الفصل السابع

الإبداع والصراع في الخطاب: خطاب المذهب الثاتشري

من أهداف هذا الفصل سدُّ ما يُشبه الفجوة التي تركتها عند مناقشة الإجراءات في الفصلين الخامس والسادس؛ إذ قلت كلمات قليلة نسبيًّا عن عمليات إنتاج النصوص. وللفصل هدف آخر وثيق الصلة بهذا الهدف، وهو بلورة مفهوم الذات في الخطاب، الذي قدمته في الفصلين الثاني والرابع؛ إذ إنَّ عرضي لمفهوم الذات فيهما يقول إنه يتسم بخصيصتَين متضادَّتَين فيما يبدو، الأولى هي أنه يخضع لسيطرة المجتمع، والثانية أن الذات قادرة على الإبداع الفردي، بمعنى أن الذات مرغمة على السلوك في الخطاب سلوكًا تُمليه مواقع الذوات التي سبق تشكيلها، وأنها مع ذلك قادرة على السلوك الإبداعي الذي يغير من أعراف الخطاب. وسوف أسوق الحجة على أن السيطرة الاجتماعية والإبداع الفردي لا يتسمان بالتضاد الذي يبدوان عليه في الظاهر.

وللفصل هدف ثالث وهو إتاحة الفرصة لنا لتطبيق الإجراءات التي قدَّمتُها في الفصلين الخامس والسادس على مثال مطوَّل. وسوف تستغرق معظم صفحات هذا الفصل دراسة حالة خاصة بخطاب المذهب الثاتشري، أي بالخطاب السياسي الذي اقترن بما يسمى الاتجاه الثاتشري في المذهب المحافظ البريطاني. وسوف نعمل على تحليل مقتطف من مقابلة إذاعية مديدة مع السيدة ثاتشر نفسها. وسوف يدور هذا القسم من هذا الفصل حول سلسلة من الأسئلة عن المقابلة. وعلى غرار الفصول السابقة، أرجو أن يعالج القراء بأنفسهم هذه الأسئلة قبل قراءة إجاباتي المقترحة.

(١) إنتاج النصوص

فلننظر أولًا وقبل كل شيء إلى الصلات التي تربط ما بين إنتاج النص، وبين السيطرة الاجتماعية، وبين إبداع الذات. وأريد التركيز في هذا القسم على أحد الدوافع الذي قد لا يكون بالضرورة أو حتى في الأحوال العادية صادرًا عن وعي الذين يُنتجون النصوص، أي محاولة حل مشكلات من شتى الأنواع في علاقتهم بالعالم وبغيرهم من الناس. ولنا أن نصنف أمثال هذه المشكلات بأسلوب التمييز — الذي غدا مألوفًا للقارئ — بين المضمون، والعلاقات والذوات. وقد يصبح موقع المنتج إشكالية في أي جانب من هذه الجوانب.

أما إشكالية موقف المنتج فيما يتصل بالمضمون فتنشأ عندما ينشأ تفاوت بين الصور التي تمثِّل العالم وتقوم على المنطق السليم (الأيديولوجي) عند المنتج وبين العالم نفسه. وقد يحدث هذا بسبب تغيرات معينة في العالم على سبيل المثال، أو لأن الصور التمثيلية في ذهن المنتج قد اصطدمت بصور تمثيلية لا تتفق معها. ومن الحالات المألوفة المنتمية إلى النوع الأول حالة الصحيفة التي تحاول مثلًا أن تتعامل مع حدث يتناقض فيما يبدو مع أسلوبها المعتاد في تصوير ذلك «الجزء» من العالم، ولنَقُل: إن صحيفةً تؤيد الشرطة بانتظام، وفي السراء والضراء، وجدت أن عليها أن تتعامل مع الإصابات الخطيرة التي تعرَّض لها أفراد «الجمهور» على نطاق واسع أثناء فض الشرطة لصفِّ العمال الذين يمنعون غيرهم من دخول المصنع أثناء الإضراب عن العمل.
وقد تنشأ إشكالية من حيث العلاقات في موقف المنتج، بمعنى العلاقات الاجتماعية بين منتج النص ومفسِّره أو مفسِّريه (المخاطب أو الجمهور). وقد نجد مثالًا عليه في أيِّ تفاعل في أيِّ نمط من شتى أنماط سياقات الحال، إذا كان المنتج والمخاطب ينتميان إلى جنسين مختلفين. والتفاعل الذي يختلف فيه الجنسان يُثير إشكاليات على نطاق واسع هذه الأيام بسبب ازدياد الخلاف حول المواقع الاجتماعية النسبية للمرأة والرجل.
وأما إشكالية موقع المنتج من حيث الذوات فقد تتعلق بموقع الذات أو بالهوية الاجتماعية للمنتج، أو بموقع الذات أو الهوية الاجتماعية للمفسر أو المفسرين. ويمكن ضرب الأمثلة على النوع الأول من مجال التعليم حيثما نشأ الشك في موقع الذات الخاص «بالمعلم» على وجه الدقة، أي على سبيل المثال عندما يقوم التلاميذ أو الطلاب بتضييق الفجوة بينهم وبين المعلم، إما باكتساب منزلة الكبار أو باكتساب معارف أو مؤهلات تعادل ما يتمتع به المعلم منها. وهذه الحالة الأخيرة تتعلق تحديدًا بالمواقف التي يمثِّل فيها موقفُ المفسر مشكلةً لمنتج النص. وقد يحدث هذا مثلًا للسياسي الذي يحاول الحفاظ على المشاركة في الأيديولوجيا أو الولاء، أو إيجاد هذه المشاركة، بين أفراد الجمهور (الذين يمثلون قطاعات شتى من السكان). ودراسة الحالة الواردة في مكان لاحق في هذا الفصل تُقدم لنا مثالًا على ذلك.

وليست هذه الأنماط الثلاثة من المشكلات الخاصة بموقع المنتج ذات طبيعة خطابية محضة، ولكنني أعرضها بأسلوب يرمي إلى الكشف عن جوانبها الخطابية. ومن الممكن النظر إلى هذه الأبعاد الخطابية لمشكلات المنتجين باعتبارها من ثمار زعزعة أعراف الخطاب، أو إذا استعملت المصطلح الذي قدمته في الفصل الثاني، باعتبارها نتيجة لهدم نظم الخطاب، بمعنى أن العلاقة المستقرة نسبيًّا بين أنماط الخطاب في نظام من نظم الخطاب تتعرض للتقويض. وأقول بعبارة أخرى: إن منتجي النصوص يصادفون مشكلات؛ لأن أساليب العمل المألوفة لم تَعُد متاحةً لهم مباشرة. والواقع أن هدم نظم الخطاب له أسباب اجتماعية، على نحو ما سوف نرى أدناه.

وإذا كانت المشاكل نتيجة للهدم، فإن حلَّها يقتضي قدرًا من إعادة البناء، أي يتطلب أن تكون الاستراتيجية الخاصة بحل إشكالية موقع المرء استراتيجية خلاقة، وعادة تنظيم أنماط الخطاب المألوفة في مجموعات جديدة باعتبار ذلك وسيلة لإيجاد طرائق جديدة للعمل حتى تحلَّ محلَّ الطرائق القديمة التي أصبحت إشكالية. وقد نجد أدلةً على إعادة البناء في المعالم الشكلية لنص من النصوص؛ فالمعالم الشكلية تعتبر آثارًا لعملية الإنتاج، وإذا كانت هذه العملية تقوم على الجمع بين أنماط منوعة للخطاب، فلنا أن نتوقع التنوع في الآثار المذكورة. ولنا أن نعبر عن ذلك بما جاء في الفصل الخامس قائلين: إن المعالم الشكلية ذات قيم خبراتية وعلائقية وتعبيرية، ومن ثَم فإننا نجد الدليل على إعادة البناء الخلاقة إذا كانت المعالم الشكلية تتضمن تضاربًا في بُعد من أبعاد القيمة المشار إليها، أو في أكثر من بُعد واحد.

وأحيانًا ما نجد أن آثار أنماط الخطاب المختلفة التي نهل منها النصُّ واضحةٌ ويسهل الفصل بينها نسبيًّا في النص. ولكن على منتجي النصوص إذا أرادوا النجاح في حل المشكلات من طريق إعادة البناء أن يجعلوا نصوصهم تبدو «متلاحمة»، بمعنى أن آثار أنماط النصوص المختلفة فيها لا يسهل الفصل بينها، وأن يحققوا تناغم القيم فيما بينها. ومن المحتمل أن يحتاج هذا إلى مرور فترة زمنية معينة، فالنصوص التي تتولَّد من إعادة بناء معينة لأنماط الخطاب قد يزداد تلاحمها باطراد، ثم يتحقق أخيرًا عند اكتساب التركيبة الجديدة لأنماط الخطاب الصبغة الطبيعية. وهكذا فإن حالات إعادة البناء التي ينجح فيها منتجو النصوص في ضروب معينة من الخطاب استجابة لخبرتهم بإشكاليات معينة تصبح إعادة بناء لنظام الخطاب. وقد يؤدي ذلك إلى أن يتحول ما كان في بدايته تركيبة جديدة من أنماط الخطاب إلى نمط خطاب مستقل. وينطبق هذا على حالة الإعلانات؛ إذ إنها تستعير في البداية معلمًا من معالم التفاعل المباشر (وجهًا لوجه) مثل الشكل المباشر للتخاطب باستعمال الضمير «أنت»، ولكن هذا الاستعمال اكتسب الصفة الطبيعية الآن إلى الحد الذي أصبح معه ما كان يمزج بين نمطين من أنماط الخطاب، أي «العام» و«الخاص»، نمط خطاب مستقل في رأي البعض. انظر الفصل الثامن للمزيد من مناقشة الإعلان.
كان تركيزي إلى الآن منصبًّا على ما يواجهه المنتج النص من مشكلات وعلى محاولات حلها. وكان هذا ينتمي إلى مجال التفسير ويتعلق بالإجراءات ولكن التفسير يحتاج إلى استكماله بمرحلة الشرح، فإذا كان هدم نظم الخطاب وإعادة بنائها يؤثران في الأفراد ويتطلبان الإبداع الفردي، فإن عوامل التحكم فيهما وآثارهما تقع خارج الفرد، أي في الصراعات بين الفئات الاجتماعية. فمن الممكن تفسير ما يصادفه المرء من هذه المشكلات الفردية تفسيرًا اجتماعيًّا يقول إنها مؤشرات على هدم نظم الخطاب التي تنشأ في أثناء الصراعات الاجتماعية، ولك أن ترجع إلى الفصل الثالث الذي يناقش الخطاب باعتباره غاية للصراع الاجتماعي وموقعًا له، وتفسير ما يقوم به المرء من محاولات فردية لحل المشكلات تفسيرًا يبين أنها خطوات تتخذها الصراعات الاجتماعية للوصول إلى هدم نظم الخطاب.
إذن ما شأن العلاقة التي بدأنا بها هذا القسم بين إنتاج النصوص، وبين الذات باعتبارها تجمع بين الخضوع للسيطرة الاجتماعية وبين الطاقة الخلاقة؟ لقد دأبت على لفت الأنظار هنا إلى الطبيعة الاجتماعية للطاقة الإبداعية الفردية؛ إذ إن الطاقة الإبداعية للفرد تخضع لسيطرة المجتمع، بمعنى أن الطاقة الإبداعية تزدهر في ظروف اجتماعية خاصة، أي عندما تؤدي الصراعات الاجتماعية باستمرار إلى هدم نظم الخطاب؛ كما أن الطاقة الإبداعية للذات طاقة تشكيل اجتماعية، بمعنى أن الأفعال الخلاقة الفردية تؤدي تراكميًّا إلى إعادة بناء نظم الخطاب. وهكذا فإن الجانب الاجتماعي والجانب الفردي — ما هو خاضع للتحكم وما هو خلاق — غير متضادَّين ولا يمثلان مفارقة، بل إنهما وجهان لعملية جدلية من التثبيت والتحويل.

(٢) دراسة حالة

النص الذي سوف نفحصه مقتطف طويل من مقابلة إذاعية أطول كثيرًا بين مارجريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية، والمذيع مايكل تشارلتون، وكانت قد أُذيعت في البرنامج الثالث لهيئة الإذاعة البريطانية يوم ١٧ ديسمبر ١٩٨٥م، ونرمز للأولى بالحرف ث (ثاء) وللثاني بالحرف ش (شين).

ش :
كنت يا رئيسةَ الوزراء في جامعة أوكسفورد في الأربعينيات من القرن (١)
العشرين وكُتِب لبريطانيا بعد الحرب أن تبدأ عهدًا من الازدهار
النسبي، لم تشهد مثيلًا له من قبل، وأما اليوم فيبلغ عددُ العاطلين ثلاثة
ملايين وربع والواقع مم [غمغمة]
أن الأداء الاقتصادي لبريطانيا، وفق أحد القياسات قد هبط إلى مرتبة (٥)
الاقتصاد الإيطالي. والآن. هل تستطيعين أن تتصوري أنك عدت اليوم
إلى الجامعة، وما لا بد أن تبدوَ عليه الفرصُ المتاحة لبريطانيا والآفاق
المتاحة للجميع اليوم.
ث :
هذان عالمان مختلفان اختلافًا شديدًا أي ما تتحدث عنه لأن أول شيء
راعني بقوة وأنت تتحدث الآن عن تلك الأيام أننا نتمتع اليوم (١٠)
بمستوًى معيشيٍّ لم نكن نحلم به آنذاك وأستطيع أن أذكر ما قاله راب
بطلر عندما عدنا [أي حزب المحافظين] إلى الحكم في عام ١٩٥١-١٩٥٢م؛
إذ قال إننا إذا سلكنا السلوك الصحيح فإن المستوى المعيشي
سوف يتضاعف في غضون خمس وعشرين سنة أي سوف يبلغ ضعف
ما كان عليه آنئذٍ مم [غمغمة] وكان على حقٍّ تقريبًا وذلك رائع؛ لأنه (١٥)
كان أمرًا لم يخطر على بالنا قط والآن لا أعتقد أن للمرء أن يفكر تفكيرًا
ماديًّا كاملًا بالضرورة فالحق أنني أعتقد أنه من الخطأ أن يكون تفكيرنا
ماديًّا وذلك في الحقيقة لأن نوع البلد الذي تريده تخلقه قوة شعبه،
وأعتقد أننا نعود الآن إلى رؤيتي لبريطانيا عندما كنتُ في شبابي وكنتُ
درجتُ دائمًا على اعتناق هذه الفكرة، أسمع أن بريطانيا بلد يتمتع أبناؤه (٢٠)
بالاستقلال في التفكير، كما يتمتعون بالاستقلال في العمل، والاستناد
إلى المبادرة الشخصية وهم لا ينتظرون أن يأمرهم أحد ولا يحبون أن
يسوقهم أحدٌ فهم يعتمدون على أنفسهم ومن قبل كل ذلك ومن بعده
فهم مسئولون عن أُسَرهم وشيء آخر مم [غمغمة] كان نوعًا من
 [غمغمة] وأظن أن باري هو الذي قال: افعل ما تحب أن يفعله (٢٥)
اﻟ [غمغمة] افعل للآخرين ما تحب أن يفعلوه لك وهكذا فأنت تفعل
شيئًا للمجتمع والآن أعتقد أنك إذا كنت تنظر إلى بلد آخر فسوف
تقول: إن ما يجعل البلدَ قويًّا فإنه شعبه هل يُحسنون إدارة صناعاتهم هل
علاقاتهم الإنسانية جيدة مم [غمغمة] هل يحترمون القانون والنظام (٣٠)؟
وهل أُسَرهم قوية وكل هذه الأشياء؟
ش :
وتعرف أن الأمر يتجاوز الاقتصاد كثيرًا
ولكنك تعرفين الناس لا تزال الناس لا يزالون يسألون
أين تذهب الآن الجنرال ديجول كانت له رؤية لفرنسا مم [غمغمة]
فكرة معينة عن فرنسا كما كان يقول مم لقد حاربتِ ثلاث معارك كبرى (٣٥).
في هذا البلد حرب جزر فوكلاند مم والمعركة ضد عمال المناجم ورجال
الحكم المحلي وضد الإنفاق العام والناس في اعتقادي يودون أن
يسمعوا رأيك في هذه الرؤية التي لديك لبريطانيا ولا بد أنها قوية فما
تستلهمين في عملك.
ث :
يخيل إليَّ أنه ربما تكون أفضل إجابة أُجيبها أن أقول كيف أرى ما على (٤٠)
الحكومة أن تفعله وإذا كانت الحكومة تؤمن حقيقةً بالشعب ما ينبغي
للشعب أن يفعل أعتقد أن الحكومة يجب أن تكون بالغة القوة حتى
تتمكن من القيام بما لا يستطيع القيام به إلا الحكومة عليها أن تقوى
على الدفاع؛ لأن بريطانيا التي أراها تدافع دائمًا عن حريتها وهي دائمًا (٤٥)
حليفًا يعتمد عليه وهكذا لا بد أن تكون قويًّا أمام شعبك ولا بد
للبلدان الأخرى أن تعرف أنك ملتزم بكلمتك ثم ننتقل إلى الأمن
الداخلي وأقول فعلًا إنك لا بد أن تُبديَ القوة بالنسبة للقانون والنظام،
وأن تفعل فقط ما لا يستطيع أن يفعله إلا الحكومات ولكن هناك ما
ينتمي بعضه للحكومة وبعضه للشعب لأنك لا تستطيع الحفاظ على (٥٠)
القانون والنظام إلا إن كنت تعتمد على شراكة الشعب وإذن لا بد أن
تكون قويًّا وتُعلي من قيمة العملة ولا يستطيع ذلك إلا الحكومات
بالسياسة المالية السليمة، وإذن لا بد أن تخلق الإطار اللازم لنظام تعليمي
جيد والضمان الاجتماعي وفي هذه المرحلة لا بد أن تقول الأمر في أيدي
الشعب فالناس مبتكرون خلاقون وهكذا فأنت تتوقع من الشعب أن (٥٥)
يخلق صناعات مزدهرة وخدمات مزدهرة نعم أن تتوقع من الناس من
كل واحد ومن الجميع مهما تكن خلفيتهم أن تُتاح لهم الفرصة للصعود
إلى أي مستوى يمكن أن ترفعهم قدراتهم إليه، نعم فأنت تتوقع من
الناس بشتى ألوان خلفياتهم ومهما يكن تقريبًا مستوى دخولهم أن
يستطيعوا أي أن تُتاح لهم فرصة امتلاك العقارات وهذا ذو أهمية بالغة (٦٠).
أعني امتلاك عقار فامتلاك المنزل يمنحك بعض الاستقلال ويجعلك
تساهم في المستقبل ما دام يشغلك أمرُ أطفالك.
ش : ولكن هل لك أن … تلخِّصي هذه الرؤية.
ث :
( ) ذكرت رؤيتي فأرجو أن تدعني (٦٥)
أواصل الحديث فقط، وإذن فليس هذا كافيًا إذا كنت مهتمًّا بالمستقبل،
نعم من المحتمل أن تدخر وربما كنت في حاجة إلى قدر ضئيل من
الدخل المستقل
الخاص بك وهكذا فأنت تفكر باستمرار في المستقبل وإذن فإنها إلى حدٍّ كبير صورة بريطانيا التي يتمتع فيها الشعب
بالاستقلال عن الحكومة، وإن كان الشعب يعي بأن على الحكومة أن (٧٠)
تكون قوية، وأن تفعل ما لا يستطيع أن يفعله إلا الحكومات.
ش :
ولكنك تستطيعين تلخيصها في عبارة أو عبارتين، فالهدف تحقيق ماذا أو
استعادة بريطانيا لماذا ما دام من الواضح أنها تخاطر بالكثير والانتصار
في مكان مثل جزر فوكلاند ذو أهمية في فلسفتك لبريطانيا توازي
أهميته لبريطانيا بالنسبة (٧٥).
ث :
أعتقد
بالنسبة لاستعادة السياسة المالية السليمة وتخفيض عرض النقود في بنك إنجلترا.
ث :
ولكن ذلك بيَّن بطبيعة الحال أننا يُعتمد علينا في الدفاع عن الحرية وعندما
يكون جزء من بريطانيا فنحن قد تعرض للغزو ذهبنا لأننا كنا نؤمن (٨٠)
بالدفاع عن الحرية وأمكن الاعتماد علينا، وأعتقد أنني إذا استطعت
تلخيص ذلك في عبارة وأتصور أن هذا من أصعب ما يمكن قلت في
الواقع إنه إعادة أفضل ما في الشخصية البريطانية إلى امتيازه السابق.
ش :
ولكن هذا كان يعني شيئًا يسمى المذهب الثاتشري فهل هذا وصفٌ (٨٥)
يمكن قبوله باعتباره يختلف اختلافًا كاملًا عن المذهب المحافظ
التقليدي في هذا البلد.
ث : لا بل إنه المذهب المحافظ التقليدي.
ش : ولكنه راديكالي وشعبي ومن ثَم فليس محافظًا.
ث :
إنه راديكالي، لأننا في الوقت الذي تسلمت فيه السلطة كنَّا نحتاج إلى أن (٩٠)
نكون راديكاليِّين وهو شعبي لا أقبل اعتباره شعبيًّا، بل أقول إن الكثير
مما قلته مسَّ وترًا في قلوب الأشخاص العاديِّين لماذا السبب يرجع إلى
أنهم بريطانيون، ولأن من طبعهم الاستقلال فعلًا ولأنهم لا يقبلون
قطعًا أن يتلاعب بهم أحد وذلك لأننا فعلًا على استعداد لتحمل
المسئولية ولأنهم يتوقعون فعلًا الولاء (٩٥)
لأصدقائهم وحلفائهم الموالين لهم وهو ما تسميه بالمذهب الشعبي.
أقول إنه مسَّ وترًا في قلوب أشخاص أعرفهم؛ لأنه مسَّ وترًا في قلبي
أنا منذ سنوات كثيرة كثيرة.
النص ٧–١ المصدر: مقابلة شخصية بين مارجريت ثاتشر ومايكل تشارلتون، راديو هيئة الإذاعة البريطانية، البرنامج الثالث، ١٧ ديسمبر ١٩٨٥.م

(٣) دراسة الحالة: التحليل

على نحو ما بيَّنت في بداية هذا الفصل، سيعتمد تنظيم هذا القسم على سلسلة من الأسئلة، وأوصي القراء بتحليل هذه الأسئلة بأنفسهم قبل الاطلاع على إجاباتي المقترحة. وتتعلق الأسئلة الأربعة الأولى بمرحلة الوصف في الإجراءات المشار إليها آنفًا. وقد اقتضى ما يركز عليه هذا الفصل أن تتعلق هذه الأسئلة خصوصًا بالمعالم النصية التي تعتبر آثارًا لعملية إنتاج النص. فأما بالنسبة للأسئلة من ١–٣ فإن هذه آثار لإعادة بناء أنماط الخطاب فيما يتصل بالعلاقات بين مَن تُجرى المقابلة معه (السيدة ثاتشر) والجمهور (السؤال الأول) وبموقع الذات الخاص بزعيمة سياسية (السؤال الثاني) ومواقع الذوات للمخاطبين في جمهور الإذاعة (السؤال الثالث). ولم أخصص سؤالًا للمضمون، أو الصور التي تمثل العالم؛ لأنها أقل أهمية من العلاقات والذوات في هذه الحالة. ويتعلق السؤال الرابع بآثار الصراع في النص، ويتعلق السؤال السادس بمرحلة الشرح.

(٤) «المذهب الثاتشري»

أودُّ قبل أن نبدأ التعرض للأسئلة أن أحدد بإيجازٍ سياقَ المقتطف وموضوع دراسة الحالة وهو خطاب المذهب الثاتشري؛ وذلك برسم الخطوط العريضة للسياق السياسي للمذهب الثاتشري. ومعنى هذا أنني أستبق مرحلة الشرح في الإجراءات، ومن ثَم أستبق الإجابة عن السؤال السادس. ولكن، كما قلت في الفصل الخامس، لا يوجد مبرر لتطبيق الإجراءات على نظام معين دون غيره، بل كثيرًا ما يكون من المفيد أن نعود إلى مرحلة سبق للمرء تطبيقها على ضوء ما يظهر من التطبيق على المراحل الأخرى. ومفهوم المذهب الثاتشري الذي سوف أُقدمه يدين بمعظم جوانبه للتحليل السياسي المرتبط بمجلة الحزب الشيوعي الماركسية اليوم.

إن بريطانيا تُعاني منذ عقود من تدهور نسبي، باعتبارها أمة صناعية، وقوة عالمية. وقد عجزت الحكومات المتوالية للمحافظين والعمال عن إيقاف هذا التدهور أو تحويله إلى تقدم، على الرغم من بعض النجاحات المؤقتة. ومنذ بداية الكساد الرأسمالي العالمي في بداية السبعينيات والتدهور يتعمق، كما تعرضت بريطانيا لأزمة مطولة، لم تقتصر على الاقتصاد، بل إنها أزمة اجتماعية عامة تتجلى في مظاهر كثيرة، من بينها تكثيف الكفاح العمالي، وتدهور أحوال المدن، ونشوء أزمات في خدمات الرعاية الاجتماعية، وانطلاق العنصرية، والأزمة المنتشرة على نطاق واسع في العلاقات بين النساء والرجال وهلمَّ جرًّا. ولم تنجح حكومتا المحافظين (١٩٧٠–١٩٧٤م) والعمال (١٩٧٤–١٩٧٩م) في حلِّ هذه الأزمة في السبعينيات وانتهت كلٌّ منها بالتشتت الذي يمثله إضرابُ عمال مناجم الفحم وخفض أيام العمل الأسبوعي إلى ثلاثة، في عهد إدوارد هيث، وما يسمَّى «شتاء الأحزان» في عهد جيمز كالاهان.

ويعتبر المذهب الثاتشري رد فعل جذري يميني على المشكلات العميقة وحالات الإخفاق السياسي. وهو جذري أو راديكالي بمعنى أنه خرج على توافق الآراء الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ونعني به التسوية السياسية التي كان الحزبان السياسيان الرئيسيان يحترمانها حتى ذلك الحين، والتي كانت عناصرها الرئيسية تتمثل في الالتزام بالقضاء التام على البطالة وتقديم الرعاية الاجتماعية. ومن ثَم فقد كانت ترفض المذهب المحافظ التالي للحرب، وخصوصًا المذهب المحافظ الذي ارتبط باسم إدوارد هيث، رفضًا حاسمًا مثل رفضها للاتجاه العمالي الديموقراطي الاشتراكي. أي إنها حاولت تحويل ألوان الطيف السياسي وحدود العمل السياسي المقبول بصورة قاطعة إلى اليمين.

وكان تحقيق ذلك يتطلب منها لا أن تضع سياسات جديدة وحسب، بل أن تحاول أيضًا إعادةَ بناء الخريطة السياسية، وإعادة تكوين قاعدتها السياسية الخاصة. ويوصف المذهب الثاتشري بأنه «شعبي سلطوي»، وهو الوصف الذي يحاول التصوير الصادق للمزيج الجديد من العناصر السياسية التي حاول الجمع بينها، وأول هذه العناصر الالتزام («السلطوي») بتقوية الدولة من جوانب معينة (الدفاع، و«القانون والنظام»، والتحكم في عرض النقود، والسيطرة على النقابات … إلخ) حتى يتسنَّى الاستمرار للنزعة المحافظة التقليدية. والعنصر الثاني الذي نشأ من الليبرالية الجديدة، يتركز حول الالتزام «بحرية السوق» التي لا يعوقها «تدخُّل» الدولة، ويقتضي تراجع الدولة من جوانب أخرى، وخصوصًا مشاركة الدولة مشاركة مباشرة في الاقتصاد من خلال الصناعات المؤممة. والعنصر الثالث هو «المذهب الشعبي»، ويعني الاتجاه إلى مخاطبة «الناس العاديين» مباشرة، وهو الاتجاه الذي يبني في الواقع صورةً «للشعب» بصفته كيانًا سياسيًّا قوميًّا، مضادًّا «لتدخل الدولة»، وللنقابات، مناصرًا للأسرة، وللملكية الخاصة، وامتلاك الأسهم وهلمَّ جرًّا.

وهذا الترابط الجديد بين العناصر السياسية ناشئ إلى حدٍّ ما من ضروب إعادة البناء في الخطاب الثاتشري. ففي غمار صراع الثاتشريين مع خصومهم السياسيِّين داخل حزبهم وخارجه؛ إذ هم يُثيرون الإشكاليات في الخطاب السياسي لخصومهم ويهدمونه، محاولين فرض بنائهم الخاص له. وأفضل ما يمثل هذه الجهود في النص الذي نعرض له إنشاء موقع للذات باسم «الشعب» (وخصوصًا جانبه الذي يمثل جمهور المستمعين للإذاعة) باعتباره ذاتًا سياسية (السؤال الثالث). ويمثله إلى حدٍّ ما أيضًا تكوين العلاقات بين السيدة ثاتشر وبين جمهورها، وبصفة أعم بين الزعيم السياسي وبين «الشعب»، وإن كان هدم العلاقات الأولى (البعيدة والسلطوية) يمثل مشكلة حاول الزعماء المتتابعون التصدي لها.

كما يواجه الثاتشريون مشكلةَ ترابط لم يتسببوا فيها، ألا وهي كيف يمكنهم أن يُنشئوا موقعًا للذات خاصًّا بزعيمة سياسية في سياق اجتماعي يتسم بالتمييز الراسخ بين الجنسين (السؤال الثاني). والمحاولات الخاصة التي تبذلها السيدة ثاتشر واضحة إلى حدٍّ ما أيضًا في النص، وإن كانت تتطلب الإحالة إلى معالم غير ممثلة، مثل نبرات صوتها ومظهرها. كما تتمثل الطبيعة الراديكالية للمذهب الثاتشري أيضًا، في جانب منها، في الأسلوب السياسي «العدواني» نسبيًّا الذي لا يحجم عن مهاجمة الخصوم السياسيِّين، وهو ما يتجلَّى — ولو إلى حدٍّ بالغ الضآلة وحسب — في الإحالة أثناء إقامة الحجة إلى السياق المتناص للنص (السؤال الرابع).

(٥) العلاقات السيدة ثاتشر و«الشعب»

عادةً ما تمثِّل المقابلة الشخصية تفاعلًا مباشرًا (وجهًا لوجه) بين شخصين، بحيث يتناوبان دورَ السائل والمجيب (وفقًا لما يحدده الأول) بحيث يتبادلان دورَي المتحدث والمخاطب. ومع ذلك فعندما تُجرى هذه المقابلة الشخصية في الإذاعة أو في التليفزيون، فإن هذه العلاقة تتعقد، بسبب احتمال تأثر مَن يشاركان فيها بالجمهور أو بالسامعين. وإزاء التنوع في تركيب جمهور أجهزة الإعلام واستحالة تحديد طبيعة أفراده، يُصبح لزامًا على المتحدث أن يفترض وجود مستمع «مثالي»، وأن يُهيئ له موقع الذات الخاص به، وسوف يتعرض السؤال الثالث خصوصًا لطبيعة موقع الذات الذي تُنشئه السيدة ثاتشر.

ويكفينا مؤقتًا أن نقول: إن السيدة ثاتشر تفترض أن المستمع «المثالي» شخص عادي، فرد من أفراد الشعب. والذي يهمنا هنا هو العلاقة التي تضع السيدة ثاتشر نفسها فيها مع ذلك «الشخص العادي» الذي يمثله جمهور الإذاعة. والقضية لا تقتصر على العلاقات بين الزعماء السياسيِّين و«الشعب» في الخطاب الثاتشري. ولعلك لاحظت أن المستمع لا يظهر صراحةً في النص على الإطلاق؛ إذ ينشأ موقع الذات الخاص بالمستمع بصورة غير مباشرة من خلال تمثيل السيدة ثاتشر لخبرات ومعتقدات وآمال «الشعب» كله، وهو ما يشمل جمهور المستمعين ضمنًا.

وهاك إذن السؤال الأول، متبوعًا بإجابتي. وأقترح على القراء أن يركزوا على جمع «الأدلة» النصية اللازمة لإجاباتهم بخصوص الضميرين «نحن» و«أنتم» (ارجع إلى السؤال السادس في الفصل الخامس)؛ وعلى القيم العلائقية للمفردات، وانظر خصوصًا إلى الفوارق بين الأسئلة التي يطرحها المذيع وإجابات السيدة ثاتشر، وما يمكن أن تعنيه هذه الفوارق من حيث سيطرة السيدة ثاتشر على مسار المقابلة (انظر السؤال الثاني في الفصل الخامس)؛ وعلى الدلالات العلائقية الموحى بها لما تؤكده السيدة ثاتشر من أقوال عن «الشعب» (ومن ثَم عن الجمهور) في السطور (٢٠–٢٥) مثلًا.

السؤال الأول: ما القيم العلائقية للمعالم النصية؟ هل توجد تناقضات في القيم العلائقية يمكن أن تُشير إلى ترابط جديد بين أنماط الخطاب؟

(١) نحن: تستخدم السيدة ثاتشر ضمير المتكلم الجمع أساسًا في السطور (١١–٩ و٧٩–٨١)، بصورة شاملة وحصرية (ارجع إلى التمييز بينهما في الفصل الخامس). والاستعمال الشامل (مثل: إننا نتمتع اليوم بمستوى معيشي لم نكن نحلم به آنذاك) ذو دلالة علائقية؛ لأنه يصور السيدة ثاتشر وجمهورها والجميع في صورة مَن يركبون السفينة نفسها. أي إنه يجعل الزعيم من «الشعب». ولكن، حتى في هذه الحالة، لا يتضح لنا على وجه الدقة مَن تزعم أنهم يتمتعون بمستوى معيشي لم يكونوا يحلمون به. فعندما يُشير جمع المتكلم إلى كيان جماعي مثل «الشعب البريطاني»، يمكن أن ننسب أشياء إلى هذا الكيان لا تنطبق بالضرورة على أيِّ فرد من أفراده، فإذا كنا نحن أحسن حالًا، فذلك لا يعني أنني أحسن حالًا! والزعم بأن الكيان الجماعي يتمتع بمستوى معيشي معين وهو يتسم في الواقع بوجوه تفاوت صارخة قد يعتبر من قبيل التضليل.

وعدم التحديد الدقيق للكيان الذي يعود عليه الضمير يبرز بوضوح أكبر في حالات أخرى. فليس من الواضح مثلًا في السطور (٧٩–٨١) إذا كان ضمير المتكلم الجمع يشير حصريًّا إلى كيان جماعي (الدولة أو الحكومة) وهو ما يستبعد المخاطبين، أو إذا كان يستخدم بمعنى شامل للإشارة إلى الشعب كله، مثل المثال السابق. واحتمال وجود الدلالتين يسمح في الواقع بتصوير ما كانت عليه الحكومة وما آمنت به وفعلته في صورة ما كان الشعب عليه وما كان يؤمن به ويفعله. وعلى الرغم من القيمة العلائقية التي تكمن هنا أيضًا في رسم صورة لوجود الجميع في السفينة نفسها، فإن اتجاه الاستيعاب معكوس، بمعنى أن التعبير يجعل الزعيم يستوعب «الشعب»، أو قل إن الزعامة أو الحكومة تستوعب الشعب. ولدينا حالة واحدة من الدلالة الحصرية التي لا لبس فيها ولا غموض في استعمال ضمير المتكلم الجمع في السطر ١٣؛ حيث يشير إلى الحزب السياسي للسيدة ثاتشر.

(٢) أنتم: يستخدم ضمير المخاطب جمعًا ومفردًا [ومنفصلًا ومتصلًا] باعتباره ضمير «تنكير» بمعنى إشارته إلى الشعب بصفة عامة. ويكثر وروده في السطور (٢٦–٢٨ و٤٥–٦٨). وترتبط القيمة العلائقية لهذا الضمير، من جانب معين، باختياره بدلًا من ضمير التنكير «المرء». وللقراء أن يحاولوا استبدال هذا الضمير الأخير بضمير المخاطب المذكور ليروا كيف يؤدي ذلك إلى التغيير في القيمة العلائقية (مثلًا في السطور (٦١–٦٣): امتلاك المنزل يمنح المرء بعض الاستقلال، ويجعل المرء يساهم في المستقبل، والمرء يشغله أمر أطفال). ولنقل أولًا إن لفظ «المرء» يقوض معنى «الناس بصفة عامة»؛ لأن الناس بصفة عامة لا يستخدمون ذلك اللفظ، فهو إلى حدٍّ كبير ضمير خاص بالطبقة الوسطى؛ ولذلك فمن الصعب أن تنجح في التأثير في الناس العاديِّين وإقناعهم بالخبرة المشتركة إذا استخدمت لفظة المرء. وأما كلمة «أنت» فهي على العكس تستخدم لإشاعة الشعور بالتضامن والمشاركة في الخبرة في كلام الطبقة العاملة. وأقول ثانيًا: إن كلمة المرء يمكن أن تستخدم أحيانًا باعتبارها طريقة مهذبة للإشارة إلى ضمير المتكلم. ويمكن تفسير الأمثلة التي قدَّمتها لتوِّي على هذا النحو، أي باعتبارها وسيلةً مهذبة للتعبير عن المصالح الذاتية.
وهكذا فإن كلمة أنت — كما ذكرت — تُوحي بالتضامن، واستخدامها يمكِّن السيدة ثاتشر من الإيحاء بأن ممارساتِها ورُؤاها ومبادئَها تنتمي إلى الشعب بصفة عامة؛ وبذلك تزعم لنفسها ضمنًا مكانةَ فرد من أفراد «الشعب». كما أنها تسمح في غمار ذلك بتشويش التمييز بين المنظورات. ومن المفيد مثلًا، في السطور (٤٥–٦٨) أن نحاول أن نرى إن كان أيٌّ من التعبيرات التالية يمكن استبداله بيسر بضمير المخاطب: الحكومة، أنا، الشخص العادي. والسطور (٥٥–٥٨) يمكن تفسيرها باعتبارها تنميقًا لما تظن السيدة ثاتشر وأتباعها أنه عقيدة شائعة (ولاحظ أن عبارة أتوقع يمكن أن تحلَّ بسهولة كبيرة محلَّ عبارة تتوقع أنت في السطور (٥٥، ٥٨ و٥٩)). والواقع أن السطور ٦١–٦٨ تدور حول الشخص العادي (من الطبقة المتوسطة!) ومن خلال اختزال مشاغل (نوع) الحكومة التي ترأسها، والمعتقدات السياسية الخاصة بفصيل سياسي معين، وطموحات «الشخص العادي» الذي ينعم برغد العيش بحيث تكتسب مكانة الخبرة المشتركة، تساعد السيدة ثاتشر أيضًا على تشكيل موقع للذات تشكل فيه هذه كلها مجموعة مترابطة المعنى.

وينقلنا هذا إلى قضايا السؤال الثالث.

(٣) القيم العلائقية للمفردات: يبدو أن اختيار السيدة ثاتشر للمفردات موجَّه في جانب منه إلى المستمعين، أو الجمهور، لا إلى المذيع، وحيثما كان الأمر كذلك نجدها تنتقي مفردات تؤكد من جديد تضامنها مع «الشعب». ففي السطر ٢٣ نجد أن بعض القوالب الثابتة مثل لا ينتظرون أن يأمرهم أحد، ومثل لا يحبون أن يسوقهم أحد، وعبارة يفعل شيئًا (للمجتمع) تنتمي إلى هذه الفئة. فأما التعبيران الأولان فهما من سمات المحادثة العارضة، وأما الثالث فيذكرني بأعضاء المنظمات الطوعية من أبناء الطبقة المتوسطة، ولن نتوقع أيًّا من هذه التعابير لو كانت هذه المناقشة الدائرة بين أشخاص ذوي وعي سياسي ناضج وتتسم بالخصوصية.
ومن المفيد أن نقارن أسئلة المذيع تشارلتون وإجابات السيدة ثاتشر من حيث المفردات؛ لأن الاختلافات تشير إلى معلم له دلالته العلائقية المهمة على المستوى النصي. ففي السطور ٣٧–٣٩ يطلب تشارلتون من ثاتشر أن تقول كلامًا محددًا عن رؤيتها وعما يُلهمها في عملها. ولكن السيدة ثاتشر لا تستعمل في إجابتها تعبيراتٍ مثل هذه، ولا مفردات التحليل الذاتي والاستبطان، بصفة عامة. فإذا نظرنا إلى نصوص الأسئلة والإجابات وجدنا أن تشارلتون يطلب من ثاتشر أن تُفصح عن ذاتها، ولكنها تقدم إجابة تمثل الخطوط العريضة للنظرة الثاتشرية إلى مسئوليات الدولة وحدودها. وهكذا فإن إجابة ثاتشر على السؤال غير ملتزمة به نسبيًّا. لماذا؟ ربما لأن تحليل الذات (ومفرداته) قد يؤدي في رأيها (وفي الحقيقة في رأيي) إلى «استبعاد» بعض «الناس العاديين» الذين تحاول إظهار التضامن معهم.
ويوجد مثال آخر في السطور ٨٩–٩٣ حيث يبدو أن تشارلتون يطلب من ثاتشر الدخول في مناقشة تجريدية إلى حدٍّ ما عن السياسة، وهو ما لا تفعله السيدة ثاتشر. وفي نطاق عدم التزامها بردٍّ مباشر تحوَّل معنى الصفة الراديكالي من معناها السياسي شبه التقني إلى معناها في «اللغة العادية» (فعبارتها «كنا نحتاج إلى أن نكون راديكاليين» تعني: «كنا نحتاج إلى اتخاذ إجراء حاسم»)، وهي ترفض أيضًا الوصف بالشعبية، ولا شك أن سبب ذلك يقوم إلى حدٍّ ما على أسس أيديولوجية (فالكلمة تنتمي للتحليل اليساري للمذهب الثاتشري)، وربما كان يرجع في جانب منه إلى أن الكلمة تُوحي بلغة المفكرين.
ولاحظ أنها تستعيض عنها بتعبير يقول: «يمس وترًا في قلوب الأشخاص العاديِّين»، واختياره مثال جيد للمذهب الشعبي، فالتعبير يتسم بلون من العاطفية القومية التي يكرهها معظم المفكرين كراهية التحريم وإن كانت تمثِّل دعامة راسخة في نظرة بعض «الناس العاديين».

وفي هاتين الحالتين نرى أن إجابات السيدة ثاتشر تبتعد بمسار الحوار عن الوجهة التي يبدو أن تشارلتون يريد الوصول إليها، ولكنها قد تصبح إشكاليةً للسيدة ثاتشر من حيث ما تزعمه من تضامن مع «الناس العاديين».

(٤) توكيدات السيدة ثاتشر عن «الشعب»: ونصل أخيرًا إلى مقولات السيدة ثاتشر عن «الشعب»، في السطور ٢١–٢٥، مثلًا. وأما ما له دلالة بشأن هذه المقولات من حيث علاقة السيدة ثاتشر بالجمهور، وكذلك علاقتها باعتبارها زعيمة سياسية «بالشعب»، فهو أنها تزعم لنفسها ضمنًا سلطة إطْلاع الناس على ماهيتهم، أو، ما دامت هي نفسها جزءًا من الشعب، حق الإفصاح باسم الشعب عن رؤيته لذاته. ومن آثار هذا إيجاد مسافة بين السيدة ثاتشر وبين الشعب؛ إذ يجعلها تظهر في صورة مَن تتمتع بسلطة خاصة، ما دامت تتمتع بالزعامة. ولا شك في وجود تضاد واضح في استخدام ضمير المخاطب والمفردات التي أشرت إليها. ولكن ما شأن ضمير المتكلم في صيغة الجمع؟ على الرغم من أنني قلت آنفًا: إن هذا الضمير يضع الجميع في سفينة واحدة ويؤدي إلى الاستيعاب المتبادل بين الزعيم والشعب، فإنه لا يتمتع بقيمة التضامن التي يحملها ضمير المخاطب (أنت/أنتم)، وفي إشارة السيدة ثاتشر إلى ضمير المتكلم نجدها، هنا أيضًا، تعود للحديث، باعتبارها الزعيمة، باسم «الشعب».

والخلاصة إذن أن هذه المعالم النصية تتسم بالقيمتين المتضادَّتَين للتضامن والسلطة، وهو ما يُوحي بارتباط جديد بين أنماط الخطاب. ولعلك لاحظت أن هذه المعالم كلَّها تقبل التفسير من حيث علاقتها بمواقع الذات في ضوء السؤالين الثاني والثالث، وعلى غرار ذلك نجد أن المادة التي نناقشها أدناه فيما يتعلق بهذين السؤالين تمثِّل ما قيل حتى الآن عن العلاقات. وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة؛ فعلى الرغم من أن التمييز بين العلاقات والذوات مفيدٌ من الزاوية التحليلية، فلا يوجد فاصل قاطع في الواقع بين العلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية، بل إن التعديل في أحد الطرفين يقتضي التعديل في الطرف الآخر.

(٦) موقع الذات: الزعيمة السياسية

يواجه العدد القليل نسبيًّا من النساء اللائي يشغلنَ مواقع بارزة في قطاع الأعمال، وفي المهن، والسياسة، وعمومًا في أي مكان خارج المنزل، مشكلة معقدة توحي بأن المرأة تخسر في كل حال، وهو ما يلخصه القول الشائع: «المرأة ملعونة إذا تصرفت مثل الرجل، وملعونة إذا لم تفعل ذلك.» وهي تُلعَن إذا تصرفت مثل الرجل بمعنى أن السلوك الذكوري يجعل المرأة عرضةً للوصمة التي تعود بضرر كبير عليها في مجتمعنا وهي وصمة «عدم الأنوثة». وهي تُلعَن إذا لم تفعل بمعنى أن الذين يشغلون مواقع بارزة لا يُقبَلون إلا إذا التزموا في سلوكهم بما يلتزم به شاغلو هذه المواقع دائمًا. ولما كانت المواقع البارزة تقليديًّا من نصيب الرجال باستثناءات بالغة القلة (مثل رئيسة الممرضات في مستشفى ما، أو مديرة مدرسة ابتدائية) فإن احتلال الرجال لهذه المواقع كان يعني أن السلوك «ذكوري».

وقد واجهت السيدة ثاتشر هذه المعضلة التي اتخذت صورةً بالغة الحدة؛ لأن نوع السياسة اليمينية الراديكالية التي التزمت بها تؤكد تأكيدًا خاصًّا ضرورةَ الحزم والحسم والشدة والتشدد في الزعامة السياسية. وجميع السمات التي ذكرتها تنتمي في أعرافنا إلى سلوك الرجال، وإذا كان سلوك أي امرأة يتصف بهذه الصفات فإنها يُعرِّضها للسخرية منها باعتبارها «عديمة الأنوثة». ولكن انطباعي الشخصي هو أن السيدة ثاتشر استطاعت أن تبنيَ لنفسها موقعَ ذاتٍ يجعلها زعيمةً سياسية، وهو ما جعل الناس تراها على نطاق واسع فعلًا في صورة مَن تتمتع بهذه الخصال جميعًا من دون أن تفقد أنوثتها.

ويرجع هذا، في أحد جوانبه إلى وقْع حديثها في الآذان وكيف تبدو للناظرين، ومن الطريف أنها قدَّمت نصائحَ كثيرةً على امتداد حياتها العملية بشأن هذا وذاك، وأنها بذلت جهدًا كبيرًا حتى نجحت في تغييرهما. وأقترحُ أن تتأمل مظهرَها عند إجابة السؤال الثاني، وأما بالنسبة لوقع حديثها في الآذان فقد نجحت بفضل التعليم على أيدي المحترفين في خفض نبرات صوتها وتقليل السرعة التي تتكلم بها. وكان من دوافع ذلك أن صوتَها كان يعتبر «حادًّا»، والحدة في الصوت (وفق الأنماط السائدة) تعتبر من صفات صوت المرأة المرتبطة بالانفعال الشديد. وإلى جانب فقدان صوتها للحدة، فإن نبراتِها الآن أقرب إلى نبرات «الزعماء السياسيِّين»، كما يرى البعض أن البحة في صوتها جذابة جنسيًّا.

وأقترح أن يركز القراء فيما يتعلق بهذا السؤال على المعالم التالية في النص: النوعية، خصوصًا النوعية العلائقية الخاصة بالإلزام (يجب، ينبغي إلخ) والنوعية التعبيرية (الحق القاطع، اليقين، الاحتمال، الإمكان) وأرى أن يركزوا على السطور ٤٠–٧١ (انظر السؤالين ٦ و٧ في الفصل الخامس)؛ وتناوب الأدوار، خصوصًا السطر (٦٥) (انظر السؤال ٩ في الفصل الخامس)؛ ومعالم النص التي تعبر عن «الشدة»؛ وتوكيدات السيدة ثاتشر عن «الشعب»، ومن أمثلته السطور ٢١–٢٥ التي سبق النظر فيها في إطار السؤال الأول؛ ومظهر السيدة ثاتشر — شعرها، ملابسها، حليُّها إلخ — في الصور التي رأيتها لها.

السؤال الثاني: ما القيم الخاصة بالمعالم النصية من حيث موقع الذات لمنتج النص؟ هل توجد تناقضات قد تُشير إلى ترابط جديد بين أنماط الخطاب؟

(١) النوعية. النوعيات السائدة في السطور ٤٠–٧١ هي المعنى العلائقي «للإلزام»، وهو الذي تعبر عنه الأفعال المساعدة: يجب، ينبغي، لا بد أن، والنوعية التعبيرية الخاصة بالحقيقة القاطعة التي يعبر عنها الزمن المضارع. وتوجد أنواع أخرى أُشير إليها أدناه. ولكني أكتفي مؤقتًا بالإشارة إلى أن نمطَي هذه النوعية يُتيحان للسيدة ثاتشر أن تشغل موقعًا سلطويًّا فيما يتعلق بما يجب أن تفعله «الحكومات» وما يمثل الواقع الراهن.
ومما له دلالته أن السيدة ثاتشر تستخدم تعبير [have (got) to] أي لا بد أن في مواقع كان يمكنها فيها استخدام must أي يجب. فإذا كان الفعل يجب يُفيد السلطة الشخصية للمتحدث، فإن تعبير لا بد أن يفيد الإلزامَ المبنيَّ على إرغام خارجي من نوع ما، وقد يتمثل مثلًا في قواعد مؤسسة من المؤسسات. واستخدام السيدة ثاتشر لهذه العبارة الأخيرة يعني ضمنًا أن الالتزام ليس مبنيًّا فحسب على وجهة نظرها، ولكن على طبيعة الحكومة بصورة غير محددة، كأنما كان ما تقوله عن الحكومة أمرًا يتعلق بحقيقة واقعة لا برأيٍ من الآراء. ويتدعم الانطباع بأن هذا أمر واقع في السطرين ٦٩–٧١، فالمقولة التالية للعبارة المبدوءة بالحرف أن «السطر ٧٠١» والتي تعقب الفعل يعي مفترضة سلفًا، بحيث نجد أن السيدة ثاتشر أصبحت تعامل ما كانت نعتبره رأيًا معاملة الحقيقة المسلَّم بها. وأما الزمن المضارع القاطع فأفضل ما تمثِّله السطور «٥٤–٦٣». لاحِظ وجود معنى نوعي تعبيري سلطوي آخر في السطر «٥٠» الاستحالة (لا تستطيع).
وفي النصِّ معانٍ نوعية أخرى غير سلطوية. إذ تبدأ السيدةُ ثاتشر إجابتَها على سؤال تشارلتون قائلةً: «يُخيَّل إليَّ أنه ربما أستطيع أن أُجيب» بدلًا من أن تقول مثلًا: «ربما استطعت الإجابة». وتعبيرها يُوحي بإنكار الذات الذي يتناقض بوضوح مع النوعية السلطوية المهيمنة. كما يوجد تعبير آخر له قيمة مماثلة إلى حدٍّ ما في ٨٢–٨٣ «وأتصور أن هذا من أصعب ما يمكن». كما نجد المعنى النوعي التعبيري الخاص بالاحتمال في السطور ٦٧–٦٨. فالسيدة ثاتشر تتحول من الحقيقة القاطعة إلى الاحتمال أثناء تحوُّلها من امتلاك منزل، وهو جزء من خبرة شائعة وإن لم تكن شاملة بالتأكيد، إلى الادخار والدخل المستقل، وهذه لا شك من حالات الأقلية. والتراجع عن المعنى القاطع يُوحي بأنها تعمل حسابًا خاصًّا لحساسية هذا الموضوع بالنسبة لكثير من الناس الذين لا أمل لهم في الحصول على «دخل مستقل»، ويدعم هذا الانطباعَ صيغةُ «التخفيف» في عبارة «قدر ضئيل». وهكذا نجد بعض التناقض في قيم المعالم النوعية ما بين النزعة السلطوية وإنكار الذات أو الحصافة.
(٢) تناوب الأدوار. يتبدَّى معلم تناوب الأدوار، في السطر «٦٥» الذي أشرتُ إليه عاليه، في محاولة المذيع مايكل تشارلتون مقاطعةَ السيدة ثاتشر وإعادتها إلى السؤال الذي طرحه عليها أصلًا، وهو الذي لم تلتزم إلى حدٍّ ما بإجابته. والطريف هو أن السيدة ثاتشر ترفض محاولةَ تشارلتون التحكم في المقابلة وتعبِّر عن رفضها بأسلوب مهذب على ما فيه من حزم يتجلَّى في الصياغة (أرجو أن تدعني أواصل الحديث فقط). وعمومًا تتعامل السيدة ثاتشر بهذا الأسلوب مع ما تعتبره محاولات غير لازمة للتحكم في المقابلات الشخصية.
(٣) «الصلابة». يعتبر مثل هذا التناوب في الأدوار تعبيرًا عن صلابة السيدة ثاتشر وقوة عزيمتها. ويوجد تعبير آخر عن ذلك في استعمال «اسمع» في السطر «٢١». إذ إن ابتداء عبارة منطوقة بكلمة «اسمع» تعني اعتزام إرغام المخاطب على أن يلزم حدوده، أو تصحيح ما أساء فهمه تصحيحًا يتسم بالشدة. وعلى الرغم من أن السيدة ثاتشر، فيما يبدو، تستشهد بمُعلِّم لها لا تُحدده في هذه الحالة، فإنها عادة ما تستخدم في كلامها لفظ «اسمع»، وفي جزء لاحق من المقابلة نفسها تستشهد بما قالته هي نفسها في مقالة كتبَتها وتقول فيها: اسمع إن كانت الديموقراطية تقتصر على كونها مزادًا علنيًّا في وقت الانتخابات فلن يُكتب لها الاستمرار.
(٤) توكيدات السيدة ثاتشر عن «الشعب». سبقت لي مناقشة دلالة ما تدعيه السيدة ثاتشر من الحق في إطْلاع «الناس» على ما هم عليه، وهو ما يتفق بوضوح مع العناصر الأخرى للجانب السلطوي/الصلب في موقع الذات الخاص بها. وانظر إلى مدى ما يتضمنه المقتطف من هذا الادعاء، والإشارة السافرة إلى سلطة السيدة ثاتشر فيما تقوله في السطر «٩٦»، في الفعل أعرف.
(٥) مظهر السيدة ثاتشر: نأتي أخيرًا إلى مظهر السيدة ثاتشر. فإنها تتمتع بجميع السمات الخاصة بالأنثى البالغة الأنيقة بنت الطبقة المتوسطة، وتصفيف شعرها دائمًا محكمٌ كأنها خرجت لتوِّها من عند مصفِّف الشعر، وهي تفضِّل ارتداءَ حُلَل من قطعتين. وهي تضع على صدرها قطعةً من الحُليِّ وحول جِيدها قلائد وفي أُذُنَيها قرط، وتحمل عمومًا حقيبة يد.

(٧) موقع الذات «الشعب»

يحتاج كلُّ حزب سياسي، أو اتجاه سياسي، إلى قاعدة اجتماعية، بمعنى وجود قطاع أو قطاعات من السكان يمكن للحزب أن يزعم أنه يمثِّلها وله أن يُنشِد مؤازرتها له. ومن الشائع أن يزعم الحزب السياسي أن هذه القاعدة الاجتماعية تشمل السكانَ كلَّهم، وأن خصائص «الشعب» لا تختلف عن خصائص مناصريه. ولكن هذه القواعد الشعبية لا توجد بالضرورة في صورة «جاهزة»، بل إنها لا بد من تكوينها (ومن ثَم تكوين «الشعب») في حالات كثيرة من خلال التحام فئات اجتماعية منوعة في قاعدة سياسية متماسكة. ويصدق هذا بصفة خاصة على حزب المحافظين في بريطانيا، وهو الذي دائمًا ما اعتمد على قاعدة تتضمن أقليةً لا بأس بها من الطبقة العاملة إلى جانب الطبقتين الرأسمالية والمتوسطة. كما يصدق هذا بصفة خاصة أيضًا عند ظهور اتجاه جديد مثل أتباع المذهب الثاتشري الذين لا يستطيعون الاعتماد الكامل على القاعدة التي سبق بناؤها. ولكن ذلك يصدق على حزب العمال أيضًا، وهو الذي يرى أنه يحتاج إلى مؤازرة الطبقة الوسطى حتى يفوز في الانتخابات.

ويتمثل جانب من هذا الجهد في بناء أو إعادة بناء موقع ذات للناس الذين يمثلون أهدافًا للخطاب السياسي، وخصوصًا جماهير المستمعين والقراء العريضة. وموقع الذات في المقتطف الذي ننظر فيه خاص — بصورة محددة — بالمستمعين، أي بجمهور الإذاعة الذي يفترض أنه يمثل «الشعب» كلَّه. وما نشهده هنا يعتبر أساسًا محاولةً لتصوير جمهور المستمعين في صورة المعتنقين لعقائدَ وقيمٍ وافتراضات تتفق مع مزيج العناصر السياسية التي تشكل ما أشرت إليه آنفًا باسم «الشعبية السلطوية» للسياسة الثاتشرية. ولكن ذلك يجري بصورة غير مباشرة، كما سبق لي أن ذكرت؛ إذ تُقدِّم السيدة ثاتشر مزاعمَ كثيرةً عن «الشعب» بحيث تُوحي ضمنًا بأن جمهور المستمعين يمثِّل «الشعب».

وبالنسبة للسؤال الثالث أقترح التركيز على التنسيق، وكنت قد ذكرت هذا المصطلح في الفصل الخامس (السؤال ٨) حيث يُفيد الربط بين الجمل البسيطة المتكافئة الوزن في الجملة المركبة، عمومًا بحروف مثل: واو العطف، أو «لكن»، أو الحرف «أو». والواقع أن شتى العناصر النحوية يمكن تنسيقها، إلى جانب الجمل البسيطة، مثل العبارات الاسمية، والجمل الثانوية، ولننظر إلى العناصر المرتبطة بواو العطف أو بالحرف لكن في السطور ٤٤-٤٥، ٤٥–٤٧، ٥١–٥٥، ٦٨–٧١. ولكن في النص قوائم منوعة تتميز ببروز أكبر، ولنا أن نعتبر عناصرها منسقة وإن لم تكن ترتبط ارتباطًا سافرًا ببعضها البعض، فهي قوائم مقولات، وقوائم أسئلة، وقوائم عبارات اسمية، وقوائم عبارات «سببية» في السطور ٢٢–٢٧، ٢٩–٣١، ٥٥–٥٦، ٦١، ٦١–٦٣، ٨٠–٨١، ٩٣–٩٥.

السؤال الثالث: ما القيم التي تتسم بها المعالم النصية من حيث مواقع الذوات لأفراد الجمهور؟ هل توجد تناقضات قد تُشير إلى إعادة بناء جديدة لأنماط الخطاب؟

بعض الأبنية المنسقة في النص تنسب خصائصَ سافرة «للشعب البريطاني»، في السطور ٢٢–٢٧، ٦٨–٧١، ٩٣–٩٥. وتُضيف السيدة ثاتشر المزيدَ من هذه الأبنية على امتداد المقابلة الشخصية، ولكن دعوني أُورد مقتطفًا قصيرًا آخر:

ليس من ذلك من سمات البريطانيِّين فنحن لا نُحب أن يُرغمنا أحد ولن نطلب شيئًا من رؤساء النقابات فليست وظيفة رؤساء النقابات أن يرأسوا «شعبهم» بل أن يستجيبوا للشعب. ويوجد بناءان آخران، الأسئلة في السطور ٢٩–٣١ والمقولات في السطور ٩٣–٩٥؛ حيث نرى الصفات التي تُحبذها المتحدثة في شعب من الشعوب، وأعتقد أننا يمكن أن نعتبر أنها تُساهم ضمنًا في رسم صورة موقع الذات الخاص بجمهور المستمعين.

فإذا جمعنا بين هذه السطور كلِّها استطعنا أن نُلخص مفهوم «الشعب» في نظر السيدة ثاتشر على النحو التالي: شعب يعتمد على نفسه، مستقل في الفكر والعمل، مستقل عن الحكومة، يتحمل المسئوليات العائلية، يستخدم الموارد استخدامًا حصيفًا من أجل الأطفال، ينفر من إرغامه على أيِّ شيء (من جانب «رؤساء النقابات» مثلًا، أو طبقًا لما يُوحي به النص، من جانب تدخل الدولة)، ويؤيد الحكومة القوية (من زوايا معينة)، ويحترم القانون والنظام ويناصر الأسرة، ويقوم بالأنشطة الخيرية في المجتمع المحلي، ويتمتع بالإخلاص الشخصي والسياسي، وبالكفاءة الاقتصادية. وللمرء أن يتصور — بطبيعة الحال — أوصافًا لا تُنبئ عن مثل هذا المستوى من كرم النفس، مثل ما يلي: الانحصار في الذات والنزعة الفردية، السلطوية فيما يتعلق «بالقانون والنظام» والقهر من جانب الدولة عمومًا، والأسرة، والنقابات، والرعاية الاجتماعية، والتعصب — وما إلى ذلك بسبيل! ولكن الواضح أن كلًّا من هاتين النظرتَين تجمع بين العنصر الليبرالي الجديد الذي يعني اعتمادَ الفرد على نفسه وتخفيض الرعاية الاجتماعية للأفراد والأُسَر، وبين العناصر التقليدية للفكر المحافظ التي تعني دعمَ الدولة القوية فيما يتعلق بالقانون والنظام أو العلاقات الدولية، ومؤازرة التصور التقليدي للأسرة.

فلننتقل الآن إلى أبنية أخرى لم نُشِر إليها حتى الآن؛ فالمثال ينسب في السطرين ٤٤-٤٥ لبريطانيا خصيصتَين، هما دفاعها عن حريتها وكونها حليفًا يعتمد عليه. أي إن بريطانيا تُعامَل هنا معاملة الأشخاص (فهذه الصفات تَصِف بالتعبير غير المجازي الناسَ لا الدول) وهو ما يجعل من السهل اعتبار أن هذه الصفات تنطبق من جديد على «الشعب»، خصوصًا لأن الصفة الثانية يعود صداها في عبارة «حلفاء موالين» في السطر «٩٦». وهذا المثال يطبق في السطرين ٨٠-٨١ الصفتَين أنفسهما على ضمير المتكلم الجمع، وهو الذي يمكن أن نعتبره، كما سبق لي أن ذكرت، عائدًا على الحكومة أو على «الشعب» كلِّه. وما دمنا نستطيع في هذه المرحلة إدراك أن هذه الصفات تنتمي «للشعب»، فمن اليسير تفسير ضمير المتكلم الجمع باعتباره يشير إلى «الشعب».
ونجد في حالات أخرى مقولات تتسم بتنسيق قد يكشف عن حساسية السيدة ثاتشر لما يتميز به الجمهور من تنوُّع في الشرائح التي تحاول تحقيقَ تلاحمها في قاعدة واحدة. وربما أفضل مثال قولها في السطر «٦١» «امتلاك عقار فامتلاك المنزل». إذ إن بعض أفراد القاعدة الشعبية للسيدة ثاتشر يرَون أن امتلاك عقار ذو معنًى باهر يزيد على قدرة الانتفاع بالرهن العقاري، وأما الغالبية فمن المحال أن ترى فيه ما يزيد عن هذا. ولدينا حالة أخرى في السطور ٥١–٥٥؛ حيث إن إعلاء قيمة العملة تعبيرٌ يفهمه كلُّ أفراد الجمهور، ولكن السياسة المالية السليمة تعبير شبه تقني ينتمي إلى النظرية الاقتصادية الثاتشرية، ولا يستطيع إدراك دلالته إلا «المحيطون ببواطن الأمور». ولدينا مثال آخر مختلف بعض الشيء في السطور ٤٥–٤٧؛ حيث يعامل الجزء الثاني من العبارة المنسقة الشئون الحكومية معاملة الأشخاص، أي من حيث العلاقات فيما بين الأشخاص (أنك ملتزم بكلمتك) وربما كان القصد من هذا توصيل الفكرة إلى شرائح معينة من الجمهور. وقد يخطر على بال المرء هنا ما اشتهر من القياس الذي تُقيمه السيدة ثاتشر بين الاقتصاد القومي والاقتصاد المنزلي. والمثال الأخير بالغ الاختلاف فالتنسيق بين الصناعات المزدهرة والخدمات المزدهرة (٥٦) نموذج صغير للطاقة الإبداعية الأيديولوجية، وتفسيره يقتضي من الجمهور الافتراض المضمر بإمكان تقييم الخدمات وفق معايير نجاح تُماثل ما يُطبق على الصناعات، وهو افتراض ثاتشري حقًّا. وهذا المثال ينتمي في الواقع إلى فئة المضمون، أي تمثيل العالم.

وهاك ملاحظة أخيرة حول استخدام السيدة ثاتشر للقوائم. فعندما يواجه المرءُ قائمةً ما فإنه يواجه في الحقيقة مجموعة من الأشياء التي يرتبط بعضها ببعض ولكن دون أدنى إشارة إلى نوع الارتباط على وجه الدقة. وهذا يعني أن على المفسر أن «يقوم بالعمل المطلوب»، بمعنى أن يستنبط الروابط التي تُركت مضمرة. وهكذا ففي حدود قيام قوائم السيدة ثاتشر «بعمل» أيديولوجي تجاه جمهورها، فإن أفراد الجمهور يُجتذبون إلى أداء بعض هذا العمل تجاه أنفسهم!

(٨) الصراع: سياق التناص

لا يستنكف المذهب الثاتشري، كما سبق أن قلت، مهاجمة الخصوم السياسيِّين، وإن لم تكن في النص الذي ننظر فيه أية إشارات سافرة على الإطلاق إلى الخصوم. ولكنَّ فيه عددًا محدودًا من الإشارات المستترة إليهم، ولنا أن نعتبرها وفقًا لما قاله الفصل السادس إشاراتٍ إلى نصوص معارضة في سياق التناص. ولنا عند إجابة هذا السؤال التركيز على جملتَين منفيَّتَين ٢٢–٢٣، وتقع المقولات المعارضة المؤكدة (المطبوعة بالبنط الأسود) في السطور ٤٨، ٥٠، ٥٥-٥٦، و٩٣–٩٥.

السؤال الرابع: ماذا في معالم النص من آثار الصراع بين منتجة النص وبين خصومها؟

(١) الجمل المنفية. المقولات المنفية تستدعي وترفض المقولات المثبتة المقابلة لها في سياق التناص، ولكن الصورة أشد تعقيدًا مما يُوحي به هذا في حالة المقولات المنفية في السطرين ٢٢-٢٣ لأنه من المحال أن نتصور نسبةَ المقولتَين المثبَّتتَين التاليتَين إلى الخصوم السياسيِّين للسيدة ثاتشر: إنهم ينتظرون أن يأمرهم أحد/إنهم يحبون فعلًا أن يسوقهم أحد. وتنحصر المسألة في أن منتجي النصوص، عندما يُحيلون القارئ إلى النصوص المعارضة في سياق التناص، يُعيدون صياغةَ هذه النصوص في جميع الأحوال، فيستبدلون صياغة أيديولوجية معارضة بصياغة خصومهم. والسيدة ثاتشر. في هذه الحالة تُحيل القارئ إلى صيغة موجبة أخري كي تُبرز خطأها، والأرجح أن تكون هذه على النحو التالي: الناس تحتاج إلى الإرشاد أو الناس على استعداد صادق لتلقِّي الإرشاد (من هيئات الرعاية الاجتماعية).
(٢) المقولة المؤكِّدة. هذه في الواقع عكس النفي. فهي تستدعي وترفض مقولةً منفية مقابلة لها. وفي السطر ٤٨ من المقتطف مثلًا نقرأ: «لا بد أن تُبدى القوة بالنسبة للقانون والنظام»، وهو ما يمكن أن يُحيل القارئ، بعد تعديل الصياغة المشار إليه آنفًا، إلى مقولة منفية؛ مثل: «لا يوجد ما يدعو إلى تضخيم قضية القانون والنظام» في سياق التناص. وقِس على ذلك السطر ٥٠. وأما في السطور ٩٣–٩٥ فإن التوكيد المضاد يعمل بأسلوب مختلف إلى حدٍّ ما؛ إذ يعتبر طريقة لتكرار المقولات التي صرحت بها في موقع سابق من المقتطف، وأما المثال الوحيد على المقولة المعارضة فيقع في السطرين ٥٥–٥٦: فإن كلمة الشعب تحمل تأكيدًا خاصًّا، ونُفسر تأثيره بأنه يعني «أنت تتوقع من الشعب لا من سين أو صاد أن يخلق صناعات مزدهرة وخدمات مزدهرة». وأما تحديد هوية سين أو صاد فمتروك للجمهور استنادًا إلى معرفته الاجتماعية، وكذلك السياق المباشر الذي تُجري فيه السيدة ثاتشر مقابلةً بين الشعب وبين الحكومة. وأتصور أن المقصود بسين وصاد هو الحكومات، وأن السيدة ثاتشر تُشير هنا إلى سياسات خصومها السياسيِّين التي تقول بأن على الحكومات أن تتحكم مباشرةً في الاقتصاد وفي الخدمات. والتنسيق الذي يربط الصناعات المزدهرة والخدمات المزدهرة تنسيقٌ دقيق هنا؛ إذ ينسب إلى المعارضة التزامها بمسئولية الحكومة عن الخدمات التي تقول: إن معايير نجاحها هي معايير نجاح الصناعة نفسها.

(٩) التفسير

علينا أن نحاول الآن أن نُعيد، جزئيًّا، بناءَ عملية الإنتاج عند السيدة ثاتشر حتى نبيِّن كيف تنشأ المشكلات وكيف نحاول حلَّها. وأسلوب العمل المثالي يقتضي منَّا أن نُعيدَ بناء العمليات التفسيرية عند أفراد الجمهور، وإلا استحال علينا أن نعرف إن كان الحل الذي وضعَته السيدة ثاتشر قد نجح عند الجمهور. ولكنني سوف أُقدِّم تعليقًا أو تعليقَين على ذلك في الختام، بسبب عدم إدراجنا أية معلومات عن الجمهور في دراسة الحالة. والوضع المثالي أيضًا أن نستكمل المعلومات المتاحة لنا والتي تُمكننا من تفسير عملية الإنتاج عند السيدة ثاتشر بما تُقدِّمه من مبررات لاختياراتها النصية، على سبيل المثال.

ولسوف أفترض افتراضًا أدناه يرمي إلى تبسيط الحالة فأعتبر أن محاولات السيدة ثاتشر لحل المشكلات، وما يرتبط بها من الجمع بين أنماط الخطاب، خاصة بنمط الخطاب المحدد الذي اقتطعنا منه المقتطف وأنها جديدة عليه. والواقع يقول: إن هذا بالقطع ليس صحيحًا، فإن السيدة ثاتشر تستفيد من الجمع بين أنماط خطاب أصبحت تقليديةً عندها ولا تحتاج إلى إعادة خلْقها من جديد في كل خطاب. ولنا أن نتصور أن هذه تمثِّل «رأسمالًا» متراكمًا من جميع ما أنجزتُه من قبلُ في إعادة البناء. وهكذا فإن افتراضي القائم على التبسيط سوف يجعل هذا الخطاب الخاص يبدو أكثرَ تجديدًا مما هو عليه في الواقع.

السؤال الخامس: ما المشكلات التي تنشأ للسيدة ثاتشر في غضون إنتاج النص بسبب حالات التناقض بين مواردها وبين تحليلها للموقف؟ وما الصور الجديدة للجمع بين أنماط الخطاب التي تولدها في محاولة حلِّها؟

فلنبدأ بتفسير سياق التناص، مستخدمين الإطار الوارد في الفصل السادس. والتفسير الذي أقول به استنادًا إلى الأدلة النصية هو نفسه — فيما يبدو — التفسير الذي تستعمله السيدة ثاتشر. فأما من حيث «ما يحدث» فإن نمط النشاط مقابلة سياسية إذاعية، ولاحِظ أن هذا التعريف يقدِّم لنا مكانةً مؤسسية مزدوجة أي تجمع بين السياسة والإذاعة. وأما من زاوية المشاركين، ومن حيث «نوع العلاقات» فإن مواقع الذوات للمشاركين هي: (١) متحدث، ومخاطب، ومستمعون (أي مواقع الكلام والاستماع المرتبطة بالموقف)، و(٢) مَن يُجرِي المقابلة، ومَن تُجرَى معه المقابلة، و«المشاهدون» (المواقع المرتبطة بنمط النشاط). ولما كانت لدينا مكانة مؤسسية مزدوجة فإن لدينا أيضًا (٣) مجموعتَين من الهويات المنسوبة إلى المشاركين وفق المؤسستَين؛ فالأولى تنتمي إلى الإذاعة، وتضم الشخصية الإعلامية، والصحفي، والجمهور. والثانية تنتمي إلى السياسة، وتضم الزعيم السياسي، والصحفي، وأفراد الجمهور. ومن الجوانب الأخرى ذات العلاقة بالمشاركين أن السيدة ثاتشر امرأةٌ تخاطب القائم بالمقابلة، وهو رجل، أمام جمهور يجمع بين النساء والرجال، وأن هذا الجمهور من المحتمل أن يتمتع بالتنوع الاجتماعي والسياسي، وإن كان التنوع محدودًا ما دامت هذه مقابلةً مذاعة في البرنامج الثالث [برنامج الخاصة].

وافتراضي يقول، حتى هذه اللحظة، إن تفسير موقف المذيع مايكل تشارلتون لا يختلف كثيرًا عن تفسير موقف السيدة ثاتشر، وإن كان من المحتمل أن يختلف تفسيرُ كلٍّ منهما إلى حدٍّ ما للأغراض والموضوعات (جوانب «ما يحدث»). فالوعاء المؤسسي للخطاب عند تشارلتون هو الإذاعة، وللسياسة مكانة ثانوية، باعتبارها موضوعًا وحسب، والمستمعون في المقام الأول جمهور الإذاعة، والسيدة ثاتشر أساسًا «شخصية عامة». وهكذا فإن الغرض من البرنامج (بل من سلسلة البرامج التي ينتمي إليها هذا) هو إتاحة الفرصة للجمهور حتى يطَّلع على آراء شخصية عامة مهمة.

وتقبل السيدة ثاتشر — في الظاهر — هذا كلَّه. ولكنها ملتزمة تقريبًا، على مستوًى خفيٍّ، باعتبارها سياسية، بأن تعتبر أن الوعاء المؤسسي للخطاب هو السياسة، وأن تعتبر الإذاعة وسيلة سياسية، وأن المستمعين في المقام الأول أفراد الجمهور، وأنها في المقام الأول زعيمة سياسية. ومن ثَم فإن لديها غرضًا يكمن تحت قبولها الظاهري للتعريف الذي يُقدِّمه المذيع لأغراض المقابلة، وهو غرض لا تعترف به صراحةً (وإن كان مفهومًا على نطاق واسع) وهو غرض استراتيجي يتلخص في إحداث تأثير مُواتٍ سياسيًّا في أفراد «الجمهور» من المستمعين. ويؤدي هذا الغرض الاستراتيجي بالسيدة ثاتشر إلى التخلي عن «ذاتها» وعدم محاولة الانتساب إلى الجمهور الذي تفترضه، بل أن تبنيَ صورة لنفسها، وصورة لجمهور مستمعيها، وصورة للعلاقة بينهما تتفق مع غرضها الاستراتيجي.

وأنا أركز هنا على السياق الموقفي لا على سياق التناص، ولكن دعونا نتأمل الأخير لحظة واحدة: إن على السيدة ثاتشر أن تقوم بتقييم خبرة التناص التي يتمتع بها المذيع والجمهور حتى تُحدد ما ينبغي السكوت عنه والنصوص التي يمكنها الإحالة إليها. ويبدو أن تقييمها للجمهور حاسم، فهي تتحاشى افتراضَ خبرات تناص قد يتمتع بها المذيع ولا يتمتع بها الكثير من أفراد الجمهور. ومن الأمثلة على ذلك آثار الصراع التي نوقشت في الإجابة عن السؤال الرابع.

ولننتقل الآن إلى حالات التناقض بين بعض العناصر في هذا التحليل، وموارد السيدة ثاتشر، وكيف تبدو كمَن يحاول التوفيق بينها. وسوف أتبع ترتيب الأسئلة من ١–٣ أعلاه، فأناقش العلاقات ثم موقع الذات الخاص بالسيدة ثاتشر، وبعده موقع الذات الخاص بالجمهور.

فأما عن العلاقات، فسوف أفترض تبسيطًا للأمور أن موارد السيدة ثاتشر تتضمن أنماطَ خطاب تجسِّد افتراضات معينة عن العلاقات بين الزعماء السياسيِّين والجمهور تتفق تقريبًا مع افتراضات تشيرشيل أو آتلي أو إيدن من بين رؤساء الوزراء الذين جاءوا بعد الحرب. وإذا لخصنا هذه الافتراضات في وصفة للزعامة السياسية وجدناها تقول: «حافظ على ابتعادك وأكِّد سلطتك». والواقع أن رؤساء الوزارات الذين توالوا منذ الحرب، قد صادفوا زيادةً مطردة في تعقيد هذه العلاقة القائمة على الابتعاد والتسلط، لأسباب أُشير إليها عندما نأتي إلى السؤال السادس. وفي هذا المثال نستطيع أن نرى أن هذا ينشأ مباشرةً من التناقض بين هذه الموارد وبين تحليل علاقات المشاركين التي تحاول السيدة ثاتشر فرضَها على السياق لأغراض استراتيجية. وقد اختلفت باختلاف السياسيِّين أشكالُ الاستراتيجية التي تتبعها السيدة ثاتشر لحل المشكلة، بالجمع بين العناصر العلائقية لخطاب المحادثة (كاستعمال ضمير المخاطب وغيره) وبين العناصر العلائقية لنمط الخطاب السياسي التقليدي المعبرة عن السلطة (أي الكلام باسم «الشعب»). وهكذا تتغير الوصفة لتصبح «ازعمْ تضامنك ولكن أكِّد سلطتك». ولكنَّ أمامنا خطرًا يتمثل في أنَّ مَن يزعم التضامن يعجز عن الحفاظ على السلطة، وهو ما يجعل تحقيقَ هذا المزيج إشكالية معينة. وتزداد شدةُ الإشكالية بالنسبة للسيدة ثاتشر بسبب الاستبعاد التقليدي للمرأة عن مواقع السلطة. ويؤدي بنا هذا إلى التناقض التالي.

ففي حالة موقع الذات الخاص بالسيدة ثاتشر، نرى تناقضًا بين الموارد التي طالما أُتيحت للسياسيِّين (باستثناء التغييرات في الموارد التي أسهمت السيدة ثاتشر نفسها في استحداثها قبل إجراء المقابلة الشخصية) بما في ذلك الافتراضات الكامنة في أنماط الخطاب والتي تقول: إن موقع الذات للزعيم السياسي موقعٌ ذكوري، وبين الحقيقة الواضحة وهي أن السيدة ثاتشر امرأة، بل وبين صورة الذات التي ترغب السيدة ثاتشر في إبرازها في السياق لأسباب استراتيجية أيضًا. ونلاحظ أن المشكلة في هذه الحالة لا تتعلق بهدم بناء سابق لأنماط الخطاب بالنسبة للزعيمة السياسية؛ إذ لم يَقُم من قبل مثل هذا البناء قط. ومن الممكن تلخيص الاستراتيجية التي تُطبقها السيدة ثاتشر لحل المشكلة في الوصفة التالية «كوني سلطوية، حاسمة، صلبة، ولكن من دون الانتقاص من أنوثتك». ويبدو هذا متناقضًا لأن الصفات الثلاث في الجزء الأول ترتبط جميعًا بالذكورة. وأما ما تفعله السيدة ثاتشر فهو الجمع بين العناصر السلطوية التعبيرية الخاصة بنمط الخطاب السياسي الذكوري التقليدي (مثل النوعية السلطوية)؛ وبين عناصر «الصلابة» التعبيرية (كقولها «اسمع»! ورفضها لمحاولة المذيع حرمانها من دورها في الحوار) الخاصة بأنماط خطاب ذكورية أخرى؛ وبين عناصر أنثوية تعبيرية تكتسب أشد وضوح لها في الخطاب البصري للزيِّ الذي تتزيَّا به، وأيضًا معالم النوعية غير السلطوية؛ مثل قيمتَي إنكار الذات والحصافة اللتين نسبتُهما إلى هذه المعالم، فهي أنثوية نمطية. وعلى الرغم من إحراز السيدة ثاتشر نجاحًا باهرًا في بناء موقع زعيمة أنثوية، فإن ذلك الموقع أبعد ما يكون عن الموقف النسوي (أي مذهب نصرة المرأة). وارجع إلى المناقشة في السؤال السادس.

ونصل أخيرًا إلى موقف الذات الخاص بأفراد «الجمهور» الذين يُشكِّلون جمهور المستمعين. ويقع التناقض في هذه الحالة بين الافتراضات التي يصادفها المرء في الأشكال التقليدية للمذهب المحافظ بشأن «الجمهور»، وبين «الجمهور» التي تبنيها السيدة ثاتشر اهتداءً بالتزاماتها وأهدافها السياسية المحددة. أي إن استراتيجية السيدة ثاتشر، كما رأينا، ترمي إلى الجمع بين عناصر معينة من المذهب المحافظ التقليدي (مثل العاطفة الوطنية، والالتزام بالأسرة … إلخ) وبين الخطاب الليبرالي الجديد (المناهض لتدخل الدولة وما إلى ذلك بسبيل). والخصائص الأخرى لصورة «الشعب» التي ترسمها تترتب على ما سبق قوله عن العلاقات وعن موقع الذات للسيدة ثاتشر: أي إن «الشعب» يقبل الزعماء المتسمين بالصلابة والحسم، ويقبل حقَّ هؤلاء الزعماء في القول بتضامنهم مع «الشعب» وفي الإفصاح عن رغباتهم وآمالهم ومخاوفهم وهلمَّ جرًّا. وهذا تصوير «شعبي» للشعب، وعنصر آخر من عناصر إعادة البناء الجديدة عند السيدة ثاتشر.

(١٠) الشرح

ووفقًا لمقتضيات مرحلة الشرح حسبما عُرضت في الفصل السادس، أرى أن علينا الآن أن ننظر في خطاب السيدة ثاتشر باعتباره عنصرًا من عناصر عمليات اجتماعية تجري على المستويَين المؤسسي والمجتمعي، وأن نبيِّن أنه يخضع — أيديولوجيًّا — لسيطرة علاقات السلطة وصراع السلطة، مثلما يتحكم فيهما على هذين المستويَين أيضًا. وسوف أجعل السؤال السادس ذا شقين، يتفق كلٌّ منهما مع أحد المستويَين؛ مستوى المؤسسة الاجتماعية ومستوى المجتمع.

السؤال ٦أ: ما العمليات المؤسسية التي ينتمي إليها هذا الخطاب؟ وكيف تُحدِّد الأيديولوجيا صورتَه وكيف يُحدِّد صورةَ الأيديولوجيا؟

إن الوعاء المؤسسي لهذا الخطاب معقَّدٌ إلى حدٍّ ما؛ لأن السياسة تتدخل في عدد من المؤسسات، مثل الأحزاب السياسية، والمؤسسات السياسية (مثل البرلمان)، والمؤسسات الحكومية (الأجهزة البيروقراطية للدولة مثلًا)، وأجهزة الإعلام بطبيعة الحال. ويتعلق سؤال طريف بالمسار الذي سار فيه الخطاب الثاتشري مخترقًا الحدودَ المؤسسية. وفي المثال الحال نرى أن الوعاء المؤسسي المباشر هو أجهزة الإعلام (الإذاعة) ولكن السيدة ثاتشر، كما قلت عاليه، لا تسمح لنفسها بالتقيد بهذا الوعاء.

وأما العمليات المؤسسية التي ينتمي إليها الخطاب فهي — عمومًا — الصراع بين الأحزاب السياسية (في أجهزة الإعلام والمؤسسات الأخرى) في سبيل المؤازرة السياسية والسلطة السياسية (الحكومية) وبصفةٍ أخص صراع «اليمين الجديد» الثاتشري للتفوق داخل حزب المحافظين، ثم في سبيل السلطة الحكومية، ثم في سبيل بناء توافق جديد في الآراء السياسية. ولك أن ترجع إلى المناقشة العامة للمذهب الثاتشري أعلاه. ولقد كان الخطاب الثاتشري الذي ننظر في نموذج منه عاملًا مهمًّا في هذا الصراع، وربما يكون مثالًا مُقنِعًا لطاقة الخطاب على التأثير في علاقات القوة وثمار الصراعات، من خلال تشكيله للأيديولوجيات وآثاره التي تتحكم فيها. وسوف أركز في هذا المستوى على الطرائق التي يُحدِّد بها خطاب السيدة ثاتشر هذه الأيديولوجيات وصورته الإبداعية، كما أناقش كيف تُحدِّد الأيديولوجيا صورتَه في إجابة السؤال ٦ب.

يمكن اعتبار خطاب السيدة ثاتشر ذا طاقة على السيطرة الأيديولوجية على العلاقات الاجتماعية في حدود قدرته على إيجاد ارتباط خاص بين السلطة والتضامن في العلاقات ما بين السيدة ثاتشر، باعتبارها زعيمة سياسية، وبين «الجمهور». ولكن الواقع، كما ذكرت آنفًا، أن عزل مقولات السيدة ثاتشر أو مقولات المذهب الثاتشري وفصلها عن سواها يتضمن قدرًا ما من التزييف؛ إذ إن هذه المقولات تُشكِّل جانبًا من جوانب إعادة البناء الأعم للعلاقة بين الزعيم والجمهور، وهو الجهد الذي شاركَت فيه معظمُ الأحزاب السياسية الرئيسية. ويعتبر النمو الهائل في أهمية أجهزة الإعلام باعتبارها موقعًا مؤسسيًّا للصراع السياسي عاملًا يفسِّر لنا ذلك؛ إذ أصبح من الصعب الحفاظ على علاقة متعالية أبوية إزاء الالتزام الغلاب لأجهزة الإعلام بالحفاظ على علاقات تقوم على المساواة بين الإعلاميِّين و«العاملين» والجماهير. لكنني أومن بوجود أسباب مجتمعية أعمق سوف أتناولها أدناه. لقد أصبحت بعضُ صور المزج بين التضامن والسلطوية الآن من أعراف الزعماء السياسيِّين ولكنَّ تأثيرَها — من حيث التضامن — في العلاقة الاجتماعية بين السياسيِّين وباقي السكان يستحيل التسليم به. فإن التضامن الذي يُبديه السياسيون تضامنٌ مع صور مصطنعة وخيالية للجمهور، وهم لا يُعربون عن تضامنهم مع جميع الشرائح المنوعة للجمهور الفعلي، بل ومن المحال أن يتصور أحد مثل أن هذا الزعم متبادل! فمثل هذا «التضامن»، زائف وهمي أعود لمناقشته في القسم الخاص بالسؤال ٦ب.

وأما التأثير الأيديولوجي للسيدة ثاتشر فيما يتعلق بالهويات الاجتماعية للزعيمة السياسية و«الجمهور» فإنه يعود — بتحديد أكبر — إلى إبداعاتها الخاصة. فلقد اكتسبت المؤسسات السياسية نوعًا جديدًا من الزعامة التي تجمع بين الخصائص السلطوية التقليدية وبين الأسلوب الصلب المقدام في الزعامة، فإنها دعَّمَت موقفَ اليمين الجديد في السياسة في بريطانيا. أما مدى تدعيمها لموقف المرأة فمسألة لم تُحسم بعدُ. ولا شك أن المرأة سوف يسهل عليها أن تُشغل مواقع سيادية قيادية بفضل ارتياد السيدة ثاتشر لهذا المجال، وإن كان ذلك في حدود صارمة، وارجع إلى السؤال ٦ب حيث أناقش ذلك. وأما فيما يتعلق بالهوية الاجتماعية «للجمهور»، فالظاهر أن السيدة ثاتشر وأتباع المذهب الثاتشري قد نجحوا إلى حدٍّ كبير في إنشاء قاعدة اجتماعية للنزعة الفردية القائمة على المنافسة التي يدعون إليها.

والآن إلى السؤال ٦ب، والانتقال من المستوى المؤسسي إلى المستوى المجتمعي:

السؤال ٦ب: ما العمليات المجتمعية التي ينتمي إليها هذا الخطاب؟ وكيف تحدد الأيديولوجيا صورتَه وكيف يحدد صورة الأيديولوجيا؟

سوف أعلِّق على هذا الخطاب باعتباره جزءًا من عمليَّتَين مجتمعيَّتَين، الأولى هي الصراع الطبقي بين الطبقة الرأسمالية (أو الكتلة المهيمنة التي تُشكلها) وبين الطبقة العاملة وحلفائها؛ والثانية هي الصراع بين المرأة والرجل. ولن يقتصر تركيزي هنا، كما فعلت في تناول السؤال ٦أ، على جوانب الخطاب التي تقوم بالتشكيل الأيديولوجي فقط، بل سوف أركز أيضًا على أسلوب تفاعل هذه الجوانب مع العناصر التي تخضع للتحكم الأيديولوجي فيه. وسوف يعود هذا بنا إلى العلاقة الجدلية بين التحكم الاجتماعي في الذات وطاقة الذات الإبداعية، وهي التي كانت نقطةَ انطلاقنا في بداية الفصل.

ولنبدأ بالعلاقات الاجتماعية، فنقول: إن الكتلة المهيمنة في مجتمعنا الرأسمالي تمارس الهيمنة الاقتصادية والسياسية على الطبقة العاملة والطبقات الوسطى الأخرى في المجتمع، على نحو ما بيَّنته في الفصل الثاني (انظر الطبقة والسلطة في المجتمع الرأسمالي) ومن ثَم فإن علاقة أصحاب السلطة في الحياة العامة بجماهير السكان علاقة تحكُّم وسيطرة. والملاحظ في السياسة، وفي غيرها من المجالات، أن الطامحين إلى السلطة — الأحزاب التي تسعى للظفر بسلطة الحكم — يسعَون إلى تحسين أحوال الطبقة العاملة بدرجات متفاوتة، من دون أن يطعنوا في السيطرة الطبقية. ومن ثَم فإن عنصر السلطة في الزعامة السياسية، مثل الزعامة في مجالات أخرى، تتحكم في تحديده العلاقات الطبقية.

لماذا إذن يتصنع الزعماء السياسيون التضامنَ مع «الشعب»؟ أعتقد أن ذلك في جوهره استجابةٌ للتغيرات في ميزان القوى بين الطبقة الرأسمالية وكتلتها المهيمنة من جانب وبين سائر المجتمع من جانب آخر. فلقد شهد القرن العشرون زيادةً تدريجية وإن لم تكن دائمًا ميسرة، في قدرة الطبقة العاملة وحلفائها على تحديد مسار الأحداث داخل الرأسمالية، من خلال نمو النقابات، والتمثيل السياسي في البرلمان والحكومة من خلال حزب العمال وهلمَّ جرًّا. وإزاء ذلك ظهرت أيديولوجية «شراكة» حاولت تصوير المجتمع الرأسمالي في صورة المجتمع الخاضع «للشراكة» بين الرأسماليِّين والعمال. وهكذا اختفت العلاقات السطحية المميزة للتفاوت الاجتماعي برمَّتها من مؤسسات كثيرة، وليست السياسة سوى مؤسسة واحدة منها.

ويرتبط «تضامن» الزعماء السياسيِّين مع «الجمهور» ارتباطًا وثيقًا إلى حدٍّ بالغٍ بظاهرة أعم من ظواهر أجهزة الإعلام الجماهيرية، وغيرها من المجالات الاجتماعية، وهي مفهوم إضفاء طابع شخصي مصطنع، وكنت قدمت هذا المفهوم في الفصل الثالث، وسوف أقول المزيد عنه في الفصل الثامن. وإضفاء الطابع الشخصي الاصطناعي يحاكي التضامن، ويبدو أنه كلما زادت «جماهيرية» أجهزة الإعلام، وكلما قلَّ من ثَم احتكاكها بالأفراد أو بجماعات معينة في جماهيرها، ازداد حدبُ الإعلاميِّين وكبار «الشخصيات» (والسياسيون من بينهم) على ادعاء علاقتهم بأفراد الجمهور باعتبارهم أفرادًا يتقاسمون مساحاتٍ شاسعةً من الأراضي المشتركة. ويعمل هذا الشكل من أشكال التضامن باعتباره استراتيجية «احتواء»، بمعنى أنه يمثِّل إقرارًا بقوة الطبقة العاملة وحلفائها من ناحية، لكنه يمثِّل نقابًا من المساواة يُمكِّن ضروب التفاوت الحقيقية من ورائه في المجتمع الرأسمالي أن تستمر من ناحية أخرى. وهكذا فإن العنصر المسيطر أيديولوجيًّا «يحتوي» في داخله العنصر الخلَّاق والخاضع للسيطرة الأيديولوجية. وهذه هي العلاقة التي سوف أُبيِّن أنها تشمل شتى أرجاء الخطاب الثاتشري.
فإذا انتقلنا إلى الهوية الاجتماعية لزعيمة سياسية، استطعنا أن نرى كذلك سياسةَ احتواء تُمارَس تحت قناع الارتقاء بموقع المرأة، وهو ما يحققه التأويل السطحي لما تقوله السيدة ثاتشر وتفعله. وقد رأينا نساءً ذوات سلطة بعدها، ولكن السيدة ثاتشر، في إحرازها السلطة، تُصور أسلوبًا من أساليب المرأة يعتبر في جوهره أبويًّا، وهو يعيد إنتاج المجتمع الأبوي في التظاهر بأن يخترقه. وهذه مفارقة إذن، فإن ما يبدو كسبًا للمرأة يمثِّل هزيمةً للمذهب النسوي [أي نصرة المرأة]. وكما هو الحال في العلاقات الاجتماعية، يتضمن إنجاز السيدة ثاتشر عنصرَ إقرار أو تسليم معين، أي التسليم بازدياد قوة المرأة في الاقتصاد، وفي المهن، وفي الحياة العامة. ولكنه كذلك تسليمٌ ذو حدَّين؛ إذ يعني احتواءَ الارتقاء بالمرأة داخل حدودٍ أبويَّة. ولنا أن نقول ما يماثل هذا عن الحدود التي تتقدم فيها المرأة لاحتلال مواقع ذات سلطة أكبر نسبيًّا في الشركات والمهن والشرطة وهلمَّ جرًّا.
ولكن حالة الهوية الاجتماعية التي ترسمها السيدة ثاتشر «للجمهور» تختلف بعض الشيء؛ وذلك أن المسألة لا تتضمن إقرارًا أو تسليمًا بأيِّ معنًى من المعاني. ومع ذلك فإن القول بأن الإبداع الأيديولوجي الظاهر يخضع للاحتواء داخل معايير السلطة الطويلة الأجل التي تعمل في نطاقها السيدةُ ثاتشر قولٌ صحيح. وبعض الأبنية المحافظة التقليدية لصورة الجمهور تؤكد بعض العناصر التي تظهر في أبنية السيدة ثاتشر لا في غيرها، فهي تؤكد خصوصًا التزامات معينة، مثل الأمة والأسرة باعتبارها تعريفات «للجمهور»، وأما في سياق الصراع الطبقي في أي مجتمع رأسمالي، فالعامل الحاسم لا يتمثل في أسلوب تعريف «الجمهور» على وجه الدقة بقدر ما يتمثل في عدم تعريفه من زاوية الطبقة الاجتماعية. وفي هذا الصدد تعتبر صورة «الجمهور» عند ثاتشر مجردَ صورة محلية من بين صور أخرى. كما توجد روابط بين السياسة وشتى المجالات المؤسسية التي تتشكل أو تتكون فيها بعضُ الأشكال الجماعية «للجمهور»، مثل «المستهلكين» في مجال الإعلان، من دون أن تظهر فيها قطُّ الطبقةُ الاجتماعية، أو مواقع الأفراد في عمليات الإنتاج الاقتصادي وما إلى ذلك بسبيل.

الخاتمة

قلت لتوِّي عاليه: إن خطاب السيدة ثاتشر يتميَّز بعلاقة احتواء بين العوامل الأيديولوجية الخلَّاقة، والعوامل المسيطرة أيديولوجيًّا، وإن الأولى لا تنشأ وتترعرع إلا داخلَ حدودٍ تضعُها الأخيرة. ويعتبر هذا إيضاحًا خاصًّا للمقولة العامة التي استهللتُ بها هذا الفصل عن الإبداع الفردي والسيطرة الاجتماعية. فليس الإبداع الفردي بحال من الأحوال، في الخطاب أو بصفة أعم، بذلك الجهد الإرادي المستقل عن المجتمع الذي شاع تصوُّرُه؛ فدائمًا ما توجد ظروف اجتماعية معينة تمنحه الفاعلية وتفرض القيود عليه، بل إنها قد تؤدي إلى إفساده جزئيًّا (كما في هذه الحالة).

المراجع

اعتمدتُ اعتمادًا كبيرًا في هذا الفصل على كريس (١٩٨٥م) الذي يتضمن مناقشةً مفيدة للعلاقة بين الذات والإبداع والسيطرة الاجتماعية في الخطاب. ويعتبر عملُ فوكوه، خصوصًا فوكوه ١٩٧٢م، خلفيةً عامة لهذا الفصل. انظر أيضًا فيركلف (1992a). ولاكلاو وموف (١٩٩٥م) عمل نظري مهم عن الخطاب السياسي. وفيما يتعلق بالخطاب السياسي «لحزب العمال الجديد» انظر فيركلف (2000a)؛ وفيما يتعلق بالمذهب الثاتشري انظر: هول وجاك (١٩٩٣م)، وجيسوب وغيره (١٩٨٨م). وكتاب كاندلين ولوكاس (1988b) يقدِّم تحليلًا موحيًا للجمع الخلَّاق بين أنماط الخطاب في خطاب المشورة [التي يقدمها الاختصاصيُّون الاجتماعيون] بشأن تنظيم الأسرة. وانظر أيضًا فيركلف (1992a).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤