاهتمامات بين الفئات الاجتماعية التي تشتبك مع بعضها البعض في علاقات السلطة (وفي الصراع الأيديولوجي، كما سوف نرى). وقد تكون هذه الفئات طبقات اجتماعية، وقد تتمثل في مواجهة النساء للرجال، وقد تكون قائمة على الانتماء العرقي وهلمَّ جرًّا. وكثيرًا ما تكون فئات من نوع «محلي» مرتبط بمؤسسة معينة. (وارجع إلى مناقشتي في الفصل الثاني للعلاقة بين الفئات المؤسسية وغيرها من المؤسسات الطبقية أو القائمة على نصرة المرأة وهلمَّ جرًّا). وعلى سبيل المثال نرى أن مجال التعليم يضم فئات التلاميذ والآباء والمعلمين وقد تنشأ داخل هذه الفئات الفرعية، من ناحية المبدأ، أيديولوجيات تعليمية مختلفة. وأما الحالة التي يحتمل أن ينشأ ذلك فيها فهي تُصارعها للظفر بالسلطة المؤسسية.
ومن بين شتى الأشكال التي يمكن أن يتخذها الصراع الاجتماعي شكل الصراع الأيديولوجي وهو الشكل الذي يكتسب أهميةً خاصة في هذا السياق؛ لأن الصراع الأيديولوجي يقع بأبرز صورة في اللغة. ولنا أن نعتبر أن هذا الصراع لا يقع فقط داخل اللغة بالمعنى الواضح الذي يقع به داخل الخطاب، وهو الذي تشهد عليه النصوص اللغوية، بل أيضًا من حيث إنه يقع حول اللغة، بمعنى أن اللغة نفسها تجمع بين كونها غاية للصراع الاجتماعي وموقعًا لهذا الصراع. وقد رأينا ذلك عند مناقشة «السلطة من وراء الخطاب» في الفصل الثالث. والظفر بسلطة البتِّ في بعض الأمور مثل معاني الكلمات، وتحديد المعايير اللغوية أو التوصيلية التي تعتبر مشروعةً أو «صحيحة» أو «مناسبة»، يمثِّل جانبًا مهمًّا من جوانب السلطة الاجتماعية والأيديولوجية، ومن ثَم فهو موقع يدور حوله الصراعُ الأيديولوجي. وهكذا فإن النظر إلى الممارسات اللغوية القائمة ونظم الخطاب باعتبارها شواهد على الانتصارات والهزائم في الصراعات السابقة، وبصفتها أيضًا غنائم متنازع عليها، إلى جانب المفهوم التكميلي «للسلطة من وراء الخطاب»، سمة كبرى تتميز بها الدراسة النقدية للغة، وهي السمة التي تميز هذه الدراسة عن التيار الرئيسي «الوصفي» لدراسة اللغة (على نحو ما شرحته في الفصل الأول).
ويتخذ الصراع الأيديولوجي أشكالًا كثيرة ومختلفة في الخطاب، لكنني سوف أقدم هنا نموذجًا يتميز بالبساطة النسبية، مقتطعًا إياه من صحيفة يسارية أسبوعية، لإيضاح استعمال «علامات التنصيص المخيفة». ولاحِظ أن هذا نصٌّ غير مترابط؛ إذ إنني أجمع فيه بعض العبارات من مقال طويل كتبَته زُوِي تیلتسون.

حصن الأسرة عند ثاتشر

شُغِل اليسارُ في الآونة الأخيرة بالتصدي للتغيرات الجارية في الميدان الاقتصادي والعمالي. ويبدو أن انشغاله اشتدَّ فمنعه من توجيهِ أيِّ قدر من الاهتمام إلى مجال آخر يتعرض أيضًا لإعادة الهيكلة: أي مجال الأسرة.

ففي الأسبوع الماضي تلاحمَت صفوفُ العصبة التي تتكون من ثاتشر وجيليك وماري هوايتهاوس لشن هجوم جديد على «مجتمع الإباحة».

إن المطالبة بتشغيل عمال نصف مهرة، وعملهم نصف الوقت في أعمال لا تمثِّلها نقابات، تضمن تلبيةَ «حق العمل للمرأة». فالكثير من النساء مرغمات على العمل، ما دام الرجال يعجزون باطِّراد عن توفير «الأجور الكافية للأسرة».

ومع ذلك، فإن انصراف الدولة خلسةً من الباب الخلفي لم يمنع من حفاظها على يدها المتطفلة التي تضمن بها أن يتوافر التعليم الجنسي بالأسلوب «الأخلاقي الصالح» الذي يؤكد التنشئة على «ضبط النفس» و«الحياة الأسرية المستقرة» حتى يقوم بمهمة المخلِّص والمنقذ لكلِّ مَن يحتمل أن يتحول إلى «هيبي» [ثائر فوضوي] أو مثلي النزعة الجنسية.

النص ٤–٤ المصدر صحيفة سبعة أيام، يونيو ١٩٨٦م.
ما تأثير وضع تعبيرات مثل «مجتمع الإباحة» بين علامتَي تنصيص مخيفة في الأسلوب الذي يرى به القراء أمثال هذه التعبيرات؟ هل تحدث المقتطفات المخيفة دائمًا ما تحدثه من تأثير هنا؟ حاول ملاحظة ردود أفعالك عندما تُصادفك في صحيفتك المعتادة.

أعتقد أن التأثير في هذه الحالة ينحصر في تنبيه القارئ إلى أن هذه التعبيرات تُثير إشكاليات من نوع ما. وهذا يفصل بين القارئ وبين هذه التعبيرات، موضحًا أنها تنتمي إلى غيره، أي إلى الخصوم السياسيِّين للكاتب أو «للقارئ المفترض». ولكن وضع تعبير ما بين علامات تنصيص مخيفة قد يؤدي، على العكس من ذلك، إلى تدعيمها في بعض الحالات.

ومن الأسئلة الطريفة: كيف يعرف القراء في حالة معينة إن كان عليهم تفسير هذا المفتاح بهذا الأسلوب أو بذاك؟ والواضح أيضًا أن ذلك يعتمد على الافتراضات المضمرة (أو ما أسميته «موارد الأعضاء») التي يستندون إليها في تفسيرهم للنصوص. وفي حالة «مجتمع الإباحة»، على سبيل المثال، نجد أن معظم قراء صحيفة سبعة أيام (التي ينشرها الحزب الشيوعي) يُدركون قبل أن يشاهدوا المقالة أن هذا التعبير ينتمي إلى أيديولوجية غريبة على الصحيفة، ومن ثَم فسوف يفسرون التعبير، بلا إشكاليات، بالتبرؤ منه. ولو تصادف أن كانوا غيرَ واعين بها، فإن السياق المباشر سوف يساعدهم، فما دامت كلمة «عصبة» تقيم مسافة بين كاتبة المقال وبين ثاتشر وثُلَّتها، فمن المحتمل أن يفسِّر المرء الكلمات اللاحقة المقدمة بين «علامات تنصيص مخيفة» على أنها تُسهم أيضًا في إقامة المسافة المذكورة.

حاول متابعة ما تفعله واستنباط الافتراضات التي تحدد أسلوب تفسيرك لعلامات التنصيص المخيفة في شتى الحالات.

(٤) أنماط الخطاب المهيمنة والخاضعة للهيمنة

قد يتجلَّى الصراع حول اللغة في صورة صراع بين أنماط خطاب ذوات تنوُّع أيديولوجي. ولعلك تذكر أنني قدمتُ هذا المصطلح في الفصل الثاني للإشارة إلى ما يستند إليه الخطاب الفعلي من أعراف ومعايير وشفرات. وتتسم أنماط الخطاب بخصوصية أيديولوجية مثلما تتميز بالتنوع الأيديولوجي.
ما سببُ وجود صراع بين أنماط الخطاب؟ وما غايته؟ غايته إنشاء نمط ما أو الحفاظ عليه باعتباره النمط المهيمن في مجال اجتماعي معين، ومن ثَم إنشاء افتراضات أيديولوجية معينة باعتبارها تتفق مع المنطق السليم أو الحفاظ عليها. فلنضرب مثلًا آخر من حالة ذات شفافية نسبية وهي حالة الخطاب السياسي. إن كل حزب من الأحزاب المتعارضة في السياسة، أو كل قوة سياسية تحاول أن تفوز بالقبول العام لنمط خطابها الخاص بصفته النمط المفضل، ومن ثَم النمط «الطبيعي» آخر الأمر، للحديث والكتابة عن الدولة والحكومة وأشكال العمل السياسي، بل وجميع جوانب السياسة، إلى جانب ترسيم الحدود التي تفصل بين السياسة نفسها وسائر المجالات الأخرى. ولتتأمل مثلًا، التحليلات المتضادة للأزمة الاقتصادية في بريطانيا، وهي التي قدَّمها اتجاه المحافظين الثاتشري، والاتجاه الديموقراطي الاشتراكي (بجناحَيه الأيسر والأيمن)، والاتجاه الليبرالي، والاتجاه الشيوعي منذ أواخر السبعينيات، وتأمل كيف نجح أول هذه الاتجاهات في الهيمنة على الحياة السياسية في بريطانيا في الثمانينيات (انظر الفصل السابع الذي يقدم بعض النصوص والمزيد من المناقشة). وأما الغاية فلا تقتصر على تقديم المزيد من «الألفاظ وحسب»، بل إنها السيطرة على تضاريس العالم السياسي، وإضفاء المشروعية على السياسات، والحفاظ على علاقات السلطة.

وأما المجالات الرئيسية التي يدور فيها الصراع الاجتماعي فهي المؤسسات الاجتماعية، وأنماط المواقف التي تعترف بها كلُّ مؤسسة. ومن الأرجح أن تكون هذه المؤسسات أبنية اجتماعية مركَّبة، ومن المحتمل أن تستخدم المؤسسة الواحدة شتى أنواع الخطاب في شتى أنماط مواقفها، ومن ثَم فقد يتوافر لنا عددٌ من مجموعات مختلفة من أنماط الخطاب ذوات الأيديولوجيات المتنافسة التي تتفق مع أنماط المواقف المذكورة. ومع ذلك فنحن نشهد أوجهَ تشابهٍ وتداخُل مهمة بين أنماط الخطاب المرتبطة بموقف أيديولوجي معين، لا عبر أنماط المواقف في داخل مؤسسة ما وحسب، بل عبر المؤسسات أيضًا. انظر المناقشة في الفصل السابع.

ما الأشكال التي تتخذها علاقات الهيمنة بين أنماط الخطاب؟ قد يتمثل نمطُ الخضوع للهيمنة في علاقة معارضة لنمط مهيمن. ويُطلق عالم اللغة مايكل هاليداي على أحد أنماط خطاب المعارضة مصطلح اللغة المضادة. واللغات المضادة تُبنَى وتُستعمل بصفتها بدائلَ واعيةً عن أنماط الخطاب المهيمنة أو الثابتة. وقد تتضمن النماذجُ لغةَ المجرمين في عالم المدينة «السفلى»، أو لهجةً اجتماعية تتحول إلى لغة معارضة عن وعي، على نحو ما يحدث لإحدى اللهجات الاجتماعية «غير المعيارية» لفئة أقلية عرقية مثلًا، أو لفئة من الطبقة العاملة في أحد المجتمعات المحلية داخل إحدى المدن الكبرى.
ومن الممكن أيضًا أن يتمكن نمط خطاب مهيمن من احتواء نمط خطاب خاضع للهيمنة. ومن الحالات التي تمثل ذلك محاولة الخطاب الثاتشري أن يستوعب الخطاب الشعبي المضاد للبيروقراطية والدولة بتعديل مساره حتى يصبح ناقدًا لدولة الرعاية الاجتماعية، أو كما يسمِّيه المذهب الثاتشري «اشتراكية الدولة» (ارجع إلى التفاصيل في الفصل السابع). وحيثما يتحول الخطاب الخاضع للهيمنة إلى خطاب معارضة، تنشأ الضغوط التي تدعو إلى قمعِه أو استئصاله، في حين أن احتواءَه يُضفي عليه قدرًا معينًا من المشروعية والحماية، على الرغم مما يُقيدهما من شروط!

(٥) التطبيع وتوليد المنطق السليم

للمرء أن يتصور أن الهدف الذي يرمي إليه نمطُ الخطاب المهيمن آخر الأمر هو، كما يقول عالم الأنثربولوجيا الفرنسي بيير بورديو «الإقرار بالمشروعية من خلال عدم تبيُّن التعسف». وإذا شئنا التعبير عن الفكرة نفسها بأسلوب أقل إيجازًا (وأقل رشاقة) قلنا: إذا هيمن نمط من أنماط الخطاب على مؤسسة ما إلى الحد الذي يُتيح القمع أو الاحتواء الكامل تقريبًا للأنماط الخاضعة للهيمنة، فلن يراه أحد بعدها نمطًا تعسفيًّا (بمعنى كونه أسلوبًا واحدًا من بين عدة أساليب ممكنة «لرؤية» الأشياء) بل سوف يُنظر إليه باعتباره نمطًا طبيعيًّا ومشروعًا؛ لأنه أسلوب التصرف المتبع وحسب. ولسوف أُشير إلى هذا، كما أشار إليه الآخرون، بمصطلح تطبيع (naturalization) نمط الخطاب. والتطبيع يعتمد على الدرجة، وقد يتغير مدى تطبيع نمط من أنماط الخطاب، وفقًا للتحول في «ميزان القوى» في الصراع الاجتماعي.
ما الذي يربط التطبيع بالمنطق الأيديولوجي السليم الذي كنت أناقشه الآن؟ التطبيع هو الطريق الملكي للمنطق السليم. والأيديولوجيات تتحول إلى صور من المنطق الأيديولوجي السليم بقدرِ ما تتحول أنماطُ الخطاب التي تُجسِّدها إلى أنماط طبيعية. ويتوقف هذا على سلطة الفئات الاجتماعية ذوات الأيديولوجيات وأنماط الخطاب المطروحة في هذا المجال. ومن هذه الزاوية، يعتبر المنطق السليم في بُعده الأيديولوجي من الآثار الناجمة عن السلطة. ومن ثَم فإن تحديد المنطق السليم يتولاه إلى حدٍّ كبير أولئك الذين يمارسون السلطة والهيمنة في مجتمع ما أو إحدى المؤسسات الاجتماعية.
ولكن أنماط الخطاب تفقد فعلًا طابعَها الأيديولوجي — فيما يبدو — في غمار تطبيع أنماط الخطاب وخلق المنطق السليم، فالأرجح أن ينظر المرء إلى النمط المطبَّع لا باعتباره نمطًا خاصًّا بفئة داخل المؤسسة، بل باعتباره خاصًّا بالمؤسسة نفسها وحسب، ومن ثَم فهو يبدو محايدًا في ضروب الصراع على السلطة، وهو ما يوازي قولنا: إنه يشغل مكانًا خارج الأيديولوجيا. ومن العواقب المترتبة على ذلك أن اكتساب العلم بنمط خطاب مهيمن يُنظر إليه باعتباره مجرد اكتساب للمهارات أو التقنيات اللازمة للعمل في المؤسسة. ومن النماذج على ذلك أن يتعلم الطفل عند التحاقه أول الأمر بالمدرسة كيف يتصرف في قاعة الدرس خطابيًّا، أو أن يتعلم في مرحلة تعليمية لاحقة كيف «ينجح» في «اجتياز» مقابلة شخصية. ومن المفارقات أن التفريغ الظاهري للخطاب من مضمونه الأيديولوجي يعتبر في الحقيقة نتيجةً أيديولوجية جوهرية: أي إن الأيديولوجيا تعمل من خلال إخفاء طبيعتها، والتظاهر بأنها غير ما تبدو عليه. وعندما يتعامل علماء اللغة مع الممارسات اللغوية تعاملًا سطحيًّا (وقد قلت إن ذلك دأبهم في الفصل الأول)، فإنهم يساعدون في الحفاظ على النتيجة الأيديولوجية المذكورة.
والإقرار بظاهرةِ التطبيع يُوازي الإصرار على التمييز بين مظاهر النطق السليم السطحية في الخطاب وبين جوهره الدفين. ولكن ما الذي يمكننا أن نفهمه إذن من الشروح التي يقدمها الناس، أو التي يُقنعهم المحلل بتقديمها، لممارساتهم الخطابية؟ يجب أن ننظر إلى الشروح باعتبارها تبريرات لا يمكن أن تُؤخذ بدلالاتها السطحية فإنها ذاتها تحتاج إلى شروح. ولنا أن ننظر إلى التبريرات باعتبارها جزءًا لا يتجزَّأ من التطبيع، فإن توليد ممارسات الخطاب القائمة على المنطق السليم يصاحبها توليدُ تبريرات قائمة على المنطق السليم لهذه الممارسات، وهي التي تُضفي المشروعية عليها.

حاول أن تتذكر أشدَّ أنماط الخطاب إيحاءً «بالحياد» في ظاهرها، والتي تعرف أنها من نتائج التطبيع، والشروح التي يقدمها الناس لها باعتبارها مبررات. هل تؤمن بوجود أية أنماط تتسم حقيقة بالحياد؟

(٦) الأيديولوجيا والمعنى

من أبعاد «المنطق السليم» معنى الألفاظ، ونحن ننظر إلى معنى اللفظ (وغيره من التعابير اللغوية) باعتباره مسألةً حقيقة بسيطة، ولو نشأ أيُّ تساؤل عن «الحقائق»، رجعنا إلى المعجم باعتباره المكان الذي نستطيع التحقق منها فيه. وأما الألفاظ التي نعرفها خير المعرفة، فإنها تعني ما تعنيه وفق المنطق السليم وحسب! وسوف أقول فيما يلي إن المنطق السليم مشتبهٌ في أمره هنا وفي غير هذا المكان. ولكنني أرى أن المناقشة الموجزة لجانبَين من جوانب المعنى في اللغة يمكن أن تُفيدَنا في البحث النقدي في المعنى القائم على المنطق السليم، الأول طابع التغير في المعنى، والثاني طبيعة نظم المعاني.
لما كان المنطق السليم يُولي «المعجم» مكانةً كبيرة، فإننا نميل عمومًا إلى عدم تقدير مدى التغير في نظم المعاني في مجتمع ما تقديرًا صحيحًا. فعلى الرغم من أن بعض المعاجم الحديثة تحاول فعلًا رصدَ ذلك التغير، فإن «المعجم» باعتباره الحجة في معاني الألفاظ يعتبر إلى حدٍّ كبير ثمرةً من ثمار عملية تقنين اللغات المعتمدة/المعيارية، ومن ثَم فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرةِ وجودِ معانٍ ثابتة للألفاظ (انظر مناقشة التوحيد القياسي في الفصل الثالث). ما أيسر أن نُثبتَ أن المعانيَ تتغير بين اللهجات الاجتماعية (التي نوقشت في الفصل الثاني) ولكنها تتغير أيضًا أيديولوجيًّا، وهو الجانب الذي تتباين فيه أنماطُ الخطاب في نظم معانيها. ولنضرب مثلًا من الكلمة التي تتردد كثيرًا في هذا الكتاب: كلمة الأيديولوجيا نفسها.
إن كلمة الأيديولوجيا لا تُوحي قطعًا بأن لها معنًى واحدًا ثابتًا، فهي أبعد ما تكون عن ذلك! بل ليس من الغريب أن نسمع مَن يَصِف كلمات مثل الأيديولوجيا بأنها كلمات «لا معنى لها» ما دامت لها معانٍ بالغةُ الكثرة. ولكن المسألة لا تدعو إلى مثل هذا القنوط؛ فالأيديولوجيا لها فعلًا عددٌ من المعاني، ولكن التغير في معناها ليس لا نهائيًّا، كما أنَّ معانيَها تتجمع عادةً في عدد صغير من «الأسر» الصغيرة.
وسوف أقتصر على تحديد أسرتَين فقط من هذه الأُسَر. الأولى تنتمي خصوصًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، وإن كانت مألوفةً اليوم إلى حدٍّ كبير في بريطانيا، وتفسير الأيديولوجيا هنا يقول إنها «أي نظام اجتماعي مستقًى، كله أو بعضه، من النظرية الاجتماعية بأسلوبٍ واعٍ»، وتفسيرها الآخر ينتمي إلى التقاليد الماركسية ويقول: إن الأيديولوجيات «أفكار تنشأ من أية مجموعة من المصالح المادية» في غمار الصراع حول السلطة. والتعريفان اللذان أدرجتُهما هنا مقتطفان من كتاب ريموند ويليامز ١٩٧٦م.
والأمر الذي ينبغي تأكيده هنا هو أن المعاني المتغيرة للأيديولوجيا لم تتولد بصورة عشوائية بل تتفق مع مواقع أيديولوجية معينة، وتولدت في خضمِّ التصارع بين هذه المواقع. وهكذا فإن أول المعاني المذكورة للأيديولوجيا يَصِف الماركسية بأنها أيديولوجيا، إلى جانب الفاشية، ومن ثَم فهو يستخدم «المصطلح بالمعنى الذي بذل ماركس وأتباعه جهودًا جبَّارة لنشرِه» باعتباره «سلاحًا ضد الماركسية» على نحو ما يقول ديفيد ماكليلان.
فإذا انتقلنا إلى الجانب الثاني من جوانب المعنى التي أشرت إليها آنفًا، وجدنا أن معنى أية كلمة ليس معزولًا أو مستقلًّا؛ إذ تشتبك الألفاظ وغيرها من التعابير اللغوية في علاقات كثيرة متنوعة، مثل علاقات التماثل والتضاد والتداخل والاشتمال. ويعتمد معنى الكلمة الواحدة اعتمادًا كبيرًا على علاقة هذه الكلمة بغيرها. وهكذا فبدلًا من النظر إلى مفردات اللغة باعتبارها تتكوَّن من قائمة لا نظام لها من الألفاظ المفردة التي تحمل كلٌّ منها معناها الخاص علينا أن نتبيَّن أنها تتكوَّن من عناقيد من الألفاظ المرتبطة بنظم المعنى.
وهكذا فإن الإيضاح الكامل لنطاق التغير في كلمة مثل الأيديولوجيا يتطلب إجراء مقارنة بين نظم المعنى لا بين معاني الألفاظ وحسب. فالمعنى الأمريكي لكلمة الأيديولوجيا في فترة ما بعد الحرب المشار إليه عاليه، على سبيل المثال، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمذهب الشمولي، وأحيانًا ما تعتبر صفة الشمولي مرادفةً للأيديولوجي. كما أن المذهب الشمولي أو مصطلح الشمولية مصطلحٌ واسع يتضمن الفاشية، والشيوعية، والماركسية وهلمَّ جرًّا. وقد بُنيَ نظام المعنى حتى يجعل الأيديولوجيا «سلاحًا ضد الماركسية»! وعلى العكس من هذا، لا تظهر كلمة الشمولية في نظام المعنى الماركسي على الإطلاق، كما لا نجد أن مصطلحات الشيوعية/الماركسية والفاشية تمثِّل مصطلحات متجانسة مع الشمولية. وانظر الفصل الخامس حيث الحديث عن التجانس والترادف.
فلنَعُد الآن إلى الملاحظة الواردة في مستهل هذا القسم، والتي تقول بأن المعنى يعتمد فيما يبدو على المنطق السليم؛ إذ يتضح أن «المنطق السليم» في هذه الحالة ضربٌ من «خفة اليد» الأيديولوجية! تخيَّل مثلًا أن مصطلح الأيديولوجيا قد اتخذ يومًا ما — فيما يبدو — معنًى ثابتًا يستطيع المرء أن يتحقق منه في المعجم، وأنه ليس مثارَ خلاف. لن يعنيَ هذا إلا أن أحد «جوانب» الصراع بين نظم المعنى قد اكتسب هيمنةً لا تُنازع. ومن هذه الزاوية يصبح المعنى الثابت أثرًا ناجمًا عن السلطة، وهو في الواقع الأثر الأيديولوجي الذي أطلقتُ عليه تعبير التطبيع.
ولكن هل من المحتمل أن يكون هذا دائمًا حال المعاني الثابتة؟ ما بال حالة لا تتمتع فيها الكلمة فيما يبدو بأية مزية مثل كلمة «أنف»، بمعنى الأنف التشريحي المادي أي ذلك الجزء من الوجه الذي يقع فوق الفم وبه فتحتان؟ فهنا، على عكس كلمة أيديولوجيا، لا يوجد (في حدود ما أعرفه) اختلاف أو صراع حول الأنف. ومع ذلك فإن نظام المعنى الذي يجسِّد التصنيف المألوف لأعضاء الجسم يتميز فعلًا ببعض الخصائص المرتبطة بالتطبيع. ونلاحظ أولًا وجود عنصر مما يسمِّيه بوردیو «عدم تبين التعسف»، أي إن نظام المعنى يتضمن — فيما يبدو — علاقةً شفافة وطبيعية بين الأنف والجسم، كأنما يكون من المحال أن يُطلَق على الأنف اسمٌ آخر. وعلى سبيل المثال يستطيع المرء أن يتخيل وجود نظام للمعنى يتضمن مصطلحًا لما يُشبه «الوادي» [وهي الكلمة التي يستخدمها شيكسبير] الممتد بين الأنف وبين الشفة العليا، وإن كانت اللغة الإنجليزية في الواقع لا تتضمن لفظًا يُشير إليه. ونلاحظ ثانيًا أن نظام المعنى يستند في بقائه إلى السلطة، وهي هنا سلطة الخبراء المتخصصين وعلماء الطب، وسلطة بعض شرائح المثقفين (كالمعلمين، وواضعي المعاجم … إلخ) الذي يضمنون هذا وغيره من عناصر اللغة المعيارية المقننة.
سوف أفترض أن المعانيَ المعجمية الثابتة التي تُقدِّم نفسها إلى المنطق السليم باعتبارها حقائقَ بسيطةً، دائمًا ما تكون ثمرةً للتطبيع، ما دام تعسفُ نظم المعنى خفيًّا، ولو أن التطبيع لا ينجم إلا في حالات معينة (في حالة الأيديولوجيا لا الأنف مثلًا) عن الصراع الأيديولوجي ومن هنا تأتي أهميته الخاصة للدراسة النقدية للغة.
وينطبق ما قلتُه حتى الآن عن المعنى على الألفاظ والتعابير بصفتها من موارد الخطاب، أي بصفتها «مواد معجمية» لأنماط معينة من الخطاب، لا باعتبارها معاني الأقوال المنطوقة في الخطاب. ومع ذلك فإن التطبيع يُحدث آثارًا متوازية في الحالتين، فكلٌّ منهما يتضمن الإغلاق أو التقييد لنطاق المعاني الممكنة الكثيرة. فأما في حالة الألفاظ والتعابير التي تعتبر موادَّ معجمية، فإن ذلك يعني تثبيت معانيها، على نحو ما رأينا. وأما في حالة قول منطوق في الخطاب، فإنه يعني جعله يكتسب مظهر القول ذي التفسير الواحد وحسب، أي إكساب معناه مظهرَ الشفافية. وانظر مثلًا إلى معنى «أي خدمة؟» التي ينطقها رجل الشرطة الواقف في مكتب الاستقبال بمخفر الشرطة موجهًا إياها إلى شخص دخل لتوِّه ذلك المخفر. سوف يهتف معظم الناس «المعنى واضح!» فرجل الشرطة يدعو ذلك الشخص إلى أن يَصِف له «مشكلته»، وسبب وجوده في المخفر، حتى يستطيع رجل الشرطة «علاج» الأمر. ولكن تعبير «أي خدمة؟» يمكن أن يعنيَ أمورًا كثيرة مختلفة، وإن كان معناه هنا «مغلقًا»، كما يتضح بشفافية، داخل الممارسة المُطبَّعة الخاصة بالخطاب المرتبط باللقاءات ما بين الشرطة والجمهور (انظر القسم التالي الذي يقدم مناقشةً لتطبيع الممارسات ومثالًا واقعيًّا لاستعمال «أي خدمة؟»)

على نحو ما تُوحي به بداية الفقرة السابقة، تستطيع النصوص من زاوية معينة أن تنهل من «مورد» يتمثل في الألفاظ والتعابير ونظم المعاني، ولكن النصوص لا تقتصر على تمثيلِ نُظُمِ معانٍ سابقة بل تستطيع أيضًا توليدَ نظم معانيها الخاصة بدرجات متفاوتة من النجاح. وتتسم النصوص من هذه الزاوية بطاقة أيديولوجية خلاقة. والنص ٤–٥ هو الفقرة الأولى من افتتاحية إحدى الصحف.

صوت الحقيقة الرزين الخافت

منذ غزو جزائر فوكلاند يوم ٢ أبريل والأصوات تتكاثر. ولكن المسألة في جوهرها كانت شرًّا، ظلمًا وعدوانًا. لا يتشكك أحد في ذلك، حتى الموالون من أبناء الأرجنتين، ناهيك بالمعتذرين منهم، فالجميع يقبلون أن الأرجنتين لم يكن ينبغي لها أن تستخدم القوة لنصرة قضيتها. ولكن القوة استُخدمت فعلًا، ولم تكن لها ضرورة. وسمعنا تحت دقات الطبول الأرجنتينية أصواتًا تقول هذا أيضًا، مهما بلغ من خفوتها ورزانتها، وهي تعترف بأن الوحدة بين أعضاء المجلس العسكري الحاكم في بوينوس أيريس قد تكون عابرة، ما دامت قد خرجت من رحم الظلم. وأما الوحدة في بريطانيا فتقوم على اعتبار الغزو عملًا شريًرا لا شك في شره. ومن الواضح أن بعض الخلافات قد نشبت حول أسلوب التصدي لذلك الشر، لكننا يجب أن نعترف أيضًا أن أية حلول وسط مع الشر، أو إرضائه، تعني المخاطرة بالمشاركة في تحمل مسئوليته. وإذن فإن ردنا على الشر يجب أن يقوم على ضرورة التقيد بأقل قدر من الحلول الوسط، مع الحرص على ألا يؤدي ردنا عليه إلى مضاعفة الشر الأصلي.
النص ٤–٥ المصدر: صحيفة التايمز، ٢٠ مايو ١٩٨٢م.

ما نوع علاقة المعنى القائمة بين الغزو، والشر، والظلم، والعدوان؟ كيف تختلف علاقتها في هذا النص عن علاقتها في أنماط خطاب أخرى مما يخطر على بالك؟ هل تستطيع أن تَصِف هذا النص، دون تجاوز، بأنه خلَّاق من حيث أيديولوجيته؟

والجملة الثانية التي وضعت تحتها خطًّا جملة وصفية (فاعل + فعل + مفعول به) (انظر الفصل الخامس) وهي تُحدد العلاقة القائمة على الطبقة أو على عنصر طبقي بين غزو جزر فوكلاند، وبين الشر، والظلم والعدوان. وإدراج هذه الكلمات الثلاث باعتبارها صفات يُوحي بعلاقة معنى تقوم على التكافؤ بينها. وسبب هذا أن الكلمة التي تُشير إلى الطبقة يمكن أن تُستخدم عمومًا في الإشارة إلى عنصر من عناصر تلك الطبقة، وهكذا فإن الشرَّ والظلم والعدوان كلماتٌ يمكن أن تستخدم بالتناوب في الإشارة إلى الغزو. وبهذه الدلالة الخاصة نستطيع أن نقول إنها مترادفات نصية. ولكنها ليست مترادفةً في أيِّ نظام من نظم المعنى لأيِّ نمط من أنماط الخطاب التي أعرفها. ويُوحي ذلك من الزاوية الأيديولوجية بالمزج بين الأفعال السياسية/الحربية وبين الأخلاق (الشر) والقانون (الظلم)، وأما العدوان فهو تعبير جزئي (اكتسب الطابع العرفي من قبل) عن المزج المذكور. ويبدو أن الكاتب «ينتفع» باستخدام هذا المزج في الجملتين الأخيرتين من الفقرة؛ فالغزو يشار إليه بتعبير ذلك الشر، ويتحول ذلك إلى إشارات عامة للشر نفترض أنها تُحيلنا إلى الغزو. وهكذا يستطيع الكاتب أن يقول أشياء لا معنًى لها عن الغزو، دون أن يُبديَ الافتقار إلى الترابط. وانظر على سبيل المثال كيف يبدو الكلام غريبًا إذا استعاض المرء عن كلمة الشر بكلمة العدوان في عبارة «إن أية حلول وسط مع الشر، أو إرضائه، تعني المخاطرة بوجوب المشاركة في تحمُّل مسئوليته» مثلًا.
ما أشهر الأغراض التي تستخدم فيها الطاقة الأيديولوجية الخلَّاقة؟ يبدو أنها تستخدم في هذا المقتطف من صحيفة التايمز لغرض سياسي، فيما يُشبه الأزمة، لتسويد وجه «العدو» وإضفاء المشروعية على العمل العسكري البريطاني. وانطباعي الخاص يقول: إن الطاقة الأيديولوجية الخلَّاقة كثيرًا ما ترتبط بمعالجة شتى الأزمات. حاول أن تعثر على أمثلة أخرى، وربما تجدها خصوصًا في أجهزة الإعلام، وحاول التحقق من صدق الانطباع المذكور. وقد تحب أن تقارن هذا النص بالمقتطف المأخوذ من كتاب كفاحي آنفًا.

(٧) نظم التفاعل المعتادة وحدودها

المنطق السليم لا يُعطينا نظم المعنى فقط بل أيضًا ما يمكن أن نسمِّيَه «نظم التفاعل المعتادة» المرتبطة بأنماط خطاب معينة، وهي الأساليب العرفية للتفاعل بين المشاركين. فنحن نشارك في معظم الأحيان في معاملات البيع والشراء في الحوانيت، وفي المقابلات الشخصية مع الاختصاصيِّين الاجتماعيِّين أو العملاء، والاستشارات مع الأطباء أو المرضى، وهلمَّ جرًّا، من دون أن نلتفت إلى النظم العرفية للارتباط بالمشاركين الآخرين، وهي نظم مبنية في صلب أنماط الخطاب المذكورة، كما أنها لا تستحوذ على انتباهنا عمومًا إلا عندما يقع خطأ ما.

فيما يلي — على سبيل المثال — حوارٌ في أحد مخافر الشرطة بين رجلٍ دخل لتوِّه ذلك المخفر وبين إحدى الشرطيات. النقطة التي تسبقها مسافةٌ وتعقبها مسافةٌ أخرى تدل على وقفة قصيرة، والشرطة تُشير إلى وقفة طويلة، والأقواس العادية تدل على أن الكلام يتعذر تمييزه، والنقط المتوالية تدل على أن الدور (٨) قد قُوطع. هل توافق على أن شيئًا ما ليس على ما يرام، فيما يبدو؟ وما ذاك؟

(١) الشرطية : أي خدمة؟
(۲) الرجل : أوه. نعم. شُرطة؟
(٣) الشرطية : نعم —
(٤) الرجل : ترَين أنكِ تستطيعين مساعدتي؟
(٥) الشرطية : نعم.
(٦) الرجل : هل أنتِ شرطية؟ حسن.
(٧) الشرطية : (غير واضح) ما المشكلة؟
(۸) الرجل : يجب عليَّ. تجديد رخصة السيارة …

أما ما يبدو لي أنه على غير ما يُرام، فهو أن الرجل يجد إشكاليات فيما نعتبره مفترضًا وفق المنطق السليم عندما نطلب معلوماتٍ في أحد مخافر الشرطة؛ أي أنَّ مَن يقفون خلف مكتب الاستقبال من أفراد الشرطة حقًّا، وأنَّ أمثال هؤلاء جميعًا لديهم صلاحية «مساعدة» أفراد «الجمهور»، وأن المرأة الواقفة خلف مكتب الاستقبال شرطية فعلًا. إن هذا الحوار يكاد يصبح جزءًا من مشهد فكاهي؛ فالضحك هو السبيل الوحيد للرد على مَن يرفضون قبول الواضح الجلي! حاول أن تجد نماذج لحوارات كوميدية بُنيت على أساس هذا المبدأ.

وهذه الافتراضات القائمة على المنطق السليم تكمن خلف التفاعل الطبيعي المعتاد في العبارات الحوارية الاستهلالية في هذا النمط من الحالات، بمعنى أن المرء يتوقع أن عبارة الشرطية (١) سوف تُفهم على أنها تطلب تبيانًا «للمشكلة»، وهو الذي لا يأتي إلا في الدور رقم (٨) باعتباره أول ما يقوله الرجل! ومن الواضح من المعالم الشكلية للنص أن الشرطية والرجل يريان وجود إشكالية في الأسلوب الفعلي لتطور الحوار. فالشرطية تتردد مثلًا قبل أن تقول «نعم» في الدور (٥) وهي تنطق هذه الكلمة بنغمة واضحة الدهشة (وإن لم يتضح ذلك من النص المكتوب)، كما أنها تجد لزامًا عليها أن تطلب من الرجل تحديد «المشكلة» (وذلك غير لازم في الأحوال العادية)، وأما الرجل فيتردد فترة طويلة قبل أن يقول ما يقوله في (٤) ثم يُجيب السؤال الذي طرحه بنفسه في (٦).

ولكن ألَا يمكننا أن نعتبر هذه الآثار النصية لإحساسنا بالضيق ومحاولة «إصلاح» الحوار دليلًا على أن المشاركَين يتوقعان فعلًا، حسبما يقضي المنطق السليم، أن يتبع الحوارُ «مسارًا طبيعيًّا»؟ ولاحِظ أن هذه التوقعات القائمة على المنطق السليم تخضع لطبيعة المؤسسات الخاصة بها، فعلى الرغم من وجود أوجه شبه نوعية مثل أوجه الشبه بين أفراد الأسرة الواحدة فيها بين المقابلات الشخصية في جميع المؤسسات، فإن المقابلات الشخصية وتوقعاتنا بشأنها تختلف ما بين مخفر الشرطة، ومكان العمل، والجامعة. ولهذا السبب فمن المعقول بصفة عامة إجراء البحث في الممارسات اللغوية في مؤسسات اجتماعية محددة. (انظر الفصل الثاني الذي يناقش مسألة المؤسسات الاجتماعية، والفصل الثامن الخاص بالأنواع المشتركة بين المؤسسات، مثل المقابلات الشخصية).
وينطبق على هذه الحالة ما سبق أن قلته عمومًا عن التطبيع؛ إذ لا يوجد سبب جوهري يُبرر اتخاذ الاستفسارات في مخافر الشرطة الأبنية العرفية التي تتخذها؛ إذ نتصور وجود بدائل معينة وإن لم تكن قائمة في الواقع الفعلي، وهكذا فإن إضفاء الصفة الطبيعية على سلوك معتاد معين باعتباره السلوك الذي يُمليه المنطق السليم ثمرةٌ من ثمار السلطة، أو ثمرة أيديولوجية. ومن الجوانب الطريفة للحالات الشبيهة بالمقتطف الوارد عاليه والتي لا تسير فيها الأمور على ما يرام أن الطابع التعسفي للممارسات وأساليب حفاظها على السلطة، والتي عادةً ما تخفَى عن العيون، تغدو واضحة. وفي هذا المثال يسأل الرجل «ترَين أنكِ تستطيعين مساعدتي؟» وهذا يؤكد الافتراض الطبيعي عن الصلاحيات العامة للشرطة إزاء «مساعدة» الجمهور ومسئوليتها عن مساعدة الجمهور (بدلًا من التحكم في الجمهور) وهو الافتراض الذي من شأنه في الحالات العادية أن يمكِّن عبارة «أي خدمة؟» من الإتيان بتبيان «للمشكلة» من دون أية مقدمات أخرى. وهذا الافتراض عنصرٌ مهمٌّ من عناصر العلاقات بين الشرطة والجمهور، ومشروعية الشرطة وسلطتها.

ومن الحالات الأخرى التي يظهر فيها الطابع التعسفي لنظم التفاعل المهيمنة المُطبَّعة حالة مواجهتها أو تضادها مع الممارسات غير المهيمنة. وفيما يلي مقتطف من مشاورة طبية بين دكتور «د» ومريضة «م» مدمنة للكحوليات:

النص ٤–٦ المصدر «فنون الشفاء» بي بي سي ٢، ٨ أغسطس ١٩٨٦م.

ويختلف هذا الحوار من عدة جوانب عمَّا علَّمتني التجارب أن أتوقَّعه من حوار بين الطبيب والمريض أثناء الاستشارة. هل تشاركني الرأي؟ وإذا كنت تُشاركني الرأي فما أوجه اختلاف هذا الحوار عن الحوار المعهود؟

هذه هي الأمور التي لفتَت نظري: يسمح الطبيب للمريضة أن تقول ما لديها في الوقت الذي تُحدده بنفسها؛ ولعلك لاحظتَ فترة التوقف خمس ثوانٍ قبل أن يخطوَ الطبيب نحو إنهاء الاستشارة. ويقدم الطبيب أدلةً كثيرة على استماعه للمريضة واستيعابه ما تقوله. ولاحظ أن جميع الردود التي يُقدمها إليها تتخذ شكلَ ما يسمَّى أحيانًا القنوات الخلفية (أي أصوات الموافقة بالغمغمة: هم، نعم، فعلًا، تمام). وعندما يخطو الطبيب في اتجاه إنهاء الاستشارة بالحديث عن الاستشارات المقبلة، فإنه يتحدث بأسلوب لا يُوحي إلا بالحد الأدنى من التعليمات (إذا كنت تحبِّين أن تأتيَ … إلخ) كما يحاول التفاعل مع المريضة بالإشارة إلى قدرتها على الفهم (كما تعرفين) وإتاحة الفرصة لها كي تردَّ على اقتراحاته. ومع ذلك فقد خطر ببالي تعليقٌ على هذا النص يقول: «أحسست أن الطبيب كان يشعر بالسأم!» وهو ما يؤكد الحقيقة التي ذكرتها والتي تقول باحتمال تفسير سلوك الطبيب بطرق شتى.

هذا النص مقتطفٌ من برنامج عن عمل عضو من أعضاء الجمعية البريطانية للطب الكُليِّ، ويبدو أنها تقوم بعملها، بصفتها «جماعة ضغط» داخل مرفق الصحة القومي، بالدعوة إلى ما يسمَّى «الطب الكلي» أي علاج الشخص كله لا علاج المرض وحسب، واستخدام بعض أساليب العلاج المستقاة من الطب المِثْلِي [أي المداواة بما قد يؤدي إلى داء مماثل إذا تناوله مَن يتمتع بالصحة] وغيره من أشكال الطب «البديل» في الحالات التي تقتضي ذلك. ومن المتوقع أن تدور ضروبُ الصراع بين أمثال جماعة الضغط المذكورة وبين المؤسسة الطبية، في جانب منها حول اللغة، أي حول نوع اللغة التي يجب أن تستخدم في الاستشارات الطبية على سبيل المثال.

ما خبرتك بأشكال التفاعل المنوعة في الطب، بأنماطها المهيمنة وغير المهيمنة؟ انظر إلى الاختلافات في أعمار الأطباء، وفي دلالة كونهم رجالًا أو نساء، والاختلافات بين ممارسي الطب التقليدي وبين ممارسي الطب المثلي وطب الطبيعة [أي العلاج بعناصر الطبيعة كالماء والهواء والشمس] أو غيرهم من ممارسي أنواع الطب «البديلة» (إن كانت لديك خبرة بهم).

وتدور أمثال هذا الصراع أيضًا حول الحدود، وهو ما يأتي بنا إلى الجزء الثاني من عنوان هذا القسم. ومن الممكن أن ننظر إلى نص الطب الكلي من زاوية معينة باعتباره مزيجًا من الخطوات التفاعلية المرتبطة بأنماط متباينة للخطاب، وربما كانت تشمل الاستشارة الطبية، والمشورة الشخصية، والمحادثة العادية. وأظن أننا إذا اتخذنا وجهة نظر المؤسسة الطبية والنمط المهيمن للخطاب في الاستشارة، فلن نجد لأحاديث المشورة الشخصية والمحادثات العادية مكانًا داخل إطار الاستشارة الطبية الحقيقية. والواقع أن الأطباء يتبادلون الأحاديث «الخفيفة» مع مرضاهم، بل ويقدِّمون إليهم مشورات شخصية، ولكنني أرى أن هذه «الدردشة» عادةً ما تتسم بأنها مقدمة محددة أو ختام محدد للاستشارة الفعلية، ومن المحتمل أيضًا أن معظم الأطباء يرون أن تقديم المشورة الشخصية عملٌ منفصل، في بعض جوانبه على الأقل، عن الاستشارة الطبية. وهذه من المقولات التي قد تحتاج إلى إثبات صحتها أو بطلانها من خلال البحوث التفصيلية. وأما المسألة الرئيسية في إطار ما أرمي إليه هنا فهي أن أشكال ارتباط أنماط الخطاب المختلفة بعضها بالبعض، ومدى الفصل بينها أو مزجها معًا، تمثِّل جانبًا آخر من جوانب الصراع حول اللغة. ويتصل هذا بما ذكرته سلفًا في الفصلين الثاني والثالث عن نظم الخطاب، أي إن طريقة بناء نظام معين من أنظمة الخطاب، والعلاقات القائمة بين أنماط الخطاب التي تشكله، تخضع لعلاقات السلطة، ومن ثَم فإنها تخضع للتنازع عليها في صراعات السلطة.

(٨) الذوات والمواقف

أشار الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير إلى صلة مهمة بين الافتراضات القائمة على المنطق السليم (وهي التي يسميها «حالات الوضوح») الخاصة بالمعنى، وبين الافتراضات القائمة على المنطق السليم الخاصة بالهوية الاجتماعية أو «الذات» (وهو المفهوم الذي قدمته في الفصل الثاني). يقول ألتوسير: «مثل جميع حالات الوضوح، بما في ذلك ما يجعل الكلمة «تُطلق اسمًا على شيء» أو «أن يكون لها معنى» (وهو ما يتضمن من ثَم حالة الوضوح الخاصة بالشفافية في اللغة) نجد أن «حالة وضوح» كونك وإياي ذواتًا، وعدم تسبب ذلك في أية مشاكل، نتيجةٌ من نتائج الأيديولوجيا، بل نتيجةٌ أيديولوجية أولية.» ويُضيف ألتوسير قائلًا: «إن علماء اللغة، والذين يعتمدون على علم اللغة لشتى الأغراض، كثيرًا ما يصادفون الصعوبات التي تنشأ من تجاهلهم لعمل المؤثرات الأيديولوجية في جميع ضروب الخطاب، بما في ذلك ضروب الخطاب العلمي نفسها.»

و«شفافية اللغة» خصيصةٌ عامة يوضحها ما قلته عن المعنى في القسم قبل الأخير، أي إن العمليات الاجتماعية التي تشكِّل اللغات بصفة عامة (والمعاني بصفة خاصة) تختفي تحت ظاهر وجودها الذي يبدو طبيعيًّا وقائمًا على المنطق السليم.

ولكن هل تعتبر القياس الذي يعقده ألتوسير بين «الحقائق الواضحة» لكون الألفاظ تُفيد معانيَ معينةً وكونك وإیاي ذواتًا قياسًا قائمًا على المصادفة وحسب؟ لا أعتقد ذلك. فالمسألة هي أن النتيجة الأيديولوجية لتصورنا أن ذاتية المرء قائمةٌ على المنطق السليم وحسب وليست منتجًا اجتماعيًّا، نتيجة تبرز بوضوح وجلاء في اللغة والمعنى. ومعنى هذا أن التكييف الاجتماعي للأفراد يعني وضعهم في مواقع ذوات متباينة، وهم يتعرضون لها من خلال اكتسابهم العلم بالعمل داخل أنماط شتى للخطاب؛ إذ إن كلَّ نمط من أنماط الخطاب يُنشئ، كما سبق لي أن قلت في الفصل الثاني، مجموعته الخاصة من مواقع الذوات، والذين يعملون من خلالها يضطرون إلى أن يشغلوها.
ومواقع الذوات لها أنماط خطاب مقصورة عليها ومتغيرة أيديولوجيًّا، وانظر من جديد في نص الطب الكلي تجد أن أحد جوانب التضاد بين الاستشارات في خطاب الطب الكلي وبين نظائرها في خطاب الطب التقليدي يكمن في مواقع الذوات التي أُعدَّت للمرضى. وهذا مضمر في التعليقات التي أبديتُها على النص آنفًا، أي إن مشاركة المريض في الخطاب تختلف عمَّا تعلَّم المرء أن يتوقعه في الاستشارات الطبية، وهو ما يدل على اختلاف مواقع الذوات التي يشغلها المرضى في هذين النمطين من أنماط الخطاب. ولاحِظ السلطة التي تمثِّل الغاية في الصراع بين ضروب الخطاب في هذا الصدد: إنها السلطة المتمثلة في القدرة على خلق «المريض» في صورة المثل الأعلى الأيديولوجي، إن صح هذا التعبير؛ «فالمرضى» يصبحون مرضى من خلال تجسيد «التصور المرضي» للشخص. فالناس يشعرون أحيانًا بعدم وجود مصطلح محايد أيديولوجيًّا للإشارة إلى شخص يتلقَّى الرعاية الطبية، والمثال على ذلك إشارتهم إلى امرأة توشك أن تضع وليدها باسم «المريضة»، وهو مصطلح يصورها حتمًا في صورة امرأة لا حول لها ولا طَول، ولديها داءٌ معين، وتتطلب أن يفعل الناس أفعالًا من أجلها، لا أن تفعل هي شيئًا بنفسها (كأن تلد طفلًا!)

كيف تأتيك إجادة اللغة الإنجليزية الراقية بالنجاح وباعتراف جديد بمكانتك؟

تلعب اللغة — أي الجهد اليومي في الكلام والكتابة، وفي القراءة والتفكير — دورًا في حياتنا اليومية أهم كثيرًا مما نتبينه في العادة. والحقيقة أنها «سر» نجاح معظم البارزين من الرجال والنساء. ويصف هذا الكتيب أسلوبًا جديدًا فريدًا لتحسين لغتك الإنجليزية، وزيادة نجاحك التجاري والاجتماعي، واكتساب قوة جديدة في الفكر والتعبير، وزيادة ما تغتنمه من الدنيا.

فرض الاحترام

سوف تتعلم بالتفصيل كيف تسيطر على كل موقف وتؤثر فيه، بفضل قدرتك وحسب على استخدام الكلمة المناسبة في الوقت المناسب. زد على ذلك أنك تستطيع أن تتطلع بثقة إلى وضع حد للضجر والإحباط، واكتساب الاهتمام والاحترام اللذين يكسبان الأصدقاء ويؤثران في الناس.

نعم، إن إتقان اللغة الإنجليزية يمثل أهم وسيلة يمكنك أن تعتمد عليها في البحث عن النجاح.

النص ٤–٧ المصدر: الإنجليزية الراقية: لغة النجاح، ١٩٧٩م.

والنص ٤–٧ مثال آخر، مكتوب هذه المرة، والقضية فيه تتعلق بموقع الذات الذي يخلقه النصُّ للقارئ وتعريف هذا الموقع. فما الصفات التي تعتقد أنك تحتاج إلى التحلِّي بها حتى تُصبح النموذج المثالي للقارئ «المدرج» في هذا النص؟

«القارئ المثالي» ينشد النجاح، والطاقة على السيطرة والتأثير في الآخرين، ووضع حد للضجر والإحباط … وهلمَّ جرًّا. ويتعلق جانب من جوانب بناء صورة القارئ المثالي داخل النص بطبيعة أفعال الكلام التي تؤدي هنا (انظر الفصل السادس). وهي تتضمن ما يمكن أن نسمِّيَه التوكيد؛ فالعنوان مثلًا يتضمن فيما يبدو تأكيد أن إتقان اللغة الإنجليزية الراقية كفيلٌ بتوفير الاعتراف بالمكانة … إلخ، والجملتان التاليتان للعنوان الفرعي فرض الاحترام تتضمنان توكيدات أيضًا. فالمرء لا يؤكد عادةً للناس أن شيئًا ما سوف يحدث إلا إذا كانوا يريدون له أن يحدث. فالتوكيدات تُشبه الوعود في هذا الصدد، ولكن مَن يؤكد يختلف عمَّن يَعِدُ في أن الأول ليس ملتزمًا بتحقيق موضوع التأكيد شخصيًّا. وهكذا فالمفترض أن القارئ يريد «الاعتراف الجديد بمكانته» والنجاح … إلخ.
ومن الممكن أن نتصور العملية الاجتماعية الخاصة بإنتاج الذوات الاجتماعية باعتبارها الجهد الذي يُبذل بصورة مطردة في سنوات متعاقبة، بل طول العمر، لوضع الأشخاص في شتى مواقع الذوات. ومن ثَم فإن الذات الاجتماعية تتشكل من التجميع الخاص لمواقع الذوات. ويترتب على ذلك أن ترابطَ الذات ووحدتَها يقلَّان كثيرًا عمَّا يفترضه المرء عادة. وعلينا — بدلًا من ذلك — أن نفترض أن الذوات الاجتماعية «شخصيات مركبة» كما يقول جرامشي، أو كما يقول فوكوه، أن الذات «منتشرة» بين شتى مواقع الذوات: «فليس الخطاب بالتجلي الجليل لذاتٍ تفكر وتعرف وتتكلم، بل هو على العكس، كيان شامل يمكن أن تتحدد فيه طبيعة انتشار الذات وقطيعته مع نفسه». وتترتب على هذا آثار عميقة، نص عليها فوكوه، فيما يتعلق بميلنا إلى اعتبار المتكلم أو الكاتب مؤلف كلماته، فعلى العكس من ذلك توجد زاوية يمكن من خلالها اعتبار المتكلم أو الكاتب نتاجًا لألفاظه. ولكننا يجب ألَّا نبالغ في تطبيق هذه المقولة، فالواقع أن لدينا — كما ذكرت في الفصل الثاني — عمليةً جدلية في الخطاب تجعل الذات خلَّاقة ومخلوقة معًا. انظر أيضًا الفصل السابع.
ما مغزى إطلاق ألتوسير صفةَ «الوضوح» على كون المرء ذاتًا ناجمة عن الأيديولوجيا بل النتاج الأيديولوجي الأوَّلي؟ أعتقد أن جانبًا من المعنى يكمن في عدم وعيِ الناس بمواقعهم الاجتماعية باعتبارهم ذواتًا؛ إذ يرون بانتظام أن هوياتهم الذاتية قائمة على نحوٍ ما خارج المجتمع وأنها سابقة على المجتمع. وأمثال هذه التصورات الأيديولوجية الفاسدة تمثِّل أساس شتى النظريات المثالية للمجتمع البشري، القائمة على اعتبار الفرد سابقًا على المجتمع، والتي تحاول أن ترى أن المجتمعات منبثقة من «خصائص» الفرد لا العكس. وإطلاق ألتوسير وصفَ النتيجة الأيديولوجية «الأولية» على هذا يعني أن تشكيل الذوات يمثل موضوع الأيديولوجيا كلها؛ فالأيديولوجيا مهما تكن صورتها تتعلق على نحو ما بمواقع الذوات.
وما قلته عن الذوات في الخطاب ينطبق أيضًا على مواقف الخطاب. فنحن نعتبر المواقف التي نمارس فيها الخطاب «حالات وضوح» أيضًا ولا تتسبب في أية مشكلات. ومع ذلك فهنا أيضًا أقول: إن هذه المواقف أبعد ما تكون عن الوجود قبل الخطاب وأبعد ما تكون استقلالًا عنه، على نحو ما نفترض في العادة استنادًا إلى المنطق السليم، بل إنها تعتبر من زاوية معينة من نواتج الخطاب؛ فكل نمط من أنماط الخطاب وكل نظام من نظم الخطاب له قائمة خاصة به من أنماط المواقف، ومن ثَم فإن لدينا قوائمَ مختلفةً تتسم بأيديولوجيات متضادة.
وتعتبر مواقع الذوات وأنماط المواقف الخاصة بأنماط الخطاب المهيمنة (مثل معاني ألفاظها وخصائص نظم تفاعلاتها) مما يقبل التطبيع، وأرجو أن أكون قد أوضحت، بعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة من مراحل الحجة التي أسوقها، نطاق القضايا الهائلة التي تدور حولها ضروبُ الصراع في اللغة، وكذلك حول اللغة بوجهٍ خاص، ومدى المكاسب التي يمكن أن تتحقق من خلال إنجاز التطبيع. وانظر في العلاقة بين التطبيع وبين الأساليب الثلاثة التي ذكرت أن السلطة تستخدمها في فرض القيود على ممارسة الآخرين في الفصل الثالث؛ فإن تطبيع معاني الألفاظ أسلوبٌ ناجع لفرض القيود على مضمون الخطاب، وكذلك في الأجل الطويل على المعرفة والمعتقدات. ويصدق هذا على تطبيع أنماط المواقف، ما دام يساعد على تدعيم صور معينة للنظام الاجتماعي. وتطبيع صور التفاعلات أسلوبٌ فعال لفرض القيود على العلاقات الاجتماعية التي يجسِّدها الخطاب، وفرض القيود على نظام العلاقات الاجتماعية، في الأجل الطويل، لأي مجتمع. وأخيرًا أقول: إن تطبيع مواقع الذوات يفرض بداهةً قيودًا على الذوات، ويُسهم هذا وذاك، في الأجل الطويل، في التكيف الاجتماعي للأشخاص وتحديد «رصيد» الهويات الاجتماعية في أية مؤسسة وأي مجتمع. وإذن، فإن التطبيع أقوى سلاح في ترسانة السلطة، ومن ثَم فهو مركز بالغ الأهمية من مراكز الصراع.

(٩) «إثارة المتاعب» وضع المنطق السليم موضع الصدارة

سوف أناقش في الفصل التاسع القضايا المعقدة الناجمة عن العلاقة بين الدراسة النقدية للغة، والوعي «الذاتي»، والتحرر الاجتماعي، ولا أريد الاستفاضة في استباق تلك المناقشة هنا. ومع ذلك، فنظرًا للتركيز في هذا الفصل على الطبيعة «الخلفية» وغير الواعية للمنطق الأيديولوجي السليم؛ فربما تكون هذه لحظة مناسبة لأن أقول شيئًا ما عن إمكان وضع المنطق السليم في موقع الصدارة، وهو ما ينبغي أن يحدث حتى يستطيع الناس أن يكتسبوا الوعيَ الذاتي بالأمور التي يُسلِّمون بها من دون تفكير.
رأينا في قسم نظم التفاعل المعتادة وحدودها أن أحد المواقف التي تظهر فيها عناصر المنطق السليم في الخطاب صريحة واضحة الموقف الذي يختلُّ فيه مسار الخطاب. ومن ثَم فللدراسة النقدية للغة أن تُركِّز على حالات انهيار التواصل، أو حالات سوء التواصل، أو الحالات التي يحاول الناس فيها «إصلاح» خطابهم، باعتبار ذلك وسيلة من وسائل تأكيد و«تصدير» المنطق السليم في الخطاب [تصدير = الوضع في موضع الصدارة].

ومن المواقف الأخرى التي يجري فيها تلقائيًّا «تصدير» عناصر المنطق السليم، الموقف الذي يتسم بوجود هوَّة اجتماعية أو ثقافية بالغة الاتساع بين المشاركين في حوار ما، أو بين المشاركين فيه والمراقبين له، بحيث يؤدي اتساعُها إلى إدراك البعض ما يتميز به المنطق السليم عند البعض الآخر من تعسُّف ونسبية اجتماعية. ويترتب على ما سبق قوله في هذا الفصل عن الطابع الأيديولوجي المتغير والصراع أن ذلك يحدث على نطاق واسع داخل المجتمعات وما بينها، وقد رأينا مثالًا له في نص هتلر. كما يستطيع المحلل البناء أيضًا على هذا الأساس، مركزًا على الصراع الأيديولوجي في الخطاب، أو كاشفًا للناس عن عينات من الحديث أو الكتابة التي ربما يجدون فيها غرابةً أيديولوجية.

والاحتمال الثالث تعمُّد قلقلة المنطق السليم من خلالِ تدخُّلٍ من نوع ما في الخطاب، ولنا في المهام التجريبية التي كلَّف بها عالم الاجتماع هارولد جارفنكل طلابه المثال على ذلك. وهاك مقتطفًا من وصف الطلاب لهذه التجارب.

كان «الذات» [موضوع التجربة] يقول للذي يقوم بالتجربة، وهو من أفراد المجموعة التي تستخدم سيارة الذات، عن انفجار أحد إطارات العجلات في اليوم السابق أثناء الذهاب إلى العمل.

  • الذات: انفجر إطار إحدى العجلات.
  • القائم بالتجربة: ماذا تعني بانفجار الإطار؟
(جارفینكل ١٩٦٧: ٤٢)

وأحس الذات بالذهول لحظة، ثم ردَّ بنبرة عدائية: «ماذا تعني بقولك، ماذا تعني؟» انفجار الإطار انفجار إطار. ذلك ما أعنيه. لم يحدث أمر عجيب. يا لَه من سؤال أخرق!

أي إنَّ ردود الذوات على محاولات القائم بالتجربة إضفاء الغرابة على عالم الخطاب القائم على المنطق السليم تبيِّن إلى أيِّ مدًى يشعر الناس بأن العالم صلبٌ وحقيقي. وكما نرى في هذا المثال سرعان ما يبدو الناس غير مصدقين، ويشعرون بالضيق والغضب عند قلقلة هذا العالم، ومن الأرجح أن ينتهوا إلى أن مَن يُقلقه يتحامق أو يعاني من مرض عقلي. وإذن لا بد من الحذر في استخدام هذا الأسلوب!

(١٠) ملخص

فلألخص الآن ما قلته في هذا الفصل. كانت نقطة انطلاقي طبيعة الخطاب القائم على المنطق السليم، ثم قلت إن الترابط في الخطاب يعتمد على المنطق السليم في الخطاب. وبعدها قلت إن المنطق السليم في الخطاب أيديولوجي بقدر ما يُسهم في الحفاظ على علاقات السلطة غير المتكافئة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولكن الأيديولوجيا لا تقوم في جوهرها على المنطق السليم؛ فبعض هذه الأيديولوجيات تكتسب تلك المكانة في غمار الصراعات الأيديولوجية، وهي التي تكتسب الشكل اللغوي للصراعات في المؤسسات الاجتماعية بين أنماط الخطاب المنوعة أيديولوجيًّا. وأمثال هذه الصراعات تُحدد علاقات الهيمنة فيما بينها والأيديولوجيات المرتبطة بها. ويخضع الخطاب المهيمن لعملية تطبيع، ومن خلالها يبدو كأنما فقد ارتباطه بأيديولوجيات ومصالح معينة، وأصبح يمثل الممارسة القائمة على المنطق السليم للمؤسسة. وهكذا فعندما تتحول الأيديولوجيا إلى منطق سليم فإنها تفقد ظاهريًّا كيانها الأيديولوجي، وهذا في ذاته من نواتج الأيديولوجيا؛ إذ إن الأيديولوجيا لا تمارس فاعليتها الحقة إلا عندما تكون مقنَّعةً.
وناقشت التطبيع بعد ذلك في شتى أبعاد المنطق السليم الخطابي. فأما بالنسبة لمعاني التعبيرات اللغوية ونظم المعاني، فقد بينت أن التطبيع يؤدي إلى إغلاق المعنى، وهو الذي يتجلَّى في التثبيت الظاهر لمعاني الألفاظ «المعجمية»، وفي الشفافية الظاهرية لمعاني الأقوال المنطوقة. وأما بالنسبة لنظم التفاعل المعتادة فإن بداهة الأساليب العُرفية للتفاعل (وهي تعسفية في آخر المطاف) ناجمة عن التطبيع، وهو ما يصدق على علاقاتها وحدودها. وأتيت أخيرًا إلى الذوات وإلى المواقف الخاصة بالخطاب، قائلًا: إن بداهة وضوحها واستقلال خطابها ظاهريًّا من النواتج الوهمية للتطبيع، فإن هذا وذاك جميعًا من نواتج الخطاب إلى درجة كبيرة. واختتمت الفصل بمناقشة الطرائق التي يمكن بها منح الصدارة للمنطق السليم أيديولوجيًّا.

المراجع

توجد مناقشة «لعالم المنطق السليم في الحياة اليومية» في جارفنكل (١٩٦٧م)، ومناقشة مفيدة للاستنباط وعلاقته «بسد الثغرات» تلقائيًّا في الفصل السابع من براون ويول (١٩٨٣م). وأما عن الأيديولوجيا فارجع إلى ألتوسير (١٩٧١م) وماكليلان (١٩٨٦م) وإيجيلتون (١٩٩١م) وزيزيك (١٩٩٤م) وفان دييك (١٩٩٨م). وملاحظات جرامشي عن المنطق السليم والأيديولوجيا موجودة في جرامشي (١٩٧١م). وانظر أيضًا ثيربورن (١٩٨٠م). وكتاب هول (١٩٨٢م) مفيد بالنسبة للأيديولوجيا والتطبيع. وأما «اللغات المضادة» فارجع إلى دراسة تحمل ذلك العنوان كتبها هالیداي (١٩٧٨م). وتوجد معالجات قيمة للكثير من موضوعات هذا الفصل في بوردیو (١٩٧٧م) وبیشو (١٩٨٢م) وج. ب. طومسون (١٩٨٤م). وفيما يتعلق بالخطاب والأيديولوجيا في التحليل الفرنسي للخطاب انظر ج. ویلیامز (١٩٩٩م). ومقولة ألتوسير عن المعنى والذوات مقتبسة من ألتوسير (١٩٧١م). وتعليقات فوكوه عن الذات موجودة في فوكوه (١٩٨٢م). والصياغات البديلة لممارسات الطب النفسي المستشهد بها في السؤال رقم ١ مأخوذة من إدیلمان (١٩٧٤م). وعن «حفظ ماء الوجه» ارجع إلى براون وليفنسون (١٩٧٨م) وتوماس (١٩٩٥م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤