الفصل الرابع عشر

التصفية

ترك إسماعيل القسطنطينية في ١٨ يونيو على يخته الفَخْم الجديد «المحروسة»، ووصل إلى الإسكندرية في ٢٠ منه. وامتزج سروره بنجاحه في القسطنطينية بضِيقه عندما شعر أن أصدقاءه في المستعمرة الأجنبية لم يُظهِروا الحماس المناسب لإنجازات مثل هذه الرحلة الناجحة. ولم يكن إسماعيل مُقتنعًا على الإطلاق بمسئوليته في إنقاذ البنوك وشركات التجارة بالإسكندرية من الانهيار، ثم استطاعت المحادثات الصريحة بينه وبين ممثلي الدول الغربية أن تُغيِّر تفكيره، فأعطى الشركة التجارية ٤٠ ألف جنيه نقدًا، ٢٨٠ ألف جنيه سندات تُستهلك في فترة تتراوح من ٤–٦ شهور، وهذا أكثر بكثير مما توقعَتْه الشركة. وسدد لبنك لندن والبحر الأبيض المبالغ التي دفعوها لحليم باشا مُضافًا إليها الأرباح التي كان البنك يأمل فيها. وأخذ الجزء الذي لن يُباع من قرض الدائرة السنية من بين يدي باستريه والبنك الإنجليزي المصري ودفع لهم تعويضًا عن نواياهم الطيبة. ووضع الترتيبات التي تخفض الزيادة في مسحوباتها لدى بنوك الإسكندرية الأخرى.

ومع ذلك كان كثيرٌ من الشركات الأوروبية في مصر قد ساءت أحوالها إلى الحد الذي يستحيل معه إنقاذها، حتى بتصفية أكبر حساباتها. كانت هناك من المبالغات الصريحة في العمل التجاري، ومن الالتزامات بناء على أوامر شفوية، ومن الاقتراحات والإخطارات الغامضة، بحيث إنه عندما حل الوقت لتحقيق الأرباح كان من المستحيل تحديد المبالغ الحقيقية. ويومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع، في صيف يُعتبر من أسوأ ما عرف التاريخ قيظًا، أكبَّ تجار وممولو الإسكندرية على سجلاتهم المهمَلة وحسابات الخزانة المصرية الخفية، وقد عِيل صبرُهم من شدة الحرارة. وعندما يتم الاتفاق على أي رقم يظل هناك نضال لجمع المبلغ؛ إذ إن جيوب إسماعيل خالية الوفاض، وسندات الخزانة هبطت إلى الحضيض منذ عهد سعيد. وما كان باقيًا من المال كان لا بد من توزيعه بين المطالبين الصارخين وفقًا لدرجة إلحاح مطالبهم وقوتها وملاءمتها. وفي نفس الوقت تضعضعت أرصدة هذه الشركات؛ بحيث لم تعُد كل أموال أفريقيا قادرة على إعادتها إلى الوضع السليم. وأصبحت أوروبا مقتنعة (ولها الحق) بأن معظم الأعمال التجارية بمصر مُتَعفِّنة.

وكان بنك ديرفيو وشركاه إحدى هذه الشركات التي أراحتها عودة إسماعيل، وكانت هذه الشركة تحاول أن تنهض من تحت أنقاض شركة ديدييه-ديرفيو والشركة الزراعية. وحاليًّا كان انشغال ديرفيو بمصير شقيقه يفوق كل الاعتبارات الأخرى. وكمحاولة لإغراء أندريه للاستمرار في مساعدته، أعد ديرفيو تقريرًا عن شركة ديدييه-ديرفيو مؤكِّدًا مساهمتها في تطوير «الصناعة الفرنسية».

«إن نشاط هذه الشركة أوضح في مصر أن صناعة فرنسا العظيمة تستطيع منافسة صناعة إنجلترا وألمانيا».

أما لماذا استمر ديرفيو في هذه الأحاديث المتعصبة للوطن مع مموِّل لا مكان للعواطف عنده، مثل أندريه، فمسألةٌ مُحيِّرة. ولا بد أن يستنتج الإنسان أنه أيًّا كانت أفكار أندريه الحقيقية عن هذا الإقحام للتفاهات العاطفية في المشاكل المالية، فلا بد أنه كان من الكياسة والحرص بحيث لا يُسيء إلى مشاعر صديقه؛ باستثناء واحد عند ما أنَّبه في عام ١٨٦٥م وقال له: «أنت تكتب كثيرًا». ومن الواضح أن ديرفيو كان يظن أنه يتحدث إلى شخص متعاطف. وفي نفس الوقت اضطر ديرفيو إلى اتخاذ إجراءاته الخاصة. فلكي يمنع توقف الدفع «قدَّم» إلى جوستاف المبلغ الذي يُطالب به الحكومة المصرية والشركة الزراعية (حوالي ٧٠٠ ألف فرنك) وأخذه ديرفيو باسم شركته هو. وكان معنى هذا في الواقع أنه نقل المخاطرة من كتفي شقيقه إلى كتفيه. ولكن حتى هذا لم يكن إلا حلًّا مؤقتًا. فبعد شهر آخر (بنهاية يوليو) كان لا بد من تدبير مبالغ أخرى لمواجهة حلول مواعيد دفع الأوراق المالية لشركة ديدييه-ديرفيو.

وبالإضافة إلى شركة ديدييه-ديرفيو، كانت هناك أيضًا الشركة الزراعية. وفي خطاب بتاريخ ٨ يوليو كتب ديرفيو إلى أندريه يرجوه أن يجعل وزير الخارجية الفرنسية يكتب إلى القنصل الفرنسي بالإسكندرية لتأكيد مطالب المساهمين الفرنسيين. فالتاجر الإنجليزي مستر لوبوك استطاع أن يحصل على خطاب من لورد كلارند إلى القنصل الإنجليزي، وقد يكون من المفيد أن يصل إلى مسيو، أوتريه تذكرة مماثلة من وزارة الخارجية الفرنسية. ويقترح ديرفيو أن أصدقاء أندريه من عائلة هاين قد يستطيعون استخدام نفوذهم لدى أشيل فولد وزير المالية.

إن ديرفيو يُفضل أن يأتي الضغط باسم الشركة الزراعية من أوروبا، فهو مشغول جدًّا بتقديم حالة شركته إلى الحكومة المصرية. وفي ١٩ أغسطس أعلن ديرفيو لأندريه، في لهجة متعَبة وقُورة تتناقض مع زهو السنوات السابقة، أن إسماعيل وافق على أن يحل محلَّه في أسهم الشركة الزراعية وائتمانها. واتفق على أن يأخذ ديرفيو ٣ مليون فرنك «لا بد أنك ستُقدر كم أشعر بالارتياح الآن.» واندريه أيضًا كان مرتاحًا لهذه الأنباء فهذه الأسهم التي أخذها إسماعيل بالإضافة إلى الجزء الذي اشتراه من أوبنهايم يجعل نصيب إسماعيل ٥ ملايين فرنك في الشركة الزراعية «ذلك ضمان للأطراف المعنية الأخرى بالوصول إلى حل كامل، باسترداد نقودهم.» ووعد ديرفيو أن يعمل من أجل هذا الهدف.

غير أن مثل هذا الحل كان ما زال بعيدًا، وديرفيو لم يُنهِ كل مشاكله المباشرة. فهو يتطلع إلى تصفية شركته الخاصة، التي توقَّفت تقريبًا عن أي نشاط مالي منذ أن قطع أندريه عنها الأرصدة في مايو. وكان عام ٦٥-١٨٦٦م عامًا بائسًا؛ دمرت فيه الخسارات كل الاحتياطيات المتراكمة، بل والتهمت ما بين ١٠–۱۲ ٪؛ من رأس المال. وكان ديرفيو يأمل أن يعوض هذا بنهاية ٦٦-١٨٦٧م؛ بحيث يكون قادرًا على أن يسدد للمساهمين المبالغ الكاملة لاستثماراتهم. أضف إلى ذلك أن هناك بعض العمليات التي يُنتظَر أن تحقق ربحًا مُجزيًا:

«من بين أشياء أخرى، هناك امتياز بناء أرصفة ميناء الإسكندرية، الذي مُنح لشركتي منذ أكثر من عامين، والذي أنوي الاتفاق مع الخديوي على إلغائه. وهذه العملية وحدها ستُعطينا ٢٥٠ ألف فرنك. إنني أعتمد أيضًا على عدد قليل من العمليات الجديدة من الخديوي؛ إذ إنه لا يرغب في أن تُصفي شركة «كانت محل رعايته ومساعدته» أعمالها بخسارة.»

تفاخر ديرفيو دائمًا بدقته وإنصافه في معاملاته، في مجتمع واقتصاد كانت الفضيلة فيه استثناءً نادرًا، بما في ذلك الفضائل السلبية؛ كالأمانة، وحرص دائمًا على أن يُبعد نفسه عن الجشع والنهب، على عكس بريفي الذي جعلت انتهاكاته وتدبيراته من حاشية سعيد (وإلى حد أقل إسماعيل) رمزًا للفساد. أما اليوم، وديرفيو يهبط إلى أسفل، فقد انضم بلا وعي إلى صفوف أمثال بريفي. إنه لم يصنع أي شيء أبدًا نحو بناء أرصفة ميناء الإسكندرية، والحق أنه كان جديرًا لأن يُطالَب بالتعويض لفشله في تنفيذ العقد، ومع ذلك أراد أن يحقق ربحًا قدره ٢٥ ألف فرنك لعدم تنفيذ العقد، أما عن العمليات الجديدة فليس هناك سبب في العالم يدعو إسماعيل إلى إنقاذ البنك من تصفية أعماله بخسارة على حسابه الخاص، لا سبب على الإطلاق إلا أن الشركات الأوروبية لا ينبغي لها أن تخسر مالًا في مصر، وإذا كانت الحكومة ساعدت بالفعل عديدًا من البيوت المالية، فلا بد أن تساعد بيت ديرفيو كذلك.

إن ديرفيو كان في حاجة إلى مساعدة إسماعيل ولم يعُد قادرًا على الاعتماد على مساعدة كبيرة من باريس. وفي ١٩ أغسطس ١٨٦٦م، كتب ديرفيو إلى أندريه يطلب منه أن يُقدِّم له ائتمانًا مرة أخرى: «أشكرك مقدمًا على أي رقم ستُقرره. أنت تعرف موقفنا وطريقتنا في العمل …» إن أندريه يعرف هذا جيدًا، ومنح ديرفيو ٣٠٠–٤٠٠ ألف فرنك، وأخبره أن النشاط سيكون طيبًا إذا استمر السلام «فليمنحنا الله القدرة على تجنُّب شرور الحرب، وأن يمنح المسئول عن حكمنا هنا (نابليون) الحكمة التي يحتاجها حتى لا يلقي بنا إلى مغامرة»، ويذكر أندريه ديرفيو أن التطبيق المثابر للوسائل المصرفية (النقية) التقليدية سوف يساعده على تعويض الخسارات السابقة «وخيبة الأمل المحتملة» من جراء التصفية، وأخبره أيضًا أن يُلزم شركة شقيقه بقانون محدد «نحن نعتبر أن هذه الشركة هي واقعيًّا في حالة تصفية. ولشهور قليلة مقبلة وإلى أن تتقدم الشركة في هذه المهمة، لا ينبغي عليها أن تفعل أي نشاط جديد أو تَقبَل أي التزامات جديدة.»

وفي خلال أيام قليلة، في ١٧ سبتمبر على وجه التحديد، كتب أندريه إلى ديرفيو مرة أخرى. وفي هذا الخطاب رفض أندريه اقتراح ديرفيو بأن يبيع، إما على أساس العمولة أو مناصفة، حوالي ٥٠٠ ألف فرنك سندات مصرية اشتراها ديرفيو بسعر ١٦٪، ويلاحظ أندريه أن شركة السويس قد أصابت ديرفيو بلَكمة، وأن هذا «الصنبور لم يُغلَق بعد» وفي نفس الخطاب يطلب أندريه من ديرفيو ألا يُرسل أي سندات مصرية كغطاء لكمبيالاته، وهو قيد مُعجِز لرجل توقع أن تأتي معظم موارده في المستقبل من الحكومة المصرية.

•••

إن إسماعيل خيَّب آمال ديرفيو؛ فأيًّا كانت نوايا الخديوي، لم يستطع أن يوفي بما اتُّفِق عليه في أغسطس مع ديرفيو ما دامت الخزانة خاوية والإيرادات منكمِشة. والأكثر من ذلك أن المال القليل المتاح لا بد أن يذهب بعيدًا، فقد وافق إسماعيل على مضاعفة الجِزية إلى القسطنطينية بُغية إغراء السلطان على منح الفرمان الجديد، وهناك أيضًا الأقساط المدفوعة لشركة القناة التي أصبحت أكبر وأكثر تكرارًا منذ اتفاقات يناير وفبراير، وهناك تعلَّق إسماعيل باليخوت والقصور والمتَع المشابهة التي لم تقِل رغم تدهور الموارد. فإسماعيل أمير أصيل، وهو لا يدع الأعمال التجارية تتدخل في الأشياء الهامَّة في الحياة. وليس من الغريب إذن أنه كلما تقدم العام وتحول الصيف إلى خريف ظلت معظم المطالب الناجمة من أزمة الربيع قائمة كما هي، ولم يكن ديرفيو إلا واحدًا من جمهرة المطالبين.

وككل المطالبين كان على ديرفيو أن ينتظر، بصرف النظر عن اتفاقه مع الخديوي. وكمعظم المطالبين لم يكن في الوضع الذي يسمح له بالانتظار. ولم تنفع تأكيدات الحكومة المصرية، بل إنها ساعدت على نفاد صبره. وينبغي الاعتراف أن المقرضين — حتى في أفضل الظروف — ليسوا من السهولة بحيث تُقنِعهم الكلمات. وفي هذا الظرف كانت هناك «فجاجة» في اعتذارات إسماعيل، شيء يدعو إلى الشك في تسويفه، شيء زئبقي في وُعوده. كان عنده أمل غامض (وهذا ما أحسَّه الدائنون) أنه بمُضِي الزمن، وإجهاد مُطالبيه، وبدفن المطالب والمشاكل في الماضي يستطيع أن يتمكن من إخفاء كل شيء: الديون والمطالب والناس، وبالإضافة إلى ذلك كانت لدى إسماعيل رغبة في النكاية بدائنيه، فهو يشعر بسعادة في تعذيب مُعذِّبيه. وبالطبع كان هذا سخفًا، فالتأخير يزيد من قوة إلحاح الدائن ويُضفي على أشد المطالب سخافةً معقوليةَ المطلب القديم. ولكن موقف إسماعيل لم يكن إلا رد فعل رجل، خطأً وصوابًا، ليس لديه وسائل يدافع بها حتى عن حقه في الوقوف أمام خصومه الأشد قوة.

وفي أوائل سبتمبر سنة ١٨٦٦م بدأ ديرفيو إجراءاته القانونية ضد الشركة الزراعية مطالبًا أن تُعلن الشركة إفلاسها، بدلًا من أن تظل في حالة تصفية، وكان ديرفيو يأمل أن يُبكر في استرداد ماله، وأن يقيد الخديوي. ثم وافق ديرفيو بعد ذلك مباشرة على أن يعطي الشركة فرصة حتى ١٦ سبتمبر يأمل أن يتفق مع إسماعيل خلال هذه الفترة. وجاء يوم ١٦ ومضى مليئًا بتأكيدات جديدة، وإن كان بلا نقود. واستأنف ديرفيو إجراءاته القانونية، ثم أثناه إسماعيل عنها، وهكذا حتى جاء الخريف، وفي نهاية أكتوبر غادر إسماعيل القاهرة إلى الصعيد دون أن يترك أية تعليمات بخصوص تنفيذ اتفاقية أغسطس. وإذ فاض صبر ديرفيو، قطع المفاوضات وحول هجومه من الشركة الزراعية إلى إسماعيل نفسه.

وهكذا وقعت القطيعة أخيرًا. ورفع بنك ديرفيو وشركاه قضية من خلال القنصلية الفرنسية. وكتب جالو إلى أندريه يقول إن ديرفيو «قد سئم أن يرى الالتزامات لا تُنفَّذ، والوعود لا تُحتَرم، والتضحية لا تُعوَّض، وأن يكون الولاء المخلص القديم غير مقدر.»

وكان الشريكان واثقَين من الانتصار. وكما يقول جالو: لقد عمِلا كثيرًا لحساب إسماعيل، وهما يعرفان الكثير عنه.

«إن كل شيء يقنعنا إذن أنه لا بد من الوصول إلى اتفاق، وأنه سيكون مُتفقًا مع مصالحنا. وإذا أدى هذا الاتفاق إلى استرداد أموالنا وتغطية خساراتنا فلسوف نكون سعداء تمامًا. سنتتبع إذن بعناية وحرص حل خلافنا مع الخديوي، ونرجو أن نُوفَّق في منح مساهمينا تصفية لا تجور على رأس المال الذي أودعوه عندنا.»

إن ديرفيو كان يملك معلومات مُحرِجة، بل مدمرة، لإسماعيل، وكان مستعدًّا أن يبيع سكوته له. وليس من المحتمل أن رجلًا مثل إدوارد ديرفيو يُقدِم واعيًا على استخدام أسلوب الابتزاز، الابتزاز الشائع، أي هذا النوع الكريه. الذي ينتفع من عواطف وآثام البشر العاديين، ولكن كان هذا ابتزازًا مغايرًا؛ فالخديوي ليس بشرًا عاديًّا، وآثام السياسة والمالية الدولية أدعى إلى الاحترام، وبالتالي أكثر فائدة ألف مرة من مخالفات الوصايا العشر. تلك كانت الحدود القائمة بين سوء السمعة والاحترام.

أضِف إلى ذلك أن ديرفيو كان، ولا شك، رجلًا مخلصًا يعيش بضميره، ولم يكن هذا النوع الجامد المستبِد الذي يقف على البُعد في برود ويفرض قانونًا مطلقًا في الصواب والخطأ، بل كان ديرفيو على علاقة طيبة بضميره. كانا صديقين يفهم بعضهما البعض، ويدركان أن الحياة ليست بالبساطة التي تبدو بها أحيانًا. وفي مثل هذا الجو من التفاهم المتبادَل لم يكن تبرير هذا الابتزاز في التعامل مع إسماعيل يفرض مشكلة صعبة على ديرفيو.

وأخيرًا ينبغي أن نتذكر أن ديرفيو كان بشرًا، وأن عليه أن يكون شيئًا آخر إذا أراد أن يقاوم إغراء استخدام الأسلحة التي بين يديه ضد إسماعيل على الأقل لإرهابه. والصعوبة أن هؤلاء الذين يبلغون حدًّا من الضعف، بحيث لا يستطيعون الإرهاب، هم في النادر من القوة بحيث يستطيعون منع الضربة. ومطالب ديرفيو الأصلية، سواء أمكن تبريرها أم لا، كانت متواضعة تمامًا؛ كتب جالو أنهم سيكونون مسرورين إذا انتهى كل شيء بدون خسارة. وبعد ذلك بشهر كان ديرفيو يطلب ١٠٪ عن كل سنة ويشعر برضاه عن نفسه لتواضعه: «إن مطالبنا تنتهي إلى هذا: أن نستطيع تغطية خسارتنا على رأس المال حتى ٣٠ يونيو الماضي، وأن نُعطي مساهمينا ١٠٪ فائدة عن السنة الماضية وعن السنة الحالية. إنني لم أُرِد أن تكون القضية ضد الخديوي قائمة على المبالغة، فموقفي لا يقوم إلا على أساس الحق والعدالة. ولو أردت أن أستخدم الأسلحة التي وضعتها علاقاتي الخاصة به في يدى؛ لكان من الممكن أن أطلب الملايين. إنه يعرف ذلك جيدًا. وأنت تستطيع أن تفهم أنَّ من صالحه أن يدفع لي كل ما أطلبه؛ إذ إنني لا أطلب غير الأشياء العادلة، والتي ليست محل خلاف.»

ويبدو إذن أن الكتمان كان جزءًا من تبرير ديرفيو لمطالبه. فطالما كان يطلب من إسماعيل أقل مما يستطيع أن يطلب، طالما ظل محدودًا بما يشعر أنه يستحقه فعلًا، أمكن لديرفيو أن يتظاهر أنه لا يمارس الابتزاز في حقيقة الأمر. ومن المؤكد أن أساتذة الإفتاء فقط الذين يستطيعون أن يجدوا فرقًا له معناه بين الدفع خوفًا من فضائح كريهة، والدفع اعترافًا بالفضل لعدم كشفها؛ وديرفيو لم يكن مُفتيًا، على أن الشيء الملِفت هو كيف أن مطالب الضمير تزيد درجة الرؤية وحِدَّة الذهن، بحيث يرى الإنسان بسرعة كل الأشياء التي يمكن أن تخفف من تأنيب ضميره له، وأن ينسج منها تبريرًا في ذهنه.

•••

ومضت الشهور التالية وديرفيو يفاوض إسماعيل، تارةً يُساومه وتارةً يُهدده. ومنذ ۲۷ ديسمبر ١٨٦٦م عند ما ذهب ديرفيو والقنصل الفرنسي أوتري إلى القاهرة للحصول على رد إسماعيل؛ إلى يناير ثم فبراير سنة ١٨٦٧م؛ لم يغادر ديرفيو العاصمة. وفي ١٦ يناير وافق رجب باشا وزير الشئون الخارجية باسم الخديوي على إعادة تنفيذ اتفاق أغسطس ١٨٦٦م، وأن يدفع لديرفيو وشركاه تعويضًا إضافيًّا قدره ١٠٠ ألف جنيه. ومن قبيل المصادفة، أن هذا المبلغ هو نصيب إسماعيل في الشركة. وهكذا، فبينما يُصفي ديرفيو شركته في ٢٠ يونيو ويسدد لشركائه مالهم، فإن إسماعيل لا يحصل على شيء بالفعل.

وتركت هذه الاتفاقية «في المبادئ» كلَّ التفاصيل لتُحسم بعد ذلك، وعددًا من الخلافات الفرعية أيضًا، وبعد ذلك تأتي مشكلة الدفع. وفي نفس الوقت كان، ديرفيو يستعد في نشاط لتنظيم بنك جديد. كتب إلى أندريه في ١٨ فبراير سنة ١٨٦٧م يقول: «إن استمرار أعمالنا سيتكفل به مسيو أميك، ابن أخت جالو، وهو المدير المسئول بالإضافة إلى مسيو مونشكور الشريك الحالي لأخي. ونرجو أن نستطيع أن نُقدِّم لهم مليون و٥٠٠ ألف إلى مليوني فرنك. وسيقتصر عملهم بالتأكيد على الأعمال المصرفية وأعمال السمسرة والصفقات التجارية بعمولة. وأرجو أن تكون راغبًا في تقديم الثقة والمساعدة اللتين منحتهما لنا. وأنهم يستحقون هذا من جميع الوجوه.»

وكان لدى ديرفيو خططٌ مماثلة لشركة شقيقه؛ إذ تقفل الشركة فرعها في الإسكندرية، وتُعيد تنظيم مكاتبها في باريس. وفي نفس الوقت كان ديرفيو يساعد هذه الشركة على أن تنهي أعمالها بفتح أرصدة متتالية لها مع بنك ماركوارد عن طريق كل تسديدٍ يتم من جانب الخزانة المصرية.

أما عن نفسه، فقد استعدَّ ديرفيو لاعتزال العمل «لست طموحًا، وسأكتفي بالمساعدة التي أستطيع أن أعطيها للشركتين في الإسكندرية وباريس.» ومع ذلك ظل يأمل أن يتدخل من حين لآخر في أعمال الخديوي المالية «سأعود إلى مصر كثيرًا لقضاء الشتاء فيها، وهناك ما يجعلني أعتقد أن علاقاتي الشخصية بالخديوي ستعود من جديد إلى سابق عهدها بالصورة التي تعطي أرباحًا أكثر، لا لي فحسب وإنما على وجه الخصوص للشركتين اللتين أنظمهما.»

وحل مارس محل فبراير ثم أبريل ثم مايو. وفي ٧ مايو سنة ١٨٦٦م نفذت الحكومة المصرية وعدها في يناير ودفعت لبنك ديرفيو وشركاه ٢٥٠٠٠٠٠ فرنك عن أسهم في الشركة الزراعية، ١٤٠٠٠٠٠ فرنك عن أرصدة في نفس الشركة، ١٥٠٠٠٠٠ فرنك تعويضًا إضافيًّا عن خسارات شتَّى. وفي مقابل ذلك أُعفي بنك ديرفيو وشركاه من التزامهما بمنح عقود أشغال عامة تبلغ ٤٠ مليون فرنك للشركة المساهمة التي لم ينجح ديرفيو في إنشائها. وهذا ما سُمي في مصر آنذاك بفترة «التعويض».

•••

وفي ١٨ مايو سنة ١٨٦٧م كتب ديرفيو إلى أندريه، ومن خلاله إلى كل شُركائه في باريس، يعلن أن الحكومة دفعت حسب الاتفاق، ويدعو إلى اجتماع للمؤسسين في الإسكندرية في ١٧ يونيو لمناقشة التصفية القادمة، وبين المسائل الموضوعة أمام المجتمعين كان هناك:

  • (١)

    … ما إذا كان بعضهم (من بين المقيمين في مصر) لا يُعطى جزءًا من أمواله بغرض استعادة الاستفادة منه. وتقدم التقديراتُ الموضوعة بعضَ الفرص للمضاربة.

  • (٢)

    … ما إذا كان من المناسب إنشاء شركة جديدة، إما شركة مساهمة أو شركة محدودة، للانتفاع بأقصى ما يمكن من حساب التصفية وللاستفادة من عملاء الشركة القديمة.

ولسنا نعرف استجابة المساهمين في الإسكندرية للاقتراح الأول، فالأرجح أن أحدًا منهم لم يكن يودُّ أن يُقحِم نفسه في هذا النوع من المضاربة. وكما تبيَّن بعد ذلك، لم تكن تصفية الشركة أمرًا سهلًا كما توقع ديرفيو على الرغم من هدية إسماعيل التي بلغت ٦٤٠٠٠٠٠ فرنك، أي حوالي ثُلثَي رأس المال كله. وكان جزء كبير من أموال البنك مجمدًا في أراضٍ ومصانع وأشياء أخرى ليست أوراقًا مالية. وبدلًا من الانتهاء قبل الموعد المحدد في يونيو سنة ١٨٦٧م كان ديرفيو ما زال يُصفي أعماله بعد ذلك بعامين. أما اﻟ ٪۱۰ فائدة التي وعد بها شركاءه (رفع ديرفيو هذا التقدير إلى ١٦٪ في خطاب بتاريخ ١٩ مايو سنة ١٨٦٧م) فلم يتحقق منه شيء. وفي النهاية استرد حمَلةُ الأسهم أموالهم وحمدوا الله على ذلك.

إن ديرفيو كان يُضيع وقته عند ما اقترح على أندريه الاقتراح الثاني. وفي ۲۸ مايو (ربما كان خطاب ديرفيو في الثامن عشر قد وصل في التو) كتب أندريه بسرعة إلى ت. ن. أنسلين، المستشار العام للقنصلية الهولندية بالإسكندرية، يطلب منه أن يمثل بنك ماركوارد في التصفية. لاحظ أن هذا هو نفس الشخص الذي كان مراقبًا للشركة الزراعية، والذي أدان ديرفيو عجزَه الفاضح في خطاب إلى باريس؛ ومن الواضح أن أندريه لم يكن يعبأ كثيرًا بآراء صديقه. كتب أندريه إلى أنسلين مؤكدًا «إننا نود أن تتم التصفية في أسرع وقت، ولسنا نرغب في الاحتفاظ بأي مصالح في الشركة الجديدة التي قد تُنظَّم بهدف الاستمرار في أعمال ديرفيو وشركاه. وهكذا، فعليك، فيما يتعلق بنا، أن تستخدم نفوذك وصوتك؛ لتضمن سداد مبالغنا بطريقة فورية وبسيطة ونافعة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤