الفصل الحادي عشر

حقائق المالية المصرية

لم يعُد ديرفيو إلى مصر حتى نهاية العام. وقضى ستة شهور في باريس لا نعرف عنها الكثير؛ لأنه لم تكن هناك مراسلات بينه وبين أندريه.

ولكننا نعرف أنها كانت شهورًا هادئة؛ فعام ١٨٦٥م كان عامًا غريبًا، بين بين في النشاط المالي. فأزمة ١٨٦٤م قد أدت إلى انكماش حالة الرواج انكماشًا كبيرًا، وإن كانت لم تنتهِ إلى إعادة الحالة إلى وضعها الطبيعي. وإذا كانت الشركة المالية والبنوك قد عانت كثيرًا، إلا أنها ظلت حية وباحثة عن عملاء. وأصحاب المشاريع قد خسروا الكثير في السوق، ولكن شهيتهم في طرح قروض جديدة قد زادت. وفي نفس الوقت انخفضت مصادر الجمهور المستثمِر إلى حد كبير وزاد حرصه وشكه تبعًا لذلك. وباختصار كان هنالك توازن دقيق حرج بين قُوى التضخم وقُوى الانكماش، وعكس هذا التوازن التصفية غير الكاملة للماضي، وأنذر بالانهيار المتوقع في المستقبل.

وليس معنى هذا أن المعاصرين كانوا قادرين على أن يروا كما نرى اليوم الكارثة التي تبدَّت في عام ١٨٦٦م. ولكنهم كانوا يشعرون أن أحوال النشاط المالي والتجاري ليست على ما يرام، وأن الشفاء ليس كاملًا. وعلى الرغم من انخفاض سعر الفائدة بشكل مغرٍ، رفضوا أن يؤيدوا أي تضخم تجاري آخر. كتبت إحدى الصحف المالية: «إن ركود الأعمال يدعو إلى القلق. وليس هنالك فائدة في القول بأن هذا هو رد الفعل العادي لأزمةٍ نشأت من خلال فوران روح المضاربة والإنتاج. فستظل الحقيقة رغم ذلك أن هذا الركود ما زال قائمًا دون مبرر، وأنه أشد من المعتاد.»

وفي كلٍّ من إنجلترا وفرنسا انخفضت عروض الائتمان من مستواها العالي في ١٨٦٤م إلى مستويات ١٨٦٣م التي لا تعتبر منخفضة. ولكن كثيرًا من هذه الأرصدة الجديدة كانت في حد ذاتها علامة الضعف. فلعبة تحويل الشركات الخاصة المجهدة إلى اتحادات عامة — بهدف الاستفادة من مزايا النوايا الطيبة، وتجنب أخطار الالتزامات غير المحدودة في نفس الوقت — أصبحت شائعة بعد أن فقدت كثير من البيوت المالية وعيَها بسبب المبالغات القديمة. وفي يوليو سنة ١٨٦٥م تحولت واحدة من أكبر الشركات الخاصة في أوروبا، وهي شركة «الكورنار هاوس» لأوفرند وجيرني وشركاهما، إلى شركة عامة. وزعمت الصحف المالية أن الجمهور السعيد الحظ سيُمنح فرصة المشاركة في أرباح هذه الشركة العظيمة، تلك الأرباح التي كانت مقتصرة على عدد قليل من الشركاء الممتازين. غير أنه خلف هذه الواجهة البراقة كانت شركة الكورنار هاوس متعفنة من أولها إلى آخرها، ولم تكن أي صفقة خاصة قادرة على أن تفضح خدَع هذه الشركة البادية الازدهار.

ومع ذلك، كانت هنالك علامات حقيقية على الصحة. فأسعار السلع التي انخفضت بانتظام خلال خريف ١٨٦٤م وشتاء ١٨٦٥م بدأت ترتفع من جديد بعد أن وصلت إلى الحضيض. ووصلت أسعار القطن — الذي أُصيب أكثر من غيره — إلى أدنى نقطه في أبريل، عندما أدت أخبار سقوط «ريتشموند» إلى ازدياد التهافت على البيع. في هذا الوقت كانت أسعار القطن حوالي نصف ما كانت عليه منذ ثلاثة أشهر. إلا أنه قد أصبح واضحًا بعد ذلك مباشرة أن تدفق القطن الأمريكي ليس كما كان متوقعًا. فالمخزون ليس كثيرًا، وكان أمام جنوب أمريكا الكثير من العمل قبل أن يستطيع استعادة مركزه القديم في السوق العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، أدى انتهاء الحرب إلى ازدياد ضخم في الطلب على المنسوجات والسلع الاستهلاكية. وارتفعت الصادرات إلى الولايات المتحدة ارتفاعًا عنيفًا. وبدأ رجال الصناعة — الذين كانوا قد امتنعوا عن شراء القطن الخام بأمل هبوط أكبر في الأسعار — يشترون مرة أخرى. ففي ليفربول ارتفع سعر القطن الغير المصري بانتظام من ۱۳ بنسًا في الرطل إلى ٢٥ في منتصف أكتوبر. ومرة أخرى بدأ الذهب يتحرك إلى الشرق، وعاشت بومباي والإسكندرية مؤقتًا لحظات تشبه عام ١٨٦٣م.

ومن الواضح أن ديرفيو لم يساهم في كثير من هذا الرخاء، فقد توسَّع خلال حُمَّى السنوات الناجحة الأولى أكثر مما ينبغي، ودفن كثيرًا من رأس ماله في مشروعات والتزامات لا صلة لها بالتمويل التجاري بمعناه الضيق، وثبت أن مَحالجه ومصانعه ليست مُجزية بالشكل الذي توقعه. واستثمر مبالغ كبيرة في شركات مساهمه مصرية (كشركة التجارة المصرية) ليست من المرونة بحيث تستطيع أن تناوِرَ في عالم الأعمال بالشرق، وها هي اليوم تزحف رغم أنفها نحو التصفية الحتمية. وشغل ديرفيو نفسه بالمضاربات على الإقطاعيات، تلك المضاربات التي أفشلتها حالة ركود عام ٦٤-١٨٦٥م، وعجز إسماعيل عن أن ينفذ برنامجه في التمدُّن.

وفي نفس الوقت كان ديرفيو مبالغًا في كرمه عند مساعدة الشركات الأخرى. وعلى عكس بنك ماركوارد لم يكن الائتمان عند ديرفيو عملًا مكملًا له، بل كان أساس نشاطه. وبينما أمكنه استرداد معظم هذه المبالغ خلال أزمة العام السابق، ظل بعضها دون تثبيت. فقد أخذ بيت شقيق ديرفيو (ديدييه وديرفيو وشركاهما بالإسكندرية وباريس) ائتمانًا كبيرًا لم يكن في الحقيقة إلا إضافة لرأس المال، ومُنحت ائتمانات أخرى إلى أوديبير وشواباخر وشركاهما، وهو بيت تجاري كان مديره هنري أوديبير زوج أخت ديرفيو، كما مُنحت ائتمانات أخرى لشركات مساهمة كان ديرفيو ذا مصلحة فيها كمساهم ومدير. وكل هذه الشركات كانت مرتبطة بالخديوي والحكومة المصرية من خلال حسابات قابلة للدفع. وعلى الرغم من كل الجهود الملحة الطويلة فشلت هذه الشركات في أن تحافظ على حساباتها في الحدود المعقولة.

ونتيجة لذلك كانت فترة يوليو–ديسمبر ١٨٦٥م بالنسبة لديرفيو نوعًا من اتساع جهوده لتدعيم وتحصين موقفه، ذلك التدعيم الذي بدأ منذ يوليو ١٨٦٣م. ولا توضح المراسلات مع بنك ماركوارد شيئًا غير مدفوعات صغيرة روتينية، ويبدو أن التحسن في تجارة القطن لم يُفِد كثيرًا. وفي ديسمبر سنة ١٨٦٥م كان على أندريه أن يُذكِّر الإدارة في الإسكندرية بأنها تركت فرصًا هامة للربح تُفلِت من أيديها. كتب أندريه في ملحق خطاب رسمي يقول: «منذ وقت قريب نقلت شحنات كبيرة من الذهب إلى مصر. وتوقعنا أن نستقبل منكم أمرًا من هذا النوع، ونحن نعتقد أنه بالنظر إلى سعر التبادل سيصلنا منكم خطاب عن هذا في أي لحظة.» وعندما كتب أندريه بعد عودة ديرفيو إلى مصر بوقت قصير يشكره على تحيَّات العام. الجديد، لم ينسَ أن يضيف كلمة تشجيع: «أتمنى أن يعود حسابك — الذي كان خاملًا خلال الشهور الماضية — إلى سابق نشاطه في وقت قريب.»

•••

إن ثمانية عشر شهرًا من التحصن والتدعيم تعتبر فترة طويلة إلى حد الخطورة. وقد يكون سيئًا أن يتخلى ديرفيو عن مكانه الأول في المالية المصرية (ومن المحتمل أن أندريه كان مرتاحًا لهذا التطور) إلا أن الأسوأ أن يغرق في بحر من الخمول، وأن يجعل من التحصن وقفه في طريق الهزيمة بدلًا من أن يكون مقدمة تقدم. كان بنك ديرفيو وشركاه في أشد الحاجة إلى أن يجمع شتات نفسه ويستعيد جديد مبادرته.

وكان ديرفيو يعرف هذا، وعندما عاد إلى مصر كان ممتلئًا بالأفكار والتصميم، وفي الجوهر كانت خطته هي نفس الخطة التي فشلت في عام ١٨٦٤م: أن يحول شركته إلى شركة مساهمة كبيرة؛ بحيث تكفي للسيطرة على المالية المصرية. ولكنه هذه المرة كان يفكر في الاندماج في الشركة الزراعية والصناعية بمصر التي كانت تتعثَّر وهي وليد جديد. وبتصفية العمليات الفاشلة في كل من الشركتين يمكن البدء من جديد بحساب نظيف يمكن الاعتماد عليه. وبالطبع كان ديرفيو مستعدًّا أن يتنازل عن منحة الخمسة ملايين فرنك التي طلبها في المشروع القديم، وأن يقنع بما هو أقل من ذلك.

وكان ديرفيو قد اتخذ الإجراءات الأولية مع أندريه والمساهمين الآخرين في بنكه بهدف تصفية أعماله في الإسكندرية، عندما تحوَّل بصره فجأة! إنها نفس القصة، فعلى الرغم من كل خبرة ديرفيو لم يستطع أن يقاوم إغراء المكاسب الكبيرة الخادعة من أعمال الخديوي المالية.

فعلى الرغم من هبوط النشاط التجاري وانتشار الكوليرا استمرت الحكومة تنفق خلال عام ١٨٦٥م بسفهها المعتاد. واستمر النشاط في الأشغال العامة دون عائق، فحُفرت قنوات جديدة، ووُضعت خطوط حديدية جديدة، ولم تُهمل ممتلكات الخديوي الخاصة. فبصرف النظر عن قصوره في البوسفور والنيل، بنى إسماعيل يختًا جديدًا أضيف إلى أسطوله المرموق الذي تكوَّن منذ عهد عباس. واستمر إسماعيل يشتري الأرض من جميع الجهات مضاعِفًا الإقطاعيات الضخمة التي كان يمتلكها عند توليه العرش. ولم يكن من المتوقع أن تنخفض مصروفات الحكومة، فمشروع سكة حديد السودان كان في جدول الأعمال وتجميل القاهرة والإسكندرية ليس محل نسيان، وشركة قناة السويس كانت ما تزال تلح في تنفيذ قرار تحكيم الإمبراطور، وإسماعيل كان ما يزال يحلم بإمبراطورية أفريقية.

وبدا أن الموقف مناسب تمامًا.

وأمكن الوفاء بجزء كبير من هذه المطالب عن طريق اقتراض جديد. وعلى الرغم من أن قرض ١٨٦٤م استُهلك بسرعة في دفع الديون التي سبقته إلا أن سمعة إسماعيل في مصر توطدت مؤقتًا. فبتخفيض مسحوباته على الحساب الجاري، وبتسهيل عمليات أذونات الخزانة القصيرة المدى في السوق، أثبت إسماعيل أنه مدين ممتاز. وهو يستطيع أن يطلب نقودًا جديدة، وفعل ذلك فعلًا.

ولكن الصعوبة كانت كما يلي: فعلى الرغم من تزايد عدد المقرضين المحتملين (ولا شك أن ميدان الأعمال المصرفية في مصر ازداد ازدحامًا) إلا أن رسائلهم ضعفت عن ذي قبل. فإذا استبعدنا الخسارات التي حدثت لهم بسبب تدهور أسعار القطن نجد أن سياسة الائتمان الضيقة التي يتبعها مراسلوهم في لندن وباريس أشد ما يؤذي. فبعد هرب مارس وأبريل ١٨٦٥م لم تكن البيوت المالية الأوروبية، مثل فروهلنج وجوشن ومثل ماركوارد أندريه، تود أن يفلت الموقف من يدها مرة أخرى. وما دامت أوروبا غير مستعدة لأن تحمل الإسكندرية على كتفيها، كانت الإسكندرية بكل نواياها الطيبة عاجزة عن أن تحمل إسماعيل بعيدًا.

ولم يكد يحل صيف ١٨٦٥م حتى كان إسماعيل يبحث عن قرض جديد أو عن قرضين في حقيقة الأمر. فقد أراد أن يقترض أكثر من ٢ مليون جنيه. بضمان السكك الحديدية، وحوالي ثلاثة ملايين أخرى بضمان الدائرة السنية. ولم يكن ديرفيو في هذه المرة ضمن قائمة الأسماء المقترحة. ولكن كان هناك أوبنهايم وبنك كريدي-أنستالت النمسوي، وبنك كونتوار دي كومت، واتحاد لندن المالي، وبنوك خاصة، مثل بيشوفشاين وفولد.

والحق أن سفه المقترض وحصافة المقرض لم تُفِد إسماعيل كثيرًا، ولكن الخديوي كان آخر شخص يدرك هذه الحقيقة. فعندما عرض أوبنهايم أن يأخذ سندات السكة الحديدية المصرية بسعر ٧٥ مقابل ٨٥ في قرض ١٨٦٤م رفض إسماعيل بشدة هذا العرض، وأمر نوبار باشا أن يبحث عن متعاقدين آخرين. وعبثًا حاول نوبار أن يفعل ذلك. فبعد أن دق أبواب عديد من البنوك في باريس، اضطر نوبار أن يعود إلى أوبنهايم وأن يقبل شروطه الأصلية. والأسوأ من ذلك أنه سأل أوبنهايم التفضل بأن يمنحه مقدمًا ضعف ما طلبه في أول الأمر بنفس الشروط الكريهة.

وتم توقيع الاتفاق في ١٧ أكتوبر ١٨٦٥م. وفي مقابل ٣ ملايين جنيه من السندات بفائدة ٧٪ لمدة ثماني سنوات (المبلغ الحقيقي الذي ستدفعه الحكومة المصرية هو ٤٫١٥٥ مليونًا) حصل إسماعيل على ٢٢٣٧ مليون جنيه أي ٧٥٪، وبالإضافة إلى ذلك كان عليه أن يدفع ١٪ عن كل المبالغ المدفوعة بالإسكندرية، ١٪ أخرى عن كل الأرصدة المدفوعة في الإسكندرية لدفع الكوبونات.

تلك كانت شروط قاسية مهدت لتدهور الأرصدة المصرية في نهاية الأمر. إن القروض السابقة قامت على أساس سعر يزيد عن التسعين، واستطاع بنك أوبنهايم أن يقدم معظم سندات السكة الحديدية إلى متعاقدين من الباطن في باريس ولندن وفرانفكورت والقسطنطينية بسعر ٨٥. ولم يكن هذا الهامش كبيرًا جدًّا كما قد يبدو، فالموقف يحتاج إلى بعض تضحيات، وقد تفاوض بنك أوبنهايم مع كل شركة على حدة، مقدمًا التنازلات عندما يدعو الموقف إلى ذلك، ضامنًا في بعض الأحيان بيع السندات في نهاية الأمر حتى يكسب مساعدة زملائه المتشككين.

وكانت هناك التزامات إضافية صغيرة، فمثلًا كان على المتعاقدين أن يعتمدوا الأوراق الصادرة من الخزانة المصرية مقابل الكوبونات. ومع ذلك كانت ذلك كانت الأرباح عظيمة حتى وَفق المقاييس المرتفعة للرأسمالية الكبيرة.

وفي نفس الوقت مضى قرض دائرة السنية في طريق مُلتَوٍ؛ إذ لم يكن من السهل تبرير مثل هذه العملية، كما يسهل تبرير قرض إنشاء السكة الحديدية الذي يتوقع أن يسدد ديونه من إيراداته المتزايدة. ولجأت الحكومة المصرية بلا خجل إلى حجج ماتت منذ أكثر من عام، مثل خسارات طاعون المواشي وتكاليف المحاريث البخارية والآلات المستخدمة للزراعة والحَلْج والري ورغبة إسماعيل في تطوير البلاد. وكان القرض صورة تكاد تكون طبق الأصل من ظروف قرض ١٨٦٤م. بما في ذلك عن تردد إسماعيل وتدَلُّلِه، فيومًا يريد قرضًا، ويومًا يقول إن لديه مالًا كافيًا، ثم يقول إنه يريد أن يقترض، وفي يوم آخر ليس واثقًا من حاجته إلى القرض، وهكذا.

وفي النهاية بالطبع اقترض إسماعيل، فلم يكن هناك حل آخر. وكما كتب أحد مساعديه إلى نوبار خلال المفاوضات يقول: «إن مسألة القرض مُلِحَّة جدًّا … وبينما يوصي فخامته بالإسراع في إصداره وإفادته تلغرافيًّا بالجملة الآتية: «انتهت المسألة المعنية»، فإنه ينتظر بفارغ الصبر حل هذه المشكلة ويسألني باستمرار عن أخبار منك بخصوص هذا الموضوع.»

وفي الأصل تكون المتعاقدون على القرض من بنك كونتوار دي كومت، ومن باستريه والبنك الإنجليزي المصري، ومن بنك أوبنهايم. ولكن البنك الأول انسحب في أكتوبر، وترك القرض للبنكين الآخرين مناصفة. وفي النهاية اتفق في ديسمبر ١٨٦٥م على إصدار ما قيمته ٣٣٨٧٣٠٠ من الأسهم بفائدة ٧٪ على ١٥ سنة، وفي مقابل ذلك يأخذ إسماعيل ٣ ملايين جنيه، أي ٨٨٪. وكانت الشروط عظيمة؛ فالخديوي على استعداد للقبول، وباستريه على استعداد للقبول، وكذلك شواباخر. واجتمعت الأطراف المعنية في القصر لتوقيع العقد، ثم حدث شيء يصعب تصديقه خارج نطاق الأفلام السينمائية. ففي اللحظة التي دخل فيها المتعاقدون القصر للتوقيع، دخل رسول يحمل برقية من أوبنهايم في لندن تأمر شواباخر ألا يوقع. وسادت البلبلة والدهشة، ولم ينقذ الموقف غير باستريه الذي وافق في شجاعة على أن يكون كل القرض من نصيب البنك الإنجليزي المصري. ومن الصعب تحديد أسباب تراجع أوبنهايم، ولا سيما في ظروف تضايق وتعادي كل الأطراف المعنية. فوَفق مذكرات أوبنهايم عن قرض السكك الحديدية، لم يوافق البنك أبدًا على أن يأخذ نصف قرض الدائرة السنية، وإنما حاول أن يأخذ القرض كله كمحاولة «يائسة» للسيطرة على عملية طرحه، ومنع المنافسة المدمرة بين هذا القرض وقرض السكة الحديد. ووفق هذه الرواية فشلت المحاولة بسبب عرض «مستحيل» من جانب باستريه.

وإذا قارنَّا هذه الرواية بمعلومات المصادر الأخرى نجد أن هذه المحاولة من جانب أوبنهايم لتصوير قرض الدائرة السنية كشيء مفاجئ جاء في آخر لحظة ليفسد كل حسابات قرض السكك الحديدية؛ ليست إلا سَخَفًا. فقد بدأت المفاوضات باسم الدائرة السنية منذ يوليو، وأوبنهايم كان طرفًا في هذه المفاوضات منذ البداية. وليس هنالك شك أيضًا في أن أوبنهايم عرض أخذ نصف القرض بنفس الأسعار «المستحيلة» التي عرضها باستريه، تمامًا كما لا نشك في أن أوبنهايم انسحب من القرض. أما الإصرار من جانب أوبنهايم على أخذ كل شيء أو لا شيء على الإطلاق فليس إلا حجة وتبريرًا؛ فالمسألة الهامة كانت عند أوبنهايم هي أن يهرب من هذه العملية.

وبخلاف باستريه، كان أوبنهايم ذا خبرة قديمة في المالية الدولية. ولم تكن لديه أي رغبة في أن يدق عنقه لإنقاذ إسماعيل. وبجانب ظروف السوق العالمية غير المواتية، لم يجد قرض الدائرة السنية حماسًا كبيرًا في الأوساط المالية، ولا بد أنه بدا أكثر سوءًا كلما مضى الوقت.

وبالإضافة إلى ذلك فإسماعيل الذي عُرف في الماضي في أوروبا بثروته الضخمة وآماله المتنورة أصبح معروفًا الآن بديونه الضخمة وآماله المتهورة. وظهرت بعض الكتب والكُتَيبات عنه الأمر الذي أثار الجو ضده في أوروبا، وبعض هذه الكتب والكتيبات مدفوعة من جانب أفراد في المستعمرة الأجنبية بالإسكندرية من بين الذين يَضِيقون شخصيًّا بإسماعيل. ولأول مرة قيل للعالم الغربي إنه إذا كان سعيد سيئًا فإسماعيل ليس أفضل منه، وإن سمعة الخديوي الطيبة عند توليه الحكم ضاعت خلال حكمه.

وباختصار فإن قرضًا يُمنح لإسماعيل هو استثمار عديم القيمة. ولم يكد يحل منتصف ديسمبر (وهنا لا نملك إلا أن نتصور ما حدث) حتى بدا قرض الدائرة السنية على الحالة التي انتهت به إلى الفشل الكامل. غير أننا واثقون من شيء واحد: أن اعتبارات ضرورية جدًّا هي التي دفعت أوبنهايم للتخلي عن إسماعيل في لحظة غضبه.

وكان رد الفعل سريعًا. فبعد أيام قليلة أبرق نوبار باشا إلى أوبنهايم بأن قرض السكة الحديدية قد أُلغي، وأن وزير المالية لن يشترك في التوقيع على السندات. وارتفع صوت أوبنهايم بالاحتجاج، فمنذ أول أكتوبر وإسماعيل يسحب المال من المتعاقدين وفق الاتفاقية، بل إنه تجاوز الأقساط المحددة في العقد. وبالإضافة إلى ذلك طبعت السندات وأعدت عملية الطرح، وأي تأخير لا بد أن يصيب الحكومة المصرية وسمعة أوبنهايم كذلك. ورد إسماعيل على هذا الاحتجاج قائلًا إن أوبنهايم يحقق من العملية أرباحًا أكثر مما ينبغي، وأنه ضحك على نوبار وجعله يقبل شروطًا هي أسوأ مما تبدو للوهلة الأولى. ورد أوبنهايم على هذا الهجوم قائلًا: إنه لا يحقق أرباحًا أكثر مما ينبغي، وإن الحكومة المصرية كانت تعرف ما تدفع عندما وقعت العقد. وإنه على أية حال «عندما أصبحت تصدر كل يوم سندات جديدة عن الدائرة السنية والخزانة والأشغال العامة بكافة الأشكال والصور، وعندما أصبح تجار المجوهرات يقترحون القروض، وعندما أصبح كل شخص يبحث عن مكان رطب له في أوروبا في الصيف يذهب وفي جيبه قرض، ويدَّعي أنه مرخص له بذلك، وأخيرًا عندما يستنزف البئر فلا حل إلا بإغراء المشترين عن طريق تخفيض الأسعار.» ومن الواضح أن أوبنهايم نسي أنه في أيامه الأولى كان يستورد المجوهرات إلى مصر!

وسمع ديرفيو عن هذا الخلاف من نوبار الذي اشتكى في مرارة من خيانة أوبنهايم له، واتهم أوبنهايم أنه استغل ثقته غير المحدودة فيه بحيث أصبحت التكاليف الحقيقية للقرض ١٥٪ بدلًا من ٩٪ التي كان متفقًا عليها. وقال نوبار إن إسماعيل كان مستاءً من خيانة أوبنهايم للرجل الذي صنعه وقدم له أول قرض ورفعه إلى مركز المصرفي الأول في مصر. وأوضح إسماعيل أن الصعوبة هي أن «الآخرين» لا يفهمون. فلنوبار أعداء كثيرون، وسيسعد الكثيرون حينما يعتقدون أنه إما أن يكون نوبار عقد صفقة مع أوبنهايم، أو أنه غير كفء، وأنه ليس أفضل من «الأتراك»، إذ كان نوبار يُعتبر نموذجًا مخالفًا لهم.

وفي هذا الموقف كان إسماعيل خجِلًا أو مناورًا. ففي الواقع كان يقول إنه بينما لا يستطيع أن يلوم نوبار شخصيًّا، إلا أنه قد يضطر أن يضحي بصديقه المخلص أمام الرأي العام، إذا لم يحدث شيء لتصحيح الموقف.

عند هذا ظهر ديرفيو مرة أخرى. ولم يقترح نوبار صراحة أن يتقدم ديرفيو بعرض مضاد في حالة إصرار أوبنهايم على موقفه، ولكن هذا المعنى كان متضمَّنًا وواضحًا. والحق أنه من المعقول أن يفترض المرء أن هذا هو الهدف الحقيقي من شكوى نوبار لديرفيو؛ أي أن ينقل إلى ديرفيو الشعور بأن ثمة فرصة، وأن يغريه بدخول مجال المنافسة، وأن يزود إسماعيل بسلاح إضافي ضد أوبنهايم. ولا شك أن ما قاله نوبار عن اكتشاف الثمن الحقيقي للعقد كان موقوتًا تمامًا لأحداث الأثر المطلوب عند ديرفيو.

وجازت الحيلة على ديرفيو، فليس أسعد عنده من هذا الانشقاق بين أوبنهايم والخديوي. لقد تغيرت الظروف تغيُّرًا كبيرًا منذ كتب ديرفيو إلى أندريه عن استعداده للمشاركة في كل أعمال الحكومة المصرية بينه وبين أوبنهايم. وبعد استبعاد ديرفيو من قرض ١٨٦٤م كان جو الود مع أوبنهايم يُخفي وراءه عداء واستياء متزايدًا. وامتلأت خطابات ديرفيو إلى باريس بتأكيدات لأندريه ألا يذيع الأسرار لأحد، وألا يقول شيئًا لأوبنهايم عن هذا المشروع أو ذاك حتى لا تذهب الأرباح إلى جيوب أخرى. وفي أحد الخطابات كان هناك تحذير محدد: «لا تقل شيئًا لأوبنهايم عن مسألة السودان.» ومن جانب أوبنهايم حاول المثل؛ فبموافقة نوبار حرص على ألا يعرف ديرفيو شيئًا عن قرض السكة الحديدية حتى وقع القرض.

وناشد ديرفيو أندريه أن يحاول تنظيم اتحاد لطرح قرض بدلًا من مجموعة أوبنهايم. وقال له إن صافي الربح سيكون ٦٪ بالإضافة إلى ١٪ عمولة، أي ٤٢٠ ألف جنيه على قرضٍ قيمته الاسمية ستة ملايين. وحتى إذا حصل أوبنهايم على تعويض قدره ٢٠٠ ألف (وهو أمر غير محتمل) فإن هذا سيترك ٢٢٠ ألفًا، بالإضافة إلى حد أدنى من الربح قدره ١٠٪ عن طلبات لأدوات سكك حديدية قيمتها ٢٠٠ ألف جنيه، ويعتقد ديرفيو أن هناك عددًا كبيرًا من الناس يودون أن يكسبوا مثل هذه المبالغ؛ مثلًا، ألفونس بينار من بنك كونتوار دي كومت، الذي يقال إنه غير مرتاح لعلاقاته بأوبنهايم، أو بنك الائتمان الصناعي والتجاري؛ حيث أصبح ألبير روستان صديق ديرفيو القديم أحدَ المديرين. بل إن ديرفيو لم يمانع في اشتراك بنك الكريدي موبيلييه، عدو ديرفيو القديم المعروف بعدوانيته واتساع نشاطه.

وقبل أن يكون لدى أندريه الفرصة في الرد على مقترحات ديرفيو، وصلت الحكومة المصرية وأوبنهايم إلى اتفاق. وأصيب ديرفيو بالدهشة، واضطر أن يخبر أندريه أن ينسى الموضوع. ولكنه ترك شعاعًا من الأمل في ظهور فرصة جديدة في المستقبل. فإسماعيل لن تكفيه ثلاثة ملايين جنيه مدة طويلة، حتى ولو كانت إيرادات الحكومة تزداد بفضل زيادة الضرائب وتحسن طرق جمعها.

كان من المستحسن أن يحفظ ديرفيو هذا الشعاع من الأمل لنفسه. فالمسألة كلها من وجهة نظر أندريه مجرد حكايات تثبت أنه لا ينبغي أن يتدخل الإنسان بين «البصلة وقشرتها». وفي ١٨ يناير كتب إلى الإسكندرية يقول إنه يعتقد أن اقتراح ديرفيو لم تكن أمامه أي فرصة للنجاح «فالطرفان المختلفان لهما مصلحة أساسية في الوصول إلى اتفاق. وبعد مشاكسات قليلة يتحقق السلم بينهما من وراء ظهرك.»

•••

غير أن خطاب أندريه لم يكن كافيًا لإخماد حماس ديرفيو، فلم يكد خطاب ١٨ يناير يصل إلى الإسكندرية حتى ظهرت فرصة جديدة. وفي ٣٠ يناير وقَّع الخديوي وشركة قناة السويس اتفاقية وضعت حدًّا نهائيًّا لخلافات دامت ۲۰ شهرًا منذ صدور التحكيم الإمبراطوري عام ١٨٦٤م.

وبمقتضى هذا الاتفاق وافقت الشركة على أن تتخلى فورًا عن قناة المياه العذبة الممتدة من الوادي إلى القنال، والتي بناها دي ليسبس وأعاد الإمبراطور ملكيتها إلى مصر. وفي مقابل ذلك يدفع إسماعيل فورًا ١٠ ملايين فرنك كان قرار التحكيم قد حددها، وفي نفس الوقت تعيد الحكومة شراء إقطاعية الوادي مقابل ١٠ ملايين فرنك. وهي قطعة كبيرة من الأرض اشتراها دي ليسبس من سعيد في سنة ١٨٦١م مقابل ٢ مليون فرنك وأصلحها منذ ذلك الوقت، وإن كان هذا الإصلاح لا يساوي ٨ ملايين فرنك أبدًا. وأهم من كل ذلك أن إسماعيل وافق على أن يسرع بدفع ٥٧ مليون فرنك مدين بها للشركة نتيجة التحكيم، فيدفعها على ثلاث سنوات بدلًا من أربعة عشر عامًا. وإذا اضطرت الشركة في عام ١٨٦٦م — وكان هذا شبه مؤكد — أن تسترد المائة فرنك الباقية عن السهم، فإن الخديوي يوافق على أن يدفع اﻟ ١٨ مليونًا التي تصبح مستحقة عن نصيبه في نهاية ١٨٦٧م. وفي مقابل كل ذلك أصبح للحكومة المصرية الحق في شغل أي مراكز برية على طول القناة تحتاج إليها الأغراض الاستراتيجية والإدارية.

ومن السهل أن يفهم المرء لماذا رحب دي ليسبس بهذا الاتفاق؛ إذ كانت الشركة في ضائقة مالية، والمبالغ المنتظر وصولها خلال السنوات المقبلة ليست كافية لدفع مستحقات المقاولين وأجور العُمَّال في سنة ١٨٦٦م. وأصبح دي ليسبس مواجَهًا إما بالبحث عن قرض أو التوقف. لذلك فإن هذه الاتفاقية بما تقدمه من عشرين مليون فرنك فورًا، و٧٥ مليون فرنك خلال السنوات الثلاث التالية، تَمنح الشركة دفعة جديدة من الحياة تكفيها حتى الانتهاء من شق القناة ذاتها، أما لماذا وقع إسماعيل هذا الاتفاق، فأمرٌ آخر، فربما كان تنازل الشركة للحكومة المصرية عن الامتيازات الإدارية والعسكرية تبريرًا مواتيًا أمام ضميره؛ إذ يتضمن الاعتراف بسيادته. وهو اعتراف يرحب به إسماعيل على ضوء أطماع تركيا في برزخ السويس. ولا شك أن شراء أرض الوادي كان له هذا المعنى أيضًا. ومن المحتمل كذلك أن الخديوي ببساطة كان قد ضاق بالمناقشات. يقول دوان: «أزالت المناقشة حدة الموقف وأدى استمرارها زمنًا طويلًا إلى رغبة الطرفين في الوصول إلى اتفاق. تلك كانت اللحظة التي انتهزها الخديوي بمهارة كبيرة للوصول إلى اتفاق نهائي مباشرة مع دي ليسبس، وهكذا استأنف المبادرة التي لم تكن تفوته أبدًا، وتصرف مرة أخرى كملك.» وربما جاز للمؤرخ بعد ذلك أن يضيف إلى اعتبارات السمعة والتعب من المناقشات تفسيرًا ماديًّا آخر، بدونه يظل موقف إسماعيل عملًا من أعمال السخاء والكرم. فالحقيقة أن إسماعيل كان في حاجة ماسة إلى مساعدة فرنسية لكي ينجح قرض الدائرة السنية. وربما كان الاتفاق مع دي ليسبس هو شرط فرنسا لطرح الأسهم في باريس. وصحيح أن إسماعيل يحرص على سمعته، ولكنه لا يتعب من بورصة المناقشات بهذه السهولة، وإسماعيل على أية حال لم يكن غيورًا على مصالح الآخرين.

وسُر ديرفيو من هذه الآفاق الجديدة في نشاط الحكومة المصرية. وفي خطاب بتاريخ ٣ فبراير ١٨٦٦م يصف في ارتياح واضح «معاهدة السلام» الجديدة قائلًا: «تبيَّنت شركة قناة السويس في ضائقتها المالية أن الخديوي وحده هو الذي يستطيع إنقاذها.» ولما كان الخديوي مضطرًّا أن يبحث عن الأسلوب الذي «ينقذ» به الشركة، شعر ديرفيو أن هناك إمكانية حقيقية لقرض جديد؛ حتى ولو كان إسماعيل واثقًا من قدرته على الدفع بدون هذا القرض عن طريق إعادة بيع الأرض التي أخذها من الشركة، وبإصدار سندات خزانة جديدة. وقال ديرفيو إنه سيكون سعيدًا إذا ساعده أندريه «أرجوك أن تمكنني هذه المرة أن أبرهن للخديوي أن من الممكن أن نمضي سويًّا بدون أوبنهايم.»

وإذا كان ديرفيو يظن أن هذه الاتفاقية هي نوع من الاستسلام من جانب شركة القناة «وهي في ضائقة مالية»، إلا أن أندريه لم يكن بهذه السذاجة. فأندريه ما زال قادرًا على أن يحسب، وردُّه في ١٧ فبراير هو تعبير دقيق عن سخريته من ديرفيو. وهو أيضًا تحليل صحيح لنشاط وتدبيرات دي ليسبس والشركة على حقيقتها.

صديقي العزيز

«على الرغم من ضيق الوقت لم أودَّ أن أُضيع هذه الفرصة دون شكرك على خطابك الهام في الثالث من هذا الشهر.

فلو لم تكن مصر محكومة من جانب أمهر الحكام لظن الإنسان أنها في يد أشد الناس سذاجة. فعندما يتضح في القرون المقبلة ما استطاعت القناة ومُنشِئيها أن يعتصروه من مركزهم في أرض الفراعنة، وعندما يتضح في نهاية الأمر سجل المضايقات والسباب والنزاع القانوني والصراع من أجل النفوذ، التي كانت بمثابة التوابل في الوجبة الشهية، عندما يحدث كل هذا سيعترف هؤلاء المنشئون أنه لم يحدث شيء من هذا النوع من قبل، ولا يمكن أن يحدث في المستقبل.

والآن لقد انتهت التمثيلية الهَزلية. وإذا كان هناك دروس يمكن أن تُستخلَص فإنني أود، على الأقل، أن يساعد هؤلاء الذين يستفيدون من الوجبة، الطُّهاة على الحصول على التوابل الضرورية. إن مديري الشركة وحملة أسهمها هم الذين ينبغي أن يأخذوا على عاتقهم القرض الجديد الذي أدت إليه مطالبهم غير المعقولة. وخارج حدود هؤلاء يصعب أن نرى إنسانًا يهمه هذا الموضوع. فحاليًّا تُوزَّع المدخرات الماضية والمقبلة بين إيطاليا والنمسا والمكسيك. وتقف إسبانيا على الباب تنتظر دورها وتستنزف ضمنًا جيوبنا في صورة قروض صغيرة مستتِرة.

أما عن الشرق فإن الجمهور يجد أن العودة إلى الاستثمار فيه هو من قبيل التعجُّل. ومن المرغوب فيه تمامًا، أن يجد الجمهور — الذي يتطلع إلى فرص أكبر مما يستطيع أن يهضم — الوقت الكافي لهضم كل الأطباق العسِرة الهضم التي قُدمت له، والتي اندفع إليها بعجلة شديدة دون حساب لقدراته على الامتصاص.»

باريس ١٧ فبراير ١٨٦٦م

ومعنى هذا باختصار أن أندريه لم يكن يعتقد أن هناك مجالًا لقرض مصري جديد، وشاركه في هذا الرأي إسماعيل، الذي كان في إحدى حالات قناعته. في هذا الوقت شعر الخديوي أنه يستطيع تدبُّر أموره بدون اقتراض، ثم غير رأيه بعد ذلك بشهر. ومع ذلك كتب ديرفيو في ١٨ فبراير إلى باريس يطلب نسيان الموضوع كله، ولكنه مرة أخرى حاول أن يختم خطابه بكلمة مبشِّرة؛ إذ قال إن إسماعيل وعده بأن يُوكِل أول قرض جديد إلى شركته الجديدة.

غير أن قرضًا ثالثًا كان أمرًا مُستبعَدًا، فقرض السكة الحديدية يترنَّح، وقرض الدائرة السنية ثبت فشله. وبازدياد النفقات أكثر من ذي قبل، صمم إسماعيل على اتخاذ إجراءات قوية أساسها أن على الشعب المصري أن يساهم بدفع ضرائب أكبر. ولم يكن يهم إسماعيل أن ذوي الدخول الضعيفة من الفلاحين عاجزون عن تحمُّل أعباء جديدة، فقد أكد الخبراء للخديوي أن الزيادة المقترحة في الضرائب «ليست من قَبيل المبالغة، وأن ثمن القطن مرتفع، يسمح له أن يفرض هذه الزيادة على البلاد.»

ومن الإنصاف أن نقول إن هؤلاء الناصحين المخطئين لم يكونوا يعرفون حدود الزيادة التي أراد إسماعيل فرضها في الضرائب. فكلما زاد حرج الحاكم والخزانة، زادت الضرائب المقترَحة تبعًا لذلك. وفي فبراير اقترح الخديوي زيادة ضريبة الأرض بمقدار ستة قروش على الفدان. وفي أبريل عندما اتَّضح فشل قرض الدائرة السنية كانت الزيادة المقترحة ١٠ قروش للفدان. وفي يوليو، عندما منح البناك الإنجليزي تعويضًا، وسَدت أزمة أوفيراند جيرني كل سبل الائتمان، عندما كان التجار والممولون في الإسكندرية يدقُّون أبواب الخزانة المصرية بعنف، وكان محصول سنة ١٨٦٥م قد بيع وأُنفِق إيراده … في هذه الظروف كلها أصبحت الزيادة المقترحة في ضريبة الأرض ٢٠ قرشًا عن الفدان، أضيف إليها قرض بالإكراه قدره مليون جنيه.

لقد كان هذا الإجراء الأخير إجراءً مبالغًا فيه، حتى من وجهة نظر إسماعيل. وإذ خاف إسماعيل أن يفرض إرادته بالقوة قرَّر أن يهب مصر هيئة نيابية تُصوت باسم الشعب على الإجراءات التي تقترحها الحكومة (وكما حدث في الغرب، فإن أول تنازل ديمقراطي في مصر كان تنازلًا لدافع الضريبة)، وتجمَّع أعضاء الهيئة في القاهرة يزهون في أفخم ملابسهم، حائرين، وإن كانوا فخورين وممتلئين بالنوايا الطيبة. وفي أول اجتماع لمجلسهم احتلوا الصفوف في زهو، وأخذوا مقاعدهم إلى اليسار واليمين وما بين ذلك، وَفق صداقاتهم وارتباطاتهم. وأبدى أحد الرسميين ذوي الخبرة في الشئون البرلمانية دهشته من هذا الموضع قائلًا: «أوه … لا … لا … إن اليسار دائمًا للمتمردين والساخطين أعداء الخديوي والبلاد. أما الوسط فهو مكان المحترمين والمواطنين ذوي التفكير السليم.» وعندئذٍ حدث اندفاع عنيف إلى مقاعد الوسط، وتضارب النواب في محاولاتهم النشطة للتعبير عن ولائهم وإخلاصهم. وتمسك شخص واحد سيئ الحظ بمقعده في اليسار، وغنيٌّ عن البيان أنه هُزم هزيمة ساحقة في التصويت، ومرت الضريبة الجديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤