مقدمة المترجِم

لترجمة هذا الكتاب قصة قد يكون ذكرها مدخلًا مناسبًا إلى موضوع هذا الكتاب، وأهميته لمصر خصوصًا وللوطن العربي عمومًا.

فمنذ أكثر من عام دفع إليَّ بالنسخة الإنجليزية من الكتاب شقيقي الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة، واقترح أن أقوم بترجمته لأهميته البالغة فيما يتعلق بدراسة تاريخ مصر الحديث. فالأغلب أن نجد الكتب المؤلفة في الغرب عن هذه الحقبة من تاريخ مصر (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) تحفل بالجانب السياسي من هذا التاريخ، والأندرُ أن تحفل بالجانب الاقتصادي الذي هو الأساس الحقيقي لعمليات الاستعمار الغربي الحديثة لكل بلدان آسيا وأفريقيا. وباستثناء كتاب روزشتين «خراب مصر» الذي ترجمه أستاذنا الجليل المرحوم عبد الحميد العبادي، والأستاذ محمد بدران، وكتاب «الاستعمار البريطاني في مصر» لمؤلفته الإنجليزية إليونور بيرنز، نجد كل التركيز في الكتب الغربية على التحليل السياسي بما يتضمنه هذا التحليل التاريخي كثيرًا من عيوب التفسير الشخصي للسلوك السياسي، ورده إلى الأمزجة الذاتية والمبادرات أو العيوب الشخصية في نفوس الحاكِمِين آنذاك.

وفي لقاء مع الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام الغراء ورد ذكرُ هذا الكتاب عرَضًا، وذكرت له ذلك الاقتراح بترجمة الكتاب، فوجدت منه حماسًا بالغًا لهذا العمل، إذ كان قد سبقني إلى قراءته والاستشهاد في بعض مقالاته ببعض نصوصه. ومنذ ذلك الوقت كان لحماس الأستاذ هيكل ومتابعته الفضل الأكبر في إكمال ترجمة هذا الكتاب ونشره على الناس.

ولكن من أين تأتي أهمية هذا الكتاب أولًا؟ إن مؤلفه دكتور دافيد لاندز أستاذ أمريكي لعلم الاقتصاد بجامعة كولومبيا، وقد تبدو أهميته من حقيقة أن كاتبًا غربيًّا مرموقًا مثل دافيد لاندز قد كتب بروح الإنصاف لمصر في غالب الأمر، وإن كان قد جافى روح العدالة في الحكم في بعض الأحيان.

غير أن دافيد لاندز لم يكن أول كاتب غربي يكتب بهذه الروح، فلقد سبقه إلى ذلك تيودور روزشتين في كتاب «خراب مصر»، الذي فضح فيه الاستعمار البريطاني بالوثائق والمستندات كما لم يُفضح استعمار من قبل. وهناك أيضًا كتاب «التاريخ السِّري للاحتلال البريطاني» ذلك الكتاب الهام الذي ألفه أحد الأحرار البريطانيين، ولفرد بلنت، وفيه يفضح الدوافع السياسية الاستعمارية البريطانية آنذاك، ويسجل على بلاده وحكوماتها خزي وعار هذه السياسة الغاشمة ونفاقها.

ليس دافيد لاندز إذن أول كاتب غربي يفضح النوايا الحقيقية والأهداف الصحيحة للاستعمار. ففضائح إسماعيل وسعيد كانت معروفة من قَبل، وأعمال القرصنة والنهب التي قامت بها شركة قناة السويس، ودي ليسبس على وجه الخصوص، حية ماثلة في أذهان الشعب المصري كأنها وقعت بالأمس، وغارات الممولين الإنجليز والفرنسيين والألمان والنمسَويين واليونانيين على خزانة مصر وفلاحيها، ودفعهم للبلاد خطوة فخطوة، بالأساليب الماكرة، إلى هاوية الإفلاس، وما تلا ذلك من الرقابة الثنائية من جانب إنجلترا وفرنسا، ثم تدبير مؤامرة الاحتلال البريطاني … كل ذلك كان معروفًا في خطوطه العريضة غير خافٍ على شعبنا أو شعوب العالم منذ مدة طويلة.

إلا أن أهمية هذا الكتاب تنبع من مصدر آخر، ذلك أن هذه الخطوط العريضة كانت فيما مضى في أغلب الأحيان تقديرًا صحيحًا للتاريخ واستنتاجًا منطقيًّا من أحداثه، واستقراءً سليمًا من البيانات المتوفرة عن الوضع الاقتصادي آنذاك، ومن الوثائق الرسمية التي لا تقول في الظاهر إلا القليل، وإن كان الباحث المدقق يستطيع، إذا تعمق في دراستها، أن يستنتج منها الكثير.

أما في هذا الكتاب فالقصة مختلفة، ولست في حاجة إلى أن تستنتج وتربط وتحلل كثيرًا؛ إذ هنا تتحدث بصراحة المراسلاتُ السِّرية لاثنين من الممولين الفَرنسيين، أحدهما صاحب بنك كبير في باريس (أندريه) والآخر ممول فرنسي في الإسكندرية حظي بصداقة الخديوي إسماعيل ووده، وظل فترة طويلة من حياته يعمل سكرتيرًا خاصًّا له (ديرفيو) — وكلا الرجلين من كبار رجال الأعمال في مجاله — تخصص في الأعمال المصرفية، وشعر أن مصر في ظروفها آنذاك هدفٌ سهل وبقرة حلوب.

ومن سخرية القدَر أن يكتشف دافيد لاندز هذا الأرشيف السِّري لمراسلات هذين الممولَين في نفس الفترة التي تم فيها تأميم قناة السويس عام ١٩٥٦م، وأن ينشر هذا الكتاب بعد تأميمها بسنتين. فلو لم تكن هناك إجابة رادعة مقنعة على غضب الغرب وتهجمه على مصر وقائدها الثائر الرئيس جمال عبد الناصر لإقدامه على هذا العمل التاريخي العظيم، لكفانا كِتاب دافيد لاندز إجابة في صالحنا. ففي هذا الكتاب يتبيَّن القارئ وقائع جديدة مذهلة، لا عن عشرات الألوف من المصريين الذين ماتوا بالسُّخرة في حفر القناة فحسب، وإنما عن عمليات النصب والنهب المالية الكبيرة التي تكفَّل بالقيام بها دي ليسبس وشركته بمعاونة حكام فرنسا دون أدنى وازع أو ضمير.

وما قصة «تحكيم» إمبراطور فرنسا في الخلاف بين الشركة والحكومة إلا مَثَل واحد من أمثلة النهب الإجرامي واستنزاف دماء الشعب المصري، وكان آخر عمليات النهب هذه في عهد إسماعيل ما أخذته الشركة من خزينة مصر (٣٠ مليون فرنك) مقابل التنازل عن «حقوق» وهمية للشركة، مثل حق الشركة في جباية رسوم جمركية عن البضائع الداخلة إلى منطقة القناة (وهو «حق» لم يوافق حتى القنصل الفرنسي على وجوده في العقد المبرم مع الحكومة)، وحق الشركة وحدها في الصيد في القناة والبحيرات المحيطة (وهو «حق» اعترف دي ليسبس بعد ذلك أنه لم يُمنح للشركة أبدًا) … إلخ هذه «الحقوق» الوهمية التي لم يكن لها أول ولا آخر!

ذلك جانب من جوانب المغزى الهام لهذا الكتاب. وفوق ذلك لا ينبغي أن نغفل جانبًا هامًّا آخر في التدليل على أهمية هذا الكتاب، ذلك أن المؤلف بطبيعة دراسته الأكاديمية والمنهج العلمي الذي التزم به في كثير من أجزاء الكتاب قد اقتنع بأن هذه المراسلات الخاصة بين الممولَين لن يتم فهمها إلا بدراسة تاريخ الحياة المصرفية والنشاط المالي والاقتصادي للمؤسسات الأوروبية الكبيرة آنذاك، وتطور الأوضاع الاقتصادية في عديد من بلدان أوروبا (إنجلترا وفرنسا خصوصًا) وهي تتحول تدريجيا من مرحلة الرأسمالية الحرة إلى مرحلة الإمبريالية والاستعمار، بما يترتب على ذلك من زهد الرأسماليين تدريجيًّا في الاستثمار في داخل بلادهم، والاتجاه شيئًا فشيئًا إلى التركيز على تصدير رءوس الأموال إلى البلدان المتخلِّفة سعيًا وراء الأرباح الخيالية في مقدارها، السهلة في تحقيقها.

ومن هنا أحسن المؤلف برسم «أرضية» الموقف السياسي والمالي من داخل أوروبا أولا، حتى تتضح حقيقة المؤثرات الخارجية، التي كان لها طابع حاسم على تطور الحياة الاقتصادية والمالية في مصر، ثم على تطور الحياة السياسية ذاتها والتي تُوِّجت بالاحتلال البريطاني لمصر.

وقد تُواجه هنا أو هناك رأيًا للمؤلف تحس أنه قد جانب الصواب، إلا أن هذا ليس بيت القصيد في هذا الكتاب. فنحن أحرار في أن نختلف ما شئنا مع المؤلف، ولا سيما في بعض النتائج التي انتهى إليها في الفصول الأخيرة فيما يتعلق بأحكامه المتسرعة أحيانًا على طبيعة الشعب المصري عمومًا والفلاح المصري خصوصًا، أو بمحاولة نسبة دوافع نبيلة لأعمال إسماعيل وسعيد أحيانًا أخرى. ولا شك أننا سنشعر في الخاتمة أن المؤلف، رغم كل منهجه العلمي وعرضه الصريح وأمانته التاريخية، لم يبرأ من تأثير الدعاية الاستعمارية التي شُنت ضد مصر وقادتها، عند تأميم قناة السويس، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

غير أن هذا ليس الجانب الهام في الكتاب كما أسلفنا؛ وإنما الهام والجديد هو هذه المراسلات السرية بين الممولَين الأوروبيَّين التي تكشف بصراحة وبدون مواربة كل المؤامرات، لا مؤامراتهما فحسب، وإنما مؤامرات كافة الممولِين الأوروبيِّين ضد شعب مصر آنذاك، ثم هذا الضوء الساطع الذي يلقيه المؤلف على هذه المراسلات من واقع الحياة المالية والاقتصادية في أوروبا وأمريكا في ذلك الوقت.

وبعد … فلعل ترجمة هذا الكتاب تكون قد أضافت شيئًا هامًّا، لا من وجهة نظر الدراسة التاريخية فحسب، وإنما من وجهة نظر الصراع السياسي الحاد القائم اليوم ضد الاستعمار الجديد بأشكاله غير التقليدية، التي ترتكز في المحل الأول على السيطرة الاقتصادية كأساس للتوجيه السياسي، قبل أن ترتكز على الاحتلال العسكري.

عندئذٍ لن يكون لهذا الكتاب قيمته الأكاديمية فحسب، بل ستكون له قيمته الكبيرة في النضال السياسي الراهن في الوطن العربي كذلك، بما يمنحه للمناضلين العرب من أسلحة فكرية وتاريخية جديدة.

عبد العظيم أنيس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤