الفصل الخامس

إسماعيل

إن شخصية إسماعيل، الخديوي الأول، تمثل إحدى المسائل الجدلية المسلية المثيرة في التاريخ. فبعد ثلاثة عشر عامًا من توليه العرش، ارتفع الدَّين القومي في مصر من ٣٣٠٠٠٠٠ جنيه إلى ٩١٠٠٠٠٠٠ جنيه، وفي سنة ١٨٧٦م أفلست مصر، وأصبحت ضحية سهلة للسيطرة الأجنبية. كل هذا القول حقيقة واقعة، أما الباقي، الخاص بالأسباب والمسئوليات، فإنه ضربٌ من التخمين وعرضةٌ للجدل.

وفي رأي كثير من المؤرخين أن إسماعيل كان دائمًا هو إسماعيل المبذِّر المسرف، رجل أخذ الحكم وبلاده غنية مزدهرة وتركها فقيرة مستعبَدة، رجل يملؤه الطموح والإسراف الطائش، لا يصلح لشيء إلا السعي وراء ملذاته، مبذر أحمق. وفي رأي مؤرخين آخرين، فإنه إسماعيل العظيم، رجل الدولة الذي يعرف طريقه، ذو بصيرة وإخلاص، لم يكن يسعى إلا إلى سعادة وعظمة شعبه. فإذا كان قد اقترض، فإنما كان لأجل الأسباب: لمساعدة رعاياه في مصائبهم، ليبني مرافق عامة، ليربط دولته بالخطوط الحديدية والسفن البخارية، ليحول الإسكندرية والقاهرة إلى عواصم صحية مريحة. وإذا كان قد اقترض الكثير، فإن ذلك يرجع إلى أنه وقع تحت رحمة مجموعة من اللصوص لا خلاق لهم.

وفي حقيقة الأمر، تؤيد حقائق حياة إسماعيل المتخبطة المتناقضة وجهتَي النظر. ففي شبابه، كان إسماعيل صاحب أرض ناجح جدًّا. وبفضل الفلاحة التقدمية الفعالة، ازدادت ممتلكاته ثلاثة أضعاف، وضاعف دخله خمس مرات. وكان قطنه أفضل الأقطان المزروعة، وكان مصنعه لتكرير السكر من عجائب مصر، ولم يمسَّ الدَّين ثروته. وفي الوقت نفسه لم يهمل السياسة، وتعلم بعض الشيء عن مشاكل الحكومة المصرية قبل أن يحكم مصر. وفي ظل عباس، قاد معارضة عائلية غير رسمية، وكان على وشك أن يدفع حياته ثمنًا لطيشه. أما موقفه كوريث في عهد سعيد، فقد كان مختلفًا تمامًا. وفي بلد يمكن فيها أن يكون القرب من العرش أمرًا خطيرًا (توفي أخو إسماعيل الأكبر في حادثة سكك حديدية قد لا تكون حادثة على الإطلاق) كان إسماعيل عاقلًا، فظلَّ هادئًا في إقطاعياته ملتصقًا بقطنه وسكره. إلا أن سعيد الذي لم يكن مغرمًا بابن أخيه بالذات، اضطر إلى أن يعترف به ويعده لمسئوليات الحكومة؛ فأعطى إسماعيل مركزًا وزاريًّا وأرسله إلى باريس وروما في بعثات خاصة. وأصبح فيما بعد رئيسًا لمجلس الشورى، الذي كانت تُعرض عليه كل القرارات والقوانين غير الروتينية؛ وفي سنة ١٨٦١-١٨٦٢م عندما غادر سعيد مصر لزيارة مكة وأوروبا كان إسماعيل هو الذي تولى منصب الوصي على العرش. وبالمقارنة بعمه، كان إسماعيل على درجة فائقة من الكفاءة. كتب مراسل صحيفة التايمز: «في خلال الجيل الحالي، قد لا يكون هناك من أدار الأعمال العامة بهذه الدقة والنظام التي ميزت تقدمها الأخير.»

ومن رأي البعض أنه كان إداريًّا ممتازًا أكثر مما ينبغي؛ فلقد كانت إدارته لثروته تعتبر لونًا من البخل لمن اعتادوا إسراف سعيد، ففي هذا النوع من الإدارة ثمة شيء غير ملكي، شيء برجوازي، يضايق المستغلين البرجوازيين في الإسكندرية، وهكذا وجده القنصل الفرنسي «أقل من عمه كأمير وملِك». وحتى كولكهون (القنصل الإنجليزي) اعتقد أنه «لا يتمتع ببعض الصفات التي كانت تميز سعيد.» ومع ذلك، كان الشعور العام في الدوائر المسئولة أن مصر كانت في مسيس الحاجة إلى إدارة جيدة.

ولم يخيب إسماعيل ظنهم؛ ففي ٢٠ يناير سنة ١٨٦٣م، عندما تقبل تهاني ممثلي الدول الأجنبية، أيد صراحة برنامجًا للاقتصاد والإصلاح، بادئًا بنفسه.

«إنني مصمم تمام التصميم على أن أكرِّس لرفاء البلاد التي يقع على عاتقي حكمها كلَّ المثابرة والنشاط الذي أقدر عليه. إن أساس كل إدارة طيبة هو النظام والاقتصاد في الأموال، وسوف أسعى إلى هذا النظام وهذا الاقتصاد بكل وسيلة ممكنة، ولكي أضرب مثلًا للجميع، وفي الوقت نفسه كدليل على نواياي الحازمة، قررت من الآن التخلي عن النظام الذي اتبعه من سبقوني، وأن أضع لنفسي مُرتَّبًا، لا أتعداه.»

وباختصار كانت نوايا إسماعيل طيبة، ولكن السؤال هو: هل النوايا الطيبة كافية؟

لقد ترك له سلفه عرشًا فقيرًا. ولقد أعطى قرضُ سنة ١٨٦٢م مصر فترة قصيرة من الراحة من أعباء الأزمة المالية، ولكن هذه الراحة سرعان ما تبددت، عندما أصبح من الواضح أن سعيد لن يمكنه ولا يمكنه أن ينظم أموره.

واستمرت مظاهر الإسراف القديمة، فلم يكن هناك ما يعلو على كرم الوالي، ولا ما يصغر أمام جشع أصدقائه الأوروبيين. فثمة تاجر أثاث فرنسي كان على وشك الإفلاس واحتاج إلى ١٠٠٠٠٠ فرنك لكي يقف على قدميه. فليتقدم القنصل ويطلب أن يأخذ الوالي بعض بضاعة الرجل التي لم تُبَع. وثمة ابنة طبيب قديم لمحمد علي وجدت نفسها يتيمة فقيرة، فليتقدم القنصل الفرنسي الحساس بقضيتها إلى سعيد الدائم الكرم، فيقرر لها معاشًا دائمًا. وفي مايو سنة ١٨٦٢م، قبل أن يرحل الوالي إلى أوروبا، وزع بلَفْتةٍ ملكية كريمة سبعة ملايين فرنك في مجال الكرم والتسويات — وقد كانتا كلمتين لنفس الشيء — ومن بين هذه المبالغ عدة مطالب ضد محمد علي، نمت وكبرت خلال حكم عباس البخيل لكي تقدم في مجدها المركب لهذا الخليفة السهل خداعه. أحدها كان يقدم على صورة «كمبيالة» مزعومة قيمتها أكثر من مليون فرنك … ربما يقدم إذنٌ قصير الأجل في العالم. وبعد أن سويت هذه المسائل الكريهة، كان سعيد حرًّا في مغادرة مصر والقيام بإحدى هذه الرحلات الملكية، التي تتكلف تكاليف باهظة؛ بحيث إن الملوك اليوم لم يعودوا قادرين على القيام بها. وكما يتناسب مكانته، رحل سعيد في رفاهية وأبَّهة وأنفق بدون وعي، مضاعفًا نفقاته اليومية، آمرًا بشراء السفن الحربية، ومنازل الزهور، ومثل هذه المظاهر. ولفترة قصيرة نسي سعيد الديون والسندات ومواعيد الاستحقاق. ولكن النسيان لم يكن معناه أنها «انتهت». فقد بلغ عجز الميزانية رقما قياسيًّا هو خمسة ملايين جنيه، وعند نهاية السنة انخفض رصيد القرض من ستين إلى عشرة ملايين فرنك، وأصبح الدَّين السائل أكثر من ١٢ مليون جنيه. وإذ انتابه المرض جسدًا وقلبًا، أفضى سعيد إلى «بلور» في القسطنطينية بندَمِه على بعثرة ثروة بلاده.

وبعد ذلك بشهر مات سعيد، فتجمعت الصقور، وقد قوَّى شهيتهم الإحساس بأيام عجاف أمامهم. ولقد خدم موت سعيد أصدقاءه ودائنيه تمامًا. فلم يكن هناك من يجادل في مطالبهم، القائمة غالبًا على انتهاكات مزعومة للوعود الشفوية والعقود، فمثلا تقدم برافي Bravay بامتياز الكبريت، زاعمًا أن سعيد قد منحه وهو يحتضر إلى دوق باسانو (فنبلاء فرنسا لم يكونوا أقل في الخيال والجشع مع نبلاء النمسا). وفي الوقت ذاته طُولِب إسماعيل بأن يظهر كرمه ونواياه الخيرة لضيوفه الذين جاءوا عبر البحار، والذين أصيبت مشاعرهم — وربما أكثر — بسبب الاضطرابات المعتادة المعادية للغرب عند تولي كل حاكم جديد. وهكذا أعطى إسماعيل المسيو كونسيل (ابن عائلة طيبة!) ۱۰۰۰۰ فرنك ومعاشًا سنويًّا يبلغ ٣٦٠٠ فرنك كتعويض له عن ضرب الجنود المصريين له. وتلقى آخرون مبالغ أقل. كما أن القنصل الفرنسي قدم لإسماعيل طلب سيدة فرنسية تدعى مدام إسكالون (أرملة تستحق العطف وأم لخمسة أطفال) فحصلت على ۱۲۰۰۰ فرنك. ولقد شجع كرم إسماعيل بعض المواطنين الفرنسيين الذين دمرت إحدى الحرائق الحديثة محلاتهم على أن يطالبوا بتعويض. وقد وجد القنصل بوفال هذا الطلب أكثر مما يحتمل الموقف، ولكنه اقترح أن يقرضهم إسماعيل مليون فرنك، تُدفع على عشر سنوات، وكتب إلى باريس يقول إنه شعر بأن صناعة الحرير في ليون ستصاب بآثار سيئة ما لم تنهض هذه المحلات على قدميها. ووافق إسماعيل على تقديم ثلاثة أرباع المبلغ.

أما كولكهون، القنصل بريطاني، الذي قاد لمدة طويلة النضال ضد الابتزاز والاستغلال الأجنبي، على الرغم من أن سجله الخاص لم يكن نظيفًا تمامًا، فقد أدرك أن البلاد تمر بنقطة تحول. فكتب إلى لندن قائلا:

«إني أحس إحساسًا واضحًا بأن تصرفات الوالي الجديد خلال الأسابيع القليلة القادمة سوف تؤثر على كل حكمه؛ فإذا ما شعر أنه سيلقَى تأييدنا في مقاومة اضطهاد الأوروبيين الذين تؤازرهم سلطاتهم، … فإنني أعتقد أن إسماعيل باشا لن يكتفي بتنظيم أمور بلاده، رغم ما تنوء به من أعباء ثقيلة ينتظر أن تستمر بعض الوقت، ولكنه قد يقتنع أيضًا من خلال معرفته العملية بأعمال ذات نفع عام عظيم.»

وبالطبع، فإن المسألة المهمة، كما أكدها كولكهون مرارًا وتكرارًا في خطاباته، هي أن إسماعيل كان في حاجة إلى المساعدة. ولكن عندما تحدث كولكهون مع زملائه القناصل، وجد أن كلًّا منهم، بينما يستهجن المساوئ السائدة، إلا أنه يشعر بأنه من حقه أن يعطي مواطنيه في مصر التأييد الذي يلقاه مواطنو الدول الأخرى، أما القنصل الفرنسي بوفال، الذي كان ذات مرة من أشد المعارضين لهذا الوضع؛ ثم أصبح أحد الممولين له، فقد أفضى للوزارة في باريس بطريقة واقعية بأنه لا يعتقد أن إسماعيل سوف يمكنه أن ينفذ برنامجه في مواجهة الضغط الأجنبي.

ماذا عن إسماعيل نفسه؟ ومن أين أتى بالشجاعة والعزيمة للمقاومة؟

في الجوهر كان إسماعيل مستبدًّا خيِّرًا، بكل ما يحمله هذا الموقف المتناقض من مزايا وعيوب. ورغم أنه كان شديدًا ومنظمًا في الحياة اليومية، إلا أنه كان خياليًّا غير واقعي. ولقد كان يحمل في مخيلته خططًا كبيرة لمصر، واهتمامًا مخلصًا برفاهية وعظمة شعبه. ولكن لسوء الحظ، لم تُدعم هذه الأحلام والآمال بالواقعية اللازمة للحكم الفعَّال. وكان إسماعيل يفتقد حاسة التناسب. ولذا كانت مشروعاته لا تتناسب مع واقع بلاده: مرافق عامة، إمبراطورية في أفريقيا، مركز دولي مرموق، كل مُتَع الغرب المادية والإنسانية، كل جاه وزينةِ الدول الغربية، وكل ما تم تحقيقه في الغرب في قرون، يريد أن ينجزه إسماعيل خلال سنوات قلائل.

ولم يكن إسماعيل أيضًا قادرًا على الحزم والمناورة اليومية التي يتطلبها مثل هذا البرنامج. وليس معنى هذا أنه كان كسولًا. فقد كان إسماعيل إداريًّا يعمل بضمير حي، وكل الذين عرفوه أعجبوا بمهارته في القيام بالأعمال الكتابية والرسميات الحكومية. ولكن المثابرة غير المهارة. ففي الصراع المستمر من أجل التفوق، وفي صراعه مع دي ليسبس حول قناة السويس، مع الممولين الأوروبيين حول القروض، مع إنجلترا وفرنسا وتركيا حول وضع مصر، بدا إسماعيل في كل هذا عاجزًا عن تقدير إمكانيات مركزه، عاجزًا عن المثابرة في الصمود والقتال عندما كان من الممكن أن تتغير الأمور تمامًا بقليلٍ من المقاومة والتصميم. لقد كان إسماعيل في أعماقه انتهازيًّا فضل أن يلفَّ حول العقبات بدلًا من التغلب عليها؛ وهو خطأ مميت. فلم يثبت فحسب أن هذا الخطأ كان باهظ التكاليف في مفاوضات معينة مع دبلوماسيين ومموِّلين كانوا دائمي التحفُّز، وإنما أدى كل موقف تجنبه بدلًا من مواجهته إلى تهديد مؤخرته، واستنزاف قوته، وأخيرًا انتهى به إلى الحضيض.

وهذا الميل لتمييع المشاكل ينبع جزئيًّا من اهتمامه بكرامة مركزه. فقد أراد إسماعيل أن يدير ويحكم، ولكنه لم يكن مستعدًّا لأن يحُطَّ من شأن نفسه، وخاصة أمام الغربيين، بأن يُشمر عن ساعديه وينغمس في تفاهات ومساومات الأعمال والسياسة. ولقد زاد إدراكه بأن شخصًا ما قد وجده «أقل من عمِّه كأمير وملِك»، من تصميمه على أن يلعب دور الملك المبجل العظيم، وهو غرور خطير أمام أعداء لا يهمهم احترام الذات في قليل أو كثير.

وفي داخل إسماعيل، كان هذا الصراع بين كرامة منصبه واحتياجات مركزه حادًّا؛ لأنه كان شخصيًّا ينشغل بأقل الأمور. ولم تكن سمعته كرجل مُقتِّر في حياته الخاصة بلا أساس. لقد ظل حتى نهاية أيامه بخيلًا تقريبًا في نفقات بيته الخاص. وكان يتشاجر مع بُستانيِّه على أمور تافهة، ويرفض دفع بقشيش لخادمه في أحد فنادق باريس. أما إسماعيل الحاكم فقد كان لسوء الحظ لا يميز بين الجنيهات والمليمات، وتجلت فيه قدرة مفزعة على إنفاق المال. وعندما كان يُنفق على القصور والمتعة والتسلية، فإنما كان ذلك من أجل قصور ومتعة الوالي، لا إسماعيل. ولقد كان إسماعيل يحسُّ إحساسًا شديدًا بكرامة وواجبات مركزه، وطبقًا للتقاليد الشرقية اهتم اهتمامًا كبيرًا بفاعلية الأُبَّهة والعظمة كأدوات تستخدم في السياسة.

وقد كان يتمتع بميزة قيمة واحدة، فمع أن شكله لم يكن حسنًا — وصفه أحد المراقبين على أنه «لا شك قبيح» بآذان كبيرة عريضة، وحواجب بارزة «مُهلهَلة» غير منتظمة حمراء، وجفن منخفض عن الجفن الآخر — إلا أنه كان يتمتع بشخصية جذَّابة، وهو متحدث ممتاز قادر على التعاطف مع الناس. وبخلاف معظم الملوك المستبدين، كان إسماعيل مستعدًّا لاستقبال الزوار — مهمين كانوا أو غير مهمين — باحترام وعطف، ولما كان سريع الملاحظة والتكيُّف، لم يكن نفس الشخصية مع، مختلف الناس. وكما وصفه نفس المراقب: «لقد سمعت أناسًا مختلفين يمتدحونه لصفات متناقضة ومتعارضة تمامًا. فعند البعض أنه يمثل الأدب والأخلاق، وهو يُمتدَح من أجل طريقته المهذبة ومعرفته بالذوق السليم، بينما يمتدحه شخص آخر لأنه رجل أعمال يسعى إلى هدفه مباشرة.»

•••

وفي مثل هذه الظروف، يجب أن يقدر المرء إخلاص وذكاء ديرفيو في تقديره المتفائل لإمكانيات مصر خلال إسماعيل. ففي ٢٧ مارس سنة ١٨٦٣م، كتب إلى أندريه:

«بوجود إسماعيل باشا واليًا على مصر، سنرى البلاد تزدهر أكثر من أي وقت مضى. إن له ميلًا اقتصاديًّا جادًّا. ولن نرى بعد اليوم تلك العقود الحكومية التي تعطي ربحًا خرافيًّا ولا تلك القضايا القانونية البشعة، ولا تلك الثروات السريعة التي ميزت حُكم سعيد باشا. وإنما سنرى الأعمال المالية والتجارية تتم بانتظام واتِّزان، وسنرى أرصدة مصر تتأسَّس وتدعم نفسها.»

وبالطبع كان هناك ما هو أكثر من الإدارة الطيبة، وتوقع عمل منتظم ومتَّزن. وإلا فأين يكون ديرفيو إذا كان الوالي مقتصدًا في الحقيقة؟ ولقد استطرد نفس الخطاب المرسل في ٢٧ مارس يقول:

«ما تزال علاقاتي بإسماعيل باشا ممتازة، بل خاصةً، وصحيح أنها لم تأتِ بعدُ بنتائج مادية، إلا أن هذا سيأتي في حينه، إنني متأكد من أن أي عملية مالية كبيرة لن تتم بدون مشاركتي، فلدينا مشروعات كثيرة في مرحلة الإعداد مع أوبنهايم. ولا داعي لأن أؤكد لك أنك أول من سنتعامل معهم في أوروبا.»

إلا أن الأسابيع مرت ولم يحدث شيء، فاضطرب ديرفيو. فقد وجد نفسه في موقف الرجل الذي جلس جائعًا للعشاء ليجد أن المائدة لم توضع بعد. وأسوأ من ذلك، فمن المحتمل ألا يكون هناك عشاء على الإطلاق.

ولقد ثبت أنه لا أساس لمخاوفه؛ ففي ٨ مايو كتب إلى أندريه، بشعور واضح بالنصر، بأن إسماعيل قد طلب منه أن يزيد رأس مال مصرفه من ثلاثة إلى عشرة ملايين حتى «يحتل المركز الأول في البلاد، ويقوم بكل الأعمال التي تنشأ عن رغبة جلالته في تنمية الزراعة والتجارة والصناعة في مصر.» وفوق ذلك فقد وعده إسماعيل باستثمار ٢ مليون فرنك على الأقل من ماله الخاص في الشركة الجديدة، وبمعنى آخر، سيكون إسماعيل أحد الشركاء المستترين.

«يجب أن تدرك يا صديقي، وأنت تفهم الشرق، الإمكانيات الهائلة التي ستتفتَّح من مشاركة جلالته. فلم يكن في إمكانه أن يفعل شيئًا مرضيًا مشرفًا لي أكثر من ذلك، إن هذا يضعني في مركز خاص، أحافظ به على شخصيتي وأكوِّن أكثر من ثروة في خلال سنوات قلائل.»

ولقد كان هذا نجاحًا هائلًا لديرفيو، حتى بالنسبة لمصر في عهد رواج القطن؛ فمنذ سنتين فقط، في ديسمبر سنة ١٨٦٠م، بدأ ديرفيو عمله ﺑ ٤٠٠٠٠٠ فرنك، وبعض الاتصالات الطيبة، وجرعة صحيحة من التفاؤل، ثم أصبح الآن في طريقه إلى المكان الأول في البلاد، وأصبح حسابه مع بنك ماركوارد-أندريه؛ حيث سادت مبالغ المئات القليلة أو الآلاف القليلة من الفرنكات لفترةٍ ما، مليئًا بأرقام من خمس أو ستِّ خانات. وأصبحت أرباحه عن السنة المنتهية في يونيو سنة ١٨٦٣م — كما يقول — تعادل ١٦٪ من رأس المال وحده، هذا بدون اعتبارٍ لأرباح الأعمال «الممتازة». فكم ستكون هذه الأرباح ضخمة في المستقبل! لقد أعطى ديرفيو تفاصيل الشركة الجديدة، لأندريه وسأله إن كان هو، أو أي صديق من أصدقائه في باريس، يود الانضمام إليها.

وقبل أن يتسلم أندريه خطاب ديرفيو، كتب إلى الإسكندرية في ١٠ مايو يقترح شيئًا مختلفًا تمامًا؛ تحويل بنك مصر إلى مؤسسة قومية مشابهة للبنك العثماني، وأضاف أن «الجمهور ينظر بعين الرضا إلى تنظيم شركات من هذا النوع.»

هنا كان يكمن اهتمام أندريه الحقيقي، ولا شك أن ضخامة المشروع توضح لمحة من تفكيره؛ فلقد كان البنك العثماني الإمبراطوري، كما رأينا، مؤسسة المالية الدولية العالية في قمتها. وهو من خلق حفنة من أقوى الشركات في أوروبا، ويمسك بين يديه بزمام الحياة المالية للإمبراطورية. ولقد كان قويًّا متماسكًا صلبًا، ضمنت مستقبله المزايا والاحتكارات. وكان متنوع الأغراض مرنًا، ذا مراكز شاملة سمحت له أن يحرك نشاطه في أي اتجاه أكثر ربحًا.

وزيادة على ذلك، فقد كان هذا البنك نوعًا من الارتقاء الممتاز المتاح لقليل من رجال المال. ففي الأسابيع التي سبقت الإصدار تكالب المستثمرون البريطانيون على شراء شهادات المساهمة بأقساط تصل إلى ١٣، ١٤ جنيهًا للسهم. ولقد خصصت ١٢٥٠٠٠ من هذه الأسهم بسرعة وبيعت لمؤسسي المشروع بالقيمة الاسمية كمكافأة لهم على مجهوداتهم؛ بخلاف ۱۰٠٠٠ سهم أخرى لم يحسب حسابها، ومن الواضح أنها «وزعت».

وكانت العملية كلها مثلًا ممتازًا لمبدأ: كل شيء من أجل صاحب المشروع، وليذهب حامل السند إلى الجحيم. ولقد تم تعريف حملة أسهم البنك العثماني القديم بالتغيير المزمع لوضع البنك الإمبراطوري بمنشور في ١٠ فبراير ١٨٦٣م. وكان المنشور مقتضبًا، وطولب حملة الأسهم بالرد بعد أربعة أيام. ومعظم حملة الأسهم لم تُتَح لهم الفرصة لدراسة المسألة جيدًا، ومن باب أولى لنقل آرائهم للإدارة في الفترة المسموح بها. ومع ذلك، بدت العملية على أنها شيء طيب، ولم يعرف المساهمون قبل الاجتماع السنوي الأول في يونيو سنة ١٨٦٤م مقدار هذه الجودة! وبالإضافة إلى مكافآت السندات المذكورة سالفًا، كان هناك خصم قدره ١٠٪ من الأرباح الموزعة تذهب إلى جيوب حوالي ٢٥ أو ٣٠ «مؤسسًا» دون أن تُذكر أسماؤهم. وهناك مرتبات وتكاليف أخرى بلغت أكثر من ٥٤٠٠٠ جنيه، تقريبًا ربع صافي الأرباح، وهناك مكافأة للمديرين بالإضافة إلى اﻟ ١٠٪ الممنوحة للمؤسسين. وإذا كانت هناك مؤسسة جديدة للبنك مجزية في أرباحها بما يخفف عن حملة السندات متاعب الأعباء الإدارية — الجمعية العامة للإمبراطورية العثمانية، مثلًا — فإن أسهم الشركة الجديدة يحتفظ بها للمساهمين القدامى وذوي المكافآت الكبيرة. وكما قال أحد المساهمين التُّعَساء: «إنني أعترف بأنني أود أن أحصد أرباح استثماري ولا أحب أن أخاطر بمالي لفائدة أناس آخرين. وإنني أعتقد أن البنك ما هو إلا منجم ينهب منه أشخاص معينون لمصلحتهم الخاصة …»

وبالطبع فثمة فرق بين ما يعتقد المساهم وبين اتخاذ إجراء حيال ذلك. فالبنك العثماني الإمبراطوري الجديد، بعكس سابقه، لم يقع تحت طائلة القانون، كان هذا هو البريطاني. ولقد كان في إمكان حمَلة الأسهم أن يلجئوا إلى الصحف، أما أيديهم فكانت مغلولة. وبالإضافة إلى ذلك، فليس هناك مثل المال في تخفيف حدَّة الغضب، وقد دفع البنك العثماني الإمبراطوري حصص أرباح كبيرة.

كان هذا هو نوع الإمكانيات التي تصوَّرها ألفريد أندريه لمصر. إن الآمال كبيرةٌ والمجال مفتوح على مصراعيه. أما عن المنافسة الممكنة، فكان هناك مرشحان كبيران لم يمثل أيهما تهديدًا حقيقيًّا: بنك مصر، والشركة المالية المصرية.

وصحيح أن بنك مصر كان يحمل الاسم الصحيح، ولكن كما كتب أندريه إلى ديرفيو، لم يكن في هذا البنك في الحقيقة ما يوحي به الاسم؛ فأولا: كان ضعيفًا. فبينما كانت معظم الشركات المصرية تتدافع نحو الثروة، كان البنك، الذي أصابته سوء إدارة باسكوالي، يعتصر القروض ليعوض خسائره. وفي نفس الوقت — وربما كان هذا أكثر أهمية بمرور الوقت — كان ضيق المجال والنظرة. فلم يكن مديروه البريطانيون ملائمين لتمويل الوالي. فقد كانوا رجالًا متعقلين محافظين يحبون الانتظام في حصص أرباحهم والتمسك بالقانون في صفقاتهم. وحتى قبل أزمة باسكوالي، اختاروا الطريق غير السليم. وعندما جاء إليهم سعيد في سنة ١٨٩٨م طالبًا قرضًا، فعلوا عكس ما كان يفعله البنك العثماني في تركيا؛ فرفضوا طلبه. وربما كان هذا عملًا سليمًا من وجهة النظر المصرفية البحتة. أما من وجهة نظر الصفقات المجزية فقد كان أمرًا سيئًا.

ولقد دعمت مصاعب سنة ١٨٦٠م هذه النزعة المحافظة لدى مديريه. ففي اجتماع لحملة السندات في أغسطس سنة ١٨٦١م؛ فسر المديرون قلة عملياتهم مع الحكومة على أساس أن الارتباطات معها سوف تؤدي إلى طلب قرض، الأمر الذي يفضلون تجنُّبه. وفيما بعد أدركوا خطأهم، ولكن بعد فوات الأوان، فقد احتل آل ديرفيو وأوبنهايم الميدان. ومن وجهة نظر أندريه فإن بنك مصر كان عجينة طيبة، إذا شكلها الرجال المناسبون.

أما الشركة المالية فقد كانت قصة مختلفة تمامًا؛ فهي بنك وُلِد ميتًا تقريبًا، وعاش كمخلوق مشوَّه. لقد كان مخلوقًا من الدرجة الثانية، أنشأه باسكوالي في لحظة من لحظات المرارة، حتى يبين لرؤسائه السابقين مدى خطئهم في طرده، واحتضنه، خليط غير ماهر من أعضاء مجلس الإدارة، بينهم من الفرنسيين دوق، وكونت وفارسان من حمَلة وسام الشرف، وليس بينهم واحد يتميز بالخبرة التجارية التي تفوق الدرع والنيشان في قدرتها على فتح جيوب البرجوازيين. وكان بينهم مدير واحد له بعض المكانة: المصرفي المعروف أ. روجمنت دي لوفنبرج. ولكن عظمة بنك لوفنبرج كانت من أمور الماضي، وبينما ظل يحتفظ ببعض المكانة القديمة والعملاء القدامى، إلا أن ضعفه المالي أدى به بشكل متزايد إلى معاملات مشكوك فيها. ولقد كان العليمون ببواطن الأمور يدركون أن مشاركة هذا البنك في الشركة المالية المصرية ليست بمثابة تزكية وإنما كانت تحذيرًا. وبخلاف ذلك الرجل، كان الباقون أصفارًا في العمل التجاري يستمدون سُمعتهم من البنك أكثر مما يفيدونه. وأما التمثيل الإنجليزي في البنك فقد تكون من بعض أصحاب الآمال المماثلين وإن كانوا بلا ألقاب. وفي هذا البنك فإن العقل الموجه هو ج. لويس فارلي؛ رجل رحالة في كل مكان، وناشر في مجال العمل المصرفي في منطقة الشرق الأدنى، يتمتع باحترام كبير في إنجلترا كخبير في تجارةِ وماليةِ الشرق الأدنى؛ وإن كان يفتقر إلى الممارسة؛ وقد أصبح فارلي، مع باسكوالي، واحدًا من المديرين الأربعة المقيمين في الإسكندرية. وكان للشركة، بكل تأكيد، مجموعة ممتازة من المندوبين، (ومعظمهم من بيوت يونانية)، في جميع أنحاء البحر المتوسط والشرق. ولكن هذه البنوك كانت مجرد شركات وافقت على أن تدير — مقابل تعويض — معاملات الشركة المالية، في المدن المختلفة. ولا شك أن أسماءهم ذات أثر في الإعلانات، إلا أنها لا تعني شيئًا فيما يتعلق بمركز الشركة المالية نفسها.

وقد صادف البنك صعوبات حقيقية في تأسيس نفسه من الناحية القانونية. ففي، مصر كما هو الحال في أوروبا، كان السماح بتأسيس شركة مساهمة مشروطًا بالمساهمة في رأس المال، ولكن أصحاب الشركة المالية وجدوا أن رسم وتخطيط البرامج أسهل عليهم من جلب المستثمرين؛ ولذا، ولكي يقنعوا بعض التجار بالمساهمة، اضطر أصحاب المشروع أن يعِدوهم باعتمادات من الشركة المزمع إنشاؤها تُساوي القيمة المدفوعة من أسهمهم أو أكبر من ذلك. وفي الواقع كان البنك يرهن رخاءه قبل أن يبدأ. والأخطر من ذلك، أن هذه الأساليب جعلت وضعه محل شك، وعرضة لشكاوى قانونية تدمر سمعته.

ثم يُتوج هذا الوضع، الذي هو خليط من الخداع وسوء التمثيل، إن كلًّا من المديرين وحمَلة السندات قد شاركوا في الشركة على أساس دعوى مزعومة، روجها باسكوالي، بأن الشركة ستتلقى كل أنواع العطف والمساعدة من الحكومة المصرية. وقد كان هذا نفس الخداع الذي ضحك به باسكوالي على مديري بنك مصر الإنجليز؛ وفي هذه الحالة وتلك، سارعت السلطات المصرية إلى نفي هذه الدعوى. ففي سنة ١٨٦١م و١٨٦٣م ذكرت الحكومة أصحاب المشروع بأنه بينما كان الوالي سعيدًا بالسماح بإنشاء تسهيلات مصرفية جديدة في مصر، إلا أنه لم ينعم بوضع خاص على أي بنك خاص، إلا أن هذه التأكيدات لم تثبِّط أصحاب فكرة البنك. وهكذا دعوا ساباتيه، القنصل الفرنسي العام السابق في الإسكندرية (رجل ذو خبرة كبيرة في المشاكسة وابتزاز المال)، لينضم إلى مجلس الإدارة، واستمروا في ادعاء مركزهم الممتاز. ففي مصر، لم تكن كلمة «لا» كافية عند الأوروبيين للإجابة على سؤال.

وفي الوقت نفسه، ولكي تكون البداية مؤثرة، حاول باسكوالي أن يوظِّف عنده أحسن الموظفين المعروفين في البنوك الأخرى «بفرش سجادة ذهبية أمامهم». وقد كان رد فعل ذلك تجمع حفنة من أقوى البنوك في الإسكندرية مع الحكومة في معارضة هذا الدخيل. وبالإضافة إلى ذلك عمقت الخلافات الداخلية صعوبات العداء الخارجي. ولقد كان البنك، أساسيًّا، بنكًا دوليًّا، مزيجًا من المصالح الفرنسية والإنجليزية، ولكن كان هناك كل الخلاف الذي يمكن تصوره بين التعاون الفطري لأناس ذوي ميول عالمية ومالية كبيرة وبين التعاون المتذمر لأناس مبتدئين ذوي صفات محلية خاصة، وأنواع من سوء الظن الذي يرتبط بالآفاق التجارية المحدودة. ومن البداية اختلف المديرون الفرنسيون والإنجليز. فقد كانت هناك تقارير عن تحويل أرصدة خيالية تصل إلى ٣٠٠٠٠ جنيه لباسكوالي وأعضاء مؤسسين آخرين للمميزات الخاصة التي يزعمون جلبها للشركة. كما كانت هناك إشاعات عن استقالة فارلي ومحاولة تطهير البنك من المديرين الإنجليز. وقبل نهاية سنة ١٨٦٣م، كانت الشركة المالية المصرية، بعد قناة السويس، عرضة لهجوم شديد من الصحافة المالية البريطانية الموالية. وكل ذلك أساء إلى الشركة.

وفي هذه الظروف كان أندريه محقًّا في تخطيط بنك قومي حقيقي جديد، وفي الاعتماد على ديرفيو في القيام بالمفاوضات مع الطرف المصري. إلا أنه لم يأخذ في اعتباره الأمور التي تتحرك بسرعة في الإسكندرية، مما جعل إعلان ديرفيو بالتوسُّع في شركائه تحولًا سيئًا في مجريات الأمور. ومع ذلك كان التحول خطوة في الاتجاه الصحيح، ولم يتناقض بأي حال مع قيام بنك قومي فيما بعد. وفي ١٧ مايو، كتب أندريه بسرعة مهنئًا صديقه ومعلنًا قبوله أن يساهم في الشركة الجديدة.

وفي الوقت ذاته، كان ديرفيو على وشك أن ينتهي من مساهمته في الشركة الجديدة بعشرة ملايين قبل أول يونيو. ولم يدفع الوالي ٢٥٠٠٠٠٠ فرنك (بزيادة ٥٠٠٠٠٠ عن المبلغ الذي وعد به) فحسب، وإنما استثمر كثير من الأمراء وكبار الموظفين مبالغ كبيرة أيضًا. كما تضمنت الشركة الجديدة بعض البيوت التجارية الكبيرة في الإسكندرية: برجنر وشركاه ٥۰۰۰۰۰۰ فرنك، روسيمنار ٦٠٠٠٠٠، رومر ستير ٣٢٥٠٠٠، بل إن شخصًا منافسًا مثل هيرمان أوبنهايم ساهم ﺑ ٢٥٠٠٠٠ فرنك باسم زوجته.

وقد قامت ضجة عندما علم رجال الأعمال في الإسكندرية بمشاركة إسماعيل في البنك الجديد. إذ عاد شبح الاحتكار، الذي نام منذ عهد عباس، إلى الظهور. متخفيًا في شكل جديد؛ فبينما هدد الوالي القديم بنفسه بمحاصرة السوق، التفَّت اليوم مجموعة صغيرة من الدخلاء حول الوالي الجديد مستبعدين الآخرين. ولقد أثار هذا التجار البريطانيين الصغار، بالذات، واحتجوا لدى كولكهون، الذي وجد نفسه موزعًا بين تبجيله لحرية التجارة واحترامه لحرية القيام بالمشاريع. على أية حال، لم يكن في إمكانه أن يدخل في إرادة الوالي في استثمار أمواله. ولم يكن في استطاعته أن يفعل شيئًا، إلى أن تظهر دلائل واضحة على العودة إلى نظام الامتيازات، ولكنه توقع ما هو أسوأ؛ فبنك ديرفيو «لا بد أن يتحكم في الموقف».

وكان هذا أمرًا مؤكدًا. لقد وصل ديرفيو، لا في مصر فحسب، ولكن في عالم أعمال البنوك الدولية. وحتى هذا الوقت، كانت رابطته الوحيدة مع القوى المسيطرة على هذا العالم عن طريق أندريه. وإذا استبعدنا الصداقة جانبًا فإن علاقتهما كانت علاقة الممول بالعميل. أما الآن فقد أصبحا شركاء. وبالإضافة إلى ذلك جلب أندريه بعض أصدقائه معه. فقد كان هناك دينون دي بان — والاسم مؤثر كتابة ونطقًا — وهو أحد كبار الرأسماليين في هذا الوقت، ومدير في شركات قوية مثل الميساجريه ماريتيم، فورج وشانتيي للبحر المتوسط، والبنك العثماني الإمبراطوري، وقد ساهم ﺑ ۱۰۰۰۰۰ فرنك. كما كان هناك الإخوة هاين. ومثل أندريه، كانوا أصحاب بنوك بحكم المهنة والتقاليد، وأعضاء من نفس العائلة التي كان منها الشاعر هاين أعظم وأكثر الأحفاد شذوذًا. وقد كانت هذه الأسرة، مثل الأسر المالية الكبيرة الألمانية الأخرى، قد أرسلت أبناءها إلى أركان الكرة الأرضية الأربعة، حيثما كانت الأعمال التجارية طيبة، والظروف الاجتماعية أفضل من الظروف الموجودة في ألمانيا المعادية للسامية. وكون أرماند وميشيل ثروتهما في نيو أورليانز؛ حيث كانا منذ زمن طويل على اتصال وثيق ببنك ماركوارد-أندريه. والآن بعد أن ثبتوا أقدامهم في باريس، كانوا على وشك أن يبدءوا حياة جديدة تجعل منهم في جيل واحد قادة للمالية الفرنسية، وتؤدي بميشيل إلى عضوية مجلس إدارة بنك فرنسا. لقد كانوا رجالًا مهمين، وكما عبر أندريه عن ذلك في عبارة دقيقة خاوية، وإن كانت تحمل معنًى كبيرًا، فإن علاقة ديرفيو بهم يمكن أن تكون ذات نفع كبير. ولقد وضع كل من أرماند وميشيل ٧٥٠٠٠ فرنك في الشركة الجديدة.

وفي الوقت نفسه، أوضحت خطابات ديرفيو، مؤقتًا على الأقل، أن فكرة أندريه بإنشاء بنك قومي يجب أن تستبعد. فقد سبق أوبنهايم وديرفيو صديقهم أندريه في اقتراح مثل هذا المشروع على إسماعيل، ورفضه رفضًا قاطعًا. ومن الواضح أن إسماعيل كان يعارض في إدخال العملة الورقية، فقد كان يشعر أن الفلاح لم يبلغ قدرًا كافيًا من الحضارة لاستعمالها، وكان إسماعيل مقتنعًا بأن رخاء مصر يرتكز على العملة الصلبة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، تقدم ممولو البنك العثماني الإمبراطوري لحكومة مصر بنفس الفكرة. واستغل أوبنهايم وديرفيو هذه الفرصة لتجديد اقتراحهما، وكانت الإجابة مرة أخرى بالرفض ولنفس الأسباب.

عندئذٍ اقترح أوبنهايم وديرفيو شيئًا مختلفًا: بنكًا للزراعة والأشغال العامة. ذلك على أن تضمن الحكومة فائدة قدرها ٦٪ في مقابل نصف الأرباح فوق هذه النسبة المئوية، بشرط ألا تذهب هذه الأموال مباشرة إلى الخزانة وإنما تستغل في شراء عدد جديد من أسهم البنك بزيادة ٥٠٪ في قيمتها؛ وفي النهاية تمتلك الحكومة البنك.

ولقد كان هذا اقتراحًا مدهشًا يستحق الرفض لتجاهله عوامل عدة؛ فقد كان على المستثمرين أن يكونوا بعيدي النظر جدًّا حتى يكتشفوا هذه الوحدة الفريدة بين الاطمئنان والدخل العالي الكامن والمكاسب المأمونة على رأس المالي. ومع ذلك فقد رفضه إسماعيل، لأسباب أخرى تلقي ضوءًا على موقفه إزاء الأعمال المالية الأوروبية. فقد كان اعتراضه الأساسي ينصبُّ على ضمان الفوائد، لا بسب الضمان نفسه، وإنما لأنه كان يشعر أن هذا سيؤدي إلى مطالب وقضايا. وفي هذا المجال، كان يخاف، بالذات، أيَّ اتحاد بين البنوك. قال إسماعيل لديرفيو: «إن الأمور قد تكون على ما يرام في أول الأمر، بينما أنت وأوبنهايم، وأصدقاء آخرون لمصر في مجلس الإدارة، ولكن، ماذا يحدث فيها بعد عندما يحل غرباء محل الأصدقاء؟» ولذا فإنه فضل أن ينمي ديرفيو موارده ويطور شركته. وقد كتب ديرفيو لأندريه قائلًا: «يمكنك أن تتصور ما إذا كنت قد رفضت مثل هذه المقترحات.»

وفي كل ذلك، فإن الفارق بين أندريه وديرفيو كان واضحًا. فأولًا كان هناك اختلاف هام في الأهداف. فقد كان المصرفي الباريسي يفكر في العمليات الدولية الكبيرة، في تنظيم اتحادات تدر أموالها السائلة أرباحًا كبيرة، وتقدم سنداتها وأسهمها عمولاتٍ في المستقبل. ومما لا شك فيه، أن ديرفيو باعترافه قد اقترح مع أوبنهايم على الوالي إنشاء شيء من هذا القبيل، وإن كان من المؤكد أن الأمر كله كان من وحي أوبنهايم. فقد كان آل أوبنهايم ذوي خبرة في المشروعات الدولية ومن المعقول أن يفكروا بهذه الطريقة. وهم الأشخاص الذين أمكنهم، بفضل اتصالاتهم في لندن وباريس وفرانكفورت، أن يدفعوا بنصيبهم في الأرباح إلى اتحاد دولي. أما ديرفيو فقد كانت اتصالاته فرنسية فحسب، وفي الحقيقة حتى ذلك الوقت كان لا يزال على صلة بأندريه فقط. وفي عمليات من هذا القبيل، لم يكن من الممكن على ديرفيو إلا أن يكون أداة نافعة، وأن ينال مكافأة على ذلك. وبالإضافة إلى ذلك، كانت فكرة البنك الأهلي تعني لديرفيو منافسة من النوع الكريه، وإذا أمكنه أن يكون بنكًا كبيرًا باسم «ديرفيو وشركاه»، فما حاجة مصر إلى بنك قومي إذن؟

والأهم من ذلك، أن هذا الخلاف بين باريس والإسكندرية لم ينبع من اختلاف مؤقت في المصالح المادية، وإنما من تناقض عميق بين فلسفتين في أعمال البنوك. فأندريه كان رجل بنوك بحكم النشأة، وإلا فماذا يمكن أن يكون أندريه خلاف ذلك؟ لقد رأى في بنكه مؤسسة دائمة، تملأ فراغًا في عالم رجال الأعمال. وفي الحقيقة كان أندريه يعتبر أن بقاء البنك يعتمد على قيامه بدور محدد واضح: القيام بالصفقات المالية لدائرة صغيرة وثيقة من رجال الأعمال والمستثمرين، وهي دائرة من تلك الدوائر التي تقوم حول بنوك مماثلة. فالبنك الخاص كان في الجوهر عملًا له طابع الخصوصية؛ عملاؤه محدودون بالأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء، ويتحمل البنك عنهم مسئوليات تخطت حدود خطابات العقود المالية، وعمليات البنك سرية، تعتمد على الثقة قدر الإمكان. فبين مثل هذه الشركات يقوم نوع من التفاهم، نوع من اتفاقية الجنتلمان تحد المنافسة وتجعل من المالية العالية لعبة مهذبة. لاحظ في هذا المجال استعداد أندريه للمساهمة مع بعض أصدقائه في شركة ديرفيو الجديدة، بالرغم من توقع أرباح كبيرة، فالمسألة الهامة ليست هي الحصول على أقصى حد من الفائدة العاجلة، وإنما تقوية شبكة العلاقات التي ترتكز عليها رفاهية ورخاء بنكه من جيل إلى جيل.

وخارج نطاق هذا الميدان المحترم للنشاط المالي يعمل الاتحاد الدولي، غير الشخصي — مثل البنوك العثمانية — الذي يتعامل مع أي شيء وأي فرد ما دامت المغامرة طيبة الإمكانيات، وينشر عملياته على أوسع نطاق ويعلن حاجته إلى عملاء. وبكل تأكيد كان رجال البنوك الخاصة هم في الغالب الذين نموا وسيطروا على الشركات المساهمة، بالدقة لأنهم كان في إمكانهم القيام في الشركات المساهمة بأعمال لا يمكنهم القيام بها كأصحاب بيوت تجارية. إلا أنهم لم ينسوا الفارق بين مجالي النشاط، ولم ينسوا أبدًا زملاءهم.

ولقد كان ديرفيو واعيًا كل الوعي بهذه النقاط الحساسة في أعمال البنوك، وإن كان ميالا إلى إهمالها؛ فعلى عكس أندريه، كان ديرفيو يفكر بلغة المستقبل المحدود جدًّا؛ ففي نفس الخطاب الذي أعلن فيه توسع شركته، عبَّر عن أمله مرة أخرى في الاعتزال بعد أربع سنوات. لقد كان أمله ببساطة جمع أكبر قدر ممكن من المال بأسرع ما يمكن؛ فالخدمة التي أبداها إسماعيل في تفضيل شركة ديرفيو الصغيرة على بنك أهلي قوي، وفي طلبه من ديرفيو التوسع ليتكيف مع التطور المرتقب للزراعة والتجارة المصرية، وأكثر من ذلك، في تقديم تأييده المعنوي والمالي، كل ذلك لم يكن عند ديرفيو إلا فرصة خيالية عظيمة. ولم يطرأ على ذهن ديرفيو أبدًا إمكان عدم التوافق بين طبيعة شركته والمهمة التي فرضت عليها. لقد كان ديرفيو مستعدًّا لأن يعالج المالية والتجارة المصرية كلها إذا استدعى الأمر ذلك. أما سخط منافسيه في الإسكندرية، فإن ذلك ضاعف من حماسية. ولقد تباهى بمشاركة الوالي أمامهم وأعلن ذلك في مقدمة لائحته وفي الإعلانات العامة عن الشركة الجديدة. وليس أمامهم إلا أن يأسفوا على أنهم لم يعرفوا الوالي كما عن عرفه ديرفيو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤