مقدمة الطبعة الثانية

الخراب الحديث لمصر المحروسة

هل التاريخ يعيد نفسه حقًّا؟

لقد خطر ببالي هذا السؤال وأنا أستعد لكتابة هذه المقدمة للطبعة الثانية لكتاب «بنوك وباشوات» الذي ترجمتُه منذ عشرين عامًا، ولم أملك إلا أن أقارن في ذهني بين ما جرى في مصر في عهد إسماعيل منذ مائة عام، أو ما يزيد قليلًا، وبين ما جرى ويجري في مصر اليوم منذ الانفتاح السعيد الذي بدأ بعد حرب أكتوبر في عهد السادات.

فهذا الكتاب الذي ألفه دافيد لاندز (الباحث الاقتصادي الأمريكي وأستاذ تاريخ الاقتصاد في جامعة ميتشجان) يعتمد في مادته على أرشيف خاص اكتُشِف في الخمسينيات من القرن العشرين، وهو يحتوي على مراسلات اثنين من كبار ممولي الخديوي إسماعيل أحدهما في الإسكندرية ويعمل سكرتيرًا خاصا له (ديرفيو)، والآخر في باريس يدير بنكًا للتجارة والاستثمار (أندريه). وهذه المراسلات الخاصة والصريحة تلقي ضوءًا جديدًا على قصة القروض التي دفع الممولون الأجانب إسماعيل دفعًا إليها — باسم التمدُّن والانفتاح والتقدم وتحويل مصر إلى قطعة من أوروبا — تم قصة إعلان إفلاس مصر والحجز على ثرواتها بعد ذلك. أي أن هذه المراسلات تحكي ببراهين ووثائق جديدة قصة النهب الأوروبي لثروة مصر في عهد أسرة محمد علي والوصول بها إلى مرحلة الخراب ثم الاحتلال، وكل هذا — حتى لا تنسى — تم باسم الانفتاح على أوروبا؟

وقد بدأ دافيد لاندز بعد عثوره على هذا الأرشيف، ومن هذا الخيط الجديد، يتتبع تفاصيل المؤامرات التي حاكها المصرفيون الأجانب (الفرنسيون والإنجليز على وجه الخصوص) وحقيقة العوامل التي شجعت المصرفيين الأوروبيين على تصدير رءوس أموالهم للاستثمار في مصر، في ظروف ازدهار الطلب على القطن المصري طويل التيلة، عندما أوقفت الحرب الأهلية الأمريكية وصول القطن الأمريكي إلى أوروبا، ومعدلات الفوائد الباهظة التي فرضوها على هذه الاستثمارات، وإسراعهم بنزح أكبر قسط من ثروة مصر قبل أن تهبط أسعار القطن من جديد عندما يتدفق القطن الأمريكي من جديد، واختلاق مبررات لتعويضات باهظة من خزانة الحكومة المصرية؛ إما بادِّعاء حقوق لم تُمنح لهم أبدًا، أو بتحمل الحكومة مسئولية أخطاءٍ هُم في الحقيقة مسئولون عنها.

لكن الكتاب لا يشرح هذا كله بشكل مقنع فحسب، وإنما استطاع أيضًا أن يرسم صورة مقنعة للحياة الاجتماعية والسياسية القائمة في عهد إسماعيل وجو الدسائس في القصر، وحياة الشعب المصري — عماله وفلاحيه — البائسة في ظل حِمى الرَّواج الاقتصادي لهذا المحصول الرأسمالي (القطن)، وحياة الجاليات الأجنبية التي امتلأت بالمغامرين والأفاقين في مدينة الإسكندرية، كما أعاد الكتاب بتأكيد جديد ووقائع جديدة حقيقةَ وضع شركة قناة السويس وقصة تحكيم الإمبراطور «نابليون الثالث» في الخلاف بين دي ليسبس وإسماعيل التي كانت في الحقيقة قصة نهب أخرى للخزانة المصرية!

وعندما عجزت الخزانة المصرية عن مواجهة كل هذه الالتزامات، الحقيقية والوهمية، فرض الممولون الأجانب تعيين وزيرَين أوروبيَّين — أحدهما فرنسي والآخر إنجليزي — في الوزارة المصرية، أحدهما مسئول عن التصرف في إيرادات الخزانة المصرية والآخر مسئول عن مصروفاتها، وهو ما عُرف بالرقابة الثنائية، ثم عزل إسماعيل من عرشه عندما حاول أن يقاوم!

وتفاصيل القصة بعد ذلك معروفة، وقد انتهت بالاحتلال الإنجليزي لمصر عام ١٨٨٢م، وتولى الإنجليز حكم مصر فعليًّا ما يقرب من سبعين عامًا. والطريف أن نعرف أن مصر ظلت تقوم بسداد أقساط هذه الديون وفوائدها حتى عام ١٩٤٣م، عندما دفعت الحكومة الوفدية آنذاك آخر قسط من ديون عهد إسماعيل، أي إننا ظللنا نسدد في هذه الديون، التي كانت قد بلغت ٩١ مليون جنيه عند إعفاء إسماعيل، لأكثر من سبعين عامًا!

لقد ختمت المقدمة التي كتبتها للطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام ١٩٦٥م بالكلمات التالية:

وبعد … فلعل ترجمة هذا الكتاب تكون قد أضافت شيئًا هامًّا، لا من وجهة نظر الدراسة التاريخية فحسب، وإنما من وجهة نظر الصراع السياسي الحاد القائم ضد الاستعمار الجديد (الأمريكي) بأشكاله غير التقليدية، التي ترتكز في المحل الأول على السيطرة الاقتصادية كأساس للتوجيه السياسي، قبل أن ترتكز على الاحتلال العسكري. عندئذٍ لن يكون لهذا الكتاب قيمته الأكاديمية فحسب، بل ستكون له قيمته الكبيرة في النضال السياسي الراهن في الوطن العربي كذلك، بما يمنحه للمناضلين العرب من أسلحة فكرية وتاريخية جديدة.

وأعترف أنني عندما كتبت هذه الكلمات في مايو سنة ١٩٦٥م لم يكن يخطر في بالي أن مصر يمكن أن تصل في المستقبل إلى الحالة التي وصلت اليها اليوم، وإنما كتبت هذه الكلمات وفي بالي أقطار عربية أخرى كانت وثيقة الصلة بجو الانفتاح على الغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا، تمتلك ثروة ولا تمتلك صناعة أو زراعة حقيقية، تعيش في جو الرواج الاقتصادي والسلع الكمالية الغربية، ولا تملك إجابة على أسئلة المستقبل.

أما أن تصل مصر بعد عشرين سنة من هذه الكلمات إلى سياسة الباب المفتوح واندفاع البنوك والشركات الأجنبية من جديد إلى مصر لاستنزاف مواردها باسم الاستثمار والنموذج الغربي في التنمية، وأن يكون الانفتاح هو السياسة الرسمية التي تدافع عنها السلطة في مصر باستماتة، وأن تمتلئ مصر من جديد بالأفاقين والمغامرين الدوليين من أمثال أصحاب مشروع «هضبة الأهرام»، الذين ما يزالون يطالبون أمام محاكم واشنطن بالتعويضات عن إلغاء المشروع … فأمرٌ لم يكن يخطر لي على بال.

لكن الذي لم يكن يخطر على بال قد وقع بالفعل، ونحن اليوم نعيش في ظل أوضاعه ونتائجه، بحيث ضاعت استقلالية القرار الوطني من خلال سياسة الانفتاح الجديدة. ولعل هذه الحسرة التي أشعر بها وأنا أتأمل ما نحن فيه هي التي أغرتني بأن أضع في أول هذه الكلمة هذا السؤال: هل التاريخ يعيد نفسه حقًّا؟

إن من المؤكد أن ظروف الرأسمالية الدولية في منتصف القرن التاسع عشر مختلفة عن ظروفها اليوم. فآنذاك كانت الرأسمالية الدولية ما تزال في مرحلة المنافسة «الحرة»، وكانت القيادة ما تزال في أوروبا، في يد بريطانيا وفرنسا. أما اليوم بعد أن تحولت الرأسمالية الدولية إلى مرحلة الإمبريالية منذ أواخر القرن التاسع عشر، مرحلة الاحتكارات ورأس المال المالي وتقسيم المستعمرات فإن قيادة العالم الرأسمالي قد تحولت إلى الولايات المتحدة، التي دخلت — لظروف تاريخية عديدة — المرحلة الإمبريالية في وقت متأخر، واستطاعت أن تحل محل بريطانيا وفرنسا في معظم مناطق نفوذهما التقليدي. والرأسمالية الأمريكية أكثر تقدمًا وأشد شراسة في هجومها على دول العالم الثالث؛ فهي تعتمد على تكنولوجيا متقدمة جدًّا وثروات ضخمة وشركات دولية في هجومها الشرس على خامات العالم الثالث وموارده. ومن خلال هذا كله استطاعت، من خلال السيطرة الاقتصادية، أن تفرض توجهاتها السياسة على السلطات المحلية الحاكمة في كثير من بلدان العالم الثالث.

ولكن إلى جانب هذه الإمبريالية الأمريكية في عصرنا الحديث، هناك المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي بنفوذه الاقتصادي والسياسي والعسكري. وهو يمثل قوة دولية ضخمة معادية للإمبريالية؛ لأن مصالحه تتناقض مع مصالح القُوى الإمبريالية الدولية، والصراع بين المعسكرين — الاشتراكي والرأسمالي — هو القانون الأساسي لهذا العصر الذي نعيشه، فلم تعد كلمة الإمبريالية وأوامرها ونواهيها قدَرًا محتومًا على شعوب العالم الثالث كما كان الوضع في القرن التاسع عشر. ولعل انتصار ثورة الجزائر وثورة فيتنام وثورة كوبا (وهي لا تبعد عن ولاية ميامي بأكثر من ٩٠ ميلًا)، وانتصار مصر على العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م، وانتصار ثورة نيكاراجوا … إلخ، شواهد واضحة على هذا القانون الأساسي الذي يفتح الباب واسعًا لكل قائد سياسي يريد أن يحقق استقلال شعبه، وأن يطور تنمية اقتصاده ويرفع مستوى معيشة الطبقات الشعبية التي طال حرمانها. أي إن النمط الغربي في التنمية الرأسمالية لم يعد قدَرًا محتومًا على شعوب العالم الثالث كما كان الوضع في الماضي، وإنما فتحت الآفاق لنمط آخر من التنمية يقوم على الاعتماد على الذات أساسًا، وتعبئة الموارد وتوجيه التنمية لصالح الأغلبية الساحقة من الناس. وبالطبع فان هذا النمط من التنمية سوف يحتاج إلى مساعدات ومعُونات من الخارج، لكن هذه المساعدات والمعونات سوف تكون بمثابة استكمال للجهد الأساسي الذي يُبذل وطنيًّا في الاعتماد على الذات.

من هذه الزاوية يمكن أن نرى أن المناخ الدولي الذي أحاط بمصر في عهد إسماعيل ليس هو المناخ الدولي الذي أحاط بمصر في عهد الانفتاح الساداتي.

ليس هذا فحسب، بل إن الظروف الموضوعية الداخلية لمصر تختلف بين هذين العهدين. وعندما اختار دافيد لاندز عنوان الكتاب «بنوك وباشوات» كان في الحقيقة يشير إلى طرفين يتآلفان تارة ويتصارعان تارة أخرى في تلك الدراما المثيرة … الطرف الأول هو البنوك الأجنبية المحلية والأوروبية، والطرف الثاني هو باشوات مصر. وهم فئة عددها صغير آنذاك وتتكون أساسًا من أعضاء الأسرة المالكة وبطانتها في الغالب الأعم. وعلى طول صفحات الكتاب لا ترِد أسماء باشوات — باستثناء أسماء الحكام — سوى إلهامي باشا ابن عباس الأول، ومصطفى باشا شقيق إسماعيل، ونوبار باشا وزير أشغال إسماعيل ثم وزير خارجيته بعد ذلك، وهو الذي تولى التفاوض بعد ذلك في باريس لإنهاء الخلاف حول تفسير عقد قناة السويس مع دي ليسبس ونابليون الثالث.

وكانت الرأسمالية المصرية في عهودها الجنينيَّة الأولى، حتى إن عمليات إقراض الفلاحين بضمان المحصول أو الأرض وجمع القطن وكبسه وحَلْجه وتصديره إلى مرسيليا أو ليفربول كانت أساسًا في يد الأجانب حتى ذلك الوقت، وبالطبع فقد تطورت الرأسمالية المصرية بعد ذلك تطورًا واسعًا رغم الطابع المشوَّه لنموها، وتبلورت طبقات اجتماعية وقوًى سياسية خلال المائة سنة الأخيرة؛ تجعل الموقف الداخلي في مصر اليوم يختلف تمامًا عن الوضع الداخلي في عهد إسماعيل، ومن أهم هذه التباينات تبلوُر طبقة عاملة مصرية صناعية ذات تقاليد نقابية وسياسية عريقة.

ومع ذلك فرغم الاختلاف الجذري في الظروف الدولية والمحلية بين عهدين، والتي تجعلنا نتحفظ إزاء السؤال: هل يعيد التاريخ نفسة؟ … ثمة أوجه للشبه لا يمكن أن تخطئها عين الباحث.

من هذه الأوجه سيطرة البنوك الأجنبية على الاقتصاد الوطني آنذاك واليوم، ولجوء هذه البنوك إلى تعبئة مواردَ محلية قدر الإمكان قبل أن تتحول إلى الخارج بحثًا عن المساعدة، وسعي هذه البنوك إلى استنزاف أكبر قدر من الدخل القومي وتحويله في أسرع وقت إلى الخارج؛ لأنها لا تطمئن إلى مستقبل الوضع السياسي في مصر، وعن طريق هذه البنوك أُحكم ربط مصر بعجلة الرأسمالية الدولية، وأصبحت مصر جزءًا لا يتجزأ من النظام الرأسمالي الدولي. فإذا ارتفعت أسعار القطن في بورصة ليفربول فثمة رواج ينتظر أثرياء الفلاحين والباشوات، وتتحسن أحوال الخزانة المصرية، وإذا هبطت أسعار القطن كما حدث بعد ذلك ضاقت السبل على حاكم مصر في تسديد ديونها وهو الأمر الذي حدث بالدقة.

ومن هذه الأوجه أيضا قضية الدَّين المصري والقيود التي فرضها على حرية الإرادة الوطنية. لقد وصل الدين الوطني إلى ٩١ مليون جُنيه عندما عُزل إسماعيل، وبسبب هذا المبلغ فُرضت الرقابة الثنائية على مصر وأصبحت كلمة فرنسا وبريطانيا هي الكلمة الأعلى، ومهما حاول إسماعيل أن يقاوم النفوذ الأجنبي فقد فشل دائمًا؛ لأنه لم تكن في يديه أسلحة يقاوم بها بعد أن تم تسليم الاقتصاد الوطني للأجانب.

واليوم نحن نعلم من تقارير البنك الدولي أن ديون مصر — الطويلة والمتوسطة والقصيرة — قد وصلت في ٣٠ يونيو سنة ١٩٨٢م إلى نحو ٣١ مليار دولار، عدا ديون مصر العسكرية للغرب، (بمعدل ٧٥٠ دولارًا لكل فرد في مصر)، وإذا كانت مصر في عهد إسماعيل قد دأبت على الاقتراض لتسديد فوائد وأقساط ديون قديمة حل موعدها ولم يكن بالخزانة ما يسددها، فإن من حقنا أن نتفكر أن هذا ما حدث اليوم، فقد عجزنا عن دفع فوائد الديون العسكرية الأمريكية (حوالي ٦٠٠ مليون دولار) مؤخرًا، ونحن نقترض من أمريكا لتسديد فوائد وأقساط ديون أمريكية. وهكذا يكبر جبل الديون المصرية اليوم كما كبر في الماضي، ونواجه موقفًا عسيرًا من العجز عن الدفع كما واجهناه في الماضي، والحق أن موقفنا سوف يزداد سوءًا من هذه الناحية في السنوات القليلة القادمة (وسوف يتضح قِصَر نظر هؤلاء الذين ادَّعَوا أن الدَّين المصري لم يصل إلى مرحلة الخطر)؛ لأن الموارد الكبار الأربعة التي تعتمد عليها في السداد (تحويلات مصر من الخارج، البترول، قناة السويس، السياحة) سوف تهبط بطبيعة الظروف الرأسمالية الدولية كما يعترف كل المراقبين الدوليين. فأسعار البترول في تدهور مستمر حتى انتهاء أزمة الكساد الدولي في أوائل التسعينيات، وموارد قناة السويس تأثرت، لا شك، بهذا التدهور في أسعار البترول، ودول الخليج تخفض ميزانياتها وتوفر في عمالتها مما، لا شك، يؤثر على التحويلات المصرية في الخارج.

ولذلك يبقى السؤال الحاسم الذي ليس لدى مسئول إجابة عليه: هذا الدين المصري … إلى أين؟ وماذا يفعل في اقتصاد مصر وسياستها؟

كذلك لا يمكن أن نغفل عند المقارنة بين العهدين إثر الارتباط الحاسم بالرأسمالية الدولية على أوضاع الاقتصاد المصري وتركيبة الزراعة المصرية وتضخم الأسعار، وبالتالي سوء أحوال فقراء مصر، وهم غالبية شعبها آنذاك واليوم.

لقد أحدث التوسع في زراعة القطن رواجًا في أوساط أغنياء الفلاحين والباشوات والأجانب من التجارة، ولكن ها هو دافيد لاندز يقول عن تلك الحقبة ما يلي:

«لقد ضُحِّي بكل شيء في وادي النيل من أجل القطن، ومصر البلد الذي كان مصدر الفول والحبوب لكل البحر الأبيض المتوسط وأصبحت في الوضع الذي كان فيه استيراد الأغذية من الخارج ضروريًّا للتغلب على المجاعة. وهكذا ارتفعت الأسعار بسرعة فأصبح ثمن القمح ثلاثة أمثال أو أربعة أمثال ثمنه في عام ١٨٦٤م، وتضاعف ثمن الزيت والخضروات ثلاث مرات، وارتفعت أسعار الغلال والفول بنسبة ٤٠٠٪، وارتفعت أسعار لحم الضأن — وهو الغذاء الثابت للمسلمين — أربعة بنس إلى شلن في الرطل. وبينما جعل التضخم الحياة عسيرة على كل المقيمين الذين يعيشون بمرتب ثابت، بما في ذلك القناصل الذين طلبوا من حكوماتهم زيادة مرتباتهم، كان أغنياء تجارة القطن الجدد سببًا في ارتفاع الأسعار؛ بل تسببوا، بإفراطهم في الكماليات، في رفع الأسعار أكثر فأكثر.»

ولعل هذه الكلمات تذكرنا بالأوضاع الحالية في مصر. أما عن أحوال الشعب الصحية في ظل هذا الانفتاح الإسماعيلي المتوهج برواج محصول القطن، فقد يكفي أن نضيف إلى أوضاع الأسعار والتضخم الذي أصاب الفقراء في الصميم وصفَ دافيد لاندز لاكتساح وباء الكوليرا للإسكندرية إذ يقول:

ثم جاءت الكوليرا، وفي أول يوم مات عدد قليل من الضحايا، وفي اليوم الثاني زاد هذا العدد قليلًا، ثم وصل إلى عشرات ثم إلى مئات. وفي مقابل كل جثة يتم التبليغ عنها كان هناك عديد من الجثث تُدفن في هدوء في الحدائق الخاصة والأقبية. وفي أحياء الفقراء تكونت الجثث في الحفر الضيقة.

وسيطر الفزع على المدينة وعلى الرغم من أن المرض أصاب، في غالب الأمر، الفقراء، إلا أن الأغنياء الذين كان لديهم ما يعيشون من أجله هم أول من هربوا. وضرب الخديوي المثل بنفسه، فإذ كان ممتلئًا بالخوف والرعب سارع بالخروج بيَختِه إلى عرض البحر لبضعة أيام من «الراحة». وعاد بعد ستة أسابيع. وعند أقدامه اقتحم الأوروبيون الميناء وشقوا طريقهم إلى السفن المزدحمة ودفعوا مبالغ ضخمة لينقذوا أرواحهم ويسافروا على مراكب صغيرة لم تكن مُعَدة أبدًا للملاحة في غير المياه العذبة … وفي فترة أسبوعين نجح حوالي ٣٠ ألف أوروبي في الخروج من مصر …

وأخيرا إلى القارئ وصف دافيد لاندز لمجتمع الجاليات الأجنبية بالإسكندرية في عهد إسماعيل: «إن الإسكندرية لم تكن بالمكان الذي يجذب الزائر الحساس القادم من دولة أكثر تحضُّرًا، ولكن الإسكندرية هي البلد الذي فيه المال. وقليلون هم الذين كانوا يرغبون في التضحية بجيوبهم بسبب ما تشمه أنوفهم. وباستثناءات قليلة كان القادمون جميعًا مجموعة انتهازية شديدة المِراس خرجت لتبحث عن الثروة بصرف النظر عن طريقة جمعها. ولقد كان هؤلاء، إذا قيسوا بالمستوى الأوروبي للتربية والأخلاق، عديمي الإحساس، ليس لديهم شعور بالعائلة أو الأصل ولا احترام للشخصية أو القيم، لا يهمهم أن يعرفوا ماهية الشخص أو من يأتي الشيء، وإنما يهتمون بشيء واحد: كم؟ وفي أي مجتمع محترم لا يجرؤ معظمهم على أن يتحدث عن ماضيه. أما في دوائر الإسكندرية فكلهم لا يترددون في أن يفعلوا ذلك. وإذا كان الأعضاء «الصالحون» من المجتمع الأوروبي في مصر ذوي أصل مشكوك فيه فإن جمهرة المهاجرين كانوا من حثالة البحر الأبيض المتوسط.»

ألا يذكرنا هذا الوصف بأوضاع كثير من الفئات الطفيلية — مصريين وأجانب — العاملين في ميدان الانفتاح اليوم؟ ثم ألا تذكرنا أحاديث المؤلف عن اتساع قاعدة الرشوة والفساد في أوساط الجهاز الحكومي والوزراء والعائلة المالكة وأوساط الممولين الأجانب بما جرى ويجري اليوم في مصر في ظل الانفتاح السعيد؟

إجابتي إذن على هذا السؤال البالغ الأهمية: هل يعيد التاريخ نفسه؟ … هي: نعم … ربما يعيد التاريخ نفسه، ولكن في ظروف أخرى ومستوًى آخر. وما أعنيه بهذه الإجابة هي أن الاقتصاد المصري قد رهن لصالح الأجنبي وأعوانه المحليين في العهدين، وأن ديون مصر قد بلغت الحد الذي أصبحت حبلًا مشدودًا حول رقبة مصر يزيد من خنقها في العهدين، وأن أحوال شعب مصر — عماله وفلاحيه — قد ازدادت سوءًا وتدهورًا في العهدين، وأنه بسبب هذا وهنت الإرادة الوطنية لمصر في العهدين.

فإذا قيل إن في هذا الكلام مبالغة، لأن المشروعات اليوم تُنفَّذ أمام أعيننا … قلنا إن عهد إسماعيل عَرف أيضا المشروعات العديدة. ومعظمها يتعلق بالبنية التحتية: بناء قناة السويس، توسيع ميناء الإسكندرية، استكمال القناطر وشبكة الترع لأعمال الري، إصلاح القلعة وبناء الأوبرا، إعادة بناء الثروة الحيوانية بعد وباء طاعون البقر، التوسع في زراعة القطن، إدخال ماكينات الري الحديثة، بناء مصنع السكر، مشروع خط سكة حديد السودان … إلخ، فمن الخطأ أن يتصور أحد أن عهد إسماعيل كان كله عهد سفهٍ وتبذير، ولكن المأساة الأساسية لهذا العهد — إذا استثنينا تجاوزات إسماعيل الشخصية — هو رهن الاقتصاد الوطني للأجانب واستسلامه لهم في نهاية الأمر.

والحقيقة التاريخية هي أن إسماعيل — عندما اتَّضحت له أبعاد الخطر لا على البلاد وحدها وإنما على عرشه أيضًا — حاول أن يقاوم. فإسماعيل ماطل طويلًا في إبرام قرض وطني ألح الممولون على إبرامه، ثم استسلم، وإسماعيل قاوم دي ليسبس وشروطه المجحِفة بشأن قناة السويس ثم استسلم، وإسماعيل قاوم طلبات القناصل الأجانب في الإسكندرية ثم استسلم، وقد حاول إسماعيل إقامة حياة برلمانية — ولو شكلية — حتى يواجه الضغط الأجنبي بقوة سياسية محلية. وعلينا ألا ننسى أنه عندما زادت متاعب النفوذ الأوروبي من تصرفات إسماعيل تم عزله عن العرش بفَرمان من الآستانة بناءً على ضغط إنجلترا وفرنسا!

لكن مأساة إسماعيل هي أنه كان يقاوم بلا أسلحة حقيقية في يده، ولا بدائل أخرى بعيدًا عن بديل رهن الاقتصاد الوطني للأوروبيين.

وهو درسٌ يجب ألا ننساه، فما لم تسارع مصر اليوم لوضع حد لسياسة الانفتاح وما يترتب عليها من رهن الاقتصاد الوطني للمصالح المالية الأمريكية، وما لم تسارع مصر إلى سياسة انتهاج تعبئة الموارد المحلية، والاعتماد عليها بالذات، وإقامة علاقات متوازية على المعسكرَين الدوليين، وما لم تسارع مصر إلى وضع حد لعمليات النهب التي تتم لصالح الطُّفَيليين، وما لم تسارع مصر إلى إعادة بناء هيكل الاقتصاد الوطني بما يحقق مصالح الأغلبية، ووضع ضوابط حاسمة على سياسة الموارد والإنفاق … فإن المصير سوف يكون هو المصير القديم مهما حسُنت النوايا.

وعندئذٍ لا نلومُ غير أنفسنا …

إن التجارب التاريخية التي مرت بها مصر خلال المائة سنة الأخيرة تمنحنا الأدلة الحاسمة على أن سياسة الاعتماد على القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية أساسًا لتحقيق التنمية هي سياسة فاشلة بكافة المقاييس لا تؤدي بنا إلا إلى الاحتلال والتبعية الاقتصادية والسياسية، ولا ينتج عن سياسة توثيق ارتباطنا بالسوق الرأسمالية الدولية إلا ارتفاع الأسعار، والتضخم، وتشجيع قاعدة المضاربات في الاقتصاد المصري، وانتشار البطالة في صفوف الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين وصغار البرجوازيين، وهي سياسات قد تفيد شرائح اجتماعية عُليا في المجتمع المصري، ولكنها بالقطع تتعارض مع مصالح الغالبية العظمى من أبناء هذا الشعب.

وما دام الانفتاح قائمًا فسيظل الاقتراض من الخارج قائمًا، وسنظل نستدين مجددًا لتسديد أقساط وفوائد ديون قديمة حل موعدها ولم تُسعِفنا الخزانة على سدادها، وسوف يشتد ضغط صندوق النقد الدولي علينا، لضغط الإنفاق وتوسيع نطاق البطالة والعودة بأسعار الضروريات من السلع إلى مستوى الأسعار العالمية الموجودة لدى الدول الغنية.

وفي الجوهر يعني ضغط الإنفاق خفض ميزانيات التعليم والصحة والإسكان الشعبي والخدمات العامة؛ لأن ميزانيات الشرطة والجيش مثلًا ليست بالتي تنطبق عليها هذه التوجهات. ولهذا كله بدأنا نسمع عن العودة إلى المصروفات في المدارس، وانتشر العلاج بالأجر حتى في مستشفيات الحكومة، وأعلنت الدولة عدولها عن سياسة تعيين الخِريجين، وها هي وزارة التموين تستعد لإصدار الرغيف «المحسَّن» الذي ثمنه خمسة قروش!

يحدث هذا بينما يزداد سكان المقابر والعشَش والخيام عددًا، وتتدهور أحوال التعليم والصحة تدهورًا خطيرًا لا تخطئه إلا عين الأعمى، ويتسع التسيُّب في الجهاز الحكومي والقطاع العام، وينتشر الإهمال واللامسئولية، وتتداعى القيم الشريفة لتحل محلها قيم «اخطف واهرب» فلم يعُد الولاء والانتماء لهذا الوطن ومصالحه يثير إلا السخرية في أوساطٍ اجتماعية معينة، وإنما السيد الحقيقي في هذا الجو هو الجنيه، أو إن شئت الدقة: الدولار!

وفي هذا المناخ الاقتصادي الاجتماعي يصبح الحديث عن استقلالية القرار الوطني عبثًا في عبث، والغريب أن تجربة عهد إسماعيل كان من المفروض أن تكون هادية لنا لتجنب هذا المأزق الذي نحن فيه، بل إن ثورة يوليو في سنواتها الاولى حاولت هذا اللون من التنمية ولم تستطِع إلا أن تَعدل عنه بعد إدراكها أن القطاع الخاص في أساسه يعزف عن المشاريع التي لا تؤتي ثمارها، إلا في المدى الطويل، والتي قد يكون ربحها الخاص ضئيلًا وإن كانت فائدتها الوطنية لا تُقَدر بثمن، وأن هذا هو حال المستثمرين الأجانب. وهؤلاء وهؤلاء مهتمون فقط بتعظيم أرباحهم وتحقيقها في أقصر وقت ممكن. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المستثمرين الأجانب لا يثقون في مستقبل الأوضاع السياسية واستقرار الأنظمة في بلدان العالم الثالث؛ أدركنا لماذا تحاول البنوك والشركات الأجنبية نَزح أكبر جزء من ثروة شعب مصر وتحويله إلى الخارج في أسرع وقت.

ولأن هذا الانفتاح يخلق حالةً من «الرواج»؛ حيث السلع الأجنبية والكمالية في كل مكان، وحيث أرباح عمليات التبادل والنهب والرشوة تصل إلى ملايين الدولارات أو الجنيهات، فإن للانفتاح دُعاة متحمسين، منهم تجار العملة ووكلاء الشركات الأجنبية، والمشتغلون في تجارة الاستيراد والمضاربون في السوق المالية والتجارية، والعاملون في البنوك الأجنبية، وشركات المقاولات الحديثة، وأصحاب السوبر ماركت، والعاملون في المهن الحرة من كبار الأطباء والمهندسين، والشرائح العليا من الطبقات الوسطى، بالإضافة طبعًا إلى كبار ملاك الأراضي والرأسماليين، الذين ارتبطت مصالحهم بمصالح الأجانب، وهؤلاء جميعًا ممثلون بشكل أو آخر في سلطة الدولة وفي مجلس الشعب وفي الحزب الوطني وفي حزب الوفد الجديد؛ بل إن بعض هذه الجماعات تتسلَّل إلى الجماعات الدينية السياسية للتوجيه والقيادة؛ لأنها تريد أن تخفي مصالحها المالية خلف لباس من الدين حتى لا تراها العين، وتتحالف في هذا التيار مع بعض حكام الخليج.

ومعظم هؤلاء يسكنون في مساكن فخمة، ويبنون حول هذه المساكن أسوارًا عالية تعزلهم عن حياة الفقراء الذين يمثلون الغالبية الساحقة من هذا الشعب. ولأن هؤلاء الأثرياء لا يشغلون أنفسهم بالتفكير في مستقبل شعب مصر والأجيال القادمة، وإذا فكروا فليس لديهم أي حل حقيقي على أي حال … فليس أمامهم إلا أن يزيدوا أسوارهم ارتفاعًا تأكيدًا لعُزلتهم، وإذا خرجوا إلى الناس فليس لديهم إلا محاولة تحريضهم على قوة اليسار السياسية؛ رمز التمرد ورفض الأوضاع الحالية، والمنادين بالحلول البديلة التي، لا شك، سوف تصيب مصالح هذه الفئات الطفيلية في مقتل إذا أُتيح لها أن تُطَبَّق.

وهذه الحلول البديلة، هي في المدى النهائي الاشتراكية بطبيعة الحال، القائمة على أساس المِلكية العامة لوسائل الإنتاج، وهي في المدى القصير حلول «انغلاقية» تقوم على أساس تعبئة كل الموارد الداخلية (خصوصا موارد النقد الأجنبي) من أجل تخطيط تحقيقي لتنمية الإنتاج الصناعي والزراعي، وتعبئة الموارد البشرية لتحقيق هذه التنمية، ووضع حد نهائي لسياسة الاستيراد بدون تحويل عملة، وسياسة استيراد الكماليات، ووضع حدٍّ أدنى للأجور وحد أعلى للأجور والأرباح، وتنفيذ سياسة ضريبية رشيدة تضع الأعباء حيث يجب أن توضع … على الأغنياء، وتوسيع نطاق الخدمات التعليمية والصحية أمام الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى، وتحويل سياستنا الاقتصادية الخارجية إلى ما يحقق مصالح هذا المشروع الوطني. وفي أقل القليل الحفاظ على سياسات تعاون اقتصادي متوازنة مع المعسكرَين الدوليَّين.

وفي إطار هذا المشروع الوطني للتنمية يمكن أن نتحدث عن إرادة وطنية لنا ترفض سياسة التسهيلات العسكرية في رأس بنياس، وترفض أن تجري مناورات أمريكية على أرض بلادنا، وترفض سياسة التطبيع مع العدُو الصهيوني.

إن من المؤكد أن هذه الحلول البديلة «الانغلاقية» سوف تحتاج إلى تضحيات كبيرة، وسوف تواجه مصاعب جمة ومقاومة عنيدة من الآخرين، ولكن ليس هناك حل آخر، إذا كُنا نفكر حقًّا في مستقبل مصر كوطن، وفي مصالح الغالبية الساحقة من أبنائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤