الفصل العاشر

نهاية رواج القطن

بمجرد أن وصلت السفينة إلى الإسكندرية بدأ ديرفيو جهوده للعودة إلى مركزه كممول الخديوي المفضل. وعاقت هذه الجهود تعقيدات جديدة؛ فالخديوي كان يُضمِر — على الأقل مؤقتًا — شعورًا قويًّا معاديًا للأجانب عمومًا والفرنسيين خصوصًا. فقد ملأ التحكيم في مشكلة القنال قلبه بالمرارة أكثر من أي شيء آخر. فمهما كانت الانتهاكات السابقة باهظة الثمن وداعية إلى الغيظ والغضب فإنها لم تتَّسِع كهذه المصادرة المستترة باسم العدالة. ففي مرة سابقة مثلًا (مشكلة كاستيلاني) ارتكبت الحكومة المصرية خطأ الاحتكام إلى شرف وعدالة أرستقراطي أوروبي لحسم نزاع. ولكن الخلاف في هذه الحالة كان حول بضع مئات ألوف الفرنكات فحسب. أما القرار الفرنسي عام ١٨٦٤م فقد فرض تعويضًا قدره ٨٤ مليونًا لشركة لا يزيد مجموع استثماراتها كثيرًا عن هذا الحد، بهدف تعويضها عن عمل لم يتم بعد، وعن مساعدة لم تُوعَد بها أبدًا.

ولأمد طويل ماطل إسماعيل في تنفيذ شروط هذا القرار، على الرغم أنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه لا بد أن يستسلم في نهاية الأمر. وفي نفس الوقت فإن المشاكسة المستمرة بين إسماعيل ودي ليسبس والحرب، العنيفة بينه وبين القنصلية الفرنسية خلفت في فمه مرارةً سرعان ما امتدت إلى كل ما هو فرنسي. وكما لو كان أراد زيادة غضب إسماعيل واستيائه اختار شقيقه مصطفى هذه اللحظة لزيارة باريس. أكان هذا لزيارة متحف اللوفر؟ ربما. ولكن إسماعيل كان مقتنعًا أن شقيقه يتآمر ضده بمساعدة فرنسا. والحق أنه ليس مستحيلًا أن يكون الأمير قد ذهب فعلًا إلى باريس للصيد في الماء العكر بدعوة أو بدون دعوة من الحكومة الفرنسية.

وأصبح إسماعيل مذعورًا. ففي الشرق الأدنى، حيث كانت المنافسات على العروش تُحسَم غالبًا بالخناجر أو السموم، لم يكن قلقه بدون أساس تمامًا. وهكذا طرد إسماعيل كل خدمه الأوروبيين، وبدأ يتناول طعامه في الحرملك فقط. ورفض مقابلة عديد من الزائرين وحرَّم على نفسه المتعات في خارج القصر. وكما قال ديرفيو، جعل إسماعيل حياته «تعيسة إلى أقصى حد ممكن».

وعند بعض الناس لا يوجد هناك موقف يستحيل تحويله إلى ميزة مالية. فإذا كان إسماعيل قد أوشك على الجنون وطرد كل الأوروبيين من قصره، فلماذا يلزم الأوروبيين بتحمُّل جنونه. ولفترة ما بدا أن مهنة المخبر الخصوصي هي أشد أنواع المهن انتشارًا في مصر. فالقصر محاصر بمثيري الإشاعات والأقاويل من ذوي الأفواه المفتوحة والأيدي الممدودة. وعند كلٍّ من هؤلاء قصة خاصة عن مؤامرة أجهضت، وكل واحد منهم جعل من الخديوي هدفًا أسهل للمحتال الذي يأتي بعده. وبينما كان معظم هؤلاء ليسوا إلا مجرد مغامرين يبحثون عن العملة الصعبة، كان بعضهم مواطنين محترمين معروفين، وعلى درجة من المهارة بحيث استغلوا الفرصة للتخلص من أعدائهم ومنافسيهم. ومن المحتمل أن ديرفيو كان أحد هذه الأهداف المفضلة.

وفي نفس الوقت انتقم إسماعيل بكل وسيلة في يده. وإذ كان تهديد الأمير مصطفى معلقًا فوق رأسه لم يجرؤ إسماعيل أن يذهب في كل مكان قائلًا لكل الدنيا إن عليه أن يتخلص «من كل هؤلاء الفرنسيين». ولكنه يستطيع (وهذا ما فعله فعلًا) أن يطلب من الشركات في إنجلترا أن تصنع له ما قيمته مليون جنيه من السكك الحديدية والعربات والقاطرات والآلات الأخرى. وتم بالفعل توقيع عقد لتوريد ١٢ سفينة بخارية جديدة مع شركة بينيسولار وأورينتال، وكُلفت نفس الشركة بالقيام بإصلاح الأسطول البحري المصري. ولم تكن المسألة هنا مجرد أن الأسعار البريطانية أقل من أسعار فرنسا، أو أن المواد الخام أفضل، فالحكومة المصرية لم تؤسس مشترياتها أبدًا على هذه الاعتبارات الرشيدة، فحسب. بل على العكس ففي العادة كانت الحكومة توزع طلبات التوريد بين الجميع حتى يصبح الجميع سُعداء، وكان هذا معروفًا في لغة الدبلوماسيين «بالإنصاف». أما الآن فقد كان إسماعيل مصمِّمًا على ألا يعطي مليمًا واحدًا لفرنسا إذا كان ذلك في مقدوره. ولأول مرة منذ عباس، سيطر النفوذ البريطاني على القاهرة.

كان ديرفيو متضايقًا. أما لماذا، فمن الصعب أن نعرف. وإذا صدقنا خطاباته، فإنه هو نفسه كان مستثنًى من هذا الموقف العام ضد الفرنسيين. كتب مثلًا في ٢٥ يناير ١٨٦٥م أنه قد عاد إلى «نفس جو المحبة ونفس جو الود» الذي كان قائمًا دائمًا. وأن الخديوي قد شمله برعايته وطلب منه توريد مركب بخاري. ومن المحتمل أن ديرفيو كان أقل ثقة بنفسه عما يدل عليه مظهره، فنفس هذا الخطاب يشير إلى ملاحظات سابقة غير ودية أبداها إسماعيل عن ديرفيو نفسه. ويختم ديرفيو خطابه بالأمل الوهمي «في أن تنتعش التجارة من جديد قريبًا، وألا ينسانا الخديوي.» وربما وجد ديرفيو أن عداء الخديوي المتزايد لكل ما هو فرنسي إنما يضعه في موضع المرتد. وربما كانت هناك غمزات وتهجمات وشتائم، ليست شخصية، وإنما خاصة بالجنس الفرنسي كله.

وليس من السهل أن يكون الإنسان فرنسيًّا «طيبًا» مع رجل يكره الفرنسيين، ولا سيما عندما يكون هذا الإنسان عدوانيًّا ومحبًّا لوطنه كديرفيو.

وعلى أيه حال فقد قرر ديرفيو أن يكون مركز النزاع مع الوالي هو سياسته الجديدة، وأن يلجأ في هذا الصدد إلى الفرنسيين في فرنسا. وأرسل ديرفيو خطابًا إلى ديبان، ومن خلاله إلى أرمان بيهيك وزير الزراعة والتجارة والأشغال العامة محتجًّا على المحاباة التي يُبديها الخديوي نحو الصناعة الإنجليزية. وكان ديرفيو مستاءً على وجه الخصوص من منح الخديوي عقود بناء السفن لشركات بريطانية، ولما كان بيهيك رئيسًا لمجلس إدارة مسيجري إمبريال وعضوًا في مجلس إدارة شركة فورج وشانتييه للبحر الأبيض، فقد توقع ديرفيو في ثقةٍ أن يستمع إليه بعطف. وختم ديرفيو خطابه بطلب تدخل فرنسا رسميًّا.

ثم تلا ذلك خطابٌ آخر بنفس المضمون. وفي هذا الخطاب كان ديرفيو مستاءً من الاستقبال الفاتر الذي لقيه المصرفي الفرنسي ج. د. لاهونت، الذي جاء إلى مصر لتحريك امتياز إدارة خطوط السكك الحديدية. ولقد كان الخطاب موجهًا إلى صديقنا القديم دوق دي مورني، الذي ربما كان ذا مصلحة مباشرة في أعمال دي لاهونت. وحتى لو كان هذا غير صحيح فلن يتخلف مورفي عن رؤية الإمكانيات المالية للموقف، ومرة أخرى كان ديرفيو قد اختار مراسله بعناية.

ونظم ديرفيو طريقة لإطلاع أندريه على محتوى الخطابين. فقد كان متأكدًا على ضوء مصالح أندريه في شركة فورج وشانتييه للبحر الأبيض أن صديقه سيشاركه استياءه. والحقيقة أن ديرفيو كان في هذا مخطئًا تمامًا. وصحيح أن أندريه وشركاءه كانوا يملكون أسهمًا في هذه الشركة الفرنسية لبناء السفن، إلا أن هذه العلاقة لم تكن شيئًا حاسمًا. فأندريه قبل كل شيء ممول، ممول دولي بكل ما تعنيه المصالح الطائفية لهذه الفئة من معنًى، وفي كل الأوقات كان مشغولًا في عدد من الاتجاهات بعضها متضارب، وكان نشاطه المالي يأتي من كل أنحاء العالم، ومن المحتم في هذه الحالة أن ترتكز قراراته على تقديرٍ موضوعي للمزايا والعيوب النسبية.

وبالإضافة إلى ذلك كان أندريه رجلًا خبيرًا في مؤامرات السياسة ومهابطها، ولا بد أن سذاجة واندفاع صديقه أصاباه بالدهشة؛ إذ لو كشفت مناورة ديرفيو (وهناك احتمال كبير أن يحدث ذلك) لتحطم كل مركزه في مصر وكل عمله وجهده خلال سنوات. فإسماعيل معروف بأنه حاكم لا يحب أن يُغضبه أحد.

أضف إلى ذلك أن أندريه كان معارضًا للعواطف في العمل المالي والتجاري. وكان واضحًا لأندريه أنه ليس لدى ديرفيو ما يفقده من الوضع الجديد. بل ربما يكون أفضل حالًا. ففي نهاية الأمر فإن الفرنك هو الفرنك والجنيه هو الجنيه، وكلٌّ منهما له غطاء ذهبي. وبالإضافة إلى ذلك كان أندريه يرى أن المسألة كلها ليست إلا لونًا من مبارزة طواحين الهواء، فليس هناك مبرر لذرف الدموع على الكارثة التي وقعت لشركات الحديد والهندسة الفرنسية الكبيرة، فمثل هذه الشركات قادرة على أن ترعى نفسها بنفسها.

إن إجابة أندريه كانت توبيخًا، ودرسًا كلاسيكيًّا في الواقعية المالية.

عزيزي ديرفيو

«إني أتلقى باهتمام بالغ المراسلات الهامة التي ترسلها لي من وقت لآخر، ولكني مضطر أن أرفق، مع شكري، تحذيرًا أرجو أن تعذرني فيه، ويمكن تلخيصه في بضع كلمات: أنت تكتب أكثر من اللازم.

وإنني أؤكد هذه الكلمات؛ لأنها، في اعتقادي، ذات أهمية حيوية؛ فأنت أمين أكثر من اللازم، وواثق أكثر من اللازم في هذا العالم الذي وضعتك فيه الظروف. ولأنك ممتلئ بالنوايا الطيبة وتبحث لنفسك ولبلادك عن الأشياء التي هي مكشوفة وواضحة فحسب — فأنت تتوهم — أنك تستطيع أن تكتب الخطابات والمذكرات وأن تلعب بعجلات السياسة، وأن تثير الاهتمام أو توقظ روح المكيدة لدى بعض الشخصيات، بدون خطر على مصالحك الشخصية! إنني أنبهك أن تأخذ حذرك! فمصالحك تتعرض لخطر الإساءة الجدية إذا أفشيت الأسرار وإذا نقلت ملاحظاتك وحرفت كما هو مؤكد أن يحدث، وإذا اكتُشف أن مراسلاتك الخاصة يفتحها هؤلاء الذين يبحثون عن أسلحة ضد الحكومة الحالية في مصر. فهل ستكون أنت حليفهم؟ وإذا كنت أنت الفرنسي الوحيد المستثنى من غضب الخديوي العام، وتستطيع لهذا السبب بالذات أن تستمد ميزة كبيرة من هذا الوضع الاستثنائي، ألا يكون من الغفلة أن ترفع عصاك تأييدًا للمصالح التي هي ليست مصالحك، والتي لن تمس جديًّا إلا إذا سمحت حكومتنا ومن حولها بذلك.

وصدقني إذا نصحتك أن تكتفي بالأسف في داخلك على ما يحدث في الخارج فلتصنع قواربك في كلايد أو ميرسي إذا شاء صديقك الملكي ذلك حاليًّا. وإذا أراد خطوطًا أو قاطرات إنجليزية فلتتوجه إلى شيفلد أو برمنجهام وتتأكد من أتعابك دون أن تشغل نفسك في أن تكون الأفضلية لأحواض سفننا أو مصانعنا. فلا بد أن يأتي دورنا عندما ترتفع أسهمنا في السلم السياسي. وفي نفس الوقت لا ينبغي أن تكون مندهشًا إذا كان من يدفع مُصرًّا على أن يُخدم وفق مِزاجه الخاص. وعليك أيضًا أن تمتنع بدقة عن القيام بما قد يبدو من جانبك كمعارضة أو تدخُّل من نوع يُفقدك عطف وتأييد صديقك نوبار، الذي يمكن أن يكون مفيدًا لك في هذه الظروف أكثر من أي وقت مضى.»

باريس، ۱۸ فبراير سنة ١٨٦٥م

ولم يكلف ديرفيو نفسه حتى عناء الرد على هذا الخطاب.

•••

مثل هذه النزعات من جانب ديرفيو للمقاومة والاستقلال لم تكن اندفاعًا فحسب؛ وإنما كانت شيئًا غريبًا على شخصيته. وكان ديرفيو سعيدًا بنسيانها والتركيز على سياسته التقليدية في استرضاء إسماعيل ومجاملته؛ إذ أدرك ديرفيو في نهاية الأمر أنه لا يوجد غير طريق واحد للعودة إلى كنف الخديوي؛ إن الخديوي يريد المال ويحب الذين يعطونه له. وعلى الرغم من تردُّد أصدقاء ديرفيو المتزايد، وعلى الرغم من ضعفه المالي الخاص وازدياد وَعيِه بأن هذا هو الطريق إلى الدمار، على الرغم من كل ذلك، أصرَّ ديرفيو إلى آخر حياته المصرفية تقريبًا ببذل الجهود لتدبير الأموال لإسماعيل. وكان يراقب كل قرض جديد، وينتظر أول إشارة تعبر عن ضعف منافسيه، ويبتكر وسائل وخططًا عبقرية.

وفي كنف إسماعيل كانت أمام ديرفيو فُرَص عديدة. إن الخديوي قاوم بعنف الفساد والنهب الذي صاحب القرض الأول، قاومه كأي رجل صالح يدافع عن حقه وأمانته، ولكنه كأي آثم أيضًا اكتشف أن المر حلو المذاق، وأصبح مستعدًّا أن يجعل من هذا الإثم عادةً له. وعندما صاغ عقد القرض كان إسماعيل حريصًا على أن تكون ضمانات السندات غامضة قدر الإمكان؛ حتى يترك الباب مفتوحًا في المستقبل لطرح قروض أخرى. والحق أن السندات لم تكن قد صدرت في السوق الأوروبية. (بل لم يكن إسماعيل قد حصل على القسط الأول) حتى أوضح إسماعيل أن مبلغ خمسة ملايين جنيه ستكفي بالكاد أن توازن ميزانيته.

أكان يعني هذا أن القرض ليس كافيًا؟ الإجابة لا، وفق قواعد المنطق الإسماعيلي. فما دام النقد موجودًا لمواجهة احتياجاته الملِحَّة، وما دام هناك مليون ونصف مليون جنيه «لمواجهة الأحداث المعارضة»، كان إسماعيل يشعر أنه يستطيع أن يتفاءل في المستقبل، وكان يقول في إصرار: «إنني أكرر أن لديَّ وقتًا كافيًا في المستقبل. وفي السنوات الثلاث الأولى سأواجه ضائقة خفيفة، ولكن بعد ذلك ستعطيني ماليتي فائضًا أقدره ببضعة ملايين.»

وبالإضافة إلى ذلك كان إسماعيل يتوقع زيادة إيرادات الحكومة عن طريق رفع ضريبة الأرض. وإلى حد ما كان هذا أمرًا معقولًا. فمنذ حُكم سعيد لم يحدث تغيير يُذكر في ضريبة الأرض، وكان من الواضح أن الفلاح أغنى اليوم مما كان في الماضي. غير أن التوقيت لم يكن مناسبًا، ويستطيع السياسيون والموظفون أن يتحدثوا كما يشاءون عن الدخول قبل رواج القطن وبعد رواجه؛ غير أن الفلاح لا يمكن أن يوافقهم على مثل هذه المقارنات، فهو إنسان عنيد، صلب الرأي يعيش مع حقائق الحياة اليومية، ويتطلع إلى الخلف، إلى سنة ١٨٦٣م العظيمة، ويبرز هبوط أسعار القطن وانخفاض الإيرادات في ١٨٦٤م. وبعد ذلك يهرع هذا الفلاح يبحث عن مخبأ عميق لأمواله.

غير أن هذا لم يكن ما يشغل بال إسماعيل «إنني أتوقع أن الناس سيفسرون هذا الإجراء بزيادة الضريبة تفسيرًا خيرًا. فأنا أعرف أنني متَّهم، على غير أساس، بالتقتير، بل البخل. نعم إنني أحب النظام والتوفير. ولكن التوفير العاقل يختلف عن البخل، كما يختلف السفه عن الكرم. إنني أعرف كيف أكون كريمًا عندما ينبغي عليَّ ذلك. ولكنني أمتنع عن الإنفاق السفيه الذي أعرف كثيرًا من أمثلته في الماضي، وهؤلاء الذين استغلوا الرغبات المبهظة لسلفي لا يستطيعون أن يغفروا لي وقف مصادر ثرواتهم الفاضحة. ولست أعبأ بهذا؛ فكل المخلصين سيعترفون بفضلي في الإصلاحات التي تمت، وسيؤيدون ما صنعته من إحلال النظام محل التبذير والبناء محل الخراب.»

غير أن إسماعيل فقد بعد ذلك متعة هذا التظاهر بالفضيلة المجروحة. فوقائع المالية المصرية جعلت بالفعل من مثل هذه الادعاءات شيئًا سخيفًا.

إن إسماعيل نفسه قدر — في أعقاب قرض سنة ١٨٦٤م — الدين المصري بحوالي ٥٣١ مليون فرنك، أي أكثر من ضعف ما كان عليه يوم تولِّيه الحكم منذ ٢٠ شهرًا. وكان الجزء الأكبر من هذا المبلغ (أكثر من ٩٠٪) يتكون من أربعة بنود: أسهم قناة السويس، التي تبلغ ٨٣ مليونًا، والتي لم يدفع منها غير خُمسها؛ تعويضات القناة، وتبلغ ٨٤ مليونًا؛ قرض ١٨٦٢م، ويبلغ ١٨٠ مليونًا؛ قرض ١٨٦٤م، ويبلغ ١٤٠ مليونًا. أما الباقي — الذي يخص شراء المواشي خلال فترة الوباء، والطلبات الموروثة من عهد سعيد، والأشياء الأخرى التي كان يحب ديرفيو أن يؤكدها في خطاباته — فلم يكن إلا شيئًا تافهًا بالمقارنة.

وبالإضافة إلى ذلك، لم تكن كل هذه الديون إلا الالتزامات القائمة. فبمُجرد أن أصبح المال في يد إسماعيل مرة أخرى أخذ في إعداد الخطط والمشروعات التي تكفي لامتصاص كل النقد الموجود، قبل دفع أيٍّ من قروضه القديمة. وبعض هذه المشروعات (مثل ترعة القاهرة-الوادي) كانت تفرضها الظروف. ولكن إذا كانت هذه الترعة تكلف ٤٠ مليون فرنك، فإن إنشاء قصر بالجيزة لمجرد المتعة كلَّف الدولة ٣٠ مليون فرنك. وتولى إسماعيل إنشاء فرع جديد للنيل وأحضر ألوف الأشجار وغرسها في رمال الصحراء. ثم هنالك أيضًا القصر الذي أنشأه على البوسفور ليكون مقرًّا له عند زيارته القسطنطينية، وأخيرًا كان هنالك دائمًا حلمه بإنشاء إمبراطورية أفريقية، بما في ذلك من نفقات باهظة.

كان إسماعيل يضع مشروعات كبيرة للأراضي التي تحيط بالنيل في الصعيد، وأخبر ديرفيو أن هذه المنطقة، التي تبلغ ثلاثة أمثال مساحة مصر، مأهولة بالسكان وخصبة إلى حد لا يصدق، وفي هذه الأراضي ينمو القطن بدون أي رعاية. وإذا أمكن أن تدار هذه المناطق بشكل سليم عن طريق موظفين يعملون تحت توجيه وإشراف فعَّال من الحكومة في القاهرة، فإنها ستصبح في يوم من الأيام هندًا أخرى في مصر. ومن أجل ذلك أراد إسماعيل أن ينشئ خطًّا حديديًّا من إسنا في الصعيد إلى الخرطوم، وهي مسافة تزيد عن ألف كيلومتر. وفي هذه الأمور كان إسماعيل يتصرف كخليفة الفراعنة. فمصر حافظت دائمًا على نوع من السيادة الاسمية على الجنوب الذي تميز بالفراغ السياسي، والفرمان العثماني الصادر في ١٨٤١م، والذي يجعل من محمد علي والي مصر مدى الحياة، يعترف بولايته على السودان والمناطق المجاورة. إلا أنه بينما كان الحكام السابقون قانعين بمظاهر السيادة والخضوع من وقت لآخر، كان إسماعيل مصمِّمًا على أن يثبت حكمه في هذه المناطق، وأن يربط مستعمراته بالقاهرة وأن يمحوَ تجارة الرقيق وأن يحمي الأرض ويمدِّن المتوحشين، وكل هذا من أجل عظمة حُكمه.

ومن سوء الحظ أن العظمة تتطلب تكاليف باهظة. كان في إمكان إسماعيل أن ينشئ مواصلات أرخص مع السودان عن طريق خط حديدي من الخرطوم أو بربر على النيل إلى سواكن على البحر الأحمر، وبذلك يرتبط السودان بالملاحة البحرية إلى السويس. إلا أن إسماعيل كان يريد خطًّا بريًّا حتى لا يكشف نفسه لإمكانية هجوم بحري من الأعداء ضده، وعندما تبيَّن أن خط الخرطوم-القاهرة يتكلف أكثر من ٤٠٠ مليون فرنك قنع بخط إسنا الخرطوم، الذي يكلف نصف الثمن. ومع ذلك كان المشروع باهظًا بالنسبة لمصر. وكالعادة فاتح إسماعيل ديرفيو حول إمكانية قرض خاص، وقام ديرفيو بالواجب بلفت نظر أندريه إلى المسألة. وكان من المتوقع أن يتكاف هذا المشروع على الأقل ٢٠٠ مليون فرنك، أي ما يكافئ رأس المال الأصلي لشركة قناة السويس ذاتها. وتساءل ديرفيو عما إذا كان من الممكن أن يتولى مع أندريه مشروع إنشاء الخط، وطرح القرض معًا مع توفير أرباح كافية من الإنشاء، وتغطية أي احتياطات قد يحتاجها طرح القرض، وكان ديرفيو يفكر في عقد من هذا النوع، وسال لعابه عند التفكير فيه. كتب إلى صديقه أندريه قائلًا: «لا تتحدث عن هذا الموضوع بعد حتى لا يفد المنافسون بسرعة.»

أما بالنسبة لأندريه، فالمسألة الوحيدة التي تهمه هنا هي الإمكانية العملية لطرح هذا القرض المقترَح. ولذلك أثار السؤال الهام، ما إذا كان الجمهور مستعدًّا لأن يستثمر في مشروع طويل الأجل كهذا، في بلد يعتمد فيه كل شيء على نوايا الحاكم. ماذا يحدث مثلا لو ترك إسماعيل الحكم؟ والحق أن المرء يشك في أن أندريه أثار هذا الاعتراض كتكِئَة وتبرير للرفض، فكل مشروع تقريبًا يمكن أن يقدَّم للجمهور ما دام هناك إشراف مناسب عليه ووثائق قانونية صحيحة، وما دامت أحوال السوق طيبة. أما الحقيقة فهي أن أندريه في أعماقه كان لا يثق في إسماعيل ويخاف شهيته المفتوحة دائمًا للنقود. وكل هذا الحديث عما يحدث لو ترك إسماعيل الحكم ليس إلا أسلوبًا مهذبًا من جانب أندريه في التعبير عن شكوكه في إسماعيل نفسه.

•••

ولم يتم شيء في هذا المشروع بالمرة. فديرفيو وكل تجار وممولي الإسكندرية كانوا مشغولين بعديد من المشاكل أكثر إلحاحًا، ولذا لم يستطع ديرفيو أن يدفع هذا المشروع خطوة إلى الأمام.

وإذا كان خريف ١٨٦٤م هو بداية التوقف في الرواج المستمر لتجارة القطن، فإن ربيع ١٨٦٥م كان بداية الهبوط في هذه التجارة. وفي مواجهة هبوط أسعار القطن، توقف المزارعون والقائمون بالشحن عن طرح المحصول في السوق، بأمل أن الانتظار القليل سيعيد الأسعار إلى وضعها «الطبيعي». ولفترة وجيزة نجحت هذه المناورة، فالقطن «الغير» المصري الذي هبط من ٣٢ بنسًا في الرطل في نهاية يوليو، بنس في نهاية سبتمبر إلى بنس في نهاية أكتوبر، عاد وارتفع إلى بنس بعد ذلك بشهر.

غير أن قُوى الانكماش كانت أقوى من أي إجراء تتخذه مجموعة صغيرة من رجال الأعمال والملاك. فالحرب الأهلية الأمريكية كانت تقترب من نهايتها، وتوقع المستوردون ورجال الصناعة في أوروبا أن يعود قطن جنوب أمريكا إلى السوق العالمية. وعلى الرغم من أن هذه العودة قد تستغرق بعض الوقت (نتيجة انتهاك الدويلات الكونفدرالية المهزومة لاتفاقية وقف الحرب) إلا أن غزَّالي ونسَّاجي أوروبا البعيدي النظر امتنعوا عن الشراء، واثقين أن الوقت في صالحهم.

وقد حدث هذا فعلًا، ففي مارس ١٨٦٥م هبط سعر القطن الغير المصري في ليفربول إلى ١٥ بنسًا للرطل، وهو أقل ثمن منذ سنوات. واشتد قلق الخديوي، وأخذ هو وكبار المزارعين يكومون البالات في المخازن، ويقترضون لتدبير أمورهم في انتظار ظروف أفضل. وتوقف النشاط التجاري في الإسكندرية تمامًا. ومن حسن الحظ أن معظم المصدِّرين كانوا سماسرة يتقاضون عمولة، ولكن لا يخاطرون بأموالهم في عمليات شراء وبيع القطن. لقد كانوا يجرون وراء الربح، ولكنهم غير مستعدين أن يموتوا جوعًا. أما الشركات التي عانت حقيقةً فهي البيوت المالية، وشركات الائتمان التي أقرضت المزارعين، وصغار التجار بفائدة عالية بضمان المحصول، وها هي تجد أن هذا الضمان لا يساوي ما أقرضته لهم. وإذ كان المدينون غير مستعدين أن يدفعوا الفَرق من إيرادات المحصول في السنين السابقة، لم يكن أمام المقرضين إلا أن يأخذوا القطن بالخسارة.

وكانت شركة التجارة المصرية من بين الشركات التي أصيبت في هذا الوضع أكثر من غيرها. فقد أهملت منذ البداية إمكانياتها التجارية مستهدفة التخصُّص في قروض المحاصيل بفوائد يصل سعرها إلى ١٥٪ أو ٢٠٪ في العام، وهو سعر مناسب تمامًا في بلد كمصر. ونتيجة ذلك، واجهت الشركة أزمة خريف ١٨٦٤م ونصف رأس مالها مجمَّد في تجارة القطن، والنصف الآخر أخذه إسماعيل كقرض.

وكإحدى مفارقات الشئون المالية، بحثت شركة التجارة المصرية عن خلاصها في الاندماج مع شركة أخرى تتضور هي أيضًا وسط أرصدتها الوفيرة والمجمَّدة. تلك هي شركة بريجز، أقدم شركة بريطانية في الإسكندرية. ولقد طرحت فكرة الاندماج على المساهمين المتشككين في جو الحجج البراقة المعهودة. فأحوال الشركة عظيمة جدًّا؛ إذ إنها حققت ٢٣٪ من الأرباح في عامها الأول، وهي لا تتأثر بأي هبوط في أسعار القطن؛ لأنها لا تملك قطنًا، وإنما هي تقرض بضمان القطن! ولكنها تحتاج نشاط وسمعة شركة بريجز حتى تستفيد من ارتباطات قد تأخذ سنين عديدة لتحقيقها لو لم يتم الاندماج، ولقد أوضح المديرون أن هذه الارتباطات ذات أهمية خاصة في مصر؛ حيث توجد شركات عديدة قديمة، وحيث «مضى تيار التجارة لمدة طويلة في مجرى لا يسهل تحويله». وعندما وقف أحد المساهمين ليعبر عن قناعته بالمجرى الذي شقَّته شركة التجارة المصرية لنفسها، وليقول إنه مكتفٍ تمامًا بربحٍ قدره ٢٣٪ سنويًّا، رد رئيس الاجتماع قائلًا إن المنافسة في مصر حادة، وإن الشركة لا تستطيع أن تقف مكتوفةَ الأيدي.

وبعد الاندماج لم تصبح الأمور على ما يرام، فإذا كان هذا الاندماج قد ساعد شركة التجارة المصرية على التغلب على الأزمة المباشرة، إلا أنه ألقى عبئًا إضافيًّا على كاهلها أساء إليها في المدى البعيد. فالإغاثة التي حدثت في نوفمبر عندما ارتفعت أسعار القطن واستلم إسماعيل أول قسط في القرض؛ كانت قصيرة الأجل. وعندما هبطت أسعار القطن للمرة الثانية، وجدت الشركة نفسها في حال أسوأ من ذي قبل، ولم تنجح في المحافظة على وضعها إلا عن طريق الإسراف في توزيع أوراق المجاملة، والاستغلال المنظم لكل مصدر من مصادر الائتمان. ولقد أدهش بنك ماركوارد (الذي كان من الناحية النظرية الوكيل للشركة) أن تكتب الإدارة الجديدة قائلة إنها ستحدد نشاطها وفق الائتمان المتاح. وقد رفض أندريه بسرعة هذا الاقتراح الغريب. «إن صفقات الائتمان تستطيع أن تكون بالفعل أمرًا مكملًا للنشاط التجاري المنظم.» وبنك ماركوارد كان مستعدًّا للمساعدة عندما تكون المساعدة مطلوبة: «ولكننا نتوقع أن نجد منكم تعويضًا عن هذه الخدمات، الاستثنائية بتركيز كل نشاطكم المنظم في باريس في أيدينا. إن الشركة مدينة لنا بهذا التعويض باعتبارنا وكلاءها، ونحن على حق في المطالبة به على هذا الأساس.»

وبالطبع لم يكن أندريه يدرك إلى أي حد كان موقف الشركة خطيرًا. ولو كان على علم بذلك لوفَّر على نفسه مشقة الوعظ والنصيحة. وعندما وجدت شركة التجارة أن خزانة بنك ماركوارد مقفَلة في وجهها، اتجهت إلى أماكن أخرى وأخذت الائتمان أينما كان متاحًا، مصدِّرة في نفس الوقت كميات كبيرة من كمبيالات فرع الإسكندرية على مكتب الشركة بلندن. وفي أوائل يناير سنة ١٨٦٥م أخطر بنك ماركوارد مراسليه ألا يدفعوا أي نقود مقابل أوراق من شركة التجارة، وقبل مُضي شهر طلب أندريه من بنك فروهلنج وجوشن أن يبيع له أسهمه (٥١٠ أسهم) في الشركة المصرية. فهو لا يستطيع أن يفرض على الشركة أن تركز عملياتها الفرنسية بين يديه. ولكن من حقه ألا يترك أمواله في هذا النوع من النشاط.

ولم تكن الشركة التجارية هي الوحيدة في هذا الوضع السيئ؛ ففي يناير كان لدى شركة مصر المالية (بنك باسكوالي) الوقاحة بأن تدعو المساهمين إلى دفع أربعة جنيهات عن السهم لمواجهة «التطور السريع في أعمال الشركة في المجتمع». ولقد تعرض أوبنهايم أيضًا للمتاعب، وكان بنك ماركوارد أقل ميلًا للصبر عما كان في سبتمبر «… نود أن نلفت نظرك إلى حقيقة أن حساب شركتكم في الإسكندرية يتضمن عجزًا كبيرًا، هذا إذا استبعدنا العجز الذي يمكن أن ينتج عن عمليات قصيرة الأجل أو مدفوعات غير متوقعة.» ولقد كان العجز ۱۲۰۰۰۰۰ فرنك «إن ما نشكو منه ليس مجرد رقم العجز فحسب، وإنما استمرار هذا العجز، ونحن نناشد شركتكم أن تزيد مدفوعاتها.» إذ ليست مهمة بنك تجاري، كبنك ماركوارد، أن يقدم رءوس الأموال للشركات.

وخلال كل هذا الوقت كانت أسعار القطن آخذة في الهبوط. ولم يكد يحل فبراير ١٨٦٥م حتى كان هبوط الشحن إلى أوروبا قد جعل عملية التبادل باهظة إلى الحد الذي جعل التعامل فيه بالذهب مباشرة أمرًا أفضل. ولم يكن كل إنسان موفقًا كديرفيو الذي كان يستطيع أن يسحب مؤقتًا على حساب أندريه. غير أن توقف أندريه كان متوقَّعًا.

وكالعادة حل الفزع مختلِطًا بالاندفاع. في مارس وأوائل أبريل كان ديرفيو ما زال يكتب خطابات مطمئنة إلى باريس عن وفرة المال في الإسكندرية وحزم البيوت المصرفية. وإذا كان هناك من يشكو المتاعب، فهي تلك الشركات التجارية القليلة التي لم تستطع أن تحد من قروضها لمزارعي القطن، وهي على وجه الخصوص بعض البيوت المالية السورية. وحتى هذه البيوت ليست في حالة سيئة جدًّا، وذلك بفضل توفُّر الائتمان المصرفي الذي يعطي هذه البيوت فرصة تكييف نفسها مع السوق الهابط.

وفي ٩ أبريل انهارت شركة جويس وشركاه بلندن (المختصَّة بالتجارة في مصر وشرق الهند) فجأة. ولقد كانت الشركة واحدة من أهم الشركات المشتغِلة في تجارة القطن، ذات مصالح في كلٍّ من العالمين القديم والجديد. وهدد انهيارها المفاجئ بانهيار مقرضيها ودائنيها. وانتشرت الإشاعات عن أَسر ثلاث سفن حاولت اقتحام الحصار الأمريكي، وعن خطأ في برقية تطلب ۲۰۰۰۰ قنطار قطن بدلًا من ۲۰۰۰ قنطار. ولقد كان من العسير تصديق أن مثل هذه الشركة القديمة الفنية قد استهلكت كل مكاسبها الضخمة في العام السابق. وارتعدت كل شبكة سوق قطن، وسيطر الفزع على الإسكندرية.

ومع ذلك ففي النهاية كانت صدمة الإسكندرية أخف من صدمة لندن أو بومباي فشركة والهايم وشركاه القديمة (دعامة المستعمرة التجارية النِّمسوية) التي كانت مثقلة بكمية كبيرة من أوراق شركة جويس، انهارت أيضًا. كذلك فعل تاجر إنجليزي يُدعى تايلور. وفشلت الجهود المبذولة لمساندة أعضاء المجتمع التجاري الواقعين في المتاعب عندما رفض الخديوي أن يقدم من جانبه مبلغًا يوازي ما جمَّدته الشركات فيما بينها. ولقد استطاعت الشركات الأخرى أن تشُق طريقها. وبالطبع فقدت كل شركة من هذه الشركات شيئًا، وبعضها فقد مبالغ كبيرة. وعلى سبيل المثال فقد أوبنهايم ٢٥٠٠٠ جنيه على قطنٍ «باعه» الخديوي له في نوفمبر وسلمه له في أواخر مارس. كذلك دفع كل ممولي القصر المفضلين ثمن مركزهم المفضل. والحق أن الأرباح الاستثنائية في سنوات الرخاء والهدوء الطويل في سوق الإسكندرية — الذي تميز بالتعقُّل منذ قرض ١٨٦٤م — هي التي مكنت هذه الشركات من مواجهة خسارات كان من الممكن أن تبتلع أي شركة عادية.

ولقد فقد ديرفيو نفسه ١٥٠٠ جنيه بسبب انهيار شركة جويس، ۱۰۰۰۰ جنيه بسبب مماطلات إسماعيل. وكتب إلى أندريه يقول: «أي قضية كان من الممكن رفعها ضده لو لم يكن هو الخديوي.» ولا بد أن أندريه قد ابتسم، فديرفيو شخص مُسلٍّ تمامًا، وهو لا يدرك ذلك. أي قضية كان من الممكن رفعها لو لم يكن المدين هو الخديوي! ولكن أندريه يعتقد أن هذا بالدقة هو الذي يجعل مثل هذه القضية ناجحة ومربحة. ورجل مثل برافي لم يكن ليتردد لحظة في أن يطالب بالدفع والتعويض، ومن المؤكد أنه سيحصل عليهما.

كان ديرفيو يعرف ذلك، ويعرف أيضًا أن صداقات إسماعيل تتوقف على الأرباح التي يحصل عليها من هذه الصداقات، وأن الخديوي لا يقدم عواطفه إلا لهؤلاء الذين يقدمون له المال. وفوق ذلك كان ديرفيو يعرف أيضًا أن إسماعيل يحترم القوة أكثر مما يحتمل الضعف والمذلَّة.

ومع ذلك فليس من السهل أن تغير طباع الناس لتناسب صوت العقل. فديرفيو ليس برافي ولا يمكن أن يكون. وهو أولًا: رجل مهذب أكثر مما ينبغي. ولم تقم علاقته بالخديوي أبدًا على أساس العدوان والإلحاح، وإنما على التنمية الصبورة لعلاقات الخدمة والصداقة. وفي نفس الوقت كان عند ديرفيو نفور أساسي من الوسائل العنيفة. وكما هو واضح في اختلافه مع أوبنهايم حول التكتيك الذي يُستخدم في دفع إسماعيل إلى أول قرض عام، كان ديرفيو يفضل الإغراء على العصا.

والصعوبة هي أن إسماعيل — ككثير من الأغبياء — يستجيب أحيانًا للإغراء ويستجيب أحيانًا أخرى للعصا. ففي الأمور السهلة — الطلبات، العمولات، امتياز إقراض المال — يمضي إسماعيل باللين والذوق. أما رد المال فلا بد من انتزاعه منه انتزاعًا. ولقد كان موقف ديرفيو ملائمًا تمامًا لأيام ١٨٦٣-١٨٦٤م السعيدة. أما في ١٨٦٥م فقد كان ود ديرفيو ولطفه عقبة أكثر منه ميزة. لقد حرمته هذه الصفات من الحزم عندما أصبح ضروريًّا، وأدى هذا إلى استياء إسماعيل من مطالبات ديرفيو المترددة.

وعندما واجه ديرفيو إمكانية انهيار علاقته بإسماعيل المؤسسة في المبدأ على الودِّ المتبادل، وجد نفسه عاجزًا عن التحول إلى العلاقات الفاترة القانونية. وكلما قال له عقله إن الحب القديم قد فتر، وإن الموقف الجديد يحتاج إلى إجراءات جديدة، ازداد ديرفيو تمسكًا بالماضي. وظل يردد في كل خطاباته: إن الخديوي ما زال يحبني، إن الخديوي ما زال يحبني، إن الخديوي ما زال يحبني. وكلما بعدت الأماني عن الواقع، كلما اهتزت صداقة إسماعيل بديرفيو واشتد تواضُع ديرفيو ووده بأمل تجنب العداء والإساءة.

وحتى في قمة الأزمة ظلت خطابات ديرفيو تتحدث عن حاجة إسماعيل إلى أرصدة جديدة، وإن كانت هذه الحاجة في هذه المرة الجديدة تتعلق بالدائرة السنية (ثروة الخديوي الخاصة). إن إسماعيل صرف مبالغ ضخمة على الأرض والمواشي وآلات الزراعة. ولما كان معظم قطنه مكوَّمًا في المخازن اضطر إسماعيل إلى أن يقترض مليون جنيه من البنك الإنجليزي المصري. ولم يكد يستلم هذا المبلغ حتى يبحث عن نصف مليون آخر. وفي خلال بضعة أسابيع كان المبلغ الذي يحتاجه إسماعيل قد تضاعف تقريبًا.

ومن حسن حظ ديرفيو أن أندريه لم يكن بالشخص الذي يسهل إغراؤه. وكان أن تجاهل مقترحات صديقه الصريحة وأجاب بعموميات عن حالة النقاهة التي يمر بها السوق بعد شهور طويلة «من الحُمَّى والانفعال». كتب يقول: «في لحظات مثل هذه يجمع الناس شتات أنفسهم، ويحسبون كل فرنك، ويقبعون في هدوء في انتظار صفقات طيبة، إنهم يحرصون على مواردهم ويعِدون أنفسهم بهذا للدخول في النشاط في اللحظة المناسبة.»

غير أن المشكلة أن ديرفيو كان قد مل الجلوس في هدوء وانتظار. فلعدة شهور. كان لا يصنع شيئًا. لقد دفع التزاماته التي انكمشت إلى حوالي نصف مليون فرنك، ومحفظة أوراقه المالية التي وصلت إلى ٢٥ أو ٣٠ مليون فرنك عشية القرض انخفضت إلى ٨٠٠ ألف فرنك في أوائل أبريل. ومع أنه لم يكن في يد ديرفيو أرصدة سائلة كهذا العام، إلا أنه لم يكن هناك ربح أيضًا.

وفي الوقت ذاته ظلت هناك بضعة أمور قليلة في حاجة إلى الحسم قبل أن يقال إن تصفية التجارة المصرية كملت. فعديد من الشركات الأوروبية أقرضت الفلاح، لا بضمان القطن، وإنما بضمان الأرض، وفي هذه الحالات ثبت أن هذا الضمان يستحيل أخذه في غالب الأحيان، وبهبوط قيمة القطن، هبطت قيمة الأرض كذلك، ولم يكن هنالك من يريد أخذ الأرض.

وتمثل الأمل الوحيد في تقدُّم الخديوي لإنقاذ الموقف كالعادة. وتقدمت لجنة من رجال الأعمال يرأسها ديرفيو إلى إسماعيل باقتراح مؤدَّاه أن تتولى الحكومة ما يُسمَّى بديون القرية، وأن تدفع للمُقرِضين الأوروبيين سندات من الخزانة فائدتها ٧٪. وتتولى الخزانة بدورها الجباية من الفلاحين على فترةٍ طولها سبع سنوات بفائدة قدرها ۱۲٪، وبهذه الطريقة يسترد المقرض أمواله، ويُعفى الفلاح من فوائد تتراوح من ٣ إلى ٦٪ شهريًّا، وتُعفَى الدولة من البلبلة والتوتر الذي يصحب بالضرورة أي مصادرة عامة للأرض. وأخيرًا — وهذا أهم اعتبار بالتأكيد — فإن الخزانة ستحقق مكاسب من هذه العملية. وأُعجب إسماعيل بالاقتراح ووافق عليه.

وفي باريس كان أندريه مرتاحًا لهذه الفكرة، وإن كان عنده اعتراض واحد. كتب في ١٠ يونيو إلى ديرفيو يقول: «إن فكرتك تبدو لي عملية تمامًا. ولكني لا أحب أن أرى الحكومة تضارب على بؤس الرعايا، ولست أفهم لماذا تأخذ الحكومة الفرق بين اﻟ ٪۷ واﻟ ۱۲٪؟ وإذا كان من الضروري أن نترك هامشًا معينًا لمواجهة احتمالات سوء الحظ، فليكن مفهومًا أن الخديوي سيستخدم الأرباح التي تحققها الخزانة في خدمة الأغراض العامة.» وإذا استبعدنا الجوانب الخلقية من المسألة فإن أندريه لم يكن يثق بإسماعيل أبدًا.

ولكن الأغراض العامة لم تكن تشغل ذهن أصحاب المشروع. إنهم أرادوا ضمان استعادة قروضهم، والأكثر من ذلك أن يحققوا أقصى ما يمكن من صفقة مجزيةٍ في إمكانياتها. وكانت المسألة الهامة هنا أن عديدًا من هذه القروض كانت محل شك. ومن الناحية الفنية كان كل قرض خاضعًا لتحقيق خاص بواسطة لجنة الأوروبيين والمصريين، ولكن أصحاب المشروع عرضوا على المقرضين — الشرعيين وغير الشرعيين — أن يقوموا هم بتصفية ديونهم جملة واحدة مقابل عمولة تتفاوت وَفقًا لدرجة الشك في المطلب. وفي فترة وجيزة استطاع أصحاب هذه الفكرة أن يركزوا ما قيمته أكثر من ١٧ مليون فرنك في أيديهم، وأن يتفاوضوا مع إسماعيل على هذا المبلغ بسعر يمنحهم ربحًا كبيرًا. وإسماعيل بدوره طالب كل فلاح بدفع المبلغ الأصلي وفوائده. وكل هذا يكون مضاربه واضحة على بؤس المحكومين. ولكن ديرفيو ومستشاريه يمكن أن يدافعوا عن أنفسهم على أساس ضرورة عدم الخلط بين النشاط المالي والعواطف، ولم يكن أمام أندريه إلا أن يوافق على هذا.

ووضعت هذه الصفقة العبقرية حدًّا للأزمة، وبدا أنها ترضي كل الأطراف المعنية. وعاشت الأعمال المالية المصرية بسمعة طيبة تدعمها مرونتها في مواجهة المصاعب. أما ما كان خافيًا آنذاك فهو أن هذا البقاء تم شراؤه بثمن باهظ، وأن الدُّهن الذي تجمَّع في فترة رواج القطن احترق في حُمَّى الانهيار. وكل شركات الإسكندرية — ابتداء من البنوك المساهمة الجديدة إلى البيوت التجارية الصغيرة — ضيَّقت نشاطها لتنقذ رأس مالها. وإذا جاء المرض مرة أخرى فربما يكون أقل قسوةً، وإن كان من المؤكد أن مقاومتهم له ستكون أضعف.

•••

كان هذا في يونيو، وكانت الإسكندرية، مرة أخرى، غير محتملة، فالهواء ساخن ومليء بالغبار، والحشرات تزحف وتطير في كل مكان، والروائح الكريهة لا تزول أبدًا. وكانت الأعمال التجارية متوقفة تمامًا، وأعضاء المستعمرة الأوروبية يستعدون للسفر في إجازاتهم عبر البحر الأبيض.

ثم جاءت الكوليرا. وفي أول يوم مات عدد قليل من الضحايا، وفي اليوم الثاني زاد هذا العدد قليلًا، ثم وصل إلى عشرات، ثم مئات. وفي مقابل كل جثة يتم تبليغ السلطات عنها كانت هناك عديد من الجثث تُدفن في هدوء في الحدائق الخاصة والأقبية. وفي أحياء الفقراء تكوَّمت الجثث في الحُفَر الضيقة.

وسيطر الفزع على المدينة. وعلى الرغم من أن المرض أصاب، في غالب الأمر، الفقراء، إلا أن الأغنياء الذين كان لديهم ما يعيشون من أجله هم أول من هربوا. وضرب الخديوي المثل بنفسه. فإذ كان ممتلئًا بالخوف والرعب سارع بالخروج بيخته إلى عرض البحر لبضعة أيام من «الراحة». وعاد بعد ستة أسابيع. وعند أقدامه اقتحم الأوروبيون الميناء، وشقوا طريقهم إلى السفن المزدحمة، ودفعوا مبالغ ضخمة لينقذوا أرواحهم ويسافروا على مراكب صغيرة لم تكن مُعَدة أبدًا للملاحة في غير المياه العذبة. ولم تكن لدى السفن التي تدخل الميناء أي فرصة في إنزال شحنتها من البضائع قبل أن تترك الميناء محمَّلة بشحنتها من البشر. وفي فترة أسبوعين نجح حوالي ٣٠ ألف أوروبي في الخروج من مصر.

وكما قال القنصل الفرنسي: لم تكن المسألة مجرد خوف، أو مجرد فزع، وإنما هي اندحار كامل.
لقد ماتت التجارة المصرية بالسكتة القلبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤