الفصل الثالث

فيضان على ضفاف النيل

في مرحلة الستينيات من القرن التاسع عشر قامت حربٌ أهلية طويلة في أمريكا، وكان لا بد من توقعها، وإن لم يرد أحد أن يواجه هذا التقدير. وأوقفت بضربة واحدة معظم إمدادات القطن عن العالم، وعطلت أكبر الصناعات الإنتاجية، وحولت زغب الخيوط البيضاء إلى ذهب.

ولقد وصلت المجاعة ببطء إلى مصانع مانشستر وروان وفلاندرز والألزاس. وكانت الولايات المتحدة في عام ١٨٦٠م تمد أوروبا بخمسة أسداس ما تحتاج إليه من القطن. وفي ذلك العام كان المحصول رائعًا، وشعر تجار نيو أورليانز بقرب وقوع الحرب، فأسرعوا بتصدير القطن إلى الأسواق فيما وراء البحار، وزادت سرعة التصدير بعد معركة «فورت سومتر». وفي الفترة ما بين يناير وأغسطس عام ١٨٦١م وصل إلى أوروبا ما ينوف على ثلاثة ملايين بالة علاوة على الكميات التي كانت مخزونة، وفي الشهور التالية لم يكن قد شعر ببدء الأزمة إلا عددٌ قليل من أصحاب المصانع. وقد أدى ضعف الحصار الذي فرضه الإنجليز حول مواني الجنوب إلى اقتناع أصحاب المصانع بأن مخاوفهم من الحرب كانت مبالغًا فيها.

ولم يكد يحل عيد الميلاد حتى تغير الموقف. فلم يكن هناك نقص بعد، ولكن الكميات الجديدة الواردة من القطن كانت قليلة، واحتمال أن تطول الحرب في الولايات المتحدة لم يدَع أملًا في تحسن سريع. وارتفع سعر القطن، الذي ظل ثابتًا عند بنس للرطل في النصف الأول من عام ١٨٦١م إلى ١٢ بنسًا في أكتوبر من هذا العام، وبعد شيء من التردد قفز السعر بشكل ملحوظ خلال صيف عام ١٨٦٢م، وفي نهاية أغسطس وصل السعر إلى: بنس للرطل، وقد سيطر المضاربون على البورصة وأخذوا يبيعون ثم يعيدون البيع (أحيانًا خمسين مرة) في قطن لم يغادر المخازن للتسليم أبدًا. واشتدت الأزمة في لانكشَير، وأقفلت المصانع وأخذ آلاف من الرجال والنساء يجوبون الشوارع. وبينما نُظمت اللجان للعناية بالجياع، وضربت العائلة المالكة المثل بالمساهمة في إغاثة البؤساء، كان البحارة ينهبون السفن ليبيعوا الغِلال في السوق السوداء بسعر شلن للرطل. وفي فرنسا، حيث ارتبطت هيبة الإمبراطورية واستقرارها بالدفاع عن معاهدة تجارية مكروهة شعبيًّا مع بريطانيا، كانت فكرة الكساد في حد ذاتها شيئًا هدَّامًا. ولما أصبح النقص في القطن حادًّا قيل إن نابليون الثالث كان مستعدًّا إذا دعت الحاجة لوقف الحرب.

وقد استخدم أصحاب مصانع القطن (الذين كانوا في خسارة يومية) كل مهارتهم للحد من الشلل، فقاموا بعمل منسوجات رفيعة — ولأول مرة منذ عهد نابليون الكبير أصبح الموسلين الخفيف هو الموضة — وقاموا بعمل خليط مدهش من خيوط القطن والصوف أو الكتان لكي يحولوا جزءًا من العبء إلى المنسوجات الأخرى. وتعلموا تقوية خيوط القطن بواسطة الدقيق أو النِّشا، الشيء الذي جعل وزن المصنوعات يزداد بحوالي النصف. وكل ذلك لم يؤدِّ إلى النتيجة المطلوبة، فلم يكن هناك ما يكفي من القطن. وإذا كانت أمريكا لا تستطيع أن تُمِدَّ أوروبا باحتياجاتها منه، فلا بد من العثور على مكان آخر يستطيع ذلك.

إن الأماكن الصالحة لزراعة القطن على النطاق التجاري قليلة في العالم. وفي فترة ١٨٦٠م كانت الإمكانية العملية تتركز في مصر والهند. وذلك بالرغم من القُوى الصناعية كانت على استعداد، في محاولة يائسة، لأن تجرب أي مكان — إسبانيا، أستراليا، حتى جزائر فيجي — أما الهند فكانت أكثر أهمية من مصر من زاوية الكم؛ إذ كانت في عام ١٨٦٠م تصدر من القطن إلى إنجلترا فقط ما يعادل المحصول المصري كله. ولكن لسوء الحظ كانت تيلة القطن الهندي من القِصَر بحيث دعت إلى تغيير معظم آلات النسيج في أوروبا حتى تلائم هذه التيلة، هذا علاوة على أن القطن الهندي كان رديئًا لدرجة أن كلمة «سورات» كانت تعني الإنتاج الرخيص الرديء.

إن التيلة القصيرة هي من عمل الطبيعة، ولا يمكن إصلاحها إلا بمرور الوقت، أما الرداءة فكانت من عمل الإنسان، ولذلك فهي قابلة للتحسين السريع، إلا أن المقاومة العنيدة من جانب الوسطاء الهنود للأفكار الغربية عن الأمانة في التجارة والتعامل الحسن؛ كانت عقبة قوية، شأنها شأن العوامل الجغرافية. ولذلك ظلت الحالة المنحطة للمحصول الهندي رادعًا أساسيًّا عن استعماله خلال فترة رواج القطن. ولقد كان شراء القطن من بومباي عام ١٨٦٠م أمرًا يثير الضيق. فالبائع مصمم على الغش والمشتري أيضًا مصمم على منعه. وبينما كان السمسار الأوروبي بتكوينه الرقيق وكرامته المرهفة يقف بعيدًا ويحاول، بمساعدة خدَم محليين، الحصول على بضاعة نقية من نوع واحد، كان التاجر الهندي يقف علنًا ينادي على بضاعته وينافق بالكلام المعسول ويظهر أفضل القطن من بالات مخلوطة، ويستبعد بالة رديئة ليضع أختها محلها.

وباختصار كان التاجر الهندي يُظهِر صبر القديس ليبيع بضاعة اللص، وفي النهاية يغلب التعب المشتري ويقرر شراء قطن أفضل قليلًا من الذي رفضه في أول الأمر، قطن مليء بالشوائب بقدر ما يستطيع أن يحمِل، ومع ذلك يسمونه قطنًا.

لهذه الأسباب كانت الحاجة إلى القطن الهندي مُلِحة في سنوات العجز إلى الدرجة التي أهملت فيها اعتبارات النوع. وارتفعت الأسعار بدرجة كبيرة، وعاشت البلاد فترة من الرخاء والمضاربة، يمكن مقارنة درجتها بأكثر فترات الرواج في تاريخ التجارة. ومع ذلك، فقد ظل هذا الرواج سطحيًّا، وبقيت أسس الزراعة الهندية كما هي. لقد زادت صادرات الهند إلى أوروبا على حساب الاستهلاك المحلي فقط، وبقيت تكلفة الإنتاج عند مستوًى لا يسمح بمنافسة القطن الأمريكي في السوق العادية.

إن المشكلة كانت في الواقع اجتماعية بقدر ما هي اقتصادية. فالأساليب الزراعية للفلاح الهندي أوليَّة إلى حدٍّ محزن، ولم يكن لديه الدافع إلى تحسينها، ولا وسيلة هذا التحسين. وإذ كان يعاني من أعباء الإيجار والضرائب إلى حد عيشة الكفاف كان من الطبيعي أن تشغل زراعة الحبوب اهتمامه ليأكل أكثر من زراعة القطن ليبيع. والذين كانوا يزرعون القطن كانوا يفعلون ذلك بمساعدة المرابين والتجار الذين كانوا يقدمون رأس المال والبذرة، وهم غالبًا ما يملكون المحصول قبل البذر.

والأكثر من ذلك، فإن المرابي الذي كان يحدد سعر المحصول مقدمًا لم يكن يكتفي بأخذ كل أرباح الرواج لنفسه، بل كان يفضل التضحية بإمكانيات تحقيق أرباح أكبر على أن يرفع سعر الشراء التقليدي عن الفلاح، فينخفض بذلك معدل الربح.

وفي مواجهة هذا الخليط من التقاليد العمياء والتنفيذ المعكوس وقف رجل الأعمال الإنجليزي لا يحرك ساكنًا. وتساءل البعض: هل هذا مكان لا تنطبق فيه قوانين العرض والطلب؟ كتبت مجلة الإيكونومست تعلق على ذلك، قائلة: «إن هناك صعوبات غير عادية تنشأ من حالة المجتمع الغريبة، وهذه الصعوبات تقاوم الأثر الطبيعي لدوافع الفعل الإنساني.»

وأسوأ من ذلك، فقد وجد التجار الأوروبيون أنه يستحيل عليهم أن يتدخلوا ويقدموا الائتمان بشروط أفضل. فالمعارضة القوية من المرابين المحليين والمقاومة السلبية من جانب الفلاح الهندي (الذي كان شكه في التغيير وخوفه من المرابي أقوى من رغبته في الربح) قد خلقت عقبات لا يسهل التغلب عليها. كذلك لم يكن المزارعون الأوروبيون على استعداد للتدخل ليحلوا محل الزُّراع الهنود، فقد أدى الغموض والتخبط في قانون الملكية الهندي إلى عدم تشجيع الاستثمار الأجنبي للأرض، وعلاوة على ذلك فقد كان من الأسهل كسب المال — من خلال أعمال الوساطة — باستثمارات صغيرة بدلًا من استخدام مبالغ كبيرة في أعمال الزراعة غير المأمونة، التي تتطلب اتفاقًا كبيرًا. ومع خوف أصحاب مصانع النسيج في لانكشَير من المخاطرة بأموالهم في تحسين وزيادة محصول الشرق، وتصميم الحكومة البريطانية على مبدأ عدم التدفق في التدخل الطبيعي لرأس المال المستثمَر، ظل القطن الهندي على حاله وضاعت فرصة لا تُعوَّض في آلاف السنين.

ولقد كان لمصر — مثل الهند — تاريخ طويل في زراعة القطن. وصحيح أن إنتاج وادي النيل صغير، إذا قيس بمحصول البنجاب والبنغال، إلا أن ما يعوض ذلك جزئيًّا هو طول تيلة القطن «الجميل» المصري الممتاز، ويعتبر الثاني في الجودة في العالم كله بعد القطن الأمريكي، في صناعة المنسوجات الدقيقة.

ومن ناحية أخرى فإن عناصر الضعف التي كانت تعوق كل المجهودات لتحسين القطن الهندي كانت قائمة في مصر أيضًا. فقد كان الفلاح المصري يشبه الفلاح الهندي تمامًا في جهله وفقره وبدائيته والإصرار على هذه البدائية. بل إن وجود مَلَكية مُتنوِّرة في مصر (عشرة في المائة تنوُّر والباقي استبداد) تضرب المثل في الزراعة الناجحة وتفرض التغيير على جماهير الفلاحين لم يكن إلا عبئًا في غالب الأمر. ففي ظل الملكيات المستبدة لا تتطابق دائمًا المصالح الاقتصادية البعيدة والقريبة، ولا تكون السلطة دائمًا مصحوبة بالفهم ولا النوايا الطيبة بالحكم الصائب.

وهكذا، فإن محمد علي — مؤسس الأسرة الخديوية، وأبو مصر الحديثة، والذي أدخل زراعة قطن الجميل — كان يَعتبر أن القطن معناه الدخل. ولقد كانت الزيادة في الدخل التي حققها المحصول الجديد هي التي مكَّنته أن ينشئ الجيش والأسطول المصري، وينتزع بالقوة من القسطنطينية وراثة أسرته للعرش. وعلى ضوء هذه الأهداف السياسية اندفع محمد علي في زراعة القطن اندفاعًا سريعًا. وفعل التوجيه النشيط من أعلى فعل السحر. فبعد ثلاث سنوات من إدخال زراعته عام ١٨٢٠م ارتفع إنتاج الجميل من ٦٥٠ رطلًا إلى أكثر من ١٨ مليون رطل، متفوقًا بذلك على كل الأنواع الأخرى القديمة. وقد سَرَّ المستوردين الأوروبيين نوعُ التيلة الجديدة التي اكتسبت لنفسها مركزًا ممتازًا في سوقَي ليفربول والهافر.

إلا أن جهود محمد علي لزيادة دخله من القطن أثبتت فشلها في المدى الطويل. وإذ كان محمد علي غير قانع بالدخل الضريبي الذي يأتي به النظام التقليدي لإيجار الأرض، قام بانتزاع الأراضي من الملاك الذين كانوا يقفون بينه وبين الفلاح، وتم ذلك قبل إدخال زراعة القطن. وتحولت كل مصر تقريبًا إلى مزرعة حكومية كبيرة وتحول الفلاح إلى وضع القِن. فقد كان يبذر ما يؤمر به وفي الوقت الذي يؤمر به، ثم يقدم ما يحصده إلى الحكومة. ولم يكن في استطاعته أن يبيع محصوله، ولكنه كان يُجبر على أن يقدم محصوله للدولة بالأسعار التي يفرضونها عليه، والتي لم تكن تغطي غالبًا ما يُفرض عليه من ضرائب. وإذا استطاع الفلاح — عن طريق التحايل أو المهارة أو القوة الإنسانية الخارقة في الاقتصاد، أو أي شيء آخر — أن ينجح في تسليم كميات زائدة، كانوا لا يدفعون له نقدًا، ولكن بالأجل مقابل الضرائب المستقبلة. ولم يكن متوقعًا أن تستمر مثل هذه الحسابات النادرة طويلًا، وهي التي يمكن أن تسبب ارتباك أي محاسب لغرابتها. واستُخدِمت طرق عبقرية لتجميد أموال الفلاحين؛ إذ أصبح كل فلاح مسئولًا عن ضرائب كل جيرانه في القرية، وأصبحت كل قرية مسئولة عن ضرائب القُرى المجاورة لها في المنطقة، وكل منطقة مسئولة عن ضرائب المناطق الأخرى في المديرية. وبعد سنوات من التهريب والتأخر والاضطهاد والتهديد بالضرب بالسياط، عندما تصل القرية إلى نهاية مواردها وتنهار تحت أعباء الضرائب المفروضة عليها، وتلك المفروضة على جيرانها، كانت الدولة تصادر مواشي وآلات أهليها. ثم تحول الأرض — قسرًا في الغالب — إلى فلاح آخر مطلوب منه أن ينجح حيث فشلت الدولة، أو أن يدفع من جيبه الخاص. وبذلك تحول الزُّراع من مرتبة الأقنان دافعي الضرائب إلى مرتبة المشاركين في المحصول، أو العُمال الأُجَراء الذين يحصلون على أجور تجعلهم يعيشون بين سوء التغذية أو المجاعة.

ولقد برروا هذا النظام القاسي بالقول: إن الفلاح كسول، وإنه لن يعمل إلا بدافع الخوف من الجوع. ولا شك أن هناك نصيبًا كبيرًا من الحقيقة في ذلك. فاللامبالاة إزاء دوافع الادخار، إزاء الربح من أجل الربح، هو القاعدة العامة خارج نطاق جزء ضيق من المجتمع الغربي. ومن ناحية أخرى فقد كان بعض المراقبين الأذكياء بمصر في فترة ١٨٣٠م مقتنعين بأن الفلاح كان يحب المال كأي إنسان آخر، وأنه كان مستعدًّا للاستجابة لدوافع الربح كأي إنسان آخر.

وعلى أي حال فقد كان العلاج أسوأ من المرض. وصحيح أن الفلاح المصري صبور طويل المعاناة ومستعد للخضوع. إلا أن هذه الصفات نفسها تخلق فيه القدرة على العناد بلا حدود. ولقد حطم قِصر نظر محمد علي وتعطشه الشديد للمال الدوافعَ عند هؤلاء الذين تبنَّوا زراعة قطن الجميل مؤمِّلين تحقيق دخل أكبر، وأكد عناد غالبية الفلاحين الذين عارضوا زراعة القطن من البداية. وبضياع كل فرصة في الحصول على الربح كان الفلاح ينحني ببساطة لأسياده وينفذ شكليًّا ما يطلبون، ولقد هرب كثير من الفلاحين إلى القرى الأخرى أو المدن، فقد كانت السرقة أو الشحاذة أفضل من العمل في الحقل والكرباج.

ولقد اشتدَّ الهرب من الأرض بسبب السياسة العسكرية للباشا. فللمرة الأولى منذ عهد الفراعنة كان الفلاح مجبرًا على أن يكون جنديًّا. فقد كان جيش محمد علي في قمة معاركه الحربية يضم ۱۲۷۰۰۰ من الجنود النظاميين و٤٢٠٠٠ من جنود الاحتياط عندما كان مجموع السكان حوالي مليونين. ولقد تهرب ألوف من الجُندية ببتر بعض أعضاء الجسم، وهرب آخرون إلى المدن وإلى سوريا، بل وحتى الصحراء. (وقد كان العزاء الوحيد لأشد الفلاحين فقرًا هو عائلته، وتحرره من السيطرة المباشرة ومن الاعتقال والثكنات والمصانع)، أما أولئك الذين لم يهربوا، بما في ذلك المشوهون، فقد كانوا مطالبين أن يقوموا بالعمل، وأن يدفعوا الضرائب نيابة عن الهاربين؛ إذ لم يكن الهرب غير القانوني أو الجندية يصلح أساسًا للإعفاء من الالتزامات المالية إزاء المجتمع.

لذلك فقد أعقب الدفعة القوية غير العادية لإنتاج قطن الجميل في سنواته الأولى عشرات السنوات من التذبذب العنيف. وانهار نوع المحصول، وكذلك انهار السعر في أوروبا بشدة. ولم تؤدِّ الجهود التي بذلها محمد علي، لزيادة الدخل المنهار بزيادة الرقعة المخصَّصة لزراعة القطن وخفض أجور الفلاحين؛ إلا إلى زيادة مقاومتهم، وتدهور متزايد في المحصول. وفي السنوات الأخيرة من حكمه، ١٨٤٥م إلى ١٨٤٨م، كان المحصول السنوي في المتوسط حوالي ۲۳۰۰۰۰ هندروديت، وهو لا يختلف كثيرًا عن محصول منتصف فترة العشرينيات.

وبموت محمد علي عام ١٨٤٩م بدأت فترة جديدة من النهوض بمحصول القطن. فلم يكن لدى عباس (١٨٤٩–١٨٥٤م) طموح سلفه أو أحلامه. وإذ تخلى عباس عن مشروعات جَدِّه الباهظة التكاليف، وخفَّض قوات الجيش والبحرية إلى جزء من حجمها السابق؛ استطاع أن يخفض العبء المالي على الفلاحين، وأن يعيد عشرات الألوف من الرجال إلى الأرض. وارتفع محصول القطن من ١١٩٩٦٥ هندروديت عام ١٨٤٨م إلى ٦٧٠١٢٩ عام ١٨٥٢م، واستقر في حدود نصف مليون بقية العقد.

ويرجع إلى سعيد (١٨٥٤–١٨٦٣م) — عم عباس وابن محمد علي — الفضل في تحويل الزراعة من الشكل الحكومي إلى الزراعة الحرة نسبيًّا، ومن نظام السوق المقفلة إلى نظام السوق المفتوحة للقطن. ومن الصعب تبيُّن ظروف هذا التحول؛ إذ إن المصادر الأوروبية تميل من ناحية إلى الخلط بين السياسة غير الرسمية والاصلاحات الدستورية، ومن ناحية أخرى كان أغلب هذه المصادر — وعلى وجه الخصوص الفرنسيون — صاحبة مصلحة في تقديم سعيد وعهده في أجمل صورة. لقد تركوا لنا صورة أُعدت لمساتها الأخيرة بعناية، عن سعيد «المجدد والمحوِّل العظيم».

ومع ذلك، فإن النتائج تبدو واضحة. وتحت تأثير اقتناعه جزئيًّا وتأثير ضغط الأجانب من الأوروبيين عليه، سمح سعيد للتجار الأجانب أن يتعاملوا مباشرة مع ملاك الأرض والفلاحين — نظريًّا وواقعيًّا — وبالتالي سمح للفلاحين بأن يزرعوا ويشتروا ويبيعوا ما لهم وأينما شاءوا. وأخيرًا أُلغي مبدأ التضامن في تحمل الضرائب، وأُلغيت الديون المتأخرة على الفلاحين، التي أصبح من المستحيل دفعها. وكانت النتيجة هي زيادة العائد من الزراعة المعتنى بها، وفتح الأبواب القوية في الربح في المستقبل.

وعندما حلت مجاعة القطن العالمية كانت الزراعة المصرية مستعدةً لها.

•••

ومن زاوية أوسع فإن نمو مصر كمركز لزراعة القطن لم يكن إلا جانبًا واحدًا من جوانب نهضةٍ قومية، واستيقاظ عظيم من نوم قرون. وعندما رسا نابليون بسفنه عام ١٧٩٨م عند مصب النيل لم يجد غير قشور المدنية، غير شعب مقيد وبقايا ماضٍ طويل عَفَا عليه النسيان. ولقد كان الماضي منسيًّا إلى حد أن زعم البعض أنه عندما أنزل نابليون عربته إلى الشاطئ كان يدخل العجلة من جديد في مصر. ليس هذا فحسب، بل إنه أدخل السياسيين ورجال الأعمال الغربيين من جديد في مصر.

وفي ذلك كان نابليون بلا شك يُمهد لما كان من المحتم أن يقع. فامتصاص مصر في دائرة المنافسات السياسية والاقتصادية الأوروبية كان أمرًا متضَمَّنًا في الطبيعة العدوانية التوسعية للتكنولوجيا والتجارة الغربية، والعزلة الطويلة التي أعقبت اكتشاف البرتغال للطريق البحري إلى الهند كانت مستحيلة في عصر التجار والرأسمالية المالية.

ومن سخريات القدر أن يكون ضَعف المراكب البخارية الأولى هو الذي جعل مصر محور الطرق التجارية في العهد الجديد. فالبخار كان عاجزًا عن منافسة الشراع في الطريق الطويل حول رأس الرجاء الصالح في الأيام الأولى من استخدام الغلايات ذات الضغط المنخفض، والمراوح التي تُدار بالبدَّال. ولكن المراكب البخارية استخدمت بنجاح عظيم في الرحلات القصيرة في البحر الأبيض المتوسط والخليج الفارسي. ولم يكن الزمن الذي توفِّره الرحلة البخارية متكافئًا مع تكاليفها، إلا إذا كانت السلع غالية الثمن بالنسبة لوزنها. وعلاوة على ذلك، فقد كانت هناك دائمًا إمكانية إيجاد طريق سكة حديدية أو قناة لربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط.

وفي عام ١٨٣٠م وضعت شركة الهند الشرقية خطًّا للبواخر بين الهند والسويس ليتصل عند الإسكندرية بالمراكب الأخرى الآتية من إنجلترا. وفي عام ١٨٣٤م كان الخطان يعملان، يربطهما نظام دقيق للنقل البحري. وفي خلال العقد التالي دخلت الميدان أربع شركات من شركات البواخر، وانخفضت مدة الرحلة من إنجلترا إلى الإسكندرية من أربعين إلى أربعة عشر يومًا. أما الرحلة البرية التي كانت مرهِقة وغير مريحة وخطرة، والتي كانت تحتاج ما بين خمسة أيام وثمانية عشر يومًا فقد انخفضت مدتها تدريجيًّا إلى ثلاثة أيام. وأُحضرت الجرارات البخارية لكي تسحب حاملات الركاب من الإسكندرية عبر ترعة المحمودية إلى رأس الدلتا. وفي عام ١٨٤١م بدأت أول مركب بخارية، جاك أولانترن، رحلتها بين المحمودية والقاهرة، واستُصلح الطريق الصحراوي من القاهرة إلى السويس ليسمح باستخدام العربات، وقد سهلت الفنادق الجديدة ومحطات الطريق، على الرغم من بدائيتها، على المسافر الأوروبي احتمال مشقة الرحلة. وأصبح طريق البحر الأبيض المتوسط كله من لندن إلى بومباي يستغرق أربعين يومًا مقابل أربعة أشهر بالمراكب الشراعية حول رأس الرجاء الصالح. وهكذا ازدادت رحلات خط البحر الأبيض بشكل هائل. فبينما كان عدد المسافرين بهذا الطريق ٢٧٥ في عام ١٨٤٤م ازداد هذا الرقم إلى ٢١٠٠ في العام التالي، ووصل إلى ٣٠٠٠ عام ١٨٤٧م.

ولقد تم معظم هذا التحسُّن بفضل التعاون النشيط من جانب محمد علي الذي استهدف أن يجعل مصر دولة قوية، فشجع كل الجهود لإدخال كل تكنيكات الحضارة الغربية. وقد أحضر بنفسه أخصائيين من أوروبا لينظموا ويوجهوا برنامج الدولة في التجديد. وكان الفرنسيون، على وجه الخصوص، ظاهرين في هذا المجال. فتول كولونيل سيف (أحد المحاربين القدماء في معارك نابليون) إنشاء وتدريب الجيش المصري، وتولى بيسون وسيرسي إنشاء البحرية، ونظم كلوت المدارس الطبية الأولى، ووضع لينانت وموجل وآخرون تصميم قناطر الدلتا، وهو سد على النيل يمكن بواسطته ري أكثر مناطق مصر خصوبة على مدار السنة، وساهموا كثيرًا في إحياء شبكة قنوات الري والمصارف، وحسنوا تسهيلات المواني في الإسكندرية والسويس. وإلى هذه المساهمات في نهضة مصر في أوائل القرن التاسع عشر تعود دعوى الفرنسيين التقليدية والمعادة دائمًا بشأن قيادتهم الروحية لمصر.

أما عباس فكان أقل مَيلًا لهذه المشاريع التي كانت خزانة مصر تنوء بعبئها، فطرد أغلب الفنيين الأوروبيين الذين أحضرهم محمد علي وتخلَّى عن عدد من المشاريع الهندسية، بما في ذلك قناطر النيل. وأغلق المدارس المهنية التي أنشأها سلفه. وبالإضافة إلى ذلك، فقد عارض عباس دائمًا محاولات رجال الأعمال الغربيين لتوسيع ميدان نشاطهم في مصر. ومع ذلك، فعلينا أن نتذكر أن برنامج عباس في التوفير والتمصير لم يكُن بالعنف الذي صوره السياسيون والمؤرخون الغربيون. فقد شهدت السنوات الأخيرة لعهد محمد علي بداية التقهقُر عن الخطط الطموحة التي تجلت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن. لقد أغلقت مثلًا بعض المدارس في أواخر عهد محمد علي، ولقد مضى عباس ببساطة في نفس هذا الاتجاه. ولم يكن عباس أيضًا يصدر في عمله — كما صوره التاريخ — عن مجرد عن مجرد التعصب، مع الاعتراف بأن خبرته في تدخل الأجانب في شئون السيادة المصرية قد جعلته شديد الاستياء من النفوذ الغربي حتى قبل توليه الحكم.

ففي التحليل النهائي كانت المصلحة الذاتية تتقدم على العاطفة، ولم يكن لعباس شاغل طوال حكمه غير المحافظة على استقلال مصر. ولهذا الهدف حاول أن يضمن تأييد إنجلترا … ولقد أدت جهود فرنسا لاستخدام تركيا لإعادة التوازن إلى تقوية الروابط مع الدولة التي كان يشعر أنها القوة الكبرى. وفي عام ١٨٥٤م دعا عباس روبرت استيفِنسون لإنشاء أول خط حديدي مصري من الإسكندرية إلى القاهرة.

وكان سعيد — خليفة عباس — على العكس من ابن أخيه الانعزالي العبوس في جميع النواحي. كان سعيد ودودًا يتظاهر بالثقافة، وقد تعلم من أساتذته الإعجاب بالحياة الغربية. والحقيقة أنه أحب هذه الحياة أكثر من اللازم. فقد كان يقبل اقتراحات أصدقائه الأوروبيين بلا حذر، وأخذ على عاتقه أكثر مما يستطيع، هو أو مصر، تحمله. وبعض مشروعاته لم تثمر أبدًا، والبعض الآخر تم في عهد خليفته إسماعيل. ومع ذلك فإن عهده كان يتميز بالعودة إلى التمدُّن الغربي الذي شجعه محمد علي.

وفي عام ١٨٥٤م حل التلغراف الكهربائي محل السيمافور على طول الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة، وفي عام ١٨٦٢م اتصلت أفريقيا بأوروبا بالبرق عن طريق القسطنطينية ومالطة. واستُكمل خط السكة الحديدية من الإسكندرية إلى القاهرة الذي بدأ في عهد عباس في عام ١٨٥٦م، وفي فترة ١٨٥٦–١٨٥٨م أُنشئ خط آخر من القاهرة إلى السويس، فاستُكمل بذلك الاتصال البري بين أوروبا والهند، وبلغ طول هذا الخط الحديدي ٢٤٥ ميلًا من القضبان الحديثة، وإن كان لهذا الخط من الناحية التجارية والسياسية أهمية تفوق طوله. وفي الوقت نفسه عمل سعيد على تحسين شوارع الإسكندرية؛ إذ إن الطرق غير الممهدة ووسائل النقل الأولية جعلت المسافة القصيرة من المركب إلى محطة السكة الحديد أبهظ في تكاليفها من آلاف الأميال من المياه التي تفصل مصر عن أوروبا.

ولم يُهمِل سعيد مسألة النقل المائي، فقد عمَّق وطهر المحمودية، وهي الترعة الحيوية الرئيسية التي تربط النيل بميناء الإسكندرية؛ لقد كانت من السوء بحيث أعيد إنشاؤها تقريبًا. وأصلح ووسَّع ميناء السويس، كما قام بإنشاء وتمويل شركة تتولى تسيير القوارب التجارية في النيل من ترعة المحمودية، وشجع شركة البواخر المَجيدية على العمل في البحر الأحمر وشرق البحر الأبيض المتوسط. وأهم من ذلك كله، فقد كان سعيد هو الذي منح فرناند دي ليسبس الامتياز لحفر قناة السويس.

ولقد تعرضنا من قبل لأهمية إصلاحه الضريبي وتخفيفه سيطرة الدولة في الريف بالنسبة للزراعة؛ إلا أن جهوده لإحلال الحوافز الإيجابية على التحسين المادي — عند الفلاح — بعد رفع القيود كانت أقل نجاحًا. فقد استخدم عمل ألوف الفلاحين وثروات ضخمة لإتمام القناطر الخيرية، ولكن أغلب المال والرجال تحول إلى عملية تقوية المنطقة وعمليات أخرى غير ضرورية، إلى درجة أنه في نهاية عهد سعيد عام ١٨٦٢م كان السد ما زال عديم الفائدة. ومع ذلك فبفضل بعض أقارب سعيد — الذين يبدو أنهم عوضوا الحجر السياسي المفروض عليهم بمشاريع زراعية — عرفت الزراعة المصرية طلمبات الري البخارية والمحاريث البخارية وأنشئت المزارع النموذجية واتسعت المحالج واستحضر الأخصائيون الأوروبيون لتعليم الفلاح الزراعة الجيدة.

وبواسطة هذا التشجيع ارتفع الإنتاج الزراعي، كما ارتفع التصدير، ليلبي الطلب المتزايد على الآلات والمنتجات الصناعية الأوروبية الأخرى. وفي خلال الخمس سنوات ١٨٥١/١٨٥٠م–١٨٥٥/١٨٥٤م بلغت صادرات مصر حوالي ٢٣٢٩٦٠٠٠ جنيه إنجليزي، وفي السنوات الخمس التالية كانت الصادرات ٣٩٥٤٢٠٠ جنيه إنجليزي. أما الواردات فقد ارتفعت من ١٩٨٥٦٠٠ ج.ك. إلى ٢٧٠٦٤٠٠ ج.ك. ومن خفايا الأسواق والمصادر التجارية الضعيفة ارتفعت مصر عام ١٨٥٠م إلى دولة تجارية ذات أهمية كبيرة، وهي إن لم تكن دولة من الدرجة الأولى، إلا أنها كانت تتقدم بسرعة.

وفي الوقت نفسه ازدهر طريق الملاحة في البحر الأبيض المتوسط إلى الهند، ولأول مرة منذ العصور الوسطى أصبحت الإسكندرية إحدى مواني العالم الهامة. إن هذه المدينة القديمة التي كانت تملك الميناء الوحيد في مصر حيث تستطيع ترسو المراكب البحرية الأوروبية قد نمت من مدينة صغيرة راكدة، سكانها حوالي ۱۰۰۰۰ وقت الغزو الفرنسي، إلى مدينة كبيرة مزدحمة بالسكان يبلغ تعدادها ١٥٠٠٠٠ حوالي عام ١٨٥٥م. ولقد فاق عدد السفن التي كانت تمر بها، وخاصة مواسم الازدحام التي تعقب الحصاد، كل إمكانيات الميناء، بل وحتى قدرة شعب يتزايد بهذه السرعة.

لقد كان الميناء يشبه غابة من الأشرعة والمداخن، وخليط من المراكب الشراعية والمراكب الصغيرة من مداخل وخلجان البحر الأبيض المتوسط، إلى المراكب ذات الصواري العالية والمراكب الشراعية الكبيرة من جِنوة وتريستا، إلى السفن الاسكتلندية، من المراكز التجارية القديمة في الشرق الأدنى، إلى السفن التجارية القوية من ليفربول ومرسيليا، إلى القوارب الصغيرة المصرية. وكانت أرصفة الميناء مزدحمة إلى درجة كبيرة؛ بالات القطن مكومة بدون نظام، صناديق الآلات، عفش المهاجرين، صناديق ملابس وأقمشة، صناديق الشاي، أكياس التوابل وجوالات الحبوب — كل منتجات وأمتعة الشرق والغرب تلتقي وتفترق عند مفترق طرق تجارة العالم — كل شيء مبعثر على الأرصفة والأرض الترابية يثقل السائقين وأصحاب العربات، الذين يحاولون دون جدوى، أن يجعلوا الحيوانات والرجال تقوم بما كان ينبغي أن تقوم به عربات النقل والأوناش.

وفي خلال أكثر من نصف قرن بقليل، تقدمت مصر شوطًا كبيرًا. فالدوامة الهادئة التي خلقتها قرون التاريخ قد التقت بتياره المتدفق، واندفعت لكي تعوض ما فاتها. وعندما جاءت مجاعة القطن كانت مصر قد أصبحت على أبواب ثورة اقتصادية.

من النادر ألا ترتبط الفُرص بالطموح، ولا الثروة بالشهرة، ولا الذهب بالجشع. ومع دخول محاسن ومساوئ التمدن الغربي في مصر دخلت أفضل وأسوأ عناصر أوروبا والبحر الأبيض: أصحاب البنوك والمرابون، التجار واللصوص، السماسرة الإنجليز الهادئون وتجار الشرق الأدنى الزئبقيون، موظفون لمكاتب الشركات الجديدة، وعاهرات في ميدان القنصلية في الإسكندرية، باحثون منقطعون لمعابد أبيدوس والكرنك، وقتلة ورجال أسرار في حواري القاهرة.

وعندما جاء نابليون إلى القاهرة عام ١٧٩٨م، كان هناك أقل من مائة أوروبي يقيمون في مصر، وأغلبهم تجار في مراكز مثل الإسكندرية ودمياط. وكان هؤلاء يعيشون في أحياء مغلقة؛ إذ المسيحي في مصر في عهد المماليك كان يعتبر مخلوقًا أقل درجة، منبوذًا لا يحتمل وجوده إلا على أساس عزلته. وعندما يخرج الكافر من حارته يعرِّض نفسه لإهانات المارة، الذين كانوا يعرفونه بسهولة من ملابسه المفروضة عليه، والحمار الذي كان يُفرض عليه ركوبه. وحتى إذا بقي في منزله كان معرَّضًا للتحقيق من السلطات، التي كانت تعتبر وجود الإفرنج مجرد تنازل من جانب المصريين الكُرماء. وفي السنوات التي سبقت الغزو الفرنسي كانت التجارة الأوروبية مع مصر تحتضر، وبدأت الشركات الغربية تغلق متاجرها وتنقل تجارتها إلى أماكن أكثر صداقة ومحبة.

وبعد عام ١٧٩٨م تغيرت الأحوال بالطبع. فلم يكد الغربي يثبت قوته الحربية حتى نُسيت «عيوبه» الدينية، وارتفع من المرتبة السفلى إلى رتبة مساواة المسلم، بل وحتى التفوق عليه. وبدأ الود يعود بطيئًا في أول الأمر، ثم أخذ ينمو بسرعة بازدياد إنتاج القطن واتساع التجارة المصرية معه. وأصبحت الإسكندرية تضم عام ١٨٣٧م أكثر من سبعين شركة تجارية أجنبية، أغلبها من اليونان وفرنسا وإنجلترا والنمسا وإيطاليا والشرق الأدنى. وفي عام ١٨٢١م — أول عام لقطن الجميل — كان هناك بيت واحد إنجليزي لتجارة القطن في المدينة، وفي عام ١٨٣٧م كانت هناك تسعة بيوت، وفي عام ١٨٤٣م كان أكثر من مائة مواطن إنجليزي يقيمون بصفة دائمة في المدينة.

ولقد جاءت السنوات الأخيرة لعهد محمد علي بما فيها من ضغط للنفقات، ثم معاداة عباس للغرب فعكست هذا الاتجاه مؤقتًا. فقد غادر البلاد أغلب الفنيين الأوروبيين إما اختيارًا أو بالأمر، وحتى رجال الأعمال (الذين كان اهتمامهم بمصر يزداد، والذين كان نشاطهم محل حماية قنصلياتهم) تخوفوا من عداء الباشا. ولكن عهد سعيد أزال هذا الشبح المخيف. وبمجرد سماع خبر موت عباس جاء من كل بقاع أوروبا المحتالون والباحثون عن الذهب، وتدفقوا بأعداد هائلة كما لو كانت مصر كاليفورنيا جديدة. وفي الفترة ما بين عامي ١٨٥٧م و١٨٦١م دخل البلاد حوالي ٣٠٠٠٠ أجنبي كل عام.

ومع ذلك فقد كان إنشاء قناة السويس ورواج القطن هما العاملان اللذان ترابطا فجعلا من هذا التيار إعصارًا. وفي عام ١٨٦٢م، دخل مصر ٣٢٠٠٠ أجنبي، بما في ذلك الزائرون، ثم ٣٤٠٠٠ في عام ١٨٦٣م، ثم ٥٦٥٠٠ عام ١٨٦٤م، ٨٠٠٠٠ عام ١٨٦٥م، واستمر ذلك حتى انهارت أسعار القطن عام ١٨٦٦م، فتوقف هذا الاتجاه وهبط الداخلون إلى ٥٠٠٠٠.

وبعض هؤلاء الزائرين والمهاجرين ذهبوا مع النيل إلى القاهرة وما بعدها، ولكن الغالبية العظمى منهم استقرت في الإسكندرية، المدينة المزدحمة التي كان معظم سكانها هم الأوروبيين وخدَمَهم وأتباعهم وموظفيهم. ولقد كانت الإسكندرية مدينة قبيحة مليئة بالعشش والمساكن الحقيرة، شوارعها ضيقة وملتوية ومظلمة، يعلوها التراب في فصل الجفاف، ويملؤها الطين عند نزول المطر، وأهلوها يتخاطفون الفطائر التي يغطيها الذباب، أو يبيعون المياه الضاربة إلى الملوحة، والكلاب المسعورة تنبح خلف الأطفال العراة، والأجانب يركبون الحمير ليحافظوا على نظافة أقدامهم، لم يكن هناك ما يجذب الإنسان، فليس هناك شيء مجلوب ليخفف من وطأة المنظر، لا أثر من آثار مدينة الإسكندرية العظيمة، ولا برج أو منارة من منارات عهد الإسلام الذهبي، وليس هناك غير ميدان القناصل بنافوراته المائية وأنواره الغازية وأرصفته وواجهات متاجره، التي تثير الانقباض بتقليدها الرخيص لبعض الميادين الحديثة في باريس أو روما. وفوق كل ذلك، وفي كل مكان توجد الرائحة الكريهة للقاذورات ومخلفات الإنسان التي تُكوَّم أمام المنازل حتى تملأ الطريق، ثم تنقل إلى الشاطئ حيث تلتقي بنسمة البحر وهي تحلق فوق المدينة.

إن الإسكندرية لم تكن بالمكان الذي يجذب الزائر الحساس القادم من دولة أكثر تحضرًا. ولكن الإسكندرية هي البلد الذي فيه المال، وقليلون كانوا يرغبون في التضحية بجيوبهم بسبب ما تشمه أنوفهم. وباستثناءات قليلة كان القادمون جميعًا مجموعة انتهازية شديدة المراس، خرجت لتبحث عن الثروة بصرف النظر عن كيفية جمعها. ولقد كان هؤلاء، إذا قيسوا بالمستوى الأوروبي للتربية والأخلاق، عديمي الإحساس، ليس عندهم شعور بالعائلة أو الأصل، ولا احترام للشخصية أو القيم، لا يهمهم أن يعرفوا ماهية الشخص أو من أين يأتي الشيء، وإنما يهتمون بشيء واحد: كم؟ وفي أي مجتمع محترم لا يجرؤ معظمهم على أن يتحدث عن ماضيه، أما في دوائر الإسكندرية، فكلهم لا يترددون في أن يفعلوا ذلك.

وإذا كان الأعضاء «الصالحون» من المجتمع الأوروبي في مصر ذوي أصل مشكوك فيه، فإن جمهرة المهاجرين كانوا من حثالة البحر الأبيض المتوسط؛ فالمواني المزدحمة وقرى مالطه وصقلية والشرق الأدنى قد أرسلت الفائضين من أطفالها الفقراء والعاطلين والساخطين إلى أرض المال الوفير. وكل هؤلاء اندفعوا إلى الإسكندرية؛ حيث كانوا يشرفون على أعمال الخدم المحليين ويلبون احتياجات وملذات وشهوات الرواج، يديرون المحلات والحانات في الحواري، والمطاعم والمحالج، وكازينوهات القمار والفنادق وبيوت الدعارة، وكثيرون منهم كانوا عُمالًا بالمعنى الحقيقي؛ يَنشَئُون كالمتطفلين على الرخاء المحيط بهم، ويتدافعون على العظام التي تسقط على الأرض أو يسرقون فتات الموائد.

وفي كل ذلك كان تشابه الإسكندرية والمراكز الأخرى للتجارة الأوروبية في الشرق أمرًا واضحًا. فكل ميناء بحري يحتوي على عناصر مشبوهة وعلى حثالات (آنتوورب مثلًا، أو مرسيليا أو نابولي)، ولكن إذا قورن عدد هؤلاء بعدد السكان وحجم التجارة في المواني جميعًا سنجد أنه لا يوجد في أوروبا ما يشبه هذه المستعمرات البيضاء القذرة الزاحفة إلى بلدان الشرق، حيث تتوافر مزايا سياسية ونفسية ليست معروفة في البلاد الأصلية. لقد كان شاطئ التجارة الأوروبية الممتد مليئًا بالعناصر الطافية فوق سطح المجتمع الغربي.

وحتى عهد قريب جدًّا كان الغربيون يتمتعون بمركز ممتاز في بلاد الشرق المتخلفة الضعيفة.

وعند رعايا الدول الكبرى عبر البحار، كانت مصر في القرن التاسع عشر في الحقيقة أرضًا مستعمَرة، حتى وإن كانت اسميًّا مستقلة، سواء أكانت مستقلة بنفسها أو باعتبارها ولاية في الإمبراطورية العثمانية المستقلة. وعلى هذا الشبح البائس للأمة المصرية كان الرجل الإنجليزي أو الفرنسي أو البروسي أو النمساوي يخطو مزهوًّا مطمئنًّا إلى أن كل ما يصنعه ستحميه القوة.

إن مبدأ الامتيازات الأجنبية للغربيين في الإمبراطورية العثمانية يرجع إلى قرون عديدة في الماضي. فقد أكد وقنَّن إعلان سليمان العظيم (عام ١٥٣٥م) في الواقع ما كان يجري فعلًا من محاكمة الرعايا الأوروبيين وفق قوانينهم الخاصة. وقد نشأ هذا النظام من المفهوم القائم على أن القانون شيء شخصي أكثر منه متعلقًا بالأرض، أضف إلى ذلك شعور الأوروبيين بأنه لا ينبغي أن يتوقع أحد أن يعيش المسيحيون ويتاجروا مع بعضهم البعض وفق قوانين المجتمع الإسلامي الغريبة.

وبمرور الوقت تحولت المزايا التي منحها السلاطين تباعًا للأوروبيين إلى حقوق مكتسبة. وفوق ذلك كان غموض نصوص الامتيازات الأجنبية قد جعلها تعكس — لا المبادئ التي قامت عليها — وإنما ميزان القوى بين الحكومة المحلية والرعايا الأجانب، فمثلًا نجد أنه في الشئون المدنية كان الغرض من فرمان سليمان العظيم أن يكون القانون الأوروبي هو الفيصل في المنازعات بين الأوروبيين فقط. أما المنازعات بين الأوروبيين وأهالي البلاد فكانت تحسمها المحاكم العثمانية. (وفي الواقع كانت تلك المحاكم تتكوَّن تقليديًّا من المسيحيين والمسلمين). وسرعان ما تعلم الغربيون أن وضعهم أفضل أمام محكمتهم القنصلية. ولم يكد يحل القرن التاسع عشر حتى كانت المحاكم المختلطة نادرًا ما تحاكم أوروبيًّا. وبالمثل في النواحي الجنائية كان القانون ينص على أن الجرائم التي يرتكبها أوروبيون ضد أهالي البلاد يجب نظرها أمام المحاكم الإسلامية، ولكن الممارسة سرعان ما أنشأت حق الأجنبي في أن يحاكم أمام سلطته القنصلية. ولما كان أداء الواجبات البوليسية العادية مشلولًا بالحَصانات شبه الدبلوماسية الممنوحة لأشخاص ومنازل ومنشآت الأجانب أصبح من المستحيل أن يُمَس أجنبي إلا إذا قُبض عليه متلبسًا.

ولم يكن هناك مكان في الإمبراطورية أسيء فيه استعمال هذه الامتيازات مثل مصر. فإلى جانب الامتيازات العادية التي يتمتع بها الغربي بفضل القوة العسكرية لدولته كان هنالك الضَّعف السياسي الخاص للحكم في مصر. فالاستقلال الذاتي المشوب بالخضوع لأسرة محمد علي، (خوفها من تدخل الأتراك من ناحية ورغبتها في سلطة أكبر من ناحية أخرى) قد جعلها حريصة على إرضاء الأوروبيين، وبالتالي معرضة لضغطهم.

وبمجرد أن أدرك ممثلو الدول الغربية أن الوالي غير قادر على مقاومة التهديد بالقوة، وأن مجرد إنزال العلم القنصلي كان كافيًا لأن يجثو على ركبتيه، أصبحت أبواب الفساد مفتوحة على مصراعيها. ولم يكن أغلب القناصل مستعدين فحسب للدفاع عن قضايا مواطنيهم مهما كانت وجاهتها، ولكنهم كانوا يدافعون عن أي شخص، سواء أكان أجنبيًّا أم من أهل البلاد، مقابل مبلغ من المال. فأصبح لكل دولة غربية قائمة بمن تشملهم الحماية، الدائمين والمؤقتين، وأصبح جواز السفر سلعة تجارية أكثر منه تحقيق شخصية أو جنسية.

وفوق ذلك، عرف الغربيون في مصر كيف يستغلون قوتهم، لا للدفاع عن أنفسهم فحسب وإنما ليدعموا مراكزهم ضد أهالي البلاد أو الحكومة المصرية. وكانت خزانة الخديوي هدفًا مُغريًا. وتَنافس القناصل في التقدم بأغرب المطالب غير المعقولة — نيابة عن مواطنيهم أو من يحمونهم — في مقابل عمولة أو نسبة من الغنيمة.

وهكذا أصبحت مصر ميدانًا للنهب. فلم يكن هناك شيء مستحيل لا يصلح كعذر للإغارة على خزانة الوالي. فإذا سُرق شخص بسبب إهماله هو، فإن الحكومة هي المخطئة بسبب عجزها عن المحافظة على النظام والأمن. ثم يطالب بالتعويض. وإذا أبحر شخص بقاربه وتسبب بإهماله في جنوحه، فإن الحكومة هي المخطئة؛ لأنها تركت رمالًا على الشاطئ في تلك الجهة، ثم يطالب بالتعويض. وفي إحدى القضايا نجح أحد النبلاء النمساويين (واسمه كاستيلاني) بمساعدة حكومته في انتزاع مبلغ ۷۰۰۰۰۰ فرنك، على أساس أن ثمانية وعشرين صندوقًا من شرانق الحرير قد تلفت بسبب تعرضها للشمس، عندما تأخر سفر القطار من السويس إلى القاهرة.

وكان سعيد يواسي نفسه بالضحك حتى لا يبكي. ومما قيل: إنه في إحدى المناسبات قطع حديثه مع أحد رجال الأعمال الأوروبيين لكي يأمر خادمه بإغلاق النافذة وقال: «إذا أصيب هذا السيد بالبرد فسوف يكلفني ذلك ١٠٠٠٠ جنيه إنجليزي.»

وعلينا أن نقول في إنصاف إن بعض الأسس التي بررت إنشاء الامتيازات الأجنبية في الأصل كانت ما تزال قائمة في القرن التاسع عشر. فلم يكن من السهل على الأوروبي أن يعامَل معاملة حسنة من البوليس المصري، أو يحاكم محاكمة عادلة في محكمة إسلامية. ولقد كانت هناك آنذاك كراهية شديدة للأجانب. ولم يضِع الأمل أبدًا في مجيء اليوم الذي يمكن فيه طرد الذمي من مصر أو إرجاعه إلى عزلته وذُله القديم. وكان الأهالي يتطلعون في كل حاكم إلى قيادة في حرب صليبية تطهر البلاد، وأصبح كل تغيير في أسرة حاكمة علامة بدء في أعمال الشغب ضد المسيحيين.

ومن ناحية أخرى فإن كثيرًا من عداء المصري للأجنبي كان رد فعل إساءات الأجانب. فعجرفة الذمي كانت تثير المسلم. ولقد عمق من هذا الاحتكاك الكامن في الموقف الوضعُ الاقتصادي والاجتماعي لكل من الطائفتين. فقد كان معظم الأوروبيين أصحاب أعمال — رؤساء — بكل ما في الأوروبي من ضجر واحتقار لحياة الشعوب الأخرى الأبطأ والأقل دقة، أو كان بعض الأوروبيين بروليتاريين ليس لهم عزاء إلا التفوق المزعوم على السكان المحليين. والجميع تقريبًا كانوا مقتنعين بتعصب المسلم وبربريته، ويتصورون أنهم كالنائمين على فراش من نار الكراهية المتَّقِدة المستترة، على أهبة الانفجار لولا التهديد بالعقاب. ومن ناحية أخرى فإن أغلب المصريين الذين اتصلوا بالأجانب الأوروبيين كانوا: إما موظفين حكوميين عاجزين عن أداء وظائفهم، أو مُصابين في كرامتهم بسبب حَصانة الأجنبي، أو خَدَمًا وعمالًا وشحاذين ولصوصًا، كلهم في حالة فقر مُدقع، وجدوا من السهل ترجمة شكواهم من أحوالهم إلى كراهية للكفار.

ولقد عكس تصرف الحكومة نفسها بعض هذا العداء؛ فمن الخطأ تصوير الحكومة المصرية ضحية هادئة للاستغلال الغربي. فقد كان محمد علي وخلفاؤه راغبين في استخدام الأوروبيين كما كان الأوروبيون راغبين في استخدامهم. وكانت الحكومة تضرب التجار الأجانب بعضهم ببعض، وتفضل «الاتفاقات» الخاصة على مفاوضات السوق الرسمية. وكان من الطبيعي أن تؤدي أساليبها الخاصة في المال والتجارة إلى المنازعات، كما كان فساد موظفيها واستعدادهم للرشوة بمثابة دعوة للخبث والمكر من جانب الغربيين.

وحتى عندما تدافع الحكومة عن نفسها عن جدارة ضد الغش والسلب، فإنها كانت تلجأ غالبًا إلى أساليب قاسية، بل وغير أمينة، الأمر الذي يعرضها لإساءات جديدة.

وواضح أنه في مثل هذا الموقف لم تكن صفحة أحد الجانبين بيضاء تمامًا أو سوداء تمامًا؛ فالخطأ يتغذى على الخطأ.

ومن العدل كذلك أن نبين هنا أن الدول الغربية لم تكن تتساوى في تصرفاتها غير المبدئية مع الحكومة المصرية؛ فقد كان الكثير يعتمد على أخلاق القنصل ورجاله. وبعض هؤلاء كانوا مرتشين بشكل مخز وبشعين في جشعهم، إلى درجة أن سعيد — كما يقال — كان يرتعد خوفًا من رؤية المندوب الفرنسي «ساباتيه»، وآخرون بذلوا ما في وُسعهم للتوفيق بين سلوكهم وقوانين المساواة العادية. وأغلبهم، لسوء الحظ، كانوا من رجال الأعمال الذين كانوا يرعون بهذا السلوك مصالحَهم، إن لم يكن مصالح الآخرين.

ولقد كانت لسياسة حكومة بلادهم أهميتها أيضًا. ففي بعض البلاد كانت وزارة الخارجية أشد فسادًا من مندوبيها بالخارج، فهناك حالات معروفة لبعض الموظفين في وزارة الخارجية، وفيها يتجاهلون اعتراضات قنصلهم في الإسكندرية، ويأمرونه بتأييد دعاوى مالية مغشوشة. غير أن وزارة الخارجية في أوروبا كانت غالبًا لا تبالي بما يحدث، وتعتبر الامتيازات الأجنبية بكل مبالغاتها أمرًا لا يمكن تجنُّبه، بل خاصية ضرورية للسياسة والنشاط المالي في منطقة متخلفة. وعلاوة على ذلك، فإن طول المسافة جعل من الضروري منح الوكلاء في مصر حرية تصرف واسعة. ولم تتنصل من مبالغات الامتيازات الأجنبية إلا دولٌ قليلة — إنجلترا على وجه الخصوص والولايات المتحدة بدرجة أقل — رأت في مفهوم الحماية ذاته إساءة، وافترضت أن من الواجب أن تحكم دعاوى مواطنيهم في مصر نفس المبادئ التي تحكم هذه الدعاوى في بلادهم الأصلية.

إلا أن النقطة الهامة للمؤرخ هي أن أعظم النوايا الطيبة كانت عاجزة عن تغير منطق الموقف. فما دام قد أصبح مستقرًّا لدى الجميع في مصر أن سمعة القنصل والأمة التي يمثلها مرتبطة بنجاحه في الدفاع عن مصالح رعاياه، وأن «يدًا من حديد في قفاز من حرير» هي اللغة الوحيدة التي يفهمها «التركي»، كان لا بد أن يزداد الضغط على الحكومة المصرية إلى أقصى الحدود. ومن الشائع في الغرب التحدث عن عقدة «الإبقاء على ماء الوجه» عند الشرقيين — كما لو كان الغربيون قد تخلصوا من هذه العقدة! ومع ذلك فإن ممثلي الغرب في مصر في القرن التاسع عشر، كما في جهات أخرى، حيث لماء الوجه أهميته، كانوا شديدي الحساسية في هذه المسألة. والدول الحديثة أو الصغيرة، مثل الولايات المتحدة وسردينيا، كانت مصممة على أن تظهر بمظهر لا يقل أهمية عن مظهر بريطانيا أو فرنسا، وكان قنصلا بريطانيا وفرنسا يراقبان بعضهما حول هذه المسألة.

ومع ذلك فإن كل هذا الاستخدام السيئ للحماية، أو المبالغة في التعويضات، لم يكن إلا جزءًا من القصة. فهؤلاء الأجانب، الذين كانوا سعداء بنهب الخزانة، عندما يقاسون من إساءة حقيقية أو وهمية، كانوا يسعون إلى الحصول على الأموال الصغيرة. أما النهب الحقيقي الكبير، فقد تمثَّل في العقود والامتيازات لبناء المرافق العامة وإنشاء الخدمات العامة، وشراء المؤن واستغلال المناجم. وبعض هذه المشاريع كانت قانونية مثل الشركة التي أسسها في عام ١٨٥٧م فرنسي اسمه كوردييه لمدِّ أنابيب المياه النقية في الإسكندرية، أو خطوط الترام التي أنشأتها شركة إنجليزية عام ١٨٦٠م لتربط الإسكندرية بحي الرمل الجديد. وبعض هذه المشاريع لم تكن إلا غشًّا. وبعض المشاريع كان كبيرًا ودائمًا، مثل قناة السويس، والبعض كان قصير الأجل. لكن جميعها كانت تستهدف أكبر استغلال لاحتياجات مصر، وتفرض شروطًا من جانب واحد وتتقاضى رسومًا خيالية. إن كل هذه المشروعات تستهدف الحصول على أرباح استثنائية بل خيالية، على الرغم من ضرورة الاعتراف بأن النتائج لم تكن دائمًا في مستوى التوقعات. وغني عن البيان أن كل هذه الشركات لم تتوقع أية خسارة. فالأجنبي الذي يستثمر في مشروعات مصر لم يكن يقصد المخاطرة بأمواله. فإذا لم يكن العائد كافيًا فثمة طرق كثيرة لإقناع الوالي بأن يضيف الفرق إلى دينه أو إلى شعبه، وأن عليه أن يعمل على إنقاذ ضيوفه.

ذلك أن الأجنبي — بالرغم من كل مساوئه — كان شيئًا لا يمكن الاستغناء. فالمجتمع المصري لم يكن يحتوي على المقاولين والمستثمرين والمهندسين القادرين على تحقيق ثورة اقتصادية، أو يملك القيم التي تشجع تجنيد رجال الأعمال والفنيين التقدُّميين. إن الأوروبيين هم وحدهم القادرون على تقديم رءوس الأموال والمهارة القادرة على تطبيق تكنيكات وإنشاءات الحضارة الغربية. ولقد كان الأوروبيون يعرفون هذه الحقيقة أيضًا ويستغلونها إلى أقصى الحدود.

ولقد ارتبط هذا العدوان على الخزانة المصرية إلى درجة كبيرة بالطابع الخاص للمجتمع والاقتصاد. فالحكومة كانت تتركز كلها تقريبًا حول الوالي وعائلته، والوالي رجل ذو سلطان ومظاهر بلا أدنى مفهوم عن جهاز دائم مستقل يحمي القانون. ولم تكن أجهزة الحكومة تعبر عن وظائف عامة تؤديها، وإنما ممتلكات خاصة يستغلها القائمون بالحكم ويحصلون منها على ما يستطيعون.

وبشكل عام كان مركز الشخص أو سمعته لا يعتمد على منجزاته أو كفاءاته، وإنما على علاقاته العائلية وأصله.

والنتيجة أن النجاح في سباق المشروعات المصرية الكبيرة لم يكن من نصيب الأرخص، أو الأسرع في الإنجاز، أو الأنسب في شروطه، وإنما كانت من نصيب من يعرف الوالي منذ الطفولة، أو من نصيب التاجر الذي يتناول الطعام مع وزير الأشغال العمومية، أو المقاول الذي ينام مع عشيقة الوزير. وفي المستويات العليا من السلطة الحكومية كانت الصداقة والنفوذ تُشترى بالخدمات التي تأتي في الوقت المناسب، وباللطف اللبق والهدايا ذات الذوق. أما بالنسبة للموظفين الصغار فقد كانت الرشاوى المكشوفة تؤدي نفس المهمة.

وبالطبع كان الكثير يتوقف على شخصية الباشا الحاكم. فقد كان محمد علي يقبل مبدأ العمل القائم على الصداقة، ولكنه لم يكن رجلًا هيِّنًا. فعلى الرغم من عطفه على بعض التجار بذل محمد علي جهودًا جدية لكي يبيع القطن المصري على أسس غير شخصية على أساس المزاد. وقد ذهب إلى أبعد من ذلك، ففي إحدى المناسبات حاول أن يفرض سعرًا محددًا على بيوت القطن في الإسكندرية، ولكنها وجدت أن السعر غالٍ ورفضت الشراء، فقام الوالي بشحن البالات مباشرة متجاهلًا المصدرين العاديين. وبينما فشلت هذه المحاولة وعاد بيع القطن إلى نظامه العادي بما فيه من نفوذ ومحاباة ومؤامرات، وبكل ما يقدمه هذا النظام من فرص الرشوة والفساد إلا أن احترام الأجانب للوالي ظل قويًّا. ولقد ظل محمد علي — حتى يوم وفاته — قادرًا على أن يضع ضيوفه في مكانهم المناسب.

غير أن خلفاءه لم يكونوا في مستوى نجاحه … ويعود هذا إلى ازدياد الضغط الغربي عليهم من ناحية، فضلا عن أنهم لم يكونوا في مستوى قوته وشخصيته. ومن ناحية أخرى، فقد كانت تنقصهم القوة القادرة على الصمود. وربما كان عباس — في خوفه واحتقاره لكل ما هو أجنبي — أقل تعرضًا لغواية الأجانب من جده، إلا أنه كان في نفس الوقت أقل مقاومة لتهديداتهم. وعندما تولى سعيد الحكم فُتحت الأبواب على مصراعيها. كان سعيد طيبًا ودودًا، وإن كان ينقصه ذكاء محمد علي وإرادته القوية. ولقد كان حريصًا على أن يُرضي ضيوفه، وقد جعله عجزه عن أن يقول «لا» فريسة سهلة لمجموعة ماهرة من المتملِّقين لم يعرفها قَصر حاكم من قبل.

ولم تكن عند سعيد أدنى فكرة عن قيمة النقود. فقد كلفه تزيين إحدى حُجَر الاستقبال في قصر عابدين عشرة ملايين فرنك. وفي بعض الأحيان يمكن أن نعرف ماذا اشترى سعيد بالنقود؛ مثلًا تلك الأسِرَّة الستة الرائعة الفضية الكهربائية التي تكلَّف كل واحد منها ألفين من الجنيهات، وقد أمر بها عباس بمناسبة زواج ابنه، واشتراها سعيد لأسباب لا يعلمها إلا الله، وقد عرض الصانع الفخور أحد هذه الأسرة في لندن، ووصفته جريدة التايمز بالتفصيل. أما في معظم الأحيان فليس لدينا إلا أن نخمن أين ذهبت الأموال. فتلك المجموعة من أواني الشرب مثلًا التي تكلفت مائة ألف دولار؛ هل كانت مزينة بالمجوهرات؟ هل كان عددها مئات؟ أو هل كانت أواني خرافية تظل دائمًا مملوءة؟ إن الأرشيف لا يقدم إلا تفاصيل قليلة من الصفقات — مجرد فاتورة أو سطر في كشف حساب مقاول — والباقي متروك لخيال كلٍّ منا.

ولكن الخيال يعجز عن فهم سذاجة وضعف وغباء رجل مثل سعيد. ففي إحدى المناسبات اشتكى إيطالي يُدعى برافاي من قلة تقدير شيء معين بالليرة الإيطالية، فطلب منه سعيد أن يجعل المبلغ بالجنيه الإنجليزي! وبينما كان دائنوه المكَرة يقدمون له القروض بأسعار خيالية، كان هو يقرض أصدقاءه بدون فائدة، وفي بعض الأحيان يرفض استرداد الدين نفسه. وكان سعيد يُنصت للناس أكثر من اللازم. فليس عنده اقتراح يمكن رفضه لبُعده عن الواقع. وليس عنده مقاول يمكن استبعاده لسمعته السيئة، وكان لسانه شديد التورط، فالوعود تبذل بسهولة، أما السداد فقد كان غاليًا.

وبلغ الأمر إلى حد أن سعى البعض للحصول على امتيازات مشروعات على الرغم من عجزهم عن الوفاء بها، بل وعلى أساس هذا العجز في الحقيقة، فقد كان من المؤكد أن كل عقد يُلغى — أيا كان سبب الإلغاء — له تعويض، وأي تعويض. فأحد المتقاضين (كان في آنٍ واحد تاجرًا يونانيًّا وحماية فرنسية وقنصلًا عامًّا لبلجيكا) طالَب بثلاثة ملايين جنيه، وذلك لأن سعيد رفض أن يعترف بكلمة شفوية يزعم أن محمد علي أعطاها له منذ أكثر من عشر سنوات، تمنحه حق نقل البضائع في منطقة الترانست إلى خليج السويس. وقبل أن تنتهي حملة الإتاوة والمطالبة والضغط، قبل سعيد مسرورًا أن يدفع ثلاثة ملايين فرنك كتعويض. ولم يكن هذا المبلغ إلا شيئًا تافهًا بالقياس إلى العبء الذي فرضه امتياز قناة السويس بعد ذلك على مصر.

وعندما حلت مجاعة القطن كانت مصر ميدانًا مفتوحًا للصيد، وكان إدوارد ديرفيو أحد هؤلاء الصيادين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤