الفصل الرابع

ظهور إدوارد ديرفيو

عزيزي أندريه

«ما زال حلمنا هو العودة إلى الوطن والاعتزال، بمجرد أن نجمع ثروة صغيرة تسمح بذلك. ولحسن الحظ، لست نادمًا على ترك عملي في شركة مسيجاري. ولقد ربحت معاملاتي الصغيرة، وبدأتُ في ادخار جزء من الأرباح.»

الإسكندرية، في ٢٥ ديسمبر، سنة ١٨٥٨م

إن إدوارد ديرفيو يرجع في الأصل إلى إحدى أُسَر رجال الأعمال الصغار، الذين كانوا بمثابة العمود الفقري للبرجوازية الفرنسية القديمة. وكان أجداده في القرنين السابع عشر والثامن عشر خيَّاطين في كوندريو، وهي بلدة ريفية على ضفاف الرون بالقرب من ليون. ولقد ترك أحد فروع الأسرة الطموحة محل الخياطة ليحتل مركزًا في العمل المكتبي والمكانة الرفيعة. وظل أجداد إدوارد ديرفيو قانعين بجمع المال ببطء من العمل التجاري. وانتقلوا تدريجيًّا من خياطين إلى تجار أقمشة، ومن تجار أقمشة إلى منتجي منسوجات، ثم إلى تجار ومواطنين في ليون.

ولقد ولد روبرت ديرفيو، والد إدوارد، سنة ١٧٩٥م في عصر مشحون بالفوران والتغير. وربما كانت روح التمرد على الأوضاع، التي سادت في هذه الأوقات، هي التي أدت به إلى الخروج على التقاليد البرجوازية التي تناقلتها الأجيال، وأن يختط طريقًا جديدًا في العمل التجاري والمالي. وربما كانت الأسرة قد عانت من أزمات مالية خلال سنوات الثورة والحرب الخمس والعشرين، مما تطلب جهدًا جديدًا خارقًا لاستعادة ثروتهم. فالوثائق لا تقول شيئًا عن ذلك. وعلى أية حال، فبعد أن خدم روبرت ديرفيو في الجيش إلى ما بعد التسريح العام سنة ۱٨١٥م، هجر صناعة ليون الكئيبة إلى تجارة مرسيليا البراقة المتقلبة، حيث أصبح هو وأحد أعمامه شركاء في البيت التجاري المعروف باسم «باري، ديرفيو وشركاهما». ولكن شحنات النبيذ والقماش لم تكن كافية. فمنذ البداية، اهتم ديرفيو بإمكانيات الجزائر، كميدان لمشروعاته، فاشترى ممتلكات في مدينة الجزائر، وأصبح عضوًا في مجلس المدينة يمثل مصالح الأعمال التجارية الفرنسية الجزائرية. وامتلك مناجم للتصدير، وأقام هيئات في فرنسا لاستغلالها، وأصبح في الإمبراطورية الثانية صديقًا وزميلًا في العمل لبعض التجار البارزين في مرسيليا.

ولقد كان إدوارد ديرفيو ابنه الثاني. وبحكم مولده في مرسيليا في سنة ١٨٢٤م نشأ وترعرع في أسرة تجتاز فترة انتقال من مستوًى للثروة والمكانة الاجتماعية إلى مستوًى آخر. وعندما بلغ مرحلة النضوج، لم يكن ميراث ديرفيو الجديد قد تبلوَر بعدُ في الشكل الصلب الحر المناسب، الذي يسمح له بالجلوس على عرش المال، ومثل والده أيضًا، كان على إدوارد أن يقضي حياته صاعدًا السلم الاجتماعي والاقتصادي، باحثًا عن ثروته ومغتنمًا الفرصة الأساسية عبر البحر المتوسط.

وبفضل اتصالات عائلية، بدأ حياته كموظف تنفيذي، وهو مَثَل مبكر للبيروقراطية المالية المعروفة اليوم. وفي سنة ١٨٤٣م، عندما كان عمره تسعة عشر عامًا، أصبح مديرًا لوكالة «أوران» لخط بازن البحري. وبعد فترة مخيبة كمدير لمناجم والده من سنة ١٨٤٨م إلى ١٨٥١م، عاد إلى العمل البحري، مديرًا لسلسلة من وكالات شركة الميساجريه البحرية في اليونان وسوريا، وأخيرًا في مصر.

وبوصفه مديرًا لمكتب الإسكندرية التابع لأكبر خط ملاحي فرنسي في البحر المتوسط، كان ديرفيو شخصية هامة في المستعمرة الفرنسية المحلية. وفي سنة ١٨٥٦م، لم يكن ضُم رسميًّا ضمن «الفرنسيين الكبار» فحسب، بل عُين عضوًا في المحكمة القنصلية، التي كانت تحاكم كل الفرنسيين المقيمين في مصر. ومع ذلك، فعندما عرض عليه الوالي منصب مدير الشركة المجيدية، ترك ديرفيو شركة ميساجريه ليلتحق بالشركة الجديدة.

ولقد كانت هذه خطوة هامة إلى الأمام. إلا أن المركز الجديد كانت له عيوبه، تلك العيوب التي كانت مقدمة المتاعب التي أجهدت حياته في المستقبل، وفي سنة ١٨٥٨م، أي بعد عامين من إنشائها، لم تكن مالية الشركة قد نظمت بعد؛ وكان على الوالي والأعضاء الآخرين من الأسرة الملكية أن يدفعوا أكثر من أسهمهم. ومن ناحية أخرى، نجحت الشركة في البدء في عملياتها، وكانت تستعد لاستغلال خط البحر الأحمر سنة ١٨٥٩م، الذي يعتمد على رحلات الحج السنوي. وعلى الرغم من أن الشركة المجيدية لم تكن في مستوى شركة الميساجريه، إلا أن ديرفيو كان على الأقل أكبر رأس في ميدانه، وامتازت شركته بارتباطها بمصالح الوالي. وعلاوة على ذلك، كانت روابط ديرفيو وثيقة مع البلاط بوجه خاص، فقد تزوج بنت كوينج بك، الذي كان معلمًا لسعيد باشا، وأصبح سكرتير سكرتيره الخاص. ولم يهمل ديرفيو هذه الاتصالات.

«وبالإضافة إلى إدارة الشركة المجيدية، فإن لي شئونًا تجارية وصناعية أخرى صغيرة، تُدِر أرباحًا طيبة. إنني أفضي إليك بكل هذه التفاصيل؛ لأنني أعرف اهتمامك بي، ولأنني مقتنع بأنك ستُسَر لسماع خطوات نجاحي في الطريق الجديد الذي اتخذته لنفسي.»

ولقد كان من حُسن حظ ديرفيو أن تكون له هذه المعاملات التجارية الصغيرة الإضافية، إلا أنه لم يكُن مديرًا ناجحًا في أعمال الملاحة. ومن العدل أن نقول إن الأحوال لم تكن مواتية لجهوده — فلقد هبطت الأعمال التجارية المصرية نتيجة للأزمة الأوروبية التجارية في سنة ١٨٥٧-١٨٥٨م. وعلى أية حال ففي سنة ١٨٦٠م، عندما كانت المجيدية على وشك الانهيار، تركها ديرفيو لكي يُنشئ مصرفه الخاص به.

وفي أول ديسمبر سنة ١٨٦٠م، أُنشِئت شركة إدوارد ديرفيو وشركاه المالية، برأس مال متواضع يبلغ ٤٠٠٠٠٠ فرنك. ولقد كان الشريك «أ. أ. جالو» دون شك العضو الأصغر في الشركة كما تَبيَّن من حذف اسمه من اسم الشركة. ونحن لا نعرف غير القليل عن جالو، باستثناء أنه بدأ حياته كسمسار، لا كتاجر، وتعطي المراسلات صورةً غامضة عنه كمدير أعمال، يختص بالأعمال التنفيذية أكثر اختصاصه بالسياسة. وهو رجل لا غنى عنه، ولكنه أقل من ديرفيو على وجه من التأكيد.

ولقد كان لديرفيو في عمله الجديد، ميزتان هامتان، تفوق كلٌّ منهما في الأهمية مساهمته في رأس المال: اتصالاته بالبلاط المصري — التي ذكرناها آنفًا — وصداقته لألفريد أندريه، أحد رجال المصارف في باريس وممول دولي. ويبدو أن الرجلَين، قد تقابلا في سنة ١٨٥٦م أو ١٨٥٧م، عندما قام أندريه (الذي أقام منذ سنة ١٨٥٤م في القسطنطينية مديرًا للعمليات المالية الناشئة عن حرب القرم) بزيارة طويلة لسوريا ومصر قبل عودته إلى شركة عائلته في فرنسا. وربما تحدث ديرفيو في ذلك الوقت معه عن مشروعاته الطموحة. وعلى أية حال، فبمجرد أن بدأ ديرفيو حياته العلمية كرجل أعمال مستقل، عمد إلى تنمية العلاقة مع أندريه بمهارة فائقة. وفي ٣ يناير سنة ١٨٦١م — وقد أصبحت الخطابات مستمرة بينهما — كتب ديرفيو إلى شركة أندريه (أدولف ماركوارد وشركاه)، يعرض تمثيلهم في الإسكندرية ويطلب منهم أن يكونوا مندوبيه في باريس. وقد وافق آل ماركوارد على الاقتراح وفتحوا حسابًا باسم ديرفيو بخمسة في المائة لصالح باريس، وأربعة في المائة لصالح الإسكندرية، ونصف في المائة عمولة على أعلى ربح في أي الجهتين.

وجدير بالملاحظة أن هذه الشروط كانت تفوق نظائرها التي قدمتها عائلة ماركوارد لمندوبيهم العاديين، وعلى الأخص نسبة العمولة، التي كانت في العادة ٪.

إلا أن ماركوارد كان بيتًا ماليًّا شديد الحرص، بينما كان ديرفيو مبتدئًا. وقد قضى سنته الأولى يتحسَّس طريقه؛ يقرض المال لعمليات تجارية، ويحاول — بلا نجاح — تشجيع الرأسماليين الفرنسيين على استغلال أموالهم في مصر، ويستورد المجوهرات لبلاط الوالي، ويستورد الذهب ليستفيد من أسعار التبادل، ثم يكتشف أن العمولات وتكاليف الشحن والتأمين قد أتت على معظم الربح.

ومع ذلك، فإذا كان للتجارة الدولية أرباحها وخسائرها، إلا أن المصرف الجديد كانت له ميزة مؤكدة يمكن الاعتماد عليها: أوراق حكومة الوالي. الأمر الذي يؤدي بنا إلى الدَّين المصري، الذي كانت تقلباته تشكل وتتشكل بتقلبات وتغيرات ديرفيو خلال حياته العملية في الإسكندرية.

ومن الصعب تحديد بداية الدَّين، فحتى تحت حكم محمد علي، بدا أن الحكومة تعاني نقصًا في الأموال. وفي البداية غُطيت النفقات الاستثنائية عن طريق الاقتراض من تجار وشركات معينة في الإسكندرية والقاهرة (البينيسولار والأورينتال) في مقابل سندات إذنية اسمية. وعلى الرغم من كرم هؤلاء المقرضين، ورغبتهم في تجديد عقد الوالي، فإن اقتراضًا مباشرًا من هذا النوع كان محدودًا بالضرورة، وفي عهد سعيد، أضحت الحاجة إلى الأموال أكثر إلحاحًا، وكان من نتيجة قبول التزاماتٍ هامة إزاء شركة قناة السويس أن اضطر الخديوي في سنة ١٨٥٨م — بناء على اقتراح فرديناند دي ليسبس — إلى إصدار سندات لحامله بآجال قصيرة للسداد. وبهذه الطريقة لم يتغلب سعيد على حرص دائنيه المنتظمين فحسب (الحد الوحيد على إصدار هذه السندات كان ثقة الجمهور) ولكن تغلب أيضًا على إشراف رؤسائه في القسطنطينية، الذين كانت موافقتهم أمرًا ضروريًّا لأي قرض رسمي.

ووجد سعيد — المُعدم — في سند الخزانة هبة سماوية. فقبل نهاية ١٨٥٩م كانت تتداول في البلاد أوراق مالية قيمتها مليونا جنيه، وبعد ستة شهور مليون جنيه. إلا أن مرتبات موظفي الحكومة كانت متأخرة شهرًا عن موعدها، وكانت السندات تباع في مايو سنة ١٨٦٠م بخصم ١٤، ۱۷٪، وخزانة الحكومة كانت خاوية. فاضطر سعيد هذه المرة إلى مواجهة الواقع. فخفَّض نفقات السكك الحديدية، وفصل بعض رجال الشرطة — الذين «اتجهوا إلى الجريمة سعيًا وراء لقمة العيش» — وباع بشروط بائسة منخفضة الغطاء الذهبي، والتُّحف التي دفع فيها أثمانًا جنونية. وفي الوقت ذاته، كان سعيد ينفق ملايين الجنيهات لتمويل قناة السويس، ولينقذ الشركات الأوروبية السيئة الإدارة من المتاعب، وليشتري المدافع ليُسلِّح تحصينات القناطر الكبيرة العديمة الفائدة. وفي الوقت ذاته — وطول الوقت — يحاول بجد زيادة أملاكه بالحصول على أراض جديدة باسم ابنه.

ومن حسن حظ كلٍّ من الأمير والدائنين، كانت المساعدة في الطريق، فعلى إحدى البواخر في ١١ سبتمبر سنة ١٨٦٠م وصل إلى الإسكندرية أول قسط من قرض من الكونتوار دي كومت وشارلي دافيت وشركاه في باريس، بمبلغ ۲۸ مليون فرنك (ولم يسلم منه إلا حوالي ۲۱ مليونًا في الواقع) وقد حاصر القصر ووزارة المالية المطالبون بحقوقهم. وقد كانت الصعوبة الواحدة هي أن مبلغ اﻟ ۲۱ مليون فرنك لم يكن كافيًا. فلقد استُهلك في السندات التي قيمتها ١٠٠ مليون فرنك، وحل موعدها، ولم يقِل إنفاق الحكومة بحال من الأحوال. وزيادة على ذلك، لم يصبح الخديوي مدينًا بمبلغ الثمانية وعشرين مليونًا في مقابل الواحد والعشرين التي تسلمها فحسب، ولكنه ارتبط بألا يُصدر سندات قصيرة الأجل بدون إذن دائنيه الفرنسيين. ولقد كان موقفًا مستحيلًا، عالجه سعيد بطريقة مَلَكية بواسطة إصدار سندات أكثر، ولكن باسم جديد.

أما بالنسبة لدائنيه الفرنسيين، فلقد كان السند سندًا، مهما كان الاسم، فاحتجوا بغضب، وقد رد سعيد على احتجاجهم هذا بأن السندات الجديدة مختلفة في الواقع تمام الاختلاف، ولا يقصد بها إلا تغطية الديون السابقة على القرض الفرنسي، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يقصد أن يصدر أكثر من مبلغ تافه قيمته ١٥ مليون فرنك.

كان هذا في ديسمبر سنة ١٨٦٠م. وبعد ستة شهور، بلغ الدين السائل حوالي ٧ ملايين جنيه استرليني، بالإضافة إلى أكثر من مليون جنيه دين لبنك كونتوار دي كومت Comptoir d’Escompte بالقياس إلى مبلغ إجمالي من ٣ إلى مليون منذ عام واحد فقط. ولا ندري كيف حدثت هذه الزيادة. فبالرغم من اهتمام المعاصرين الشديد والبحث الدقيق، فإن منحنى نمو القرض المصري السائل لا يزال سرًّا غامضًا. على أية حالة فقد ظلت الخزانة خاوية كما كانت من قبل، وكانت إيرادات سنة ١٨٦٢م كلها وأجزاء كبيرة من دخل ١٨٦٣، ١٨٦٤م مرهونة، وحانت مواعيد سداد القرض الفرنسي.

ولقد كان من شأن مطالبة الدائنين المستمرة (الذين ماطلهم سعيد من يوم إلى آخر) ومضايقة كل أنواع المطالبين الذين زادت شهوتهم كلما قلت الثقة بالحكومة؛ أن أسرع سعيد بإرسال رسل إلى أوروبا للتفاوض في قرض آخر وهرب إلى يخته في عزلة.

وفشلت محاولة الحصول على قرض جديد، فقد كان بنك الكونتوار دي كومت ولافاييت مستعدًّا للمساعدة والإقراض بما يسمح بتجميد القرض السائل كله، ولكنهم طلبوا حدًّا أدنى قدره ٦٧٠ مليون فرنك على تسع وعشرين سنة مقابل مبلغ لا يزيد عن ١٥٠ مليون فرنك. ويدخل ضمن مبلغ اﻟ ٦٧٠ مليون فرنك عمولة تبلغ ٦٪، أي ١٥٠٠٠٠٠٠ فرنك، على القيمة الاسمية للقرض. هذا، بالإضافة إلى أتعاب دفع الكوبونات المقدرة: ٪ من المبالغ المدفوعة، وأرباح الانتقال، وقد بلغت كلها عائدًا مستترًا يصل إلى عشرات الملايين، حتى إن سعيد الذي كان معتادًا على الربا استاء من العرض.

وبينما كان سعيد يحاول جاهدًا دون فائدة، كانت الخزانة المصرية في حالة إفلاس متزايد، وهكذا عادت سياسة ضغط النفقات. وبيعت خيول الخديوي الجميلة، وفُصل الموظفون بالجملة، وخُفض الجيش إلى قوة رمزية من ٢٥٠٠ جندي، وأُغرق السوق بأطنان الملابس والعتاد العسكري، معظمها من الدرجة الثانية، وإن كانت غالية. وفي خلال ذلك كله استمر سعيد في شراء الأرض حيثما وجدها، وفي بعثرة الثروات في العطايا والتعويضات، حتى حقق عجزًا لسنة ١٨٦١م وحدها حوالي ٣ ملايين جنيه. وفي نهاية العام بلغ الدَّين السائل ١١ مليون جنيه.

وإذا كانت سندات الخزانة، التي ثبت أنها سهلة الطبع، موردًا طيبًا للخديوي المفلس، فإنها كانت على الأقل، شائعة بين رجال الأعمال والرأسماليين في بلده. فنسبة خصمها العالية، التي بلغت في بعض الأوقات ٪۳۰، جعلت منها استثمارًا مربحًا، بينما كانت كثرة تقلباتها وتذبذباتها شيئًا مثاليًّا في أعمال المضاربة. وزيادة على ذلك، فإن أنواع السندات المختلفة — ومُدد سدادها المتنوعة — كانت مجالًا واسعًا للتحكم والخداع؛ فرجال الأعمال الذين كانوا يعرفون «الأشخاص المناسبين» أو يضعون المال في جيوب «مناسبة» كانوا قادرين على أن يصرفوا سنداتهم بدون تأخير، أما الآخرون فقد وجدوا أن الأمر من الصعوبة بحيث كان من الأسهل عليهم أن يبيعوها لذوي النفوذ. وعلى أية حال، فقد حقق الجميع أرباحهم.

والنتيجة أن تدفَّقت أموال رجال الأعمال وأصحاب الأراضي الأغنياء في سوق الأوراق المالية مع إهمال التجارة المنتظمة، وفي فترة ما كانت البيوت التجارية في مرسيليا تخشى أن تتعامل مع الإسكندرية؛ حيث وقعت التجارة في أيدي بيوت صغيرة انتهازية. وقد يقال، إنصافًا لديرفيو، إنه، بخلاف زملائه، لم يرمِ كل شيء لديه في سوق الأوراق الجنونية.

وبمرور الوقت، أثرى ديرفيو سواء من التجارة المنتظمة أو المضاربة، فقد تركت مصر خلفها أزمة ١٨٥٧–١٨٦٠م، وبدأت تشعر بأول هزات رواج القطن، وفي ١ يناير ١٨٦٢م، بعد ثلاثة عشر شهرًا من النشاط والعمل زاد رأس مال البنك من ٤٠٠٠٠٠ إلى ۱۰۰۰٠٠٠ فرنك.

•••

وحتى هذه المرحلة، كان ديرفيو لا يزال في دور التلمذة في الدوائر المصرفية؛ فمعظم البيوت المالية في فرنسا كانت تخصم من قيمة أوراقه أكثر مما تفعل مع شركات الدرجة الأولى، وحتى أندريه، الذي كان أكرم من الآخرين، لم يكن قد قدم بعد أفضل شروطه. إلا أن ديرفيو شعر بقوة مركزه إلى درجة تزكية الآخرين لصديقه في باريس. ففي خطاب بتاريخ ۱۲ مارس سنة ١٨٦٢م، كتب:

«لقد تجرَّأت أخيرًا على أن أزكي السادة أوبنهايم لك. ولقد فعلت ذلك بدون خوف؛ لأنني أدركت أنه ليس هناك ما أخشاه من هؤلاء السادة.»

ولقد كانت هذه التوصية بداية ارتباط طويل لا انقطاع فيه. فهرمان وهنري كانا رجلَي بنوك بالمولد. ولقد نزحت الأسرة أصلًا من ويندكن في أوبرهش، حيث يقال إنهم كانوا مرابين من ذوي السمعة السيئة. وعندما أصبحت ويندكن غير ملائمة لهم، غادروها إلى فرانكفورت، حيث وُلد هنري سنة ١٨٣٥م. وفي سنة ١٨٥٠م، انتقلوا مرة أخرى — مثلهم في ذلك مثل عائلات تجارية يهودية كثيرة في غرب ألمانيا — إلى حيث الفرص الاقتصادية والاجتماعية الأوسع في لندن، حيث أسس سيمون (أخو هرمان ووالد هنري)، بنك سيمون وشركاه، ولقد ازدهرت الشركة جزئيًّا، دون شك، بسبب اتصالاتها ببيوت المال في ألمانيا، ومن ناحية أخرى، لأنها كانت يقظة للتحرك بسرعة إلى مجال تجارة الشرق الأدنى السريع الاتساع. ولقد شهدت حرب القرم، هنري، صبيًّا يافعًا، في البحر المتوسط، يراقب بعينٍ سفن أبيه، التي كانت تنقل الطعام إلى القوات البريطانية، ومتطلعًا بالعين الأخرى إلى الإمكانيات التجارية للمنطقة، وفي الوقت ذاته كان هيرمان يشق طريقًا مماثلًا. فقد كان شريكًا في شركة ألبرتي، نيتو، أوبنهايم وشركاه في باريس، وشركة أوبنهايم، ألبرتي وشركاه في القسطنطينية، ثم أسس أيضًا شركة أخرى في الإسكندرية باسم أوبنهايم، شابير وشركاه. وفيما بعد أشرك ابن أخيه هنري في العمل؛ وفي عام ١٨٦٢م عندما تمت تصفية شركة أوبنهايم شابير وشركاه اشترك مع هنري في إنشاء بنك جديد في المدينة. وبالنظر إلى مشاغل هيرمان في البلاد الأخرى، فقد تُركت الشركة المصرية في يد هنري.

ولقد كان البيت المالي — أوبنهايم وابن أخيه — أقوى من شركة ديرفيو في كلٍّ من الموارد (كان رأس ماله ١٥٠٠٠٠ فرنك) وفي الاتصالات. فقد كان وحده في مجموعة عائلية قوية متناسقة. ولكن سمعته في مصر كانت بين بين، ومكانته — على الأقل في البداية — كانت ناقصة.

«ربما تعرف أن السادة أوبنهايم قد قاموا بإدارة ثروة وممتلكات الأمير إلهامي باشا، ابن عباس. ولقد مات الأمير في العام الماضي بعد أن بعثر ثروته، وأشيع في هذا الوقت أن أبناء أوبنهايم قد ساهموا في ذلك بقسط كبير. ولقد عين الخديوي لجنة لتصفية إقطاعية الأمير، وتأكدت هذه اللجنة أن إدارة أبناء أوبنهايم كانت أمينة ومعتدلة، ولقد كُلفت لجنة قضائية أخرى لتقدير الخسائر والتعويضات المستحقة للسادة أوبنهايم لعدم الوفاء بالعقد، الذي لم يشأ المنفذون أن يتمسكوا به — أو بمعنًى أدق لم يتمسكوا به — إذ الأمر كان يستلزم بيع الممتلكات لتسديد الديون. ولقد أعطت هذه اللجنة حكمها بإعطاء تعويض يبلغ ٩٣٠٠٠ جنيه لعائلة أوبنهايم.»

إن قصة خراب إلهامي باشا قد طمستها الاتهامات والاتهامات المضادة، حتى أصبح من الصعب أن نجزم أين تنتهي الحقيقة وتبدأ الإشاعة. فعندما مات عباس سنة ١٨٥٤م، ورث ابنه ما يقدر بثمانين مليون فرنك كثروة سائلة فقط، بالإضافة إلى ثروة الأرض. ومنذ البداية وضع «الأمير الشاب» نفسه في رعاية رجال الأعمال المجربين؛ حتى يتسنى له الاستمتاع باللذات المختلفة اللانهائية التي يقدمها الشرق لكل من يتبع هواه. وقبل سنة ١٨٥٦م، بعد سنتين من وفاة والده، استنزف إلهامي جسده وكثيرًا من ثروته. ولقد وصفه الدكتور بيرجيوير، طبيب الأرستقراطية المصرية، وقادة المستعمرة الأوروبية، بأنه «رجل عجوز في الواحد والعشرين من عمره.» وعلى الرغم من توجيه أصحاب المصارف له (أو ربما بسبب ذلك)، ذهبت الثمانون مليونًا. وبعد ذلك بسنوات قلائل، غطت الديون أراضيه.

ولزيادة دخل أراضيه، حوَّلها إلهامي إلى أوبنهايم، وشابير وشركائهما ليديروها لمدة اثني عشر عامًا، ولقد كانت الاتفاقية في صالح البنك، فلم تكن أتعابه السنوية كبيرة فحسب، ولكن شراء الآلات والعتاد الزراعي وبيع المحصول كان يُدر عمولات كبيرة، وزيادة على ذلك فقد صيغ العقد بحيث يعطي أوبنهايم سلطة الحاكم في هذه الممتلكات. وفي مقابل ذلك تسلَّم الأمير معونة مالية سريعة، وفُتحت خزانة البنك له، ولقد استغل الأمير المسرف هذه الفرصة حتى إن أوراق أوبنهايم كانت تباع بخصم ٢٤٪ في سوق الإسكندرية.

ولما أُرهقت موارد أوبنهايم وشابير، بدءوا يخلقون لعميلهم مصدرًا جديدًا للأموال، فبرَهن إقطاعية الأمير، نجحوا في اقتراض ١٦٢٠٠٠ جنيه من بنك مصر، في مقابل أذونات تستحق السداد خلال تسعين يومًا. ومع أننا لا نملك معلومات عن شروط هذه القروض، إلا أن من المؤكد أنها كانت قاسية؛ نظرًا للحالة السيئة التي كان فيها أوبنهايم وإلهامي. فلقد كان بنك مصر مؤسسة، (كما يقول القنصل البريطاني) «تتهم عادة بعدم التعامل بشروط سهلة مع عملائها، ولمستر ماسكوالي، مديرها هنا، سمعة بأنه رجل مالي صعب، ينتهي عملاؤه عادة بالاضطرار إلى التخلي عن ممتلكاتهم للبنك.»

ومن ناحية أخرى، لم يكن الدائن في موقف أفضل من المدين، فقد كانت اﻟ ١٦٢٠٠٠ جنيه مبلغًا ضخمًا يصعب استدانته من فرد واحد، وخاصة على ضمانة غير سائلة كهذه الإقطاعية. وبالإضافة إلى ذلك، كان هذا الدين يمثل تقريبًا ثلثي رأس مال البنك الحقيقي، ويمكن تصور عصبية وقلق مديريه عندما تراكم الدين وحان موعد سداد الأذونات.

وقد كان من شأن هرب إلهامي المتوقع من مصر سنة ١٨٦٠م أن تأزم الموقف، وأدرك بنك مصر أن أي بنك تجاري لا يمكن أن يقدم إقطاعية لسداد أوراق مالية قصيرة الأجل. وبحث كل فرد مختص عن كبش فداء. فالمديرون في لندن فصلوا مندوبيهم في مصر؛ باسكوالي، ولام باسكوالي عائلة أوبنهايم، وهؤلاء ألقوا عليه اللوم. ونُشر الغسيل القذر على الناس علنًا، الأمر الذي مصر أساء إلى الجميع.

في هذه الفترة كان موقف أوبنهايم وشابير حرجًا، فلقد كان توقيعهما موجودًا على أذونات الأمير وطبقًا لنظام أي قانون تجاري، كانا مسئولَين عن الدفع. ولكن في مصر حيث كان القانون الوحيد الملزم لأجنبي هو قانون قنصليته، لم تكن القوانين العادية ذات فاعلية، ورغم الإلحاحات والتهديدات رفض قنصل بروسيا أن يعلن إفلاس أوبنهايم، واضطر بنك مصر إلى الالتجاء إلى المورد المعتاد للأوروبيين في الأزمات المالية، خزانة الخديوي. وبينما كان سعيد يناضل، بيأس وبدون توفيق، لرفض المطالب المفتعلة، دون اعتبار لشرف عائلته؛ عمد أوبنهايم وشابير بسرعة لتخفيف حدة موقفهما إلى بيع إقطاعيات الأمير بالجملة، بسعر أقل من قيمتها، إذ لم يكن هناك من المال السائل آنذاك ما يعادل هذه القيمة، ومع ذلك فقد كان عدد قليل من رجال الأعمال هم الذين أدركوا أن هناك صفقة، وكانوا مستعدين لشراء ممتلكات طيبة لدفع ما بين ربع إلى ثلث القيمة الحقيقية، بينما يعطون البائع حرية الاختيار لإعادة الشراء في وقت ما في المستقبل، وفي الواقع كان هذا نوعًا من أنواع قرض الرهن، يناسب الدائن تمامًا، الذي كان في هذه الحالة مقتنعًا اقتناعًا راسخًا بأن إلهامي لن يعود إلى شراء الأرض في المستقبل.

وفي الوقت ذاته كافح سعيد كفاحًا غير معهود؛ فقد كانت خزانته خاوية، وكان يعلم جيدًا أن أي مساعدة لبنك مصر ستثير دائني إلهامي الآخرين عليه، ولم تكن لديه فرصة، ففي تردده بين المساعدة وعدم المساعدة، وافق سعيد أخيرًا على أن يدفع إلى إلهامي منحة قدرها ٤٠٠٠٠ جنيه، كان سعيد قد منحها للأمير، ولكن، كما اعترف كولكهون، كان سعيد محقًّا في سحبها، ووافق سعيد على بحث مطلبه الآخر، اعترف محامي بنك مصر أنه «لا سند له على الإطلاق».

عند هذه اللحظة توفي إلهامي، والمشكلة التي كانت قد شارفت على الحل تعقدت أكثر من ذي قبل. وقد وجد أوبنهايم وشابير بالذات، أنفسهما في موقف لا يحسدان عليه؛ ذلك لأن تصفية الإقطاعية من ناحية كان من شأنها إثبات وتحقيق حساباتهما كَوَكيلين للمتوفَّى، الأمر الذي كان مربكًا لهما، كما توقع الكثيرون، وثانيًا، كان موت إلهامي، معناه إلغاء عقدهما معه، الذي عاد عليهما بربح وفير لمدة تزيد على عشر سنوات، وأخيرًا، فالمساعدة المتوقعة من سعيد باشا لم تعد ممكنة. فبينما كان على الخديوي أن يواجه أوبنهايم وبنك مصر في الماضي، أصبح عليه اليوم بعد موت إلهامي أن يواجه كل الدائنين. وهكذا وضع الدائنون أيديهم على الإقطاعية، وتكاثرت مطالبهم، وسارع سعيد بالتنصل من كل التزاماته.

بيد أن أولئك الذين توقعوا المتاعب لهيرمان أوبنهايم لم يُدخلوا في حسابهم لا الطابع الخاص للعدالة المصرية، ولا ذكاء ومهارة مثل هذا الممول، فالمنفذون الذين أتوا لمراجعة دفاتره، قدم إليهم أوبنهايم كشفًا وافق عليه إلهامي بالإكراه قبل رحيله الأخير من مصر. وهكذا لم يعد هناك مجال للفحص والمراجعة، كما لم يكن هناك سبيل لإثبات بطلان مطالب أوبنهايم في حسابات غير مسددة. وأما عن العقد، فلم يكن في نية هيرمان أوبنهايم أن يحرم نفسه من أرباح عشر سنوات بسبب موت إلهامي؛ ولذا فإنه أصر على أن تحتفظ شركته بالوصاية. ولم يكن أمام المنفذين اختيار في المسألة، فباعوا إقطاعيات الأمير لتسديد ديونه. وعندئذٍ رفع هيرمان دعوى معارضًا في انتهاء العقد، وكانت النتيجة ما وصفه ديرفيو.

ولكن أمكن التغلب في نهاية الأمر على تحفظ سعيد، فإذ كان يدرك الضغط الذي كان سيتعرض له إذا ما استمر النزاع القضائي في مصر، حاول أن ينقل القضية إلى القسطنطينية؛ حيث يمكن أن تسوى على أسس قانونية بحتة. وكان هذا آخر شيء يوده الدائنون. وهكذا قُدمت الاحتجاجات الغاضبة وتوالت الضغوط الدبلوماسية القوية، وأجبر الخديوي على الرضوخ. ومنذ ذلك الوقت لم يكن هناك أمل. لقد ظهر الدائنون من الأماكن التي لا يمكن لأحد أن يتوقعها يلوحون بكمبيالات مشكوك في ذمتها. وحتى القنصل البريطاني، الذي يتحمل كثيرًا من مسئولية الأزمة، تراجع من فرط المطالب الزائفة وعرض اقتراحًا ساذجًا جدًّا وهو أن يُقْسِم الدائنون المشكوك في ذممهم. ولما كان سعيد ينوي دفع كل الديون على كل حال، لم يشغل الكثيرون أنفسهم باهتمام القنصل البريطاني بمسألة العدالة، ومع أننا لا نعرف تفاصيل المبالغ التي دفعها سعيد، إلا أننا واثقون، على ضوء نجاح أوبنهايم، أنها كانت مبالغ سخية. فالكلمات الرقيقة الطيبة التي تحدث بها مديرو بنك مصر في السنوات التالية عن سعيد كانت أكثر من مجرد المجاملة وأكثر مما يستحق.

وكانت الصعوبة الوحيدة — وخطاب ديرفيو يبين أنها لم تكن صعوبة كبيرة — هي أنه حتى في مصر، لم يكن سلوك أوبنهايم مستساغًا؛ فلقد كان سوء إدارته لثروة الأمير والتحريض على فنائها أمرًا سيئًا للغاية، ولكن الأسوأ هو أن يقاضي أوبنهايم سعيد لمخالفة العقد؛ إذ إن وفاة العميل التعِس غير المقصودة، قد أذنت بتسديد ديونه! وكما أوضح الأمر كولكهون في لباقة بريطانية، فإن الأمر كله كان «يثير الاشمئزاز والتقزز». لقد التصقت رائحة الفضيحة بعائلة أوبنهايم طول حياتهم في مصر.

ومن المؤكد أن اﻟ ٩٣٠٠٠ جنيه لم تكن إلا نقطة مما تدره بقرةُ النيل الحلوب الصبورة. ولقد كان هنري أوبنهايم يتطلع إلى ما هو أكبر.

«يغادر المسيو أوبنهايم، وقت إرسال هذا الخطاب، مصر إلى باريس وفرانكفورت وفي صحبته عقد القرض الذي وقَّعه مع الحكومة المصرية، والذي سيقدمه للاعتماد لأحد اتحادات رجال البنوك الألمان، وفي مقدمتها بنك ساكس. وهذا القرض، البالغ ٤٠٠٠٠٠٠٠ فرنك، عملية ممتازة.»

وكما أوضحنا سابقًا، بلغت الخزانة المصرية قبل نهاية سنة ١٨٦١م نهاية المطاف. وأصبح لا مفر من قرض جديد، وقد أدى رفض عرض الكونتوار دي كومت إلى أن يوجه سعيد نظره إلى مكان آخر بدون أن يولي انتباهًا إلى دائنيه الفرنسيين. ولقد كان المنقذ الجديد هو أوبنهايم، الذي ادَّعى، رغم سمعته السيئة في الإسكندرية، أنه يمثل اتحادًا من البنوك القوية المحترمة في ألمانيا. وبينما كانت الشروط المعروضة، في سوء شروط الكونتوار دي كومت (٦٠ مليون فرنك بفائدة ١١٪ على ثلاثين سنة) كان سعيد مستعدًّا لقبول أي شيء يخلصه من المستغلين الباريسيين، بضماناتهم وأفضلياتهم ولجان الإشراف التي كانوا يقترحونها.

وبالطبع احتج الفرنسيون، احتجت بنوكهم لأنها لا ترغب في أن تفقد مثل هذه العمليات المجزية، واحتجت القنصلية لأن الحكومة الفرنسية الإمبراطورية كانت تعتبر — بحق — عقود القروض والامتيازات أسلحة دبلوماسية. وبدورها، أصدرت لندن التعليمات إلى كولكهون في الإسكندرية بأن يمنح «تأييده المعنوي» لاتحاد أوبنهايم. وكالعادة، انتهى النزاع بما يرضي كل الأطراف على حساب الخزانة المصرية. وأقام بنك الكونتوار دي كومت Comptoir d’Escompte دعوى يطالب فيها بتعويض على أساس أن استمرار إصدار سندات الخزانة يعتبر خرقًا لعقد الدَّين المبرم في سنة ١٨٦٠م. ولم يكن ثمة خسارة مالية على بنك الكونتوار دي كومت، ولكن في مصر كان هذا أمرًا غير هام. وإنما المهم هو أن هذا البنك كان يريد ٤٨٠٠٠٠ فرنك كتعويض؛ لأنه لم يبرم الدين الجديد، وقد دفع سعيد في النهاية ٥٠٠٠٠٠ فرنك.

وانتهت الترتيبات النهائية مع اتحاد فرانكفورت في مارس ١٨٦٢م. وقد نصت هذه الترتيبات على قرضٍ صافٍ يبلغ ٤٠ مليونًا، زيد فيما بعد إلى ٦٠ مليونًا عندما رئي أن المبلغ غير كاف على الإطلاق. وفي الواقع، لم يحصل سعيد حتى على هذا المبلغ؛ فبعد خصم العمولة ورسوم الخدمة، والإضافات الأخرى، تسلم سعيد حوالي ٦٢٪ من القيمة الاسمية للسندات، أو حوالي ٥٣٥٠٠٠٠٠ فرنك. وفي مقابل ذلك وافقت الحكومة المصرية على دفع ١٩٨ مليون فرنك على ثلاثين سنة، وزيادة على ذلك، كانت هذه الأقساط السنوية بضمان إيرادات الدولة، خاصة تلك الإيرادات التي تأتي من مديريات الوجه البحري الخصيبة. وقد بيع معظم القرض عن طريق فرولنج وجوشن إلى السوق الإنجليزية؛ حيث بلغت قيمته السائلة ما بين ٨٢٫٥ مليون ٨٤٫٥ مليون، وساهمت فيه تلك السوق بحوالي ٦٠٪ على الأقل. ولهذا كان من حق أوبنهايم أن يرضى كل الرضى عن هذه الصفقة.

كتب ديرفيو إلى أندريه يقول عن أبناء أوبنهايم.

«يمكنك إذن أن ترى أن هؤلاء السادة، يقدمون من ناحية الأمانة والثروة كل ضمان، ولا بد أن تكون معلوماتي عنهم متفقة مع معلوماتك ما دمت قد أعطيتهم أنت اعتمادًا ﺑ ٥٠٠٠٠٠ فرنك طلبوها بالتلغراف.»

والحق أن هذا الاعتماد كان علامة من علامات الثقة. ولقد كان بنك أدولف ماركوارد وشركاه حريصًا كل الحرص في مسائل الاعتمادات، وبينما دعم تَشُدُّدَه في هذا سمعتُه الراسخة، فإنه لم يضف شيئًا إلى شعبيته في الأوساط المالية، وغالبًا ما أفقَدَه بعض العملاء. والقاعدة العامة عند أندريه، الذي لم يكن من السهل عليه أن يكسر القواعد، أن العميل لا يُمنح اعتمادًا حتى يثبت بحجم ونشاط حسابه أن مخاطرَه معقولة. وحتى في هذا، كان البنك يعتبر أن هذا الاعتماد إنما هو إجراء خاص، لا يمكن، تحت أي ظرف، أن يصبح قاعدة عامة في العلاقات المالية. ولذا فإنه عندما طلب أوبنهايم، بعد أسبوعين من فتح حسابه في بنك ماركوارد وشركاه، هذا الاعتماد الكبير وحصل عليه. كان هذا بمثابة ثورة في البنك الفرنسي، الأمر الذي لم يفُت بنك ماركوارد أن يؤكده في خطاب الموافقة. ومن الواضح أن أهمية وإغراء قرض أوبنهايم المتوقع للحكومة المصرية قد فاق الاعتبارات العادية في حساب البنك الفرنسي؛ وكان أندريه، رغم شدته، من المرونة بحيث استفاد مما أوشك أن يصبح شيئًا مؤكدًا. وزيادة على ذلك، فقد كانت الارتباطات المالية التي مكنت أوبنهايم من الحصول على القرض غير عادية. ومع ذلك ذكرت شركة ماركوارد عميلها بأن غطاء الكمبيالات يجب أن يرسل قبل موعد السداد؛ وفي نفس الوقت، تقدم ديرفيو تقدمًا مُرضيًا مَرضيًّا تمامًا؛ فلقد أضاف ٣٢٪ إلى رأس مال، الأصلي البالغ ٤٠٠٠٠٠ فرنك خلال معاملات الثلاثة عشر شهرًا الأولى. ولقد مثل مصرفه في القرض الجديد بما يوازي خمُس المبلغ الكلي، العنصر المصري؛ فقد دخلت بيوت الأعمال المحلية بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من أصحاب الأراضي والموظفين المصريين الذين دفع بهم التيار إلى أسرار وغوامض الرأسمالية الدولية، ولقد ساهم ديرفيو نفسه في القرض بمبلغ متواضع هو ٣٠٠٠٠٠ فرنك، وإن كان كافيًا للحفاظ على سمعته ومكانته. ولقد أصبح ديرفيو أحد قادة المجتمع الإسكندري المالي.

وفي نفس الوقت اشترك ديرفيو مع أوبنهايم في قرض يبلغ ٤٥٠٠٠٠٠ فرنك، بفائدة ١٠٪ للأمير مصطفى باشا. وكان القرض لمدة تسع سنوات، على أن تدفع الفوائد واستهلاكات الدين بواسطة ماركوارد وشركاه في باريس.

وفي الواقع، كان ديرفيو وأوبنهايم يلعبان نفس الدور الذي كان شائعًا في سوق فرانكفورت. إذ لم يكن في إمكانهما تقديم قرض يوازي رأس مال كل منهما معًا. وإنما كانت الخطة هي التخلص من أذونات الأمير وتحويلها إلى المستثمرين في أوروبا، الراغبين في تحقيق فائدة أكبر من الفائدة العائدة (٥٪ أو ٦٪). وفي الوقت نفسه يلجأ المقرضون الأصليون في الإسكندرية إلى وضع أيديهم مشاركة على إيرادات الأمير من محاصيله بوضعها لحسابه في حساب جارٍ … وبالطبع لا يقولان شيئًا عن فوائد يتقاضيانها عن هذا الإيداع، إلا أنه كان على الأمير أن يدفع ١٢٪ إذا سحب كل ما أودعه.

وفي الحقيقة كانت نسبة الفائدة (٪۱۰ و۱۲٪) التي عرضها ديرفيو في هذا القرض عادلة في مصر، خاصة وأن هذا النوع من المعاملات يتضمن مخاطر كثيرة، كما يشهد موضوع إلهامي باشا. أضف إلى ذلك أن مصطفى باشا كان شخصية هامَّة جدًّا (ابن أخ سعيد باشا، والثاني في وراثة العرش)، وصداقته قد تضر كما قد تفيد، فليس من الحكمة دائمًا إقراض المال لورثة العرش، وخاصة في البلاد الشرقية، ولكن ديرفيو لم يتعلم هذا الدرس إلا بعد ذلك.

أما في هذا الوقت، فقد كان صافي حساب ديرفيو الذي يبيِّن أرباحه وفوائده المتوقعة مغريًا تمامًا. وأصبح في إمكانه أن يقول، بكل تواضع إنه اجتاز مرحلة التلمذة بنجاح. ومن هنا شعر بأن من حقه أن يطلب اعتمادًا من أندريه. وقد وافق أندريه؛ ففي ٢٨ مارس سنة ١٨٦٢م، كتب أندريه لديرفيو يُذكِّره بأن من عادة آل ماركوارد أن يحددوا الاعتماد الممنوح على أساس عائد حساب العميل، وعلى هذا الأساس فلم يكن من حق ديرفيو أن يأخذ أكثر من مبلغ تافه نسبيًّا، ولكن نظرًا «للطابع الاستثنائي» لمعاملات ديرفيو، وضع أندريه تحت تصرفه اعتمادًا يبلغ ۱۰۰۰۰۰ فرنك.

ولقد كان الفارق بين هذا الاعتماد واﻟ ٥٠٠٠٠٠ فرنك، التي منحها أندريه إلى أوبنهايم، كبيرًا. وبالطبع، فإن الشركة الأغنى والأكثر نشاطًا أحق بالمساعدة والتأييد الأكبر. ومع هذا فإن أندريه، الذي كان حساسًا لنقاط ضعف زملائه ومنافسيه، خاف أن يستاء ديرفيو من مثل هذا التمييز في العطاء. ولم ينسَ أندريه على أية حال أنه منذ عدة شهور فحسب، كان ديرفيو، الصديق القديم، هو الذي قدم أوبنهايم، كعميل جديد لبيت المال الباريسي، ولذا فإنه بعد أن أثلج أندريه صدر ديرفيو في الجزء الأول من خطابه، كرس أندريه الباقي منه للرد على كل شكوى، ومن أمثال هذا الرد أن اعتماد أوبنهايم تم تحت ظروف خاصة، وأن أوبنهايم لم يستخدمه، وإذا ما أراد ذلك فإن الأمر يحتاج إلى موافقة جديدة، وفي المستقبل قد يكون الاعتماد أقل من ذلك بكثير.

وليس لدينا ما يبين رد فعل ديرفيو لهذا الخطاب، والأغلب أن الاعتماد الذي قدمه أندريه كان كافيا آنذاك، فليس هناك خطابات جديدة لمدة ثمانية أشهر بعد ذلك. وعندما كتب ديرفيو إلى أندريه، في نوفمبر، كان واضحًا أنه يدرك الفرق بين شركته وشركة أوبنهايم.

عزيزي أندريه

أرجو، يا صديقي العزيز، أن تكون قادرًا من جانبك على أن تدرك من طريقتنا في العمل مدى حرصنا ورغبتنا في أن نكسب لأنفسنا سمعة طيبة في الأمانة والإخلاص، ولقد كان في إمكاننا أن ندخُل، مثل أصدقائنا أبناء أوبنهايم، في ميدان واسع، ولكننا فضلنا أن نظل قانعين بالطريق الذي اتخذناه لأنفسنا في سوق الإسكندرية. إننا نقوم بعمليات أقل مما يقومون بها، ولكننا نعمل باطمئنان أكبر.

الإسكندرية ٥ نوفمبر ١٨٦٢م

وقد كان ديرفيو يعرف معنى ما يقول. فقد كان هدف هذا الحرص الدقيق التأثير على زميله في باريس، وبوصفه حفيدًا لسبعة أجيال من رجال البنوك في أسرة هوجونوت، أصبح ألفريد أندريه سنة ١٨٦٢م، في الخامسة والثلاثين من عمره، الرئيس الفعَّال لبنك ماركوارد وأندريه وشركاهما، وهو من أقدم البنوك الخاصة في أوروبا. ويرجع تاريخ هذا البنك إلى سنة ١٦٦٧م، عندما أسس دافيد أندريه (لاجئ ديني من نيمس) بيتًا تجاريًّا في جِنوة. ولقد نجحت الشركة الجديدة التي كانت تعمل بالذات في شحن البضائع الجلدية والمنسوجات من وإلى فرنسا ووسط أوروبا وفي استيراد منتجات المستعمرات. وسُرعان ما أصبح التجار مموِّلين وتجارًا. ونمت بسرعة أنشطتهم المالية من خلال علاقاتهم التجارية، التجارة في الأوراق المالية وتغيير العملة، قروض السلع والشحن، الخصم وقبول الأوراق المالية قصيرة الأجل. وهنا كانت الزمالة الدولية بين المنفيِّين من آل هوجونوت أمرًا ذا قيمة عظيمة؛ فقد كان في وسع أندريه أن يتعامل مع مندوبين معروفين يعتمد عليهم في كل مركز أوروبي. ووسع بنك جنوة عملياته، ففتح فروعًا له في لندن وجنيف، بل ومضى إلى حد تقديم قروض صناعية وشخصية.

وفي نهاية القرن الثامن عشر، جعلت الثورة من فرنسا مرة أخرى مكانًا آمنًا للبروتستانتيِّين، بينما شلَّت حروب نابليون التجارة الإيطالية مؤقتًا. فاضطر بنك جنوة أن يوقف أعماله ويصفيها، وفي سنة ١٨٠٠م تم افتتاح بيتٍ مالي جديد في باريس، وهناك استمرت العائلة في عملياتها التقليدية، مُركزة في أول الأمر على التجارة الفرنسية الإيطالية، ثم أخذت في توسيع نطاق أعمالها تدريجيًّا.

إلا أن البنك لم يتمكن من تثبيت مركزه كواحد من أقوى بنوك فرنسا، إلا بعد سقوط الإمبراطورية. وباتساع أعماله لتشمل المشاركة القروضَ الحكومية الفرنسية والأجنبية والاستثمارات في الأعمال الصناعية، أصبح بنك أندريه-كوتيه وشركاه، كما كان يسمى في ذلك الوقت، عضوًا في دائرة «المالية العالية». وكانت البيوت الصديقة له هي بيوت مالية هوتنجور، وبيوتًا مالية شبيهة، معظمها من البروتستانت وكلها مؤسسات قوية ومحافظة، وحتى بين هذه المجموعة، كان يتمتع بنك أندريه-كوتيه بسمعة خاصة في بُعد النظر، حرص أصحابه على حرص تنميتها.

ولقد كان لويس – إدوارد – ألفريد أندريه ملائمًا تامًّا لهذا الطراز التقليدي من العمل في الأُسرة، وبوصفه ابنًا لماري-جان أندريه، الممول والمصرفي المعروف تلقى، وهو لا يزال صبيًّا، تربية بروتستانتية دقيقة وتدريبًا تجاريًّا عمليًّا. ولقد شكل هذان المؤثران طابع شخصيته. فهو صورة من الكلفانيين في أدائه للواجب وإيمانه وتقشفه ونجاحه، كما كان أيضًا نموذجًا لرجال البنوك الخاصة في فرنسا، ولقد عُرف بنشاطه في الكنيسة وحبه لأسرته، استغنى عن الإحسان بقسوة التقشف، ومزج العاطفة الشخصية بالتقدير العقلي. وفي عمله كان حذرًا متحفظًا، يعتقد اعتقادًا راسخًا في الفضائل القديمة لتجارة الأوراق المالية والتبادل، في العمولات السخية وأذونات التسعين يومًا. وكان مقتنعًا كل الاقتناع بأن الأعمال المصرفية السليمة إنما تتركز على السيولة المدعمة وعلى تناسب الوسائل مع الأهداف. وقبل كل شيء كان يؤمن بالشخصية أولًا، والمال ثانيًا، فالمخاطرة تكون طيبة بقدر ما يكون الرجل الذي وراءها طيبًا. ولقد كان أندريه ذا أفكار قديمة كثيرة؛ مثل فكرة أن العقد عقد، وأن كلمة المرء مثل توقيعه في قيمتها، وأن الدَّين أمر مكروه، وعلامة ضعف خلقي، وأنه بالتمهل والاتزان تكسب السباق؛ لذلك كان من المستحيل على رجل مثل ألفريد أندريه أن يستفيد كثيرًا في مصر لو حاول ذلك.

وفي الإسكندرية كان ديرفيو يحقق أرباحًا طائلة. ففي خلال النصف الأول من سنة ١٨٦٢م، بلغت الأرباح الصافية حوالي ٢٦٪ ثم ارتفعت إلى ٣٠٪ في النصف الثاني، هذا بعد أن زاد رأس المال من واحد إلى ثلاثة ملايين فرنك. ولقد جاءت معظم هذه الأرباح مما يصفه التجار رجال البنوك في هذا الوقت بالعمليات العادية: الأوراق المالية، التبادل، الخصم وقبول الأذونات القصيرة الأجل. بَيد أن ديرفيو كان يسير قُدُمًا في طريقه إلى مركز المصرفي المَلكي المرموق. فخطابه الذي أرسله إلى أندريه في ٥ نوفمبر يخبره فيه بعملية كبيرة في مرحلة التفاوض: أن يدفع نيابة عن الخديوي ۲۱ مليون فرنك إلى بنك الكونتوار دي كومت في باريس (كان هذا هو الباقي المستحق من قرض سنة ١٨٦٠م) ولقد طلب ديرفيو من أندرية أن يكون عميلًا له في باريس — يتلقي المدفوعات من الإسكندرية، ويخصمها ويسدد لبنك الكونتوار — ولما كان الأمر يحتاج إلى بعض التنازلات، طلب ديرفيو من صديقه أن يعطيه امتيازًا بتخفيض العمولة المصرفية العادية من ٪ إلى ٪.

والحقيقة أن ديرفيو بهذا كان يطلب اعتمادًا آخر، وصحيح أنه لم يكن على أندريه أن يقدم أي نقود. وكل ما عليه أن يأخذ ببساطة الأذون المرسلة له من الإسكندرية ويخصمها، وأن يحول المتحصلات إلى بنك الكونتوار. ولقد كان المشكل هو أنه، لكي يخصم الأذون كان على أندريه أن يظهرها، وبذا تكون شركته مسئولة. وبمعنًى آخر، كان عليه ألا يبيع خدماته لديرفيو فحسب، بل يبيع توقيعه أيضًا، ولم يكن أحد يدرك أكثر من ألفريد أندريه قيمة اسمه. وبالإضافة إلى ذلك فما كان لأحد أن يضحك عليه. وإذا كان ديرفيو يرد مساعدة الوالي بدفع ديون قديمة بديون حديثة، فلا اعتراض لأندريه على أن يمسك بالطرف الفرنسي للصفقة. ولكنه لا يود أن يدفع هو ثمن حماس ديرفيو لأن يقدم معروفًا للحكومة المصرية.

ولقد كان رد باريس مقتضبًا وفي الصميم: «عدم القدرة» على القيام بعمليات مالية بفوائد منخفضة. وفي الرد قال أندريه إن طلبات مماثلة تُرد تباعًا وأنه رفضها دائمًا. وحتى أبناء أوبنهايم رفض أن يعطيهم امتيازًا في عمليات شحنات الذهب الكبيرة المرسلة إلى مصر. وكما أوضح أندريه، إذا كانت شركته متمسكة بآرائها في مسائل الأوراق المالية والتبادل، فإنها بكل تأكيد لن تعطي تسهيلات ومِنَحًا لحكومة يمكنها ويجب عليها أن تدفع.

وباختصار، كانت المسألة مسألة مبدأ. وفي رفضه تخفيض عمولته لأوبنهايم أعلن بنك ماركوارد بصراحة: «لقد بينت خبرتنا لمدة طويلة أن تخفيض العمولات دون المتوسط لا يفيد في نهاية المطاف إلا البنوك لا العملاء.» وبالإضافة إلى ذلك، كان أندريه يدرك جيدًا أن سعيد لن يرفض عرضًا بمساعدة مالية بسبب ٪، فلم يكن سعيد في الموقف الذي يجعله متشددًا. وهذا ما حدث بالضبط.

•••

ولقد كانت هناك اصطدامات أخرى بين انتهازية ديرفيو ومبادئ أندريه. فمثلًا، توترت العلاقات بينهما عندما علم أندريه أن ديرفيو قد رتب نفسه للحصول على اعتمادات من بنكين آخرين في باريس. ولقد كان هذا أمرًا سيئًا في حد ذاته؛ إذ كيف يمكن لأندريه أن يقدر ما يقرضه لديرفيو بذكاء إذا كان ديرفيو يقترض مبالغ مجهولة من أماكن أخرى؟ … وأسوأ من ذلك هو اختيار ديرفيو لمقرضيه. فلم يكن رولاود ولا بلوناي ممولَين ذوي مراكز قوية راسخة، والأخير بالذات كان رجلًا جديدًا شديد الاندفاع، وفيل يتعارض «حماسه» بوضوح مع أخلاقيات البنوك كما يفهمها أندريه.

ولقد كتب أندريه إلى ديرفيو في ٢٦ يناير سنة ١٨٦٣م معبرًا عن عدم موافقته: «بالنظر إلى العلاقة التي تربطنا ورغبتنا الأكيدة، في أن نضع أنفسنا كليةً تحت تصرفكم، أعترف لك بأنني قد تألمت جدًّا …» وبعد ذلك بثلاثة أسابيع تلقَّى أندريه ردًّا ليس فيه ندم: «لقد سرَّني سماع عتابك بخصوص أذوناتنا مع مسيو دي بلوناي، وأكون سعيدًا إذا استطعت أن أعفي نفسي من هذا العتاب. ولكن باتساع عملنا كل يوم، فإننا نحتاج إلى اعتمادات في أوروبا أكثر من ذي قبل.» واستطرد الخطاب:

«بدون أن نتملق أنفسنا، فإن أذوناتنا مطلوبة تمامًا، ونحن نتعقل تمامًا في إعطائها … ولقد بذلت مجهودًا خاصًّا مع بنككم لأثبت أننا نستحق ثقتكم، أما مع رولاود وبلوناي، فقد وضعوا تحت تصرفنا الاعتمادات التي طلبناها في الوقت المناسب. وباختصار، فإننا نتعامل معكم في كل شيء يخص باريس، ولكن عندما وصلنا إلى نهاية الاعتماد الذي تقدمتم به إلينا، لم يكن أمامنا إلا أن نسحب من مندوبين آخرين. هذا هو مفتاح اللغز، يا صديقي العزيز، وأنتم المسئولون عن هذا … إننا لا نطلب شيئًا أفضل من العمل معكم، وفي هذه الحالة عليك أن تزيد الاعتماد الذي تقدمه لنا، وأن تتأكد أنه ليس هناك ما يدعو إلى الخوف.»

ولقد أمكن لديرفيو أن يستخدم في رده على أندريه هذه النغمةَ العالية القوية؛ إذ كانت سنة ١٨٦٢م سنة مزدهرة لكلٍّ من مصر وشركته؛ فالحصار الأمريكي لمواني الاتحاد تحوَّل إلى اختناق، ورأت إنجلترا أن مواردها من القطن قد هبطت إلى أقل من النصف، من ٦٣٠٧٠٠ إلى ٢٦٦٥٥٠ طنًّا، في خلال اثني عشر شهرًا. فأصيبت سوق ليفربول بالحُمَّى؛ إذ بلغت ٤٦٪ من صفقات السوق مجرد مضاربات، وبارتفاع أسعار القطن إلى أكثر من الضعف وازدياد مساحة زراعة القطن بلغ تدفق البضائع والمال من وإلى الإسكندرية حدودًا لا تصل إليها الأحلام. وبالإضافة إلى ذلك، وبفضل القرض الجديد، كان المال سهلًا ميسورًا، فانخفض الخصم في سندات الحكومة من ١٥٪ إلى أقل من ٥٪ بين يناير ويونيو. وباختصار كانت هذه سنة من تلك السنوات المدهشة في بداية ازدهارٍ طابت فيه الأعمال التجارية وتوقع كل فرد لها أن تستمر في التحسن، وأصبح كل فرد مشغولًا بجمع المال وبحث وسائل زيادته إلى حد عدم التفكير في أي شيء آخر. كتب مراسل جريدة التايمز في الإسكندرية يقول:

«إن مصر في هذه اللحظة في المركز السعيد الذي لا يحتاج إلا إلى أقل حيِّز في صفحات التاريخ المعاصر، لكي تسجل مظاهر رخائها الذي لا شك في حقيقته.»

وعلاوة على ذلك، فإن كل هذا لم يكن إلا علامة بسيطة على إمكانيات المستقبل، الأمر الذي كان ديرفيو حريصًا على إيضاحه. ففي ١٨ يناير سنة ١٨٦٣م، توفي محمد سعيد باشا، والي مصر في الإسكندرية. وفي نفس هذا اليوم أُعلنت ولاية ابن أخيه إسماعيل في القاهرة. وبينما كان ديرفيو في عهد سعيد يتعامل مع تلميذ سابق لحَمِيه، فإنه في عهد إسماعيل كان يتعامل مع صديق قديم. وفي ظل ملكية مطلقة، حيث يعتمد كل شيء على حسن نية الحاكم، وحيث تخضع منافسة السوق للحظوة السياسية، كانت مثل هذه الرابطة لا تُقدر بثمن. وهكذا نسي ديرفيو آمال الأمس الهادئة المتواضعة، وأصبحت السماء هي حد آماله.

ولم يفُت أندريه كل هذا؛ فلقد زاره في يناير جوستاف شقيق ديرفيو، الذي لم يفُته أن يقدم لأندريه صورة المستقبل اللامع الذي ينتظر إدوارد ديرفيو بعد أن أصبح إسماعيل حاكمًا، واستطاع أندريه أن يتصور ديرفيو وهو ينمو ويكبر بسرعة أكبر مما ينبغي في الحقيقة، وفق مفهوم أندريه. غير أن الأمر كان يتطلب بعض التنازلات من جانب أندريه. وفي ٧ فبراير سنة ١٨٦٢م، حتى قبل أن يتسلم أندريه ردًّا من ديرفيو على خطابه المؤرخ ٢٦ يناير؛ خفض أندريه من تلقاء نفسه عمولاته على معاملات ديرفيو الجارية إلى مستوى العمولات التي يدفعها أفضل وأقدم عملاء البنك.

غير أن خطاب ديرفيو المرسل في فبراير، أوضح أنه يتوقع أكثر من ذلك، ففي الرابع والعشرين كتب أندريه إلى الإسكندرية يعبر عن أسفه لعدم علمه باحتياجات صديقه بسرعة، ثم يرفع اعتماد ديرفيو إلى ٢٠٠٠٠٠ أو ٢٥٠٠٠٠ فرنك. ولقد أعقب إعلان هذا التنازل المدروس فقرة تحذير:

«يبدو لي أن طموحك المشروع ومطالب عملك ستكون بهذا الاعتماد قد أُشبعت جيدًا. ففي الموقف الذي تجد نفسك فيه اليوم تتصرف في رأس مال هام ورعاية ممتازة، يبدو نجاحات مؤكدًا، وكلي ثقة أنك لن تسعى وراء عمليات المضاربة والارتباطات الواسعة بقدر ما تسعى وراء المفاوضات الشرعية والصفقات المأمونة. وأتعشم أن التسهيلات الجديدة التي وضعها زملائي تحت تصرفك ستقنعك أنه إذا كان نجاحك يهمني (وهو الأمر الطبيعي عندما تسترجع علاقاتنا الطيبة في الماضي)، فإنني أيضًا على ثقة من أنني وزملائي غير نادمين على ما تنوى عمله لنيل رضائكم بالمساهمة في تطوير علاقتنا.»

لقد غُلَّت يد أندريه، إذ أصبح ديرفيو عميلًا لا يسهل فقدانه. ومع ذلك فقد كان أندريه مترددًا في أن يمنح ديرفيو «شيكًا على بياض». إن الفخر والتفاؤل اللذين ينم عنهما خطاب الإسكندرية مشجعان، ولكن بالنسبة لعين أندريه الخبيرة المدرَّبة، فثمة زهو وتمل يدعوان للتفكير. وعند رجل عاقل متقشف مثل أندريه لا يختلط الحماس وأعمال البنوك أبدًا. وإذا كان قد عرض على صديقه ٢٠٠٠٠٠ أو ٢٥٠٠٠٠ فرنك، فقد ظل يأمل أن يختار صديقه ديرفيو المبلغ الأصغر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤