الفصل الثامن

الخطاب في التغير الاجتماعي

ينبغي أن تُوجِّهَ الدراسةُ النقدية للغةِ اهتمامَها إلى الأبعاد الخطابية للاتجاهات الاجتماعية الرئيسية حتى تبتَّ في الدور الذي يلعبه الخطاب في نشأة التغير الاجتماعي وتطويره وتدعيمه. وهذا يعني تركيزَ انتباهنا على التغييرات في النظام المجتمعي للخطاب أثناء فترة معينة. وأرجو أن أبدأ بدايةً متواضعة في هذا الفصل بالنظر في العلاقة بين اتجاهات اجتماعية معينة واتجاهات معينة في نظم الخطاب في الرأسمالية المعاصرة. ولعل القراء يذكرون مناقشتي الموجزة لهذه العلاقة في الفصل الثاني، وعلى الرغم من أنني أُشير إلى بريطانيا فإن الاتجاهات الاجتماعية والاتجاهات الخطابية لها نظائرُ على ما يبدو في المجتمعات المماثلة.

(١) الاتجاهات في المجتمع والخطاب: ملخص

في صُلْب التحليل الذي أجراه يورجن هابرماس للرأسمالية المعاصرة الزعم بأنها تتميز إلى حدٍّ ما بوجود «نظم» تستعمر حياة الناس، وأن هذه النظم تضخَّمَت أبعادُها فوصلت إلى ما يعتبر أزمة. وأما «النظم» فهي المال والسلطة، أو الاقتصاد والدولة والمؤسسات. إذ نرى من ناحية أن الاقتصاد وسوق السلع — في صورة المذهب الاستهلاكي — يؤثران تأثيرًا هائلًا لا ينقطع في شتى جوانب الحياة، وأشد وسائطه وضوحًا هي التليفزيون والإعلان. ونرى من ناحية أخرى أن الدولة والمؤسسات تمارس سيطرةً غير مسبوقة (خصوصًا من جانب المؤسسات العامة) على الأفراد من خلال شتى أشكال البيروقراطية.

والذي أريد أن أقوله هو أن أشكال «استعمار» حياة الناس المذكور يتكوَّن جانبٌ منها من عناصر «الاستعمار» في النظام المجتمعي للخطاب. وأما النظام المجتمعي للخطاب فهو بناء معين للمقومات المؤسسية لنظم الخطاب، وأما الأبنية القائمة فيجوز (كما رأينا في الفصل السابع) أن تتعرَّض للهدم في غمار الصراع الاجتماعي. ولنا أن نرى أن الاتجاهات الاجتماعية التي حدَّدها هابرماس تفرضها الكتلة المهيمنة في الصراع، وأنها تتضمن إعادةَ بناء أنظمة الخطاب المجتمعية السابقة. وأنا واثق أن الكثير من القراء على وعيٍ بهذه «العملية»، وخصوصًا بالأسلوب الذي تمكَّنَت به صورُ خطاب المذهب الاستهلاكي والبيروقراطية من «استعمار» أنماط خطاب أخرى، أو توسيعها على حسابها. وسوف يجد القراء فائدةً في النظر في أمثلة خاصة بهم أثناء قراءتهم هذا الفصل.

ولنا أن ننظر في عمليات إعادة البناء المذكورة باعتبارها تحولاتٍ في العلاقات البارزة بين أنماط الخطاب داخل النظام المجتمعي للخطاب. وقد ظهرت أنماطُ خطاب المذهب الاستهلاكي بوضوح وجلاء داخل نظم الخطاب، وخصوصًا خطاب الإعلان، وأنماط الخطاب البيروقراطي، مثل خطاب المقابلات الشخصية. والظهور الواضح لا يقتصر معناه على شَغْلها موقعًا بارزًا، أو على أن الناس على وعيٍ بأهميتها، بل يعني أيضًا أنها تمثِّل موردًا ينهل الناس منه على نطاق واسع. وينتمي النمطان [المميزان للمذهب الاستهلاكي والبيروقراطية] إلى ما يسميه هابرماس الخطابَ الاستراتيجي، أي الخطاب الموجَّه لتحقيق غايات نفعية، وإحراز النتائج. ويقوم التضاد بصفة عامة بين الخطاب الاستراتيجي وبين الخطاب التوصيلي الذي يهدف إلى تحقيق التفاهم بين المشاركين. وبروز النمطين المشار إليهما أولًا يمكن تفسيره بأنه استعمار الخطاب الاستراتيجي للخطاب التوصيلي في النظام المجتمعي للخطاب (لاحظ أن هذا معنًى خاصٌّ وضيق أشد الضيق لمعنى صفة «التوصيلي»).

وقد أدَّت الصور المذكورة لاقتحام الاقتصاد والدولة للحياة إلى نشأة مشاكل وأزمات خاصة بالهوية الاجتماعية لكثير من الناس الذين خبروها وعالجوها على أسس فردية لا من خلال أشكال الصراع الاجتماعي. ويسعى عددٌ كبير من الناس اليوم إلى طلب شكل من أشكال المساعدة على حلِّ «المشكلات الشخصية»، إما في الصورة العارضة للأعمدة الصحفية والمقالات الخاصة بالمشاكل في المجلات، وإما في شتى صور العلاج أو تلقِّي المشورة. وقد غدَت أنواع خطاب العلاج والمشورة وما إليهما تمثل مجموعة أخرى، بارزة اجتماعيًّا، في داخل النظام المجتمعي للخطاب. وهكذا أصبحت — مثل أنماط خطاب المذهب الاستهلاكي والبيروقراطية — تمثِّل موقع استعمار داخل نظام الخطاب.

وسوف أناقش فيما يلي الجوانب المذكورة للنظام المجتمعي للخطاب، واحدًا بعد الآخر تحت العناوين التالية:
  • الإعلان والمذهب الاستهلاكي.

  • تكنولوجيات الخطاب والبيروقراطية.

  • خطاب العلاج.

وتجنُّبًا للإيحاء بأن الاتجاهات التي حدَّدتُها عاليه لا يوجد غيرها في الرأسمالية المعاصرة، فالقول بهذا خطأ، فإنني أختتم الفصل بمناقشة موجزة لاتجاهات أخرى، تعتبر مضادةً من زاوية معينة، في داخل المجتمع والخطاب.

(٢) الإعلان والمذهب الاستهلاكي

أبدأ هذا القسم بمناقشة المذهب الاستهلاكي ثم أنتقل إلى النظر في «لائحة الممارسة الإعلانية البريطانية» ابتغاءَ تحديد «النشاط» الأيديولوجي في الإعلانات. وبعد ذلك أناقش ثلاثةً من أبعاد النشاط الأيديولوجي في الخطاب الإعلاني واحدًا بعد الآخر، أولُها العلاقة التي يبنيها بين المنتج/المعلن وبين المستهلك، وثانيها أسلوب بناء «صورة» لأحد المنتجات، والثالث أسلوب بناء مواقع ذوات للمستهلكين. وتمثل هذه الأبعاد، على الترتيب، القيود المفروضة على العلاقات، والمضمون، والذوات، بالدلالات التي استخدمتها على امتداد هذا الكتاب. وبعد ذلك أناقش العلاقة بين العناصر اللغوية والبصرية في الإعلان، والزيادة المطردة في بروز الصورة البصرية. وأخيرًا آتي إلى ما أشرت عليه آنفًا بتعبير الاتجاهات «الاستعمارية» للخطاب الإعلاني.

(٣) المذهب الاستهلاكي

من خصائص الرأسمالية الحديثة المذهب الاستهلاكي الذي يتضمن تحويلَ التركيز الأيديولوجي من الإنتاج الاقتصادي إلى الاستهلاك الاقتصادي، وإلى إيجاد مستوًى غير مسبوق «لتعدِّي» الاقتصاد على حياة الناس. فلنرصد بإيجاز ظهور المذهب الاستهلاكي قبل النظر إلى تأثيره المعاصر.

نشأ المذهب الاستهلاكي من مجموعات من الظروف الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية التي أخذ معظمُها ينمو ويترعرع منذ العقود الأولى للقرن العشرين، وعلى الرغم من أننا نستطيع رصْدَ اتجاهات استهلاكية في الجزء الأول من هذه الفترة، قُل في العشرينيات على سبيل المثال، فقد ازداد بروز المذهب الاستهلاكي على امتداد الفترة كلها مع تطور أنماط الظروف الثلاثة المشار إليها، بل ولقد ساعد على أن يغذوَ نموه نفسه بالإسهام في تطورها، وخصوصًا في المجال الثقافي.

وترجع الظروف الاقتصادية في المقام الأول إلى مرحلة تطور الإنتاج الرأسمالي للسلع. فالمذهب الاستهلاكي ثمرة من ثمار الرأسمالية الناضجة؛ إذ بلغت الطاقة الإنتاجية حدًّا يُتيح إنتاج أنواع من السلع لا حصر لها في الظاهر وبكميات لا حصر لها في الظاهر أيضًا. وأما الجانب الثاني من جوانب الظروف الاقتصادية فهو موقع قوة العمل: فالمذهب الاستهلاكي يعتمد على مستويات للأجور تُتيح لقطاع كبير من السكان فائضًا لا يُستهان به من المال بعد سداد التكاليف الأساسية للعيش، ويُتيح أيضًا تخفيض ساعات العمل، وهو الذي يؤدي إلى توافر قدر كبير من أوقات الفراغ.

وأما الظروف التكنولوجية فهي أولًا الصحافة الحديثة، وهي التي كانت قائمةً من قبل في بداية القرن، ولكنها شملت ثانيًا، ظهور السينما والإذاعة والتليفزيون. فأما «الانطلاق» الحقيقي للمذهب الاستهلاكي فلم يبدأ إلا بظهور التليفزيون لا باعتباره ظاهرة تكنولوجية وحسب، بل أيضًا باعتباره مؤسسة ثقافية استأثرت بنسبة كبيرة من وقت الفراغ لدى نسبة كبيرة من السكان.

وأما المجموعة الثالثة من الظروف، وهي التي ينصبُّ عليها التركيز هنا، فهي ثقافية. إذ قامت الرأسمالية — في غمار التصنيع وبناء المدن — بتمزيق الروابط الثقافية التقليدية الخاصة بالأسرة المديدة، وبالمجتمع المحلي أو المجتمع الإقليمي أو المجتمع العرقي، وبالدين وما إلى هذا بسبيل. وقد حلَّت محلَّ هذه الروابط التقليدية في بعض الحالات روابطُ أخرى ولَّدها الناس في بيئاتهم المدنية والصناعية الجديدة، وأهمها الروابط الطبقية.

ولكن ذلك لم يحدث في جميع الحالات، بل حتى حيثما وُجدت هذه الروابط، فإنها كانت تتعرض للتقويض في حالات كثيرة؛ كتدهور التصنيع على سبيل المثال، ويُحيط كثير من القراء بأشكال شعور الأفراد بفقدان المجتمع المحلي أو بعدم وجوده أصلًا، ومنها الإحساس بانعدام الجذور، وفقدان الإحساس بحقيقة الواقع، وقلق المرء على هويته الاجتماعية، وهلمَّ جرًّا. ويرى كثير من الناس أن هذه خبرات فردية محضة. وهذا الفصل بين الأشخاص وبين مجتمعاتهم الثقافية التي يمكنها أن توفر لهم الشعور بالهوية وبالقيم وبالأهداف هو العامل الذي يؤدي عمومًا إلى نمو الممارسة العلاجية والخطاب العلاجي، على نحو ما أُقيم عليه الحجة فيما بعد.
ومما يشغلنا بصورة مباشرة تفوق ما سبق أسلوبُ نجاح رأس المال، من خلال الوسائط الإعلانية، في الزعم بأنه سدَّ هذه الفجوات. والإعلان بطبيعة الحال أبرز ممارسة مرئية للمذهب الاستهلاكي وأبرز خطاب بصري له، وأشد ما يدهمنا من خصائصه مباشرة نطاقه الهائل؛ إذ نتعرض جميعًا للحقن بجرعات يومية هائلة من الإعلانات، وقد يحلو للقراء أن يحسبوا عدد الإعلانات التي يشاهدونها أو يسمعونها كل يوم، في الإذاعة والتليفزيون والصحف والمجلات واللافتات أو الملقاة في صناديق البريد، وفي الدكاكين ومراكز التسوق وما إلى ذلك بسبيل. ويستند الإعلان إلى نطاقه «الكميِّ» المحض في تحقيق أهم آثاره «الكيفية»، ألَا وهو إنشاء مجتمعات ثقافية للحلول محلَّ المجتمعات التي دمرتها الرأسمالية. وإمداد الناس بالحاجات والقيم. ولك أن تقول: إن هذه المجتمعات الجديدة قد أدَّت إلى نزوح المجتمعات القديمة، ولم تحلَّ محلَّها وحسب؛ إذ إن هذه المجتمعات المصطنعة (أو المُخلَّقة) تُقدَّم باعتبارها بدائلَ عن المجتمعات الحقيقية. ويُطلق على هذه المجتمعات اسم المجتمعات الاستهلاكية. وتكمن في ذلك الدرجةُ غيرُ المسبوقة «لتعدِّي» الاقتصاد على حياة الناس، وهو ما أشرتُ إليه آنفًا. ويناقش السؤال التالي كيفيةَ حدوث ذلك.

(٤) الأيديولوجيا ولائحة الممارسة الإعلانية البريطانية

سأتبع في مناقشة كيفية بناء الإعلان لمجتمعات استهلاكية مدخلًا غيرَ مباشر، أي من خلال مناقشة بعض المقتطفات من لائحة الممارسة الإعلانية البريطانية، وهي مدونة طوعية لأصول الممارسة تُديرها هيئةُ المعايير الإعلانية، وتطبق على المطبوعات والأفلام السينمائية. وتعتمد الهيئة المذكورة في تمويلها على اتحاد الشركات الإعلانية، وهو الذي تزعم الهيئة أنه يتمتع بالاستقلال. وتُطبَّق لائحة إجبارية مماثلة على الإذاعة والتليفزيون، وتُديرها «هيئة الإذاعة المستقلة».

وفيما يلي مقتطفات قصيرة من النسخة المختصرة للائحة:
  • (١)

    ينبغي أن تكون جميع الإعلانات قانونية مهذبة صادقة أمينة.

  • (٢)
    لا تفرض بنودُ اللائحة قيودًا على حرية التعبير عن الرأي، بما في ذلك التقديرات الذاتية لمدى جودة المنتجات أو جاذبيتها، بشرط التحقق دائمًا مما يلي:
    • وضوح أن التعبير يُفصح عن الرأي وحسب؛

    • أنه من غير المحتمل أن يؤديَ ذلك الرأي أو الأسلوب الذي يعبر به عنه إلى تضليل المستهلكين حول أيِّ أمر يُثبت صحته التقدير الموضوعي المبني على أسس مقبولة عمومًا.

  • (٣)

    لا يجوز أن يتسبب أيُّ إعلان في جعل الأطفال يعتقدون أنهم سيصبحون أدنى منزلة من غيرهم من الأطفال. أو سيفقدون حبَّ غيرهم، إذا لم يشتروا منتجات معينة أو لم يجعلوا غيرهم يشتريها لهم.

وأهم ما أريد إيضاحه بشأن هذه اللائحة، أنها ترمي إلى التحكم في معالم المستوى السطحي للإعلان، وهي التي تتعلق بطبيعة اعتباره نوعًا من الاتصال الاستراتيجي، وبصفة أخص الاتصال الذي يهدف إلى الإقناع، بمعنى أنه موجَّه إلى بيع أشياء معينة (انظر المزيد أدناه) ولكنها تتجاهل ما أقول: إنه العنصر الأهم مجتمعيًّا، أي الوظيفة الأيديولوجية للإعلان. وأما الإجابة الموجزة عن سؤالنا كيف يبني الإعلان مجتمعات استهلاكية فهي أنه يبنيها «من خلال الأيديولوجيا».

والبند الأول في المقتطف الوارد أعلاه يلخِّص جانبًا أساسيًّا من جوانب اللائحة، والبند الثاني جزءٌ من المواصفات التفصيلية للإعلان «الصادق»، وهو يبيِّن أن اللائحة تستند إلى التمييز الحاسم بين حقائقَ معينة، تقبل التقدير الموضوعي، وما ينتمي إلى الآراء وهي ذاتية. فأما بالنسبة للحقائق فاللائحة تفرض على الإعلانات تدعيمَ مزاعمها بأدلة صحيحة. واللائحة لا تتضمن إلا خيارَين هما «الواقع» و«الرأي» عند تقييم أحد الإعلانات من حيث علاقته بالحقيقة.

ولكن هذا مبنيٌّ على نظرة بالغة السطحية إلى العلاقة بين الخطاب والحقيقة، بمعني أنها لا تأخذ في اعتبارها إلا ضروبَ المزاعم والتقييم السافرة. وما شأن الافتراضات الموحَى بها؛ حيث يسلِّم الخطاب بالحقيقة دون مناقشة؟ إن الافتراضات الموحَى بها [أي الخفية الكامنة] جانبٌ لازم في كل خطاب، وهي في العادة، كما رأينا في الفصل الرابع، ذاتُ طبيعة أيديولوجية. وهكذا تتمكن اللائحة من إهمال الأيديولوجيا بتجاهلها جانب الحقيقة الموحى به في الخطاب. وأعتقد أن هذا الإهمال يظهر بوضوح وجلاء في البند الثاني؛ إذ أرى أن الإعلانات تتسبب فعلًا في أن تخامر الأطفال المشاعر المشار إليها في النص على نطاق لا يستهان به، لا بسبب إشارة الإعلان إلى العواقب الوخيمة على علاقة الطفل بأقرانه إذا لم يستطع مثلًا شراء لعبة معينة، ولكن بسبب الأيديولوجيا الموحى بها.
وسوف أُفصح بالتفصيل في القسم التالي عن أسلوب العمل الأيديولوجي للإعلانات. ولألخص أولًا ما سوف أقوله:
  • (١)
    بناء العلاقات. يجسد الخطاب الإعلاني تمثيلًا أيديولوجيًّا للعلاقة بين المنتج/المعلن للمنتجات المعلَن عنها والجمهور، وهو ما يسهل العمل الأيديولوجي الرئيسي.
  • (٢)
    بناء الصور. تدفع الإعلانات جماهيرها إلى الانتفاع بعناصر أيديولوجية في «مواردها الذاتية» في تكوين «صورة» للمنتجات المعلَن عنها.
  • (٣)
    بناء المستهلك. تستخدم الإعلانات «الصور» التي «يساعد» الجمهور في توليدها للمنتجات باعتبارها وسائل معينة؛ وبذلك تبني مواقع ذوات «للمستهلكين» باعتبارهم أعضاء في جماعات المستهلكين، وهذا كما سبق أن قلت هو العمل الأيديولوجي الرئيسي للإعلان.

(٥) مثال

سوف نستخدم المثال المبين في النص ٨–١ خلال باقي المناقشة لموضوع الإعلان.

(٥-١) بناء العلاقات

يعتبر الإعلان عن الغسالة مييل، شأنه شأن عموم الإعلانات، خطابًا «جماهيريًّا» بمعنى أن له جمهورًا واسعًا غير محدد. وله أيضًا منتج مُركَّب وغير محدد (من وجهة نظر الجمهور)؛ إذ يتكون في جانب منه من الفريق المنتج للمجلة التي أخذ منها (مجلة الإذاعة البريطانية راديو تايمز) وفي جانب آخر من فريق الوكالة الإعلانية التي وضعت تصميم الإعلان، وفي جانب ثالث من الشركة التي صنعت الغسالة وتحاول بيعها. وهو خطاب «ذو اتجاه واحد» بمعنى عدم تناوب دورَي المنتج للنص والمفسر له؛ فالمعلن هو المنتج للنص والجمهور هو المفسرون. وتشترك الإعلانات — بطبيعة الحال — في هذه الخصائص مع خطاب أجهزة الإعلام الجماهيرية بصورة عامة.
fig23
النص ٨–١: المصدر شركة مييل ليميتد.
والطبيعة الجماهيرية وغير المحددة للجمهور، والطبيعة المركَّبة وغير المحددة للمنتج، تمثِّلان تحديًا للمعلن. إذ سوف يقرأ أفراد من الجمهور هذا الإعلان و(ربما!) يشترون المنتَج، وهكذا فإن المعلن يحتاج إلى مخاطبة أفراد الجمهور، مفترضًا سلفًا أن المتكلم محدد الهوية. أي إن منتج النص وجمهوره في حاجة إلى المسحة الشخصية، ولكن الظروف الفعلية لإنتاج الخطاب الإعلاني وتفسيره تقضي بأن تكون هذه مسحة شخصية مصطنعة وارجع إلى تقديمي هذا المصطلح في الفصل الثالث.

حاول بالتركيز على المعالم النصية أن ترى كيف يتحقق في هذا الإعلان إضفاء الطابع الشخصي المصطنع على أفراد الجمهور ومنتج النص.

يكمن جانب من الطابع الشخصي المصطنع الذي يُضفيه الإعلان على فرد من أفراد الجمهور في الموقع الذي يبنيه المعلن للمستهلك، وهو ما أناقشه أدناه. ولكنه يكمن في جانب آخر منه في العلاقة التي تكتسب طابعًا شخصيًّا بين المنتج والمستهلك، كما تُفصح عنها المعالم النصية المنتشرة في الخطاب الإعلاني، مثل المخاطبة المباشرة لأفراد الجمهور بضمير المخاطب، والجمل المبدوءة بفعل الأمر («اعتبرها عبئًا أزحته عن ذهنك» على سبيل المثال).

وأما إضفاء الطابع الشخصي المصطنع على المنتج فيتحقق في جانب منه بالمخاطبة المباشرة لأفراد الجمهور، وهو ما يُوحي بأن مَن يخاطبهم فرد واحد. ولكن هذا المتحدث ذو هوية غير محددة؛ إذ يختلف هذا النص عن النصوص الأخرى التي تتضمن ضمير المتكلم الجمع الذي يحدِّد هوية المتحدث باعتباره مَن يتحدث باسم الشركة التي أنتجت السلعة. ومع ذلك فإن المتحدث يكتسب طابعًا فرديًّا من خلال القيم التعبيرية التي يختارها (فيما يُزعم!) انظر على سبيل المثال إلى أبنية الجمل في متن النص (أي باستثناء العناوين) تجد أن العناصر الإعلانية المألوفة (مثل مخاطبة القراء، ووصف السلعة ومزاياها، ودعوة القراء إلى متابعة الإعلان [بشراء السلعة]) والمزاعم الكثيرة عن الغسالة، قد ضُغِطَت في جمل تتميز أساسًا بالقصر والتركيز. فالتراكيب تتميز بكفاءة الإيجاز والوصول إلى المراد بلا لف ولا دوران، وصورة المتحدث تتخذ بناءً فرديًّا يتسم بهذه الخصائص. وهو ما ينطبق، كما أُبيِّن أدناه، على الغسالة والمستهلك، أي إن المتحدث يخاطب أفراد الجمهور بصوته الخاص ويُحدثهم عن سلعة تتفق معه ومعهم.

(٥-٢) بناء الصور

تدعو الإعلانات جماهيرها إلى الاستفادة من بعض العناصر الأيديولوجية في الموارد الذاتية لأفراد هذه الجماهير في إنشاء «صورة» للسلعة المُنتَجة المعلَن عنها. كيف يتحقق هذا في حالة الإعلان عن الغسالة مييل؟

أعتقد أنه يتحقق من خلال مفاتيح معينة في نص الإعلان، وهي مفاتيح لغوية وبصرية معًا، بحيث تُنشئ إطارًا لأسلوب الحياة «الحديثة»، يرتبط ارتباطًا عامًّا بالشرائح الشبابية والدينامية للطبقة الوسطى، ثم تستخدم هذا الإطار في تفسير السلعة باعتبارها جزءًا من أسلوب الحياة المذكور. أما المفاتيح البصرية فهو ديكور الغرفة الرشيق الأنيق النظيف الذي يُفصح عن حياة أسرة ذات كفاءة وإتقان، ومشهد الحديقة المشوش على اليمين، مع «ما نتصوره» من وجود رجل البيت وامرأته اللذَين يتمتعان بثمار كفاءة جهودهما. وأما المفاتيح اللفظية فهي التعبيرات الكثيرة الخاصة بأولويات أسلوب الحياة «الحديثة»، مثل اليسر، والكفاءة، والاقتصاد، والجمال: عبء أزحته عن ذهنك، يسيرة الاستعمال، اقتصادية، ذات كفاءة، يُعتمد عليها، قوية التحمل وهلمَّ جرًّا.

ويتوسل إنتاج صورة السلعة بتداعي المعاني، إن صح هذا التعبير؛ إذ تستدعي إلى الذهن أسلوب الحياة الحديثة الذي يتميز بالرشاقة وبالكفاءة؛ بحيث تصبح الغسالة الكهربائية جزءًا منه، وأما خصائصها المادية، باعتبارها منتَجًا هندسيًّا، فترتفع قيمتها في غضون بناء الصورة، بمعنى أنها تكتسب خصائصَ ثقافيةً تُضاف إلى خصائصها المادية. وعملية «الرفع» أو الارتقاء المذكورة ذات أهمية حاسمة للسلع الحديثة، خصوصًا عندما تتنافس عدة منتجات تشترك في الخصائص المادية نفسها تقريبًا في سبيل الاستحواذ على سوق معينة.

ولكن بأيِّ معنًى من المعاني تعتبر هذه العملية عمليةً أيديولوجية؟ إنها أيديولوجية؛ لأن الإطار الذي تستدعيه، والذي وصفته بأنه أسلوب الحياة «الحديثة»، بناءٌ أيديولوجي يستخدم وسيلة لتوليد صورة السلعة المنتجة، مثلما يجري إنتاجه لذاته، وإعادة إنتاجه، من أجل ذاته. وهكذا فإن الإطار يضع في قالب واحد ذواتٍ اجتماعيةً تتسم بأنواع خاصة من العلاقات والأنشطة والأجواء والقيم وما إلى ذلك بسبيل، باعتباره تزكيةً قوية «للوصفة» التي تحدِّد كيف يعيش المرء، في العالم الحديث، إلى جانب الخرافة التي تقول: إن أسلوب الحياة المذكور متاح للجميع، وهي أيديولوجية؛ لأن القيم الأساسية لأسلوب الحياة المشار إليه تتداخل مع الاهتمامات الأساسية للرأسمالية المعاصرة، ومن بينها اعتبار الحد الأقصى من الكفاءة هدفًا لا في الأنشطة الاقتصادية وحسب (إذ إن ذلك مألوف من زمن بعيد)، بل أيضًا في جميع تفاصيل حياة الشخص «الخاصة» (التي لم تَعُد خاصة!). وهكذا فإن الإعلان يسوق الناس إلى الاعتراف بأسلوب الحياة المذكور واتِّباعه (انظر أدناه)؛ وبذلك يساعد على إضفاء الشرعية على الرأسمالية المعاصرة.

(٥-٣) بناء المستهلك

قلت عاليه: إن العمل الأيديولوجي الرئيسي للإعلان بناء مواقع ذوات للمستهلكين باعتبارهم أعضاء في جماعات استهلاكية، وإن هذا العمل يستخدم صورًا يولدها أفراد الجمهور للمنتجات باعتبارها وسائلَ توصيل. فلنتأمل الآن كيف ينجح هذا في حالة الإعلان عن الغسالة مييل.

حدد طابع موقع الذات الذي يُنشئه الإعلان عن الغسالة «مييل» للقارئ. ما نوع الجماعة التي يمكن أن ينتميَ إليها الشاغل المثالي لموقع الذات المذكور؟ كيف تُسهم صورة المنتَج عند القارئ في موقع القارئ باعتباره ذاتًا مستهلِكة؟

إجابة هذا السؤال تتبع بدقة إجابةَ السؤال الأخير؛ إذ إن موقع الذات الذي أُنشئ للقارئ يقوم، على وجه الدقة، على أساس قبوله الإطار الأيديولوجي — باعتباره ينتمي إلى المنطق السليم المطبع — الذي يحتاجه المرء لتفسير الإعلان وتخصيص صورة للمنتَج. والشاغل المثالي لموقع الذات المذكور ينتمي إلى جماعة تتفق حاجاتها وقيمها وذائقتها مع الحاجات والقيم والذائقة الباطنة في الإطار. إنها جماعة يشغلها تيسيرُ أمور الحياة بأقل تكلفة ممكنة. أي إنها جماعة من المستهلكين؛ إذ إن هذه المشاغل تُنسب عمومًا إلى المستهلكين. وهي جماعة تتطلب من بيئتها الميسرة أن تتسم بخصاص عملية وجمالية مثل الخصائص الممثلة هنا، أي القدرة على أداء الوظيفة، وسهولة الصيانة، والرشاقة البسيطة، وترى وقت الفراغ في صورة محددة، يُوحي بها مشهد الحديقة. أي إنها جماعة ذات ذائقات بالغة الخصوصية.
ولكنْ بأي معنًى يمكن للمرء أن يتحدث عن بناء الإعلانات للمستهلك أو لجماعة المستهلكين؟ لقد حول الإعلان الناس إلى مستهلكين، أي إنه أحدث تغييرًا فيما أصبح الناس عليه، بمعنى أنه يقدِّم أشد النماذج اتساقًا في المعنى وإلحاحًا على الذهن لحاجات المستهلِك وقِيَمه وذائقتِه وسلوكه. ولقد فعل هذا بمخاطبة الناس كأنما كانوا جميعًا قد بلغوا من قبل مكانة المستهلكين الكاملة وفقًا للمنطق السليم. والقضية العامة، هي أن الناس إذا أُرغموا في كل يوم على احتلال موقع الذات للمستهلك، فسوف يصبحون على الأرجح مستهلكين. وهكذا فإن ما قد يبدأ في صورة لعبة ما، أو تجربة مريبة لأفراد الجمهور، من المحتمل أن ينتهيَ الأمر به، بفضل ضغط العادة الهائل، إلى أن يغدوَ حقيقة واقعة.

وما ينطبق على المستهلكين، ينطبق أيضًا على جماعات الاستهلاك المحددة؛ فالإعلان يستطيع أن يُطلِع الناس على أساليب حياة (وأنساق إنفاق) ربما لم يصادفوها إلا من طريق الإعلان، لكنه يدعوهم أيضًا إلى الالتحاق بجماعة المستهلكين التي اختاروها (إذ يزعم الإعلان أن الأمر قائم على الاختيار وحسب) وأن يعتبروا أن هذه الجماعة بما تتعرض له من تحولات سريعة تُمثِّل أولى ما ينبغي أن يلتحقوا به. ومن المحتمل في غضون ذلك أن يقلَّ عددُ المشاركين من فئات أخرى، ولنا أن نقول: إن أشدَّ الخاسرين جماعات الإنتاج، أي من الطبقات الاجتماعية، وفصائل وأقسام معينة من الطبقات الاجتماعية (مثل جماعات الحِرفيِّين أو النقابات العمالية).

(٥-٤) العناصر اللغوية والبصرية في الإعلان

تزداد باطراد في مجتمعنا أهميةُ المزج بين العناصر اللفظية والبصرية في تشكيل النصوص، ويتصدر التليفزيون هذا المزج؛ فالتليفزيون باعتباره وسيطًا لا يُنتج إلا أمثالَ هذه النصوص المركَّبة، ولكن الإعلانات في المطبوعات تزيد باطراد من تأكيدها إياها. كما تزداد باطراد أيضًا أهمية العنصر البصري في الإعلان؛ إذ شاع الرأي الذي يقول: إن إبراز الصورة إحدى الخصائص الرئيسية لثقافة «ما بعد الحداثة».

ويتفق هذا الاتجاه مع ما أقوله عن العمليات الأيديولوجية في الإعلان. فالصور البصرية تؤكد، من ناحية، اعتماد عملية بناء الصور على الجمهور؛ فحيثما وُضعت الصور البصرية جنبًا إلى جنب لم يجد المفسر مفرًّا من إقامة رابطة بينها، ولكن اللغة تتطلب تقديم الروابط اللازمة إليه، وإن لم تكن تقدمها — كما رأينا — في حالات كثيرة. ومن ناحية أخرى نرى أن بناء «جماعات المستهلكين» يتحقق بيسر أكبر من خلال الوسائل البصرية أساسًا؛ لأن الوسيط البصري يمكن استخدامه بسهولة أكبر في إنتاج «صور زائفة» بالمعنى الأفلاطوني، أي نسخ مطابقة لأصول لم توجد قط! ولزيادة الإيضاح نقول: إن الصور البصرية تسمح للإعلان بأن يخلق بسهولة أكبر عوالم معينة وربما نجح في إقناع المشاهدين بأن المستهلكين يسكنونها، بسبب قوة الأيديولوجيا التي تعبر عنها مقولة «إن الكاميرا لا تكذب».

انظر إلى الإعلان عن الغسالة مييل في ضوء هذه التعليقات، كيف تتفاعل العناصر البصرية واللفظية في بناء الصورة، والمستهلك، ومجتمع المستهلكين؟

(٥-٥) اتجاهات استعمارية في الخطاب الإعلاني

نستطيع أن نتصور من زاوية معينة أن الإعلان يقوم بدور المستعمر، وتشمل هذه الزاوية الزيادة الهائلة في حجم الإعلانات على امتداد العقود الثلاثة الماضية، ودرجة تعرض الناس لتأثير الإعلان يوميًّا، و«تغلغل» الإعلان في الجوانب غير الاقتصادية للحياة، وخصوصًا نفاذه إلى البيوت من طريق التليفزيون. لقد تعرضت الأسرة، والحياة الأسرية، للاختراق من جانب الاقتصاد، ومن جانب القوى الطبقية المهيمنة داخل الاقتصاد، وهذه العناصر الاستعمارية قد أثرت تأثيرًا ما في إعادة بناء الحياة الأسرية وفي غيرها من الجوانب غير الاقتصادية للحياة.

fig24
النص ٨–٢ المصدر: وزارة الصحة والتأمينات الاجتماعية.

ولكن لنا أن نجد اتجاهاتٍ استعماريةً أشد وضوحًا؛ حيث تتعرض أنماط الخطاب للتأثر بالخطاب الإعلاني. والنص ٨–٢ مثالٌ من خطاب الإعلام الجماهيري، أي الرسائل الرسمية الموجهة من السلطات العامة إلى «الجمهور». فالواضح أن النص يستخدم شكلًا إعلاميًّا مألوفًا، ومع ذلك فلا يوجد منتَجٌ واضح يعلن عنه، ويبدو في الظاهر كأنما يقتصر على تقديم المعلومات وطلب إبداء الرأي، أي إنه ليس إعلانًا على الإطلاق! ومع ذلك فإن لدينا «مُنتَجًا» ما، والقراء مطالبون ببناء صورته: ألَا وهو مصدر المعلومات، وطلب إبداء الرأي، وهو (إذا تمكنت من قراءة الكلام المطبوع بالبنط الصغير في الركن الأيمن من الإعلان) وزارة الصحة والتأمينات الاجتماعية (أي «مرفق الصحة»).

ما المعالم الإعلانية لهذا النص، من حيث بناء العلاقات، وصورة «المنتَج»، وموقع الذات «للمستهلك» (الجمهور)؟

يتضمن النص إضفاء الطابع الشخصي «الاصطناعي» على أفراد الجمهور (مثل استعمال ضمير المخاطب، وأفعال الأمر: «أرجو إرسال الكتيب إليَّ») وإضفاء الطابع الشخصي على منتج عن طريق استعمال ضمير الجمع الحصري للمتكلم، نحن، في العبارة الأخيرة التي تقول: (نحن مرفقك الصحي ونحن في حاجة إلى آرائك) إلى جانب استخدام ضمير المتكلم الجمع الشامل (يستخدمه مليون شخص من بيننا). وتُبنى لصورة المرفق الصحي صورة من خلال ضمائر تستدعي إلى ذهن القارئ «بعض صفات الطبيب» في الصورة المرافقة للنص: فهو يتكون من صورة للسماعة الطبية إلى جانب شذرة من «كلام الأطباء» مطبوعة فوقها (نريد رأيًا ثانيًا) وهكذا تُنقَل إلى المرفق الصحي من هذا الإطار بعضُ القيم المهنية، والوعي العميق بالمسئولية وهلمَّ جرًّا. وموقع الذات الذي أُعِدَّ للقارئ موقع فرد من أفراد الجمهور يهمُّه الأمر ويحيط ببعض المعلومات ولكنه يريد أن يعرف ما هو مقترح عليه، ويستطيع أن يُسهم «برأيٍ ثانٍ» يستحق النظر فيه. ويزداد الارتقاء بصورة المرفق الصحي بافتراض أن هذه الهيئة العامة، أي الهيئة الجماهيرية، هيئة تحترم «الجمهور».

ولنا أن نُعيد ارتباطنا في هذه المرحلة بما عرض له الفصل السابع من هدمٍ لنظم الخطاب وإعادة بنائها. ويمكن تحليل هذا النص باعتباره مزيجًا من المعالم المستمدة في جانب منها من نموذج الخطاب الإعلاني، وفي جانب آخر من نمط الخطاب الإعلامي التقليدي. ويمكن اعتبار هذا المزج إعادة الإفصاح عن نظام خطاب الإدارة الصحية (والإدارة العامة بصفة أشمل) باعتباره أثرًا من آثار استعمار الإعلان لهذا النظام من أنظمة الخطاب. كما يربط هذا أيضًا بين النمطَين الرئيسيَّين للخطاب الاستعماري اللذين حددتهما في بداية هذا الفصل، الأمر الذي يوضح التداخل بين النزعة الاستهلاكية وبين البيروقراطية، وأن الأولى تغذو الأخيرة. وارجع إلى مثال آخر في مكان لاحق من هذا الفصل.

ونستطيع أن نرى على ضوء هذا المثال كيف يتمكن الإعلان من استعمار وتشكيل أنماط الخطاب السياسية، وخصوصًا خطاب المذهب الثاتشري الذي نظرنا فيه في الفصل السابع. فإن مارجريت ثاتشر — كما رأينا — تبني علاقة مع «الجمهور» تستند في جانب منها إلى إضفاء الطابع الشخصي الاصطناعي، وتُقدم إلى مستمعيها مفاتيح محبوكة بدقة حتى يتمكنوا من بناء صورة زعيمة سياسية، كما تبني صورة «الجمهور» باعتباره جماعة استهلاك سياسية، إن صح هذا التعبير، وتدعو الأشخاص الحقيقيِّين إلى الانضمام إليها. وكما هو الحال في الإعلان الخاص بمرفق الصحة يتفق المنتج مع السلعة: إذ إن السيدة ثاتشر تحاول «أن تبيع نفسها»، وهكذا فإن الازدياد المطرد في إدارة السياسة الحزبية من خلال خطاب جماهيري ذي اتجاه واحد في أجهزة الإعلام، متخذًا من الإعلان نموذجًا له، يبتعد بهذه السياسة باطراد عن الخطاب ذي الاتجاهَين الذي يعتمد على التلاقي المباشر (وجهًا لوجه). أي إن لقاء الناخبين شخصيًّا بطرق أبواب منازلهم لاستمالتهم، والتناظر وتقارع الحجج السياسية، والاجتماعات السياسية، تقل أهميتها باطراد باعتبارها من عناصر الخطاب في السياسة. ويؤدى تأثير التعميم في علاقة الاستهلاك الاقتصادية إلى فقدان السياسة الحزبية لقاعدتها في حياة الناس. وتقل مشاركة الناس في السياسة باعتبارهم مواطنين بالتدريج، ويزداد اشتراكهم فيها تدريجيًّا أيضًا بصفتهم مستهلكين، كما أن القواعد الشعبية للمشاركين تبتعد تدريجيًّا عن المجتمعات الحقيقية التي ينتمون إليها، وتقترب تدريجيًّا من الأشكال المعادلة سياسيًّا لجماعات المستهلكين، وهي التي يبنيها الزعماء السياسيون لهم. ومن الممكن بطبيعة الحال أن تسير هذه العمليات في عكس الاتجاه، إلى جانب وجود اتجاهات معارضة «تعويضية» [تمثل الكفة الأخرى للميزان]. انظر القسم بعنوان اتجاهات أخرى أدناه.

(٦) البيروقراطية وتكنولوجيات الخطاب

أتوسع في هذا القسم في الفكرة التي طرحتها في بداية هذا الفصل، وهي التي تقول: إن سيطرة الدولة من خلال البيروقراطية كانت لها آثارٌ كبرى في نظم الخطاب، وأناقش أولًا الاتجاه الاجتماعي إلى زيادة السيطرة على الناس من خلال شتى أشكال البيروقراطية، ثم أنتقل إلى فحص ما أطلقت عليه مصطلح تكنولوجيات الخطاب، أي أنماط الخطاب التي تتضمن التطبيق — بقدر ما من الوعي الذاتي — للمعارف العلمية الاجتماعية لتحقيق السيطرة البيروقراطية. وسوف تقول حجتي: إن تأثير البيروقراطية في نظم الخطاب يتحقق من خلال الانتشار «الاستعماري» لتكنولوجيات الخطاب، وبعدها أقدِّم مثالًا على تطبيق البحث العلمي الاجتماعي على تكنولوجيات الخطاب، وهو الذي يسمَّى التدريب على المهارات الاجتماعية، مشيرًا إلى إحدى تكنولوجيات الخطاب (التي أشرت إليها من قبل بألفاظ مختلفة) وهي المقابلة الشخصية. وعندها أقدِّم مثالًا يتضمن تكنولوجيَّتَين للخطاب، الأولى وثيقة المعلومات الخاصة بالجمهور والاستمارة الرسمية.

(٦-١) البيروقراطية؟

يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر: إن البيروقراطية «تنظيم مراتبي يهدف إلى التنسيق العقلاني لعمل كثير من الأفراد سعيًا إلى تحقيق مهام إدارية واسعة النطاق وأهداف تنظيمية». ومفهوم «العقلانية» في هذا التعريف محدود ويقتصر اقتصارًا صارمًا على دلالته النفعية: بمعنى أن العقلانية هي تحقيق المواءمة المنتظمة بين الوسائل والغايات لأية مؤسسة أو منظمة بيروقراطية. وأما «المراتبية» و«التنسيق» المذكوران في التعريف فهما يؤكدان عنصرَ السيطرة في هذه العقلانية على الغايات والوسائل، بمعنى يجمع بين السيطرة الداخلية من المستويات العليا داخل البيروقراطية وسيطرة البيروقراطية على الناس. وكثيرًا ما يبدو الناس، من منظور العقلانية البيروقراطية، في صورة «أشياء» يجوز إصدار الأوامر لها، والتحقق منها وتسجيلها ونقلها وما إلى ذلك بسبيل.

وقد اقتضى نموُّ الدولة الحديثة في ظلِّ المجتمع الرأسمالي قدرًا كبيرًا من التوسع في البيروقراطية التي جعلَت الدولة تبسط سيطرتها على جوانب ما تفتأ تزداد من حياة الناس. واتضح خصوصًا هذا التوسع والتدخل منذ ميلاد «دولة الرعاية الاجتماعية»، وهي التي نشأت استجابةً للتجربة المريرة المتمثلة في آثار السوق غير المقيدة في فترة الكساد التي شهدتها العشرينيات والثلاثينيات؛ إذ أصبح على الدولة أن تحميَ الناس من بطش السوق. والواقع أن الدولة قد نجحت فعلًا في تحسين أحوال الحياة لمعظم الناس، وإن كانت منجزاتها تتعرض اليوم للتهديد. ولكن هذه العملية كانت سلاحًا ذا حدَّين؛ إذ كانت دولة الرعاية الاجتماعية تُدار من خلال بيروقراطيات كثَّفَت من تدخُّلها في حياة الناس وعمَّقَت بذلك من سيطرتها عليهم. وفي ضوء صورة الدولة التي رسمَتها بالخطوط العريضة في الفصل الثاني، فإن هذا يعني آخر الأمر سيطرةَ الطبقة الرأسمالية والكتلة المهيمنة على حياة الشعب. وكان هذا الجانب البيروقراطي و«التدخلي» من جوانب دولة الرعاية سببًا في نشأة وانتشار صورة الدولة باعتبارها جهازَ تدخُّل لا يحسُّ بحاجات الشعب، وهي الصورة التي استغلها المذهب الثاتشري، كما رأينا في الفصل السابع.

(٦-٢) تكنولوجيات الخطاب

أوردتُ عاليه تعريفًا لتكنولوجيات الخطاب، يقول إنها أنماط الخطاب التي تتضمن التطبيق، بقدرٍ ما من الوعي الذاتي للمعارف العلمية الاجتماعية لتحقيق السيطرة البيروقراطية. والذي أقصده أنماط معينة من الخطاب مثل المقابلات الشخصية، والاستمارات الرسمية، واستمارات الاستجواب، والاختبارات والامتحانات، والسجلات الرسمية، والفحوص الطبية، والدروس، وهي التي تخضع — في ذاتها — للأبحاث الاجتماعية العلمية، وحيث تُودَع نتائج هذه البحوث في تكنولوجيات الخطاب، فتساعد على تشكيلها وتعديلها. وتدخل تكنولوجيات الخطاب في فئة أعم وأشمل هي فئة الخطاب الاستراتيجي، أي الخطاب الموجَّه إلى تحقيق أهدافٍ ونتائجَ نفعية.

وتعتبر تكنولوجيات الخطاب ظاهرةً حديثة بصفة خاصة، مثل العلوم الاجتماعية التي تغذوها. وهي تمثِّل التأثير العام للبيروقراطية والدولة الحديثة في نظام الخطاب المجتمعي. وعلى الرغم من إمكان إرجاع أصولها إلى مؤسسات محددة، فلقد غدَت تكتسب صبغةً «عبر مؤسسية» تُتيح لها أن تتسرَّب إلى داخل مجموعة معينة من المؤسسات فتستعمرها، وأن ترتبط بعناصر خطابية أخرى، بمجموعة كاملة من الطرائق المتنوعة. وهي تقابل ما يُطلق عليه البعض مصطلح «الأنواع»، وإن كنت أرى أن هذا المصطلح لا يتضمن الوصف المحدد بدرجة كافية لما أعنيه.

وقد اقترنت تكنولوجيات الخطاب بتغيير جوهري مؤكد في النظام المجتمعي للخطاب في الفترة الحديثة، ونعني به تشكيل الخطاب إلى درجة غير مسبوقة وفقًا لحسابات معينة، تتسم بالوعي الذاتي للعلاقة بين الوسائل والغايات، وتستند إلى العقلانية البيروقراطية النفعية القائمة على أساس المعرفة بالخطاب نفسه. وتقدم هذه المعرفةَ أقسامٌ معينةٌ من العلوم الاجتماعية المتخصصة في دراسة الخطاب واللغة. وهي مثال لظاهرة أعم من ظواهر الفترة الحديثة، أي تداخل السلطة والمعرفة، والاعتماد الهائل للسلطة على المعرفة، كما تؤكد أهميةَ التحليل النقدي للخطاب الذي يستكمله التحليل النقدي لعلوم اللغة والخطاب حسبما أقمتُ عليه الحجة في الفصل الأول.

(٧) التدريب على المهارات الاجتماعية

دخلت نتائج البحث الاجتماعي ساحة الممارسة الخطابية من عدة طرق، من بينها طريق التدريب على المهارات الاجتماعية الذي نشأ من البحث النفسي الاجتماعي في المهارات الاجتماعية. ويقوم هذا البحث على نظرة نفعية للممارسة الاجتماعية باعتبارها نشدانَ أهدافٍ متناغمة مع العقلانية البيروقراطية التي وصفتها آنفًا. وهكذا فإن وحدات الممارسة والخطاب الكبرى، مثل المقابلة الشخصية، يُفترض أنها تتكون من وحدات صغرى متتابعة منتَجة من خلال التطبيق الآلي للمهارات التي تُختار استنادًا إلى مدى إسهامها في تحقيق الأهداف. ومن المفترض أن هذه المهارات يمكن عزل بعضها عن بعض ووصف كلٍّ منها، وأن مظاهر العوار في الممارسة الاجتماعية يمكن التغلب عليها بتدريب الأشخاص على الاستفادة من هذه المهارات.

ويجري تطبيق التدريب على المهارات الاجتماعية على نطاق واسع؛ فقد استُخدم في تدريب المرضى النفسانيِّين، وغيرهم ممن يعتبرون «غير أكفاء» أو «عاجزين» اجتماعيًّا، كما استُخدم لتدريب الاختصاصيِّين الاجتماعيِّين والصحيِّين، ومقدِّمي المشورة الاجتماعية، والمعالجين والأطباء لمساعدتهم على زيادة فاعلية تعاملهم مع عملائهم أو مرضاهم، إلى جانب استخدامه في تدريب مديري الشركات والمشرفين على المبيعات بغرض الارتقاء بالإدارة والبيع على الترتيب، وفي تدريب الموظفين العموميِّين في المؤسسات البيروقراطية على التغلب على ما تتسم به هذه المؤسسات من طابع غير شخصي يشوب صورتها في أعين الناس، ويُقيم مسافة ما بينها وبينهم، الأمر الذي ينتقص من مشروعيتها وفاعليتها.

والنظر إلى الممارسة الاجتماعية من زاوية المهارات الاجتماعية يؤدي، على الأرجح، إلى اختزال الممارسة عمومًا والخطاب خصوصًا في الجانب الذي دأبنا على وصفه «بالمضمون»، أي بالأهداف أو الأغراض النفعية. وأما ما وصفناه بالأبعاد العلائقية والأبعاد الذاتية/التعبيرية للخطاب، فلا تُمنح في هذا الصدد أية مكانة أصيلة أو مستقلة خاصة بها، بل إنها على الأرجح تختزل في مكانة «المتغيرات التابعة»، وأن ينظر إليها من زاوية إمكان التلاعب بها في غضون المحاولة الدائبة لتمكين الخطاب/الممارسة من تحقيق أقصى تأثير ممكن في تحقيق الأهداف النفعية. والنماذج الناجحة التي يُدْعَى المتدربون على المهارات الاجتماعية إلى محاكاتها تتميز بالتلاعب المنتظم بهذا المعنى، ومن ثَم فقد يصح قولنا: إن التدريب على المهارات الاجتماعية يُسهم في تدعيم التلاعب بالعلاقات والذوات في الواقع الفعلي.

فلنقدِّم الآن مثالًا محددًا. والنص التالي مقتطف من الاستراتيجية الموصَى بها لإجراء «مقابلة شخصية»، ولتكن مقابلة «تأديبية» في مكان العمل، أو في إحدى المدارس، بحيث «تجعل المقابلة مناسبة ألطف وأفعل». والنص مقتطف من كتابٍ كتبَه عالم النفس الاجتماعي الشهير مايكل أرجايل:

[البند الأول محذوف.]

(٢) المشرف «م» يقيم تقاربًا وجدانيًّا مع العميل «ع» الذي قد يكون بالغَ التوتر بشأن المقابلة. وسوف تزداد سهولة ذلك إذا حافظ «م» على اتصاله اليومي ﺑ «ع». وقد يتبادلان المحادثات الودية حول اهتماماتهم المشتركة، بحيث تنخفض الحواجز الخاصة بفوارق المنزلة بينهما، ويصبح «ع» على استعداد للكلام بحريَّة.

(٣) قد يكون من الضروري للمشرف أن يشرح للعميل وجود مشكلة، وقد تتمثل في تأخر وصول «ع» باستمرار إلى مكان العمل، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الإنتاج، أو أن «ع» قد انخفضت درجاته [في المواد الدراسية] انخفاضًا شديدًا … إلخ. ويمكن أداء ذلك ببيان بعض الحقائق الموضوعية، لا بإصدار الأحكام، كما ينبغي القيام به بأسلوب لطيف لا مغاضب.

(٤) يدعو «م» الآن «ع» إلى أن يُعرب عن رأيه في الوضع الراهن، أي ما يتصور أنه السبب من ورائه. وقد تكتنف ذلك محاولات للحصول على معلومات أوفَى، إذا كان «ع» عازفًا عن الكلام دون قيود. والمشرف متعاطف ويبين أنه يريد أن يفهم موقف «ع»، وقد يسأل «م» «ع» إن كان يعتقد أن الموقفَ مُرْضٍ؛ ويستطيع في مقابلة تقييمية أن يطلب من «ع» تقييمَ أدائه بنفسه. وقد يقدم «ع» معلومات جديدة تشرح سبب المشكلة، ويقترح كيف يمكن حلُّها، وربما انتهت المقابلة في هذه اللحظة.

[٥ و٦ محذوفان.]

(٧) إذا كان من الضروري إجراء مقابلات أخرى، فربما اقتضى الأمر اللجوء إلى أساليب أشد صرامة للتأثير في «ع». ويتمتع معظم المشرفين بإمكان التحكم في العقوبات المادية؛ مثل حجب المكافآت [الحوافز]، وإيقاف الترقيات، والفصل من العمل آخر الأمر. ويقول «م» إنه لا يرغب عادةً في فصل «ع»، فهو يريد إبقاءَه ولكنه يريد منه تغيير سلوكه. وإمكان استخدام أمثال هذه العقوبات يجب أن يُذكر أولًا بتردد وباعتباره احتمالًا مستبعدًا، وليكن باستعمال عبارات موضوعية؛ كقول المشرف «ما أكثر الآخرين الذين يودُّون الحصول على هذا العمل!» أو «قد أُضطرُّ إلى إخبار الذين يدفعون أجرك عن مستوى أدائك».

(٨) ينبغي أن تنتهيَ المقابلة بمراجعةٍ لما اتفق عليه الطرفان، والخطوات البنَّاءة التي قرَّرَا اتخاذها، والموعد التالي للقاء «م» مع «ع» لمناقشة سير العمل وما إلى ذلك بسبيل. كما ينبغي أن تنتهيَ المقابلة بأقصى ما يمكن من جو البشاشة والود.

(أرجايل: ١٩٧٨م، ص٢٤٣–٢٤٥)

ما الأساليب التي تُوحي بها التوصيات بالتلاعب في الأبعاد العلائقية والذاتية للخطاب لأسباب مؤسسية؟

من خلال دعوة التوصيات للمشرفين بأن يُحاكوا موقعًا معينًا للذات وعلاقة خاصة بالعملاء، تحثُّ التوصيات المشرفين على التظاهر بالتضامن والمساواة مع العملاء (الفقرة ٢)، وبالتعاطف (الفقرة ٤)، وبالتظاهر بالبشاشة (الفقرة ٣)، والود (الفقرة ٨) إلى جانب العزوف عن اتخاذ إجراءات جذرية (الفقرة ٧). وأما مبرر التظاهر بهذه الصفات المذكورة فهو احتمالُ جعلِ المقابلة «ألطف وأفعل»، وأنا أفسر الفاعلية بأنها تُشير إلى الهدف النفعي المتمثل في حلِّ مشكلات «التأديب».

وترجع أهمية هذه التوصيات أيضًا إلى ما تفترضه ضمنًا؛ إذ إنها تفترض أن للمشرفين الحق في السيطرة الكاملة على مضمون المقابلات وعلاقاتها وذواتها، وأن لديهم القدرةَ على تنفيذ وجوه التلاعب المقترحة بالعلاقات والذوات كيفما شاءوا دون أن يخشَوا الاعتراض عليهم. وفي مقابل ذلك تفترض أن العملاء لا يتمتعون بأدنى سلطة. ومن هنا تنشأ مفارقةُ معينة بشأن هذه التوصيات؛ إذ إن الإقدام في ذاته على وضع توصيات موجَّهة لمشارك واحد تُفترَض فيه القدرة على تنفيذها وفرضها على الآخر كما يحلو له، يستبعد المشارك الآخر في حدث يكاد يقوم على المساواة التي تقترحها التوصيات.

وربما تكون هذه المفارقة مجردَ جزء من المفارقة الأعمق التي تمارس في مقابلة شخصية لا في لقاء تعنيف صارخ؛ إذ إن المقابلة قد استعمرت جهاز التأديب فجعلت عملية التأديب تبدو على غير ما هي عليه. وهذه هي المحاكاة الأساسية التي تُعتبر صور المحاكاة الأخرى المشار إليها عاليه أشكالًا منقحة منها. وعلى هذا المستوى تتحول طبيعة العملية التأديبية من خلال إدماجها في الافتراضات القائمة على المنطق السليم التي تستند إليها المقابلة الشخصية: أي إن لكل طرف من الطرفين ما يُسهم به في العملية (تمشِّيًا مع الاتجاه الحديث لتحقيق الانضباط من خلال الانضباط الذاتي)؛ وإن للقائم بالمقابلة أو مَن يتولَّى التأديب الحق (ما دامت تتوافر أدلة مبدئية على وقوع مخالفة للنظام) في أن يدسَّ أنفه ويستكشف شتى جوانب السلوك والدوافع لدى مَن يتعرض للتأديب أو إجراء المقابلة؛ وإن الأخير ملتزم بأن يُبديَ التعاون في ذلك، وهلمَّ جرًّا.

وتوجد أنماط كثيرة مختلفة من المقابلات الشخصية التي يمكن اعتبارها ثمرةً من ثمار الربط بين المقابلة الشخصية، باعتبارها من تكنولوجيات الخطاب، وبين شتى نظم الخطاب المؤسسية المختلفة. وهكذا لا ينبغي اعتبار التوصيات الواردة أعلاه قابلةً للتطبيق بسهولة على جميع المقابلات، والواقع أن أرجايل يُولي اهتمامًا بنمطَين آخرَين، وبكلٍّ منهما على حدة، وهما المقابلة الشخصية الخاصة بالاختيار (أي باختيار الأشخاص المتقدمين للوظائف) والمقابلة الشخصية الخاصة بالمسح الاجتماعي.

ولكن تأثير البحوث الاجتماعية في المقابلات الشخصية من هذين النمطين ومن غيرهما يتسم باتجاهات مشتركة. إذ يذكر أرجايل — على سبيل المثال — وجودَ التقارب الوجداني وإنشاء علاقة مساواة بين القائم على المقابلة والمتقدم لها، في جميع الحالات. وهذان يقتضيان، كما رأينا في المقابلة الشخصية مع المستخدمين، التلاعب بالجوانب العلائقية والذاتية للخطاب من خلال المحاكاة أو التظاهر. وتُشبه الخصائص المذكورة للمقابلات ما دأبنا على الإشارة إليه بمصطلح إضفاء الصبغة الشخصية المصطنعة، في وقت سابق من هذا الفصل. وأقول إن لنا أن نستخدم هذا المصطلح في الإشارة إلى جميع ظواهر الخطاب الاستراتيجي، سواء في نوعه الاستهلاكي أو البيروقراطي؛ حيث نرى التلاعب بالقيم العلائقية والذاتية لأسباب نفعية. وقد يتمثل هذا في بناء أشخاص أو أفراد خياليِّين، مثل المتحدث والمخاطَب في الإعلان، أو في التلاعب بمواقع الذات أو بالعلاقات القائمة بين أفراد حقيقيِّين (فيما يتعلق بالمساواة أو التضامن أو الصلة الحميمة أو ما شئت!) في المقابلات الشخصية. ويعتبر إضفاء الطابع الشخصي الاصطناعي عنصرًا رئيسيًّا من عناصر إعادة البناء المنهجية لنظام الخطاب المجتمعي الذي يشغلني في هذا الفصل.

وإلى جانب تدريب مَن يتولَّون إجراء المقابلات الشخصية على المهارات الاجتماعية، يزداد شيوع تدريب المتقدمين لهذه المقابلات على هذه المهارات باطراد. إذ أصدرت وزارة العمل كتيِّبًا يُقدم للعاطلين العون في اكتساب مهارات الحصول على وظيفة. وقد انتشرت — فيما يبدو — فكرة وهمية (أو في بعض الحالات محاولات للإيهام) بأن زيادة تدريب الناس على مهارات الحصول على عمل، سوف تزيد من الأعمال والوظائف المتاحة، أو بعبارة أخرى، أن عجز الأشخاص عن الحصول على وظائف أو أعمال يرجع إلى أوجه نقص خاصة بهم، بما في ذلك عجزهم، على سبيل المثال، عن النجاح في خوض المقابلات الشخصية، لا بسبب أوجه النقص في النظام الاجتماعي.

ومع ذلك، فربما كان هذا النوع من التدريب يمثِّل ما أُشير إليه في الفصل الأخير بمصطلح التمكين، الذي يعني تنميةَ طاقة الأشخاص على استكشافِ كلِّ ما هو ممكن، مهما يكن، داخل نظام من نظم الخطاب، من دون تغييره فعليًّا. والواقع أن للتمكين وجوهًا كثيرة تُبرره، كما أقول في الفصل التالي، باعتباره وسيلةً لمنح الثقة للفئات الاجتماعية الخاضعة للهيمنة وإذكاء إدراكهم لإمكاناتهم الكامنة، لكنني أشعر أننا نُواجه ما يُشبه المعضلة هنا.

فالأمر لا يقتصر على أن بعض تطبيقات التدريب على المهارات الاجتماعية مشكوك في التزامها بالأخلاق الاجتماعية العلمية، خصوصًا عند تنمية مهارات الذين يُهيمنون على غيرهم أو يتلاعبون بهم؛ لتحقيق أهدافهم النفعية الخاصة، ولكن من المحتمل أيضًا أن يكون لاختزال الممارسة الاجتماعية والخطاب الاجتماعي في مجرد «المهارات» تأثيرٌ محتوم يُضعِف من خطاب التواصل، وأعني به الخطاب الذي لا يقوم على الرغبة في تحقيق أهداف نفعية لأي مشارك فيه، بل يُمارَس ممارسةً حقيقية بروح التعاون ابتغاءَ التفاهم والتوصل إلى أرضية مشتركة. ومن المحتمل أن يكون له هذا التأثير السالب للقوة؛ إذ ربما يصبح من الصعب في ظل الانتشار المتزايد لإضفاء الصبغة الشخصية المصطنعة أن نمنع الظن بأن أصدق صور الممارسات العلائقية والذاتية مصطنعة هي الأخرى. وإذا كانت تُحيط بنا الأشكال المصطنعة للصلة الوثيقة والصداقة والمساواة والتعاطف، أفلا يؤثر ذلك في قدرتنا على تبيين الصور الصادقة لأية حالة من هذه الحالات؟

(٨) المعلومات والجمهور والاستمارات الرسمية

يعتبر تقديم المعلومات إلى «الجمهور» من طريق الهيئات البيروقراطية، وطلب المعلومات من «أفراد الجمهور» من خلال استمارات خاصة، من تكنولوجيات الخطاب التي كثيرًا ما يقترن بعضُها بالبعض في سياقات الرعاية الاجتماعية. فالأجهزة البيروقراطية تُصدر كتيبات إعلامية تَصِف شتى المزايا التي تأتي بها «الرعاية» وتحدِّد الذين يستحقون الحصول عليها، وقد تقترن هذه الكتيبات أو تتضمن في داخلها استماراتٍ تلزم «المستحقين» للرعاية بملْئِها حتى يتمكنوا من التقدم بطلب الحصول على المزايا المذكورة. وتمثِّل هاتان التكنولوجيتان، إلى جانب المقابلات الشخصية، الزيادةَ الهائلة فيما يطلبه المجتمع من توصيل وتواصل مع جمهور أفراده الخاضعين للهيمنة.

وقد غدَت خصائص هذه الكتيبات والاستمارات الرسمية أساسًا لخلاف دائم وشائع في حقبة «دولة الرعاية»، باعتبارها نوعًا من حرب العصابات التي دارَت رحاها على المستوى «العام»، والمستوى «الخاص» أيضًا، في لقاءات المحادثات في الحياة اليومية ضد البيروقراطية. ومن الشكاوى الرئيسية أن هذه المادة تدقُّ على أفهام نسبة كبيرة من الأشخاص الذين يُفترض توجيهها إليهم، بسبب صعوبة هضم الشكل والتنظيم، وتعقيد بناء الجمل، واستخدام المصطلحات التقنية، وما إلى ذلك بسبيل. وارتبطَت هذه الشكوى بالمستوى المنخفض للحصول على المزايا، أي بإحجام عدد كبير من «المستحقين» عن التقدم بطلباتهم.

وتعرَّضت الكتيبات والاستمارات الرسمية لتحولات أساسية استنادًا إلى المشورة العلمية الاجتماعية الخاصة بكيفية التصدِّي لهذه الشكاوى. والنصَّان ٨–٣ و٨–٤ مثالان حديثان يُبيِّنان بوضوح وجلاء الجهدَ الذي بُذل في جعل أمثال هذه الوثائق قريبةً من أفهام الناس. والنصَّان هما — على الترتيب — الجزء الرئيسي من كتيِّب إعلامي عن استكمال دخل الأسرة من إنتاج وزارة الصحة والتأمينات الاجتماعية، والصفحة الأولى من استمارة التقديم للحصول على «استكمال الدخل» المذكور، وهي استمارة تتكون من أربع صفحات. وكانت الاستمارة تُوَزَّع مع (أي داخل) الكتيب.

ما الهدف (أو الأهداف) أو الغرض (أو الأغراض) البيروقراطية التي يحاول النصَّان تحقيقَها، وكيف تتجلَّى هذه في المعالم النصية؟

الغرض البيروقراطي الرئيسي للكتيب — فيما يبدو — «حث» مَن يستحقون تلقِّي معونة استكمال الدخل على التقدم بطلبها. ومعظم جمل الشرط الكثيرة (التي تبدأ بالحرف «إذا») ترمي إلى تحديد القطاع الخاص من السكان، على وجه الدقة، الذي يستحق الحصول عليها (مثلًا: إذا كنت تعمل ولديك أطفالٌ فينبغي أن تُحيط بنظام استكمال دخل الأسرة). وأما الهدف الرئيسي للاستمارة فالمفترض أنه جمع المعلومات اللازمة لتقدير مدى استحقاق المتقدم للمعونة بشكل يسهل «تفريغ بياناته». ويتجلَّى هذا في شتى طرائق «تبسيط» النص، مثل استخدام جمل بسيطة نسبيًّا، ومفردات غير تقنية، وخصائص كثيرة لما يسمى «التوضيب» الطباعي، مثل اختيار نوع الحروف، وتنوع الألوان، وأحجام الحروف واختلاف الحرف الصغير عن الكبير، وأبناط الحروف، وتحديد خانات لكتابة الإجابة، وتقديم اختيارات متعددة لتيسير ذلك. وصورة الاستمارة توضِّح بعض هذه الملامح أكثر من توضيح غيرها. ويتميز الكتيِّب أيضًا بالتبسيط، والمفترض أن هذا يهدف إلى ضمان تقدُّم أكبر عدد من الناس بالطلبات، ويتجلَّى هذا أيضًا في النحو والمفردات وشتى جوانب «التوضيب» الشكلي.
ويمثل التبسيط تلاعبًا ببعض جوانب مضمون النص، ولكن التبسيط هنا، شأنه في هذا شأن كل تبسيط للخطاب البيروقراطي، يقترن بالتلاعب بالعلاقات والذوات، وبإضفاء المسحة الشخصية المصطنعة. وفي القسم المعنون وهذه الأشياء مجانية، مثلًا، يبدو أن منتج النص هو الوزارة المذكورة، وهو يشغل موقع الذات الخاص بالمعلن، ويبني للقارئ موقع الذات الخاص بالمستهلك. وهذا يبين أن جانبَي تعدِّي النظام على حياة الناس، واللذين أوضحتهما، وهما الجانب الاقتصادي/الاستهلاكي، والجانب البيروقراطي/الخطاب التكنولوجي، ليسا مستقلَّين، بل إنهما يتداخلان بازدياد. ومن الممكن، بصفة خاصة، الانتفاع بموقع ذات المستهلك القوي الذي يبنيه الإعلان في تحقيق أغراض بيروقراطية. لاحظ أيضًا أن الإعلان يشارك تكنولوجيات الخطاب خصيصةَ اعتماده على البحث العلمي الاجتماعي، والواقع أن المنطق قد يقبل توسيع فكرة تكنولوجيات الخطاب بحيث تتضمن الإعلان.
والملاحظ بصفة أعم توجيه الخطاب إلى القارئ مباشرة، وتوجيه الأسئلة وأفعال الأمر إليه. ومن الأبعاد الشائعة في إضفاء الصبغة الشخصية المصطنعة، بُعْدُ التظاهر بالمساواة، على نحو ما رأينا آنفًا فيما يتعلق بالمقابلات الشخصية، وتبدو في هذه الحالة محاولة ما لوضع منتج النص على قدم المساواة مع القارئ من خلال اختيار التعبيرات التي قد يستعملها معظم القراء، كما يمكن اعتبار تبسيط المفردات والنحو في الوقت نفسه تحقيقًا للتكافؤ. ولكن هذا لا يتحقق بانتظام في النصِّ كلِّه (فإن كلمة شريك، على سبيل المثال، تُستخدم على نطاق محدود بمعنى الشخص الذي يعيش المرء معه) ولكن في النص نماذج كثيرة على ذلك؛ كاستعمال تعبير مثل «أن ينال» بدلًا من تعبير «مَن ينطبق عليه الشروط» في العنوان: «مَن الذي يستطيع أن ينال ذلك؟» أو تعبير «يعيش مع» بدلًا من المصطلح «يشترك في الإقامة مع»، وإن كان الاستعمال المعتاد للتعبير الأول قد يَفِي بالمعنى المضمر المحذوف وهو «كأنما كانا زوجًا وزوجة».
fig25
النص ٨–٣ المصدر وزارة الصحة والتأمينات الاجتماعية.
fig26
النص ٨–٤ المصدر وزارة الصحة والتأمينات الاجتماعية.
ومثل هذه المعالم التي تُوحي بالمساواة ترتبط بخصائص معادلة لها في تكنولوجيات الخطاب المذكورة التي تضع منتج النص في موقع السلطة الراسخة. فأفراد الجمهور يمارسون ملء الاستمارات — مثلًا — ملتزمين التزامًا كبيرًا بشروط الهيئة البيروقراطية: ومن المفترض أن الأخيرة من حقِّها أن تطلب الإحاطة بشتى التفاصيل الشخصية وأن على أفراد الجمهور تقديمها، وأن الأخيرة تمارس سلطةً كاملة بشأن البتِّ في مدى صحة أو خطأ المحتوى، وأشكال الإجابة، وما إلى ذلك بسبيل. ومن الممكن أن يؤكد التبسيط افتقار المتقدم للسلطة، وأرى أن هذا ينطبق على «قواعد المرور» في الاستمارة: (ابدأ هنا، اذهب الآن إلى القسم ٢ في الصفحة التالية) وعلى تصميم الاستمارة بحيث تخلو من الأسئلة التي تتطلب أكثر من الإجابة عنها ﺑ «نعم» أو «لا» في بعض الحالات، أو من الإجابات التي لا يزيد طولها عن الطول المعياري في حالات أخرى. وأعتقد أن إضفاء الصبغة الشخصية المصطنعة قد يدعم موقع البيروقراطية والدولة بإخفاء علاقتها النفعية و«التلاعبية» بالجمهور وراء واجهة من العلاقة الشخصية المتكافئة، لكن بشرط ألَّا يرى الناس الحقيقة خلف هذا القناع!

(٩) خطاب العلاج

قلت في بداية هذا الفصل: إن من آثار تعدِّي الاقتصاد والدولة على عدد متزايد من مجالات الحياة، مواجهة أعداد كبيرة من الناس لمشكلات و«أزمات هوية» يرون أنها مشكلات فردية «شخصية»، ومن ثَم يسعَون لطلب العون من بعض المصادر. ولدينا شتى أنواع الهيئات التي تُقدِّم مثل هذه المعونة، وتتراوح أنواعها من الطب النفسي على المستوى المهني إلى المنظمات التطوعية مثل المنظمة السامرية.

وقد ولَّدَت هذه المنظمات ضروبًا بالغةَ التنوع من العلاج وتقنيات تقديم المشورة. وأول ما يلاحظه المرء فيها، أنها أمثلة أخرى لتكنولوجيات الخطاب، فهي تشارك غيرها من هذه التكنولوجيات كونها أشكالًا تطبيقية للمعارف العلمية الاجتماعية. ولكنها تختلف عن أنماط تكنولوجيات الخطاب التي ناقشتها آنفًا في أنها لا ترتبط بعلاقة مباشرة بالعقلانية البيروقراطية. وإذن فمن المفيد التمييز بينها باعتبارها تكنولوجيات علاجية وبين تكنولوجيات التأديب. ومع ذلك فسوف أسوق الحجة لاحقًا على أن لها علاقةً مهمة بالعقلانية والبيروقراطية.

وفيما يلي مقتطف من مقابلة شخصية علاجية بين عميل «ع» ومعالج «م»:

(١) ع : المسألة غامضة جدًّا. ولكن كما تعرف فأنا دائمًا ما، دائمًا ما يخطر لي على أن هذه العملية كلها بالنسبة لي تُشبه فحصَ أجزاء الصورة المقطعة لتجميعها في اللغز المعروف. ويبدو لي، كأنني الآن مُنكبٌ على فحص الأجزاء الفردية التي ليس لها معنًى يُعتَدُّ به في الواقع. وربما أتناولها من دون أن أبدأ حتى التفكير في نسق معين. ودائمًا ما تعتادني هذه الفكرة. وهذا غريب لأنني، في الواقع، لا أحب الألغاز من هذا النوع. ودائمًا ما كنت أشعر بالضيق منها. ولكن هذا إحساسي. وأنا أعني أنني ألتقط قطعًا صغيرة (والمعالج يُومئ ويُشير بيدَيه خلال هذه المحادثة كلها لإيضاح ما يعنيه العميل) وليس لها أيُّ معنًى على الإطلاق، إلا، أعني — الإحساس الذي تكتسبه من مجرد تحريكها من دون رؤيةِ أيِّ نسق تشكله، ولكن من مجرد اللمس، ربما شعرت، أعني أن هذه القطعة سوف تحلُّ في مكان ما هنا.
(٢) م : وذلك في اللحظة التي — في العملية أعني — تحسُّ فيها بملمس وشكل وتصور القطع المختلفة، إلى جانب إحساس محدود في الخلفية يقول، نعم، يقول إنها سوف تتفق مع غيرها على الأرجح في مكان ما، ولكن معظم الانتباه مركز على السؤال «ما نوع إحساسي بها؟ وما ملمسها؟»
(٣) ع : صحيح. يكاد يكون لها جانب مادي. أعني. إه —
(٤) م : لا تستطيع وصفها أي وصف من استخدام يدَيك. شعور بأنها حقيقية، كأنما لها كيان محسوس في —
(٥) ع : ومرة أخرى أُشير إلى الإحساس بأنني موضوعي جدًّا، ومع ذلك فلم أقترب من نفسي إلى هذه الدرجة قبل اليوم.
(٦) م : كأنك تبتعد لتُبصر نفسك وفي الوقت نفسه تشعر بأنك اقتربت من نفسك بهذا الأسلوب أكثر من —
(٧) ع :  [يغمغم] ومع ذلك فللمرة الأولى منذ شهور لا أفكر في مشكلاتي. لست أفكر فيها فعلًا، ولا أحاول حلها.
(٨) م : لديَّ الانطباع أنك لا تجلس مثلًا، وتقول سأعمل على حل «مشكلاتي». ليس ذلك الإحساس على الإطلاق.
(٩) ع : صحيح. صحيح. أتصور أن ما — أن ما أقصده فعلًا أنني لا أجلس حتى أحلَّ لغز الصورة المقطعة، أن أضمَّ أجزاءها فالمسألة أنني لا بد أن أرى الصورة. قد يكون الأمر كذلك، وربما كنت أستمتع فعلًا بعملية اللمس والتحسس، أو ربما كنت أتعلم شيئًا.
(١٠) م : يوجد على الأقل ذلك الإحساس بأن اللمس هو المقصود، وليس بأنك تفعل هذا حتى ترى صورة ما، ولكنه الشعور بالرضا بالتعرف على كل جزء. هل هذا —
(١١) ع : تمامًا. تمامًا. هو ذاك. ولا يزال يُصبح ذلك النوع من الإحساس، من اللمس. إنه أمر طريف جدًّا. أحيانًا لا يكون ممتعًا تمامًا، وأنا واثق ولكن —
(١٢) م : خبرة من نوع مختلف إلى حدٍّ ما.
(١٣) ع : نعم. تمامًا.
النص ٨–٥، المصدر روجرز ١٩٦٧: ٧٧–٧٨

انظر إلى العلاقة بين المعالج «م» وما يقوله، وبين ما يقول العميل «ع». انظر بصفة خاصة في مدى ما تتضمنه أقوال المعالج من أحكام على أقوال العميل، أو السيطرة عليها، أو إبداء التقارب الوجداني مع العميل.

أعتقد أن أقوال المعالج، إن شئنا الإجابة الموجزة على هذا السؤال، وإن أخذنا بدلالاتها السطحية على الأقل، لا تُصدر أحكامًا على أقوال العميل ولا تحاول السيطرة عليها. بل إن المعالج يُبدي تقاربًا عاطفيًّا مع العميل. انظر إلى ما يقوله المعالج في الدور «٢». لاحظ أولًا أن الشكل «التراكيبي» لهذا الدور يجعله امتدادًا للدور السابق للعميل: فالدور «١» ينتهي بجملة ربما شعرت المتبوعة بجملة اسمية في موقع المفعول به للفعل شعرت، والدور «٢» مبنيٌّ باعتباره جملةً اسمية أخرى (التي تبدأ بعبارة وذلك في اللحظة التي) وهي التي تعتبر معطوفة [أي بحرف التنسيق: الواو] على الدور (١)، ولاحِظ أن المعالج يرجع صدى القول المباشر الموجَّه إلى الذات (قارن عبارة إن هذه القطعة ستحل في مكان ما هنا بعبارة: إنها سوف تتفق مع غيرها على الأرجح في مكان ما). وهذه العلاقة الشكلية بين الدورَين (١) و(٢) تبيِّن علاقتهما الوظيفية، أي إن الدور (٢) إعادة صوغ لنهاية الدور (١)، فهو يشرحها بدقة. وهذا النسق يتكرر على امتداد المقتطف، وفي كل حالة يقبل العميل إعادةَ صوغ المعالج لما قاله (صحيح) في الدور (٣) على سبيل المثال. ويُبدي المعالج تقاربه العاطفي بإنتاج إعادة صياغة مقبولة لأقوال العميل.

أُجريَ استعراض شامل في الآونة الأخيرة لقضايا تقديم المشورة جاء فيه: إن معظم تعريفاته تقول إنه «شكل من أشكال التواصل المباشر بين شخصين، وإنه يتميز بالتوصل إلى تفاهم عاطفي دقيق بينهما كثيرًا ما يوصف بالمصطلح العلمي: «التآلف الوجداني» أو «التقمص الوجداني»، وإنه يركز على مشكلة واحدة أو أكثر من مشاكل العميل، وإنه يخلو من الأحكام السلطوية والضغوط القسرية من جانب المستشار.» وحيثما رُئيَ أن جذور المشكلة داخلية لا خارجية، فإن الهدف يتمثل في التعامل معها بتحقيق تغييرات سلوكية معينة، بناء على أن العميل قد تمكن من فهم أمور معينة عن ذاته لم يكن واعيًا بها من قبل.

وأما «المهارات المعاونة» من جانب المستشار التي تيسر حدوث ما أشرنا إليه فهي تخضع للتأمل الواعي والسيطرة الواعية. ومن القضايا المعلقة قضية تقول: إلى أيِّ مدًى ينبغي لردود فعل المستشار أن تتجاوز شرح أقوال العميل أو إعادة صياغتها؟ والمعالج النفسي اللامع كارل روجرز يَصِف دور المعالج على النحو التالي: «إنه لا يكتفي بمجرد تكرار كلمات عميله أو مفاهيمه أو مشاعره. بل إنه يحاول النفاذ إلى المعنى المضمر في التجربة الشعورية الباطنة الحاضرة، وهو الذي تُشير إليه كلمات العميل أو مفاهيمه.» ولكن إذا كان المستشار سوف يقدِّم أمثال هذه التفسيرات إلى العميل، فلن يكون الحد الفاصل قاطعًا بين مساعدة العميل على صوغ معانيه الخاصة وبين توجيه العميل لتقبل صياغة المعالج لها بل سيصبح مشوشًا إلى حدٍّ ما.

فالعلاج والمشاورة يقدمان العون للأفراد الذين يعانون من أمراض ولَّدها المجتمع، وهو ما يتضح في الاستعراض الشامل المشار إليه آنفًا:

بدأ في الظهور فيما يبدو مجالٌ جديد من مجالات التخصص، متخذًا صورتَه ببطء من الأدوار المهنية المنوعة الكثيرة التي يرتبط بها، واستجابة لحاجة اجتماعية يحسُّ بها الناس إحساسًا عميقًا، وهي الحاجة إلى تقديم الإرشاد والدعم للأفراد وسط الدوامة الهائلة للتغيير الاجتماعي والاقتصادي وزيادة تنقل السكان جغرافيًّا، والانهيار الجزئي للحياة الاجتماعية في المناطق التي تسودها الحياة المدنية … ويصطبغ المجال بصفة إنسانية عميقة في شتى أشكاله … ويعتبر عاملًا جوهريًّا يحقق التوازن مع الاتجاهات الشمولية الظاهرة بوضوح وجلاء أيضًا في شتى أرجاء نسق التغير الصناعي والثقافي الحديث.

ولكن إذا افترضنا قدرةَ العلاج وتقديم المشورة على التخلص من آثار الأمراض الاجتماعية بالكشف عن الطاقات الخفية للأفراد، فلنا أن نعتبرها في حدود ذلك الافتراض من الممارسات الأيديولوجية التي قد تتنافس مع ممارسات التعبئة السياسية المبنية على الافتراض المضاد الذي يقول: إن العلل الاجتماعية يستحيل علاجها إلا بالتغيير الاجتماعي. بل إن ميشيل فوكوه يقول: إن «الاعتراف»[لدى الكاهن] الذي يمكن اعتباره جامعًا للعلاج والتشاور، قد أصبح من المكونات ذات الأهمية الحيوية للسيطرة الاجتماعية.

والواقع أن سرعة استعمار «تقديم المشورة» للعديد من نظم الخطاب المؤسسية، الخاصة بالعمل، والتعليم، والخدمات الاجتماعية، والطب العام، والتوجيه المهني، والقانون والدين يطرح تساؤلات عن علاقته بالسيطرة الاجتماعية. وفيما يلي — على سبيل التمثيل — مقتطفٌ من مناقشة لتقديم المشورة في مجال التعليم.

في المدرسة ذات الطابع السلطوي القوي، لا يتوقف جميعُ أفراد تلك الجماعة، من مدير المدرسة إلى أدنى المراتب، عن إصدار الأوامر إلى كلِّ مَن لهم عليه سلطة رسمية، ومن ثَم فلا يكاد يوجد مجال للإرشاد إلا الرعاية ذات الصبغة الأبوية الشديدة، وتقديم الإرشاد بالسذاجة التي يتسم بها الهواة؛ ولا تكاد تلوح فرصةٌ لغرسِ أيِّ تفهُّم حقيقي للمشاركة في المسئولية، والانضباط الذاتي للأفراد، والاهتمام بالآخرين واحترامهم باعتبارهم بشرًا. أما إذا كانت المدرسة تهدف فعلًا إلى تحقيق أقصى مراقي النمو الشخصي للأفراد جميعًا، فينبغي أن نكفَّ عن الظن بأن مسئولية المدير تنتقص من مسئولية العاملين، بل ولا يمكن أن نسمح لمسئولية العاملين أن تنتقص من مسئولية التلاميذ.

وقد يخرج المرء من هذا التضاد بين نمطَين من أنماط المدرسة، بنتيجة منطقية تقول: إنه يقترح العمل بتقديم المشورة باعتبارها تكنولوجيةً معينةً داخل آلية ترمي إلى تحقيق النظام الاجتماعي في المدارس وإضفاء المشروعية عليه، أي بصفته مذهبًا «فرديًّا جماعيًّا» ما دام يرى أن المدارس شراكاتٌ تُفيد جميع الأفراد فيها. والمرء يجد أيديولوجيات التشارك هذه في هيئات أخرى، بما في ذلك الهيئات الصناعية والتجارية. ويجوز لنا أن نعتبر تقديم المشورة في أمثال هذه الحالات تكنولوجيات تأديب وتكنولوجيات علاج في الوقت نفسه. وأما انتشاره فيمكن أن ينظر إليه باعتباره يتفق مع التغيرات في استراتيجيات تحقيق الانضباط، وهي التي تكلف الفرد بتحقيق انضباطه بنفسه.

وختامًا لهذا القسم دعونا ننظر إلى مثال لتقديم المشورة في أحد نظم الخطاب المستعمَرة. وفيما يلي مقتطف من جلسة مشاورة حول العمالة، وبصفة أخص من جلسة تشاور في منتصف الحياة العملية لامرأة ناجحة من سيدات الأعمال، تُصادفها صعوبات مع رئيسها وتحاول أن تنتقل إلى عمل آخر. والمقتطف مأخوذٌ من برنامج إذاعي بُنيَ بالفعل حول مناقشة بين مخرج البرنامج «م»، والاستشاري «ش» إلى جانب مقتطفات من جلسات التشاور المستخدمة لإيضاح بعض المسائل الواردة في المناقشة «ع: العميل». والنص يبدأ بهذا المقتطف، ولكنَّ دورَي المتحدِّثَين الأخيرَين يُعيدانِنا إلى المناقشة بين المخرج والاستشاري (والنقطة التي حولها مسافة تعني وقفةً قصيرة، والشرطة تعني وقفة أطول).

(١) ع : والأمر الصعب الآخر، أنني إذا لم أنجح في الحصول على هذا العمل فأعتقد أن الصعوبة الحقيقية ستكون في الواقع فيَّ. البقاء حيث أنا. أعني إذا لم أحصل عليه فإنني أكاد أواجه إغراء الاستقالة. أُصبح عاطلة.
(۲) ش : يعني هناك اﻟ . هل كلمت زوجك في هذا الموضوع؟
(٣) ع : إم. بشكل عابر نعم. هددت بهذا في أكثر من مناسبة واحدة. نملك. ذلك. لفترة قصيرة. بسبب وجود ميراث. حرفيًّا أعني مجرد مجرد مصادفة محضة (غمغمة). في الظروف العادية لا.
ش : همم.
(٤) ش : وإذن يعني. الأمر في يدك. سيكون الأمر محزنًا؛ لأنه من الأيسر كثيرًا أن يحصل المرء على عمل (ع: ممم) من عمل. وهكذا. إذا لاحَت لك فرصة أو واتَتك. أن. تبقى. و. تَصِرِّي على أسنانك فسوف يكون ذلك حسنًا جدًّا. وهل نظرت في أن التعامل. مع التوتر العاطفي. والضغط من. تجاهل و. كأنما يصلبك الآخرون الذين نشأتَ فعلًا وبلغتَ النضج الشخصي معهم —
(٥) ع : أدرك ذلك باعتباره بيانًا موضوعيًّا؛ لكنني لستُ واثقةً أنني أستطيع إدراكه عندما يصبح ذاتيًّا.
(٦) م : هل تقول لها هنا يا مايكل إن المعاناة مفيدة لك.
(۷) ش : سؤال وجيه لست واثقًا أنني أعرف أن أُجيبَه بنفسي اه: سؤال وجيه.
النص ٨–٥ المصدر: «تقديم المشورة في التوظف»، راديو هيئة الإذاعة البريطانية، البرنامج الرابع، ٧ ديسمبر، ١٩٨٦م.

الدور رقم (٢) يلفت أنظارنا على الفور بسبب الافتراضات المتحيزة جنسيًّا التي يقوم عليها لجوء الاستشاري مباشرة إلى الإحالة للزوج باعتباره يمارس سلطةَ التحكم في الأفعال المتهورة. ولكن المسألة التي أريد التركيز عليها هي أن استعمار الاستشارة لبعض نظم الخطاب مثل النظم المرتبطة بالعمل، يجعل قواعده الأساسية الخاصة بالعلاج وبالتوجه الشخصي والفردي تتفق مع الأهداف المؤسسية.

لاحظ سؤال المخرج في الدور رقم (٦). ما الذي يقوله الاستشاري للعميلة؟ أو بالأحرى ما الذي يفترضه سلفًا في (٤)؟ وهل الافتراض المسبق ذو طبيعة علاجية أو طبيعة تأديبية متعلقة بالعمل؟

المفترض سلفًا هو الكلام الذي يبدأ بكلمة التعامل وينتهي بعبارة نشأت وبلغت النضج الشخصي. وهذا الافتراض المسبق في الواقع يمزج بين الحالة الخاصة (أي «إن هذه التجربة سوف تحقق لك النمو الشخصي») وهي المشار إليها في العبارة الثانوية، والافتراض العام القائم على المنطق السليم الذي يحدد لهذه الحالة الخاصة معنى (أي «إن الشخص الذي يتعامل مع التوتر العاطفي … إلخ تنمو شخصيته وتنضج») وهو ما تُفصح جزئيًّا عنه الجملة الرئيسية («نشأت فعلًا وبلغت النضج الشخصي»). وإقامة التعادل بين النجاح في التعامل مع التوتر العاطفي وبين النمو والنضج الشخصي يمثِّل جانبًا من جوانب المنطق السليم الذي يقوم عليه التشاور. والطريف هنا أن هذه المقولة تتمتع بمرونة كافية تضمن أن يدرج فيها التوتر والضغط الناشئان من العمل. والتوتر والضغط، وسائر ما يرتبط بهما من عائلات هذه الأمراض، أصبحت، بصورة متزايدة، من الجوانب المألوفة في الحياة العملية للناس؛ إذ إن الذين لا يزالون في أعمالهم يتعرضون لضغوط ما تفتأ تشتد لزيادة إنتاجيتهم. وليست هذه الظواهر بطبيعة الحال لوازمَ للعمل على الإطلاق (ناهيك بأن تكون مستحبةً فيه)، وإذا كان التشاور بشأن العمل ينسب إليها دورًا إيجابيًّا في «نمو الشخصية» فإنه يساعد، فيما يبدو، على إضفاء المشروعية عليها.

(١٠) اتجاهات أخرى

لا تشرح الاتجاهات التي رصدناها في المجتمع وفي الخطاب، والتي ناقشتها في هذا الفصل، جميع ما يجري على مستوى المجتمع ومستوى الخطاب في الرأسمالية المعاصرة على الإطلاق. وتأكيدًا لهذا دَعْني أختتم هذا الفصل بإشارة موجزة إلى بعض الاتجاهات التي تعتبر من زاوية معينة مضادة للاتجاهات التي ناقشتها، وذلك ما دامت تشير إلى زيادة التفتُّت لا إلى زيادة التكامل.

سبق أن أشرت إلى شكل من أشكالِ ردِّ فعل الأشخاص على زيادة تعدِّي الاقتصاد والدولة على حياتهم، ويتمثل ردُّ الفعل المذكور في السعي لحلول فردية لإحساسهم بفقدان توجهاتهم وفقدان الهوية وما إلى ذلك بسبيل في شتى صور العلاج، والمشاورة، وخدمات المعونة. ولكن ردود أفعال الأشخاص كانت تتخذ أحيانًا صورًا جماعية بدرجات متفاوتة من خلال أشكال الكفاح. ويتمثل أحد معالم الحالة السياسية الراهنة في وجود عدد هائل من المنظمات والحركات التي لم تستطع القنوات التقليدية للعمل السياسي — من خلال الأحزاب السياسية، والنقابات، والكنائس — أن تحتويَها (وإن كنَّا نسمع عن رأيٍ يقول: إن التحالف مع هذه القنوات التقليدية، وفيما بينها، هو الطريق الوحيد لمقاومة النظام). ويتجلَّى في تنوع هذه الحركات الاجتماعية الجديدة (كما سوف أُسمِّيها) في ذاته نطاق تعدِّي النظام على الحياة، وجوانب الحياة الكثيرة التي تتعرض للضغوط بسببه.

والواقع أن أيَّ رصد للحركات الاجتماعية الجديدة يبيِّن تنوُّعَها المحير، فهي كثيرًا ما تتفاوت في بعض الجوانب مثل حجم قواعدها الاجتماعية، وطبيعتها، ونطاق القضايا التي تشغلها، وعلاقتها المباشرة أو غير المباشرة بحالات التعدي من جانب النظام وهلمَّ جرًّا. ويجوز أن تضم القائمة: الحركة النسوية، وجماعات الحفاظ على البيئة ومكافحة الأسلحة النووية، والحركات القومية، وجماعات أسلوب الحياة البديل، وحركة السود والجماعات العرقية، وحركة تحرير ذوي الميول الجنسية المثلية، والحركة السلمية، وجماعات تحرير الحيوان، وما إليها بسبيل.

ومثلما تتجلى الاتجاهات التكاملية التي نوقشت من قبل في حالات تكامل استعمارية داخل النظام الاجتماعي للخطاب، تتجلى اتجاهات التشتت أو التفتت المذكورة في انتشار بعض أنماط الخطاب، وخصوصًا في تفتيت الخطاب السياسي البديل. والمقتطف الصحفي في النص ٨–٧ على سبيل المثال يمثِّل الخطاب النسوي: وهو افتتاحية مقالة منشورة في صحيفة نسوية.

fig27
النص٧–٨ المصدر صحيفة «أوت رايت» العدد ٥٢ نوفمبر ١٩٨٦م.

ركِّز على مفردات هذا النص، وتأمَّل خصوصًا كيف يصوغ نمط الخطاب النسوي الذي يستند إليه المقال التعابير الخاصة بحالات الاغتصاب وأشكال إجراءات الاحتجاج عليها وردود الأفعال لهذه الإجراءات.

تكشف صياغة العبارات الخاصة بحالات الاغتصاب عن سمة من سمات المفردات التي تميِّز النصَّ كلَّه؛ وهي التعبيرات المركبة التي تتكون من مفردات ذات صياغة نسوية خاصة؛ مثل: عنف الذكور، والجرائم المرتكبة ضد المرأة، والناجيات بعد الاغتصاب. ولاحظ أن مفردات هذه التراكيب تنتمي إلى تصنيف نسوي متميز للأشخاص والأحداث في المجال النسوي للعمل السياسي: وعنف الذكور ليس مجردَ شيء يحدث وحسب بل ظاهرة أساسية (وهدف) للمجال. لاحظ أيضًا وجودَ صياغة لوصف فئة من الأشخاص لا وجود لها في أنماط الخطاب الأخرى وهو الناجيات بعد الاغتصاب (وليست عبارة ضحايا الاغتصاب معادلةً لها؛ لأن الأخيرة يمكن أن تُشير إلى امرأة لم تَعِش بعد الاغتصاب)، واختيار الصياغة له دلالة سياسية، لا من حيث الإيحاء بأن المغتصبين أحيانًا يقتلون ضحاياهم، بل أيضًا من حيث التركيز على الاغتصاب باعتباره كارثةً وشناعة لا تحتمل؛ فالمرء قد ينجو بعد وقوع زلزال أو تحطُّم سفينة، بل قد تُكتب له الحياة بعد تفجير قنبلة ومحاولة القتل.
فإذا انتقلنا إلى أعمال الاحتجاج وجدنا أيضًا عددًا من التعابير المركبة مثل: غضب النساء، «النساء الغاضبات»، الغضب النسوي، والعمل المباشر. والتعليقات الواردة أعلاه عن عنف الذكور تنطبق أيضًا على غضب النساء وأنواع هذه العبارة: فهي صياغة تنتمي إلى فئة ذات دلالة سياسية وتعبوية في مجال السياسة النسوية، وليست مجردَ طريقة للإشارة إلى أن بعض النساء يتصادف أن يشعرن بالغضب. ومن المحتمل أن الدعاة النسويات قد أخذن مفهوم العمل المباشر من الحركة السلمية.
وصياغة الردود على الإجراءات التي تتخذها المرأة مستقاةٌ من وضح المفردات النسوية السياسية؛ مثل: كراهية المرأة، وعدو المرأة، وأبوي، وضد المرأة. ونلاحظ أخيرًا عدد المرات التي تتكرر فيها عبارات أساسية؛ مثل: عنف الذكور وغضب المرأة في النص. وهي تتضمن كلمةَ المرأة نفسها، وفي النص مواقع كان يمكن للمرء أن يتوقع فيها الإشارة للمرأة بضمير مؤنث (أو يستبدل بها ضمير مؤنث) أو حذف الإشارة وحسب، ولكنها لم تُحذف. والجملة الأخيرة في الفقرة الثانية مثال على ذلك، إذ كان يمكن استبدال عنفهن، وعبارة أنهن يتسبَّبن في انقسام الحركة بالعبارات الواردة بالنص، وهي «عنف» النساء، وعبارة: «إن النساء يتسببن في انقسام الحركة».

الخاتمة

لا تمثل الاتجاهات في النظام المجتمعي للخطاب في أي مجتمع يتسم بالتعقيد مثل مجتمعنا مسارًا بسيطًا في اتجاه واحد، فهي متناقضة ويصعب تلخيصها. وقد اقتصر هذا الفصل على تقديم إجابات أولية عامة عن السؤال الذي يتجاهله الناس بشأن السمات المميزة للنظام المعاصر للخطاب واتجاه حركته، لكنني أرجو أن يجد القراء فيه على الأقل ما يدل على أهمية هذا السؤال داخل النطاق العام للاستكشاف الاجتماعي للحاضر.

المراجع

فيما يتعلق بالاتجاهات في الرأسمالية المعاصرة، والحركات الاجتماعية الجديدة، والخطاب الاستراتيجي في مقابل الخطاب التوصيلي، استعنت بكتاب هابرماس (١٩٩٤م) وانظر أيضًا هارفي (١٩٩٠م). وكتاب ماي (١٩٨٥م) وجي وآخرين (١٩٩٦م) يركزان على قضية نوع اللغة المستخدمة في الاقتصاد الحديث. والكتب التي وضعها لايس وآخرون (١٩٩٦م) وويليامسون (١٩٧٨م) وفيذرستون (١٩٩١م) ولوري (١٩٩٦م) مصادر مفيدة لدراسة الإعلان والمذهب الاستهلاكي. وتعليقاتي على الدولة ودولة الرعاية تستفيد من كتاب هول (١٩٨٤م) وهابرماس. انظر أيضًا جيسوب (١٩٩٠م). وفكرة «تكنولوجيات الخطاب» تستند إلى تحليلات ميشيل فوكوه لتكنولوجيات السلطة، انظر أيضًا دريفوس ورابينوف (١٩٨٢م). وفيما يتعلق بعلم اجتماع «الذائقة» انظر بورديو (١٩٨٤م). وفيما يختص «بالتدريب على المهارات الاجتماعية» استفدت من كتاب أرجايل (١٩٧٨م). وأول نص من نصوص المشاورة مقتطف من «بعض الاتجاهات الواضحة في العلاج» في كتاب روجرز (١٩٦٧م). وأما المقتطفات التي لم أُشِر إلى مصادرها في أواخر هذا الفصل فمقتبسة من فون (١٩٧٦م). وفيما يتعلق بثقافة ما بعد الحداثة، ومذهب ما بعد الحداثة، انظر جيمسون (١٩٨٤م) وإيجلتون (١٩٩٦م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤