الفصل السادس

الرصيد والدَّين

في أعمال الوالي المصرفية

أن يكون المرء مصرفيًّا ملكيًّا في مصر خلال العصر الذهبي للقطن أمر له مزاياه، وأولها المزايا المالية، فقد كان طبيعيًّا أن يقوم ديرفيو وأوبنهايم باعتبارهما مندوبَي الوالي المفضلَين في الأعمال المالية بقدر كبير من مشتريات، وتسديدات وصفقات إسماعيل الأخرى وحكومته. وعندما يعرف المرء أن دخل الوالي الخاص سنة ١٨٦٢-١٨٦٣م كان أكثر من عشرة ملايين فرنك، وأن الإيرادات الرسمية بلغت ١٥٠ مليونًا سنة ١٨٦٣م، وأن النفقات كانت ضعف هذا المبلغ؛ يمكنه أن يتصور نوع العميل الذي كان يتعامل معه ديرفيو.

وبالطبع، لم يمر كل هذا المال في أيدي ديرفيو، ولكن حتى بعد خصم المرتبات الإدارية، والصفقات المباشرة، والطلبات التي تتم من خلال أوبنهايم وغيره من الممولين، وما إلى ذلك، كان يتبقى الكثير. لقد كانت هناك المصروفات المنتظمة المتوقعة: مدفوعات للدائنين الأوروبيين مثل بنك الكونتوار دي كونت في باريس، توريد الخدمات العامة، ماكينات بخارية ومحالج قطن لإقطاعيات إسماعيل، أسمنت وحديد للسدود والمصانع. كما كانت هناك احتياطيات الطوارئ. ومن غرائب المفارقات أن مصر لم يصِبها سوء الطالع كما أصابها في سنة ١٨٦٣م المزدهرة، حتى لقد بدا كأن القدَر — وقد ندم على كرمه في منح رواج القطن — صمم على أن يقلب الميزان.

ففي شهر يونيو ماتت بعض الماشية في الدلتا. ولم يكن المرض معروفًا، وتحدى العلاج، وكان يقتل الماشية خلال ساعات قلائل من ظهور أعراضه، وأهمل الوباء في أول الأمر، فقد كانت الماشية تموت دائمًا في مصر، وكانت نسب الوفيات بين الحيوانات — وأيضًا بين البشر — من أعلى النسب في العالم. فالأوبئة مزمنة في مصر. ولكن قبل نهاية الشهر اتضح أن هذا الوباء لم يكن شيئًا عاديًّا؛ فبالرغم من المجهودات التي بُذلت لمحاصرة المرض، فإنه انتشر في جميع الدلتا، وراح يقتل بجبروت غير معقول؛ حتى قالت المصادر إن نسبة الوفاة بلغت ٪۱۰۰، وامتلأت فروع النيل البطيئة الجريان بآلاف الرمم المتعفنة. وقبل نهاية سبتمبر، أصبحت أغنى مديريات مصر خاوية من الماشية، وأخد المرض المعدي في الاتجاه نحو الجنوب.

وفي بلد كانت فيها الآلة البخارية والقطار أمرًا جديدًا، لم يكن هناك أسوأ من هذه النكبة. فآلاف السواقي التي تديرها الحمير والثيران توفقت، تاركة فدادين من الأرض الخصبة للصحراء. وحتى طاقة الفلاح التي لا تكل في أن يجر المحراث ويرفع الماء دلوًا بدلو، كانت عاجزة عن مواجهة الكارثة، ولفترة ما بدا أن محصول القطن قد دمر تماما.

وزاد الطين بلة، أن اختار النيل، (الذي كان مرتفعًا بشكل يدعو إلى القلق منذ منتصف الصيف) هذه اللحظة ليحطم جسوره في القاهرة والدلتا. وكان ذلك أسوأ فيضان يمكن تذكره، تلفت فيه من ٢٠٠٠٠ إلى ٢٥٠٠٠ بالة قطن، وعشرات الآلاف من أكياس الغلال. وفي الوقت نفسه، انقطعت المواصلات الحديدية مع الإسكندرية، في كلٍّ من الخط الرئيسي من العاصمة وفي الفروع، التي كانت تخدم المناطق الزراعية، فعزلت أطنان من القطن والبضائع الأخرى عن الميناء، وقد أدى هذا إلى اختناق نظام السكك الحديدية لمدة أشهر تالية.

وإذا كان إسماعيل قد أهمل في البداية في محاربة الوباء، فإن توقع فقدان إيراداته من القطن حفزه إلى العمل. فطلب مئات الآلاف من الحيوانات، للتربية والذبح، وفي جميع أنحاء أوروبا وجنوب غرب آسيا أحضرت البعثات تقريبًا كل ما له أربع أرجل وأمكن توفيره من المزارع ومصانع الفراء. وعندما ماتت الدفعات الأولى من الوباء، أحضرت آلاف أخرى لتحل محلها. ولم تصادف الماشية التي يصعب بيعها مثل هذا الرواج. وبالإضافة إلى ذلك، زاد الوالي من طلباته الأولى للمضخات والمحاريث البخارية، واشترى كميات كبيرة من الزبد والأطعمة الأخرى لتوزع على أسواق القرى والمدن بأسعار أقل مما انتزعها مستغلو الأزمة. وعند فلاحين كثيرين من الذين أفقرهم موت حيواناتهم، كانت هذه الرعاية الأبوية منحة السماء. ولم يكن من المهم أنهم كانوا يأكلون «زبدًا» نصفه من دهن الخنزير خارجين بهذا على شريعة الإسلام؛ ففي الدين، كما في أشياء أخرى، يعتبر الجهل نعمة.

وكل هذه الإجراءات، بالطبع، تمَّت عن طريق بيوت مالية مثل ديرفيو وشركاه، التي أوصت بطلباتها أخصائيين في تريستا ومرسيليا ومراكز أخرى، وأضافت عمولاتها الكبيرة إلى الثمن الباهظ أصلًا.

وفي نفس الوقت كانت هناك العمليات المجزية الخاصة بإنشاء وتنظيم الشركات بوحي من الوالي أو بمساعدته، فالواضح أن إسماعيل لم يكن معارضًا للشركات المساهمة بوصفها شركات مساهمة، وإنما كانت معارضته منصبة على بعض الشركات — كالبنك القومي — التي كانت تشكل تهديدًا قويًّا لسيادته. وفي الحقيقة، كان المشروع المالي الأقرب إلى قلبه هو الشركة المجيدية: شركة الملاحة البخارية المصرية.

وكان هذا بمثابة بعث الحياة في العملية المشئومة التي بدأها سعيد باشا. فلقد كان إسماعيل مُولعًا بالبحر والسفن، وكان من أعز أحلامه أن توجد في مصر بحرية تجارية، وقد زاد من هذا الولع أنه عندما تولى العرش وجد بقايا أساطيل الشركة المجيدية القديمة وشركات الملاحة النيلية، التي اشتراها سلفه بأثمان باهظة، ترزح تحت أعبائها الخزانة المصرية. وفي مايو سنة ١٨٦٣م، نظم إسماعيل تشكيل اتحاد يضم حفنة من أقوى نبلاء مصر مع ديرفيو، وأوبنهايم، وصاحب بنك مصري يُدعى سكاكيني، كمؤسسين ومديرين للخط الملاحي الجديد. وانهالت المساعدات على الشركة الجديدة، فمنحها الوالي احتكار خدمات الملاحة لمدة ثلاثين عامًا في البحر الأحمر والبحر المتوسط، كما أخذت الشركة وعدًا بإدارة الملاحة البخارية في النيل، وقد ضمنت الحكومة فائدة ٦٪ على أسهم الشركة. وفي مقابل ذلك، اشترت الشركة من الوالي الأساطيل التي طال إهمالها — الخاصة بشركات السفن البخارية القديمة — بثمن معقول.

ولقد تحدد رأس مال الاتحاد في أول الأمر ﺑ ٤٠٠٠٠٠ جنيه مصري، ثم؛ ضوعف في يوليو. وأخذ المصريون معظم الأسهم، فإسماعيل أخذ النصف، والنبلاء وحفنة من أقاربهم وأصدقائهم أخذوا ١٦٠٠٠ أخرى، بينما أخذ الأوروبيون ٢٦٨٩ سهمًا من بين ٤٠٠٠ سهم خصصت لهم. وفي هذا المضمار، كانت الشركة تمثل ثورة في الأعمال التجارية المصرية، ولقد أعطتها طبيعتها القومية وضعًا خاصًّا في عين إسماعيل، فقد كانت دائمًا «طفله المدلل».

وفي الحقيقة كانت هذه السيطرة الشاملة لمصر على رأس المال أمرًا غير متعمَّد. فكلٌّ من إسماعيل وديرفيو كان يود وضع عدد كبير من الأسهم في أوروبا؛ إذ إن هذا يعطي الشركة مكانًا في سوق رأس المال الدولي، ويسهل عمليات بيع الأسهم في المستقبل. ومن المحتمل أن إسماعيل، بالذات، كان يفكر مقدمًا في تصفية جزء من حصته الضخمة، التي كانت في الأصل ربع رأس المال فحسب. وفي هذا الصدد، فكر ديرفيو على التو في أندريه؛ بيد أنه وجد صديقه في باريس غير راغب في الشراء مؤقتًا، فمن ناحية كان بنك ماركوارد-أندريه وشركائهما قد بدأ يتحسس جو الهبوط في السوق المنتعش في أواخر الربيع سنة ١٨٦٣م، وبدأ في تضييق عملياته قبل أن تفعل البنوك الأخرى هذا بشهور. ومن ناحية أخرى، فإن ضمان الفائدة الذي قدمه إسماعيل لم يكن كافيًا لإثارة حماس البنك. وكما عبر عن ذلك شريك أندريه «البارون دي نيفليز» في خطابٍ أرسله في ٢٩ يوليو قائلًا: إن المستثمر يمكنه أن يشتري «سندات سكك حديدية أوروبية ممتازة، مضمونة تمامًا، تدر فائدة تبلغ ٦٪ على الأقل، بخلاف الضمانات الخيالية التي ستجذب رأس المال، بسبب الهبوط الشديد الأخير.» ولقد شعر نيفليز بأن أقل ما يطلبه هو ضمان ﺑ ١٠٪ أو ١٢٪، وحتى هذا لن يكون كافيًا لإيقاظ وإنعاش سوق رأس المال القائم. لذلك طلب تأجيل المشروع: «إن من الضروري — من أجل صاحب الفخامة ومن أجلكم وأجلنا — ألا نبدأ بمشروع فاشل.»

وهكذا، فعلى الرغم من اهتمام الوالي وحاشيته المطيعة الكبير بالشركة، لم تغطِّ الأسهم المشتراة رأس المال كله.

ولقد كانت الشركة التجارية المصرية أكثر نجاحًا من الناحية الفنية. فقد كانت أوروبية أساسًا، جذبت إليها أموال البيوت التجارية الكبيرة في الإسكندرية، ومجموعة من أفضل شركات باريس ولندن، واستقبلت في لندن باعتبارها واحدة من أكبر المشروعات المبشرة المشجعة التي قدمت للمستثمر الثاقب النظر. إلا أنها في الواقع كانت تتضمن عيوب كل الشركات التي تولد في فترات الرخاء … آمال مبالغ فيها، ورأس مال غير كاف، وإدارة بلا خبرة، وانتهت بخيبة آمال مُنشئيها ومساهميها. ولقد كان تاريخها صورة مصغرة لتقلبات الأعمال المالية في فترة ١٨٦٠–١٨٧٠م. كما أنها مثل ممتاز على الهوة التي تفصل بين رجل أعمال محلي مثل ديرفيو وبين الممولين الدوليين في غرب أوروبا.

لقد كان على الشركة التجارية، التي كانت تعرف أصلًا بشركة السودان، أن تستغل المناطق المجهولة نسبيًّا على طول أعالي النيل، والتي كانت مبشرة في هذا الوقت إلى حد كبير. ولا نعرف من هو أول من فكر في هذا المشروع، وربما كان إسماعيل نفسه. وعلى أية حال، فبالنسبة لديرفيو ورجال الأعمال المصريين الآخرين، كانت مثل هذه الشركة عاملًا مساعدًا نافعًا، شأنه أن يزيد — بتنمية تجارة إقليم يقع خارج نطاق عملياتهم — تدفق البضائع إلى الإسكندرية، ويزيد من رخائهم. ولقد كان الوالي يحبذ المشروع الجديد، أكثر من أي شيء آخر. وفي سنة ١٨٦٣م كان السودان مرتبطًا بمصر بأوهى الروابط فقط. وكانت الرحلة من القاهرة إلى الخرطوم طويلة، والمواصلات بطيئة متقطعة، وكان ممثلو إسماعيل الشخصيون هناك يفضلون مصالحهم الشخصية على مصالح الحكومة. وظلت السيطرة الفعَّالة على السودان مقصورة على الأماكن التي يعمل فيها المذنبون على طول النيل. وكان تحويل السيطرة الاسمية إلى سيادة حقيقية، وبالتالي وضع أساس إمبراطورية أفريقية، بهذه الطريقة، من أعز آمال الوالي. وفي هذه الظروف كانت الشركة التي تعمل على خلق روابط تجارية جديدة مع الأقاليم الجنوبية، وبذا تدعم الوحدة الاقتصادية لحوض النيل، تتفق تمامًا مع سياسة الدولة.

ومن ثم، ففي مايو سنة ١٨٦٣م، وبعد استكمال المفاوضات في مصر، سافر هنري أوبنهايم إلى أوروبا لتعبئة التأييد المالي. وهناك وجد أن رجال الأعمال أقل اهتمامًا بالمصالح الشخصية للمؤسسين المصريين من اهتمامهم بالشروط المربحة للمشروع ولقد كان الممولون الأوروبيون لا يريدون أن تقتصر الشركة على أوجه نشاط معينة في السودان، بل تتوسع في أعمالها بقدر الإمكان. ولم يجادل هنري. فلقد كان هو نفسه حريصًا على علاقاته مع شركات مثل فرولنج وجوش في لندن والميتلدويتش كريدت بنك في ميتنجن قدر حرصه على علاقته بالبنوك المصرية التي أوفدته في هذه البعثة. وبالإضافة إلى ذلك، فلم يكن هناك معنًى للمجادلة. فإذا كانت الشركة ستدخل سوق لندن، فإن عليها أن تدخل بشروط أوروبية.

وواضح مما نُشر أن هدف الشركة يتكافأ مع نوايا المشرفين عليها المصريين. فمثلًا، رأت مجلة السوق النقدية Money Market Review ضمانًا للنجاح في التماثل بين المصالح الخاصة للمديرين وبين مصالح الشركة. إلا أنه سرعان ما بدا أن هذه المصالح كانت متداخلة ومتنافسة بشدة، بدلًا من أن تكون متطابقة. ولقد كان مفتاح الموقف يكمن في تغيير الاسم، وهو تغيير لم يكن شكليًّا أبدًا؛ لقد اتخذ الممولون الأوروبيون — عن عمد — من مصر كلها إقليمًا واحدًا لتجارتهم.

ولقد جرى كل هذا بدون علم ديرفيو. ولم يكتب أوبنهايم أي شيء، وكانت خطابات أندريه يشوبها التهرب والتخلص. ولم يعلم ديرفيو بالحقيقة إلا في أواخر يوليو، بعد ما يقرب من شهر من الإعلان عن «الشركة التجارية» في إنجلترا. ولقد عبر عن سخطه لأندريه، وانتقد تكاليف وشروط المشروع، وهاجم بالذات تغيير اسم طبيعة المشروع. وفي نفس الوقت، كان ديرفيو يدرك أن ذلك قد جاء متأخرًا. «احتفظ بهذه الاتهامات لنفسك يا سيدي الطيب، فلن يفيد في شيء تعريف الزملاء الإنجليز أو الجمهور بها. فقد بدأ المشروع فقد بدأ المشروع، وأسماؤنا ضمن المشتركين، وسنبدأ في العمل، ونأمل الوصول إلى نتائج طيبة». ولقد كان ديرفيو محقًّا في تفكيره في الجمهور؛ فلقد سارت الأسهم سيرًا بطيئًا، وكان اتحاد رعاة المشروع بطيئًا بشكل مؤلم في تصفية وضعه.

وبالنسبة لصغار التجار في الإسكندرية، كانت الشركة التجارية دليلًا على المحسوبية التي يظهرها المسئولون لديرفيو، وأوبنهايم، وباقي العصبة، وهي خطوة في سبيل احتكار المجموعات. وبالنسبة لمراقب خارجي، مثل مجلة الإيكونوميست، كانت الشركة رمزًا لعصر مالي جديد؛ فبينما منذ وقت قصير مضى كان أمرًا شاذًّا أن يؤيد تاجرٌ خاص شركة تعمل في نفس المجال، أصبح التجار لا يؤيدون ويساعدون بعضهم البعض فحسب؛ وإنما يخلقون شركة منافسة. لقد كان عصرًا جديدًا حقًّا، فالعارفون ببواطن الأمور فحسب، مثل أندريه، هم الذين يعرفون مدى تعاسة مؤسس الشركة التجارية. ولقد تلقى ديرفيو أول درس له في المالية الدولية: إن الرجال الذين يملكون المال هم الذين يُسيِّرون الأمور.

ولقد كانت خيبة الأمل التي صاحبت مشروعات الشركة المجيدية والشركة التجارية نموذجًا لما كان يحدث في الكثير من المشروعات المصرية في عام ١٨٦٣م، لقد كان عامًا لم يبدُ فيه أن أي شيء مستحيل على أرض النيل، واقترحت عشرات المخططات لكل مشروع وُلد، ولسوء الحظ فإن المؤرخ تقتصر معلوماته على الإنجازات لا على المشروعات. وبفضل الجرائد، والصحف المالية، والمراسلات الدبلوماسية، وما إلى ذلك، فإننا لدينا كثير من المعلومات عن الشركة التجارية، وشركة الملاحة، وشركات مماثلة، التي جعل انتعاشها أثناء فترة ازدهار القطن مراسل التايمز يكتب أن حكم إسماعيل باشا «قد افتتح بالتأكيد عهدًا جديدًا في تجارة وصناعة مصر، وبعث طاقة في النشاط التجاري لم تكن معروفة من قبل». إلا أن هذه الكلمات لا تنبئ في شيء عن التخمر الكامن؛ وحتى مراسلات ديرفيو المفصلة الصريحة، والتي كانت تعج بمشروعات أكثر مما يمكن لأندية ملاحقتها، تعطينا لمحة خاطفة فقط عن بزوغ الأفكار والخطط في مجتمع رجال الأعمال في الإسكندرية والبلاط الملكي في القاهرة.

ولقد كان إسماعيل ذا خيال خصب في هذا الشأن. فحتى قبل أن ينظف الأدران التي خلفها سعيد، (وهي مهمة كانت تبدو دائمًا مستحيلة الإتمام)، كان يفكر في مشروعاته، وهي مشروعات كلها قيِّمة، بيد أنها باهظة التكاليف. فلقد أراد أن يبني ميناء صناعيًّا في الإسكندرية، وأن يسترجع الأراضي من البحر، كما حدث في مرسيليا. واعتزم تجميل القاهرة بحيٍّ جديد على الطريقة الباريسية، ومحطة سكك حديدية شامخة، ومتحف مصري، وفنادق، ومسرح، وبورصة (ولما كان إسماعيل يضع في اعتباره الأرباح المستقبلة، نوى إقامة بعض المشروعات التجارية لحسابه الخاص). ولقد كان من المزمع إنشاء خط حديدي من القاهرة إلى الخرطوم — فوق ألف ميل من الأراضي الحارة والصعبة — كخطوة تالية نحو الإمبراطورية الأفريقية.

ولقد كان ديرفيو هو الأداة التي يختارها إسماعيل للكثير من هذه المشروعات، ولجأ ديرفيو إلى صديقه أندريه ليساعده. ومن كان غيره في فرنسا يمكنه أن يقوم بمثل هذا العمل؟ وفكر أصحاب بنك «ماركوارد برهة» — ربما لأن الوقت كان صيفًا، وكانت الأمور تتحرك ببطء، وربما للحصول على امتيازات أفضل — ثم زكوا جوان وشركاه (شركة الباتينول)، إحدى الشركات الهندسية الإنشائية الكبرى. ولم تكن هذه الشركة على كفاءة عالية فحسب، وإنما تتمتع فوق ذلك باحترام كبير. وكما عبر نيفليز عن ذلك (كان أندريه في إجازة).

«إننا نعرف هؤلاء السادة معرفة شخصية، وهم يتمتعون عن جدارة بأحسن سمعة في القدرة والإخلاص كما أنهم أناس يناسبنا التعامل معهم.» وربما كان عليه أن يضيف أيضًا أنه من بين الشركاء المستترين في «الباتينول» زملاء من رجال البنوك مثل روتشلدز، وإيتالز، وهوتنجورز.

إلا أنه في النهاية، وبالرغم من «جدية» إسماعيل «ومثابرته»، لم يتحقق أي شيء من هذه الأمور؛ فالحقيقة أن هذه المشروعات كانت تتكلف في تقدير المقاول أكثر مما تتكلف في تقدير إسماعيل. وعلى الرغم من قمة انتعاش القطن، كانت الخزانة المصرية أفقر من تقديرات الحاكم الجديد المفرِط في الثقة بنفسه. ومع ذلك، فإن تدخُّل ديرفيو وسيطًا في مفاوضاتٍ من هذا القبيل، (حتى لو انتهت إلى الإجهاض)، أعطاه مكانة اقتصادية هامة. وبوصفه مصدرًا كافيًا للرعاية المالية والتجارية، كان هدفًا لكل أنواع الممالأة والتودُّد والمداهنة.

ومن بين هؤلاء الملحِّين في التودُّد والرجاء كان ممثلو الصناعة الفرنسية الذين رأوا في الحكومة المصرية مخرجًا لمصنوعاتهم، التي لا يمكنها أن تصمد في المنافسة في السوق العالمية من ناحية الثمن أو النوع. وثمة أكثر من طريق لسلخ جلد القط أو التخلص من بضاعة. فمثلا، كان أندريه من أنصار شركة «فورج وشانتييه» للبحر الأبيض المتوسط الصناعية. وفي ١٠ مايو سنة ١٨٦٣م كتب إلى ديرفيو ليذكره بأن أدولف ماركوارد (أحد الشركاء الكبار في البنك) هو واحد من مديري شركة «الفورجيه شانتييه»، وقال أندريه في خطابه إن بعض الأنباء تقول بأن إسماعيل ينوي شراء ثلاث سفن حربية، فإذا كان هذا صحيحًا فإن على ديرفيو أن يراعي أن «تذهب الصفقة إلى الشركة التي تهمنا مصالحها.» وأسرع ديرفيو إلى الإجابة قائلا بأن هذه الأنباء غير صحيحة لسوء الحظ.

ومع ذلك، لم تفقد باريس الأمل، وفي خطاب بتاريخ ٢٩ يوليو، حاول نيفليز أن يؤكد من جديد تزكيته لجوان وشركائه قائلًا إن هؤلاء أيضًا يستطيعون تنفيذ طلبات السفن والآلات والتعاقد على المشروعات الإنشائية، ومع ذلك فينبغي أن تظل الأفضلية لشركة «الفورجيه وشانتييه».

وأصبح من الواضح أن ديرفيو شخص تفيد معرفته. فحتى أعماله المصرفية العادية — الخصم، والقبول، والتبادل — كانت تعكس بنموها مركزه الجديد كأفضل المفضلين. ولقد كتب ديرفيو في ٢٦ أكتوبر يقول: «إننا نتمتع بحسن نية الجميع. ومن المعروف أننا لا نستغل العملاء، وإنما نعمل بإخلاص وأمانة، وأننا نحظى بمساندة وتأييد الوالي. لذلك فكل رجال الأعمال كبارًا أم صغارًا يأتون إلينا، ولو أصبح رأس مالنا ثلاثة أضعاف حجمه الحالي لأمكننا أن نستخدمه كله.»

وفي الحقيقة، كانت أسعار القطن العالية جدًّا (كانت بالات الموسم الأولى تباع في الإسكندرية بأكثر من شلنين للرطل)، وتوفُّر محصول لم يسبق له مثيل، يبشران بنشاط مالي وتجاري رائع. ولقد كتب ديرفيو وهو يملؤه شعور بالرضا أن عملاءنا الأساسيين — بريمز، بلاتنا، دوموشير، وقلة آخرين — يتوقعون طلبات لا تقل عن ٤٠ و٥٠ مليون فرنك لكل منهم، وبهذا المستوى من النشاط، أمكنه أن يكون متشددًا: «لقد أوضحنا لهم أننا لن نقبل إلا أذونات على البنوك، وطلبنا منهم أن يكتبوا إلى رؤسائهم يطلبون منهم أموالًا.» ولقد ترك ديرفيو مضطرًّا ميدان قروض الفلاحين مع أنها «عمليات ممتازة غير عادية»، للشركة التجارية والمرابي المتجول. فقد كان ديرفيو يحتاج إلى كل موارده من أجل تجارة القطن في الإسكندرية.

ولقد كانت هذه الحاجة إلى تعبئة رأس ماله دليلًا على أن ديرفيو كان يشتت جهوده. كان موجودًا في كل مكان في نفس الوقت، في حلج القطن، في الري، ومضاربات الأرض، والآلات الزراعية، وزيت بذرة القطن. فإذا ما بدأ أي عمل تجاري جديد، فمن المؤكد أن يكون ديرفيو في مجلس الإدارة. واقترب الوقت الذي يكون فيه تنوع النشاط والأغراض باهظَ التكاليف، ولكن كان الخطر لا يزال بعيدًا في سنة ١٨٦٣م. وفي هذا الوقت على الأقل، كان ديرفيو الكل في الكل؛ لقد تربع على قمة عالم الأعمال المالية التجارية المصرية.

وبقدر ما كان حفيف أوراق البنكنوت ورنين العملات مُرضيًا لديرفيو، كان أيضًا شعوره النفسي بدوره الجديد الكبير. وبوصفه مصرفيًّا ملكيًّا كان في الواقع رجل دولة، ووزيرًا بدون وزارة، ومستشارًا للحكومة في المشاكل ذات الأهمية القومية أو الدولية: الميزانيات، القروض، قناة السويس، سياسة مصر الخارجية. ومن الصعب التكهُّن بمقدار نفوذ ديرفيو الحقيقي في كل هذه المجالات. ومع ذلك فهذه المشاغل شبه رسمية جعلته ثمِلًا بالنشوة، وبامتلائه بالفخر والشعور بأهمية ذاته إلى حد معاداة المحيطين به، لم يسأم الإسكندري من إعطاء هذا الانطباع لصديقه أندريه في باريس. فخطاباته كانت تتخللها ملاحظات مثل:

«لقد قضيت أسبوعًا مع الوالي في القاهرة … مساء أمس بقيت مع الوالي وحدي.»

«إنني أقضي حياتي ما بين الإسكندرية والقاهرة. لقد أخذت مكان نوبار باشا لدى الوالي، ويمكنك أن تتصور مدى الصداقة الحميمة بيني وبين فخامته، من خلال عملي كسكرتير خاص له. ومع أن هذا يضاعف عملي ولا يترك لي لحظة واحدة من الراحة، إلا أني سعيد تمامًا بذلك؛ إذ إن هذا يضاعف من رصيدي وسمعتي.»

وزيادة على ذلك، فقد دعم مركز ديرفيو الهام بالضرورة مكانته لدى الجالية الفرنسية؛ إذ كان أول من تمتلئ به عيون — إن لم تكن قلوب — أبناء وطنه. وفي فبراير سنة ١٨٦٣م انتخبه زملاؤه المرموقون المندوبَ التجاري الأول للمستعمرة الفرنسية في مصر. وبعد ذلك بوقت قصير أصبح عضوًا في محكمة القنصلية، وفي مايو سنة ١٨٦٣م عندما زار الأمير نابليون مصر، وطلب من القنصل الفرنسي اقتراح أسماء بعض أعضاء الجالية لمنحهم وسام الشرف، كان ديرفيو أحد ثلاثة مختارين. ولقد وُصف في أحد الخطابات المرسلة إلى وزارة الخارجية في باريس بأنه التاجر الذي يُشرف الجالية بشخصيته، ومصدر ثروته، التي كونها بعيدًا عن النظام الكريه الذي ساد العهد الماضي، وبوصفه مصرفي الوالي، وبهذا المعنى وزير ماليته الخاص، يتمتع بأعظم نفوذ مشروع لديه، وهو يستخدم هذا النفوذ لصالح المصالح الفرنسية فقط؛ وخارج المستعمرة الفرنسية كانت سمعته أكبر أثرًا، وقد تصل إلى أبعاد شبه أسطورية. فالقنصل الإنجليزي كولكهون، الذي كان محقًّا في الامتعاض من نجاح شركة ديرفيو وشركائه، مع ذلك وصف الشركة، التي تكونت منذ أقل من ثلاث سنوات، بأنها «بنك فرنسي قديم، أُنشئ منذ زمن طويل وذو احترام عظيم.»

ولسوء الحظ كانت هذه المزايا والمِنَح ذات تأثير في المظهر أكثر منه في الجوهر، وصحيح أن أرباح ديرفيو كبيرة، ولكنها إلى حد بعيد موجودة على الورق، وهي ذات طبيعة وقتية تدوم ما دامت حظوة الوالي وازدهار القطن. إن دفاتر ديرفيو كانت مليئة بفواتير مستحقة وحسابات واردة، فلم يكن هناك مكان شاع فيه الائتمان وكمبيالات المجاملة في أي مكان آخر بهذه السهولة مثل مصر. ولم يكن عطف الوالي نعمة على الدوام. فإسماعيل كان عميلًا ممتازًا، ينفق ببذخ، ولكن إسرافه في الإنفاق يقابله تقتير في الدفع، حتى إن دائنيه كانوا في نفس الوقت مترددين بين التخلي عن مثل هذا العميل الممتاز والاستمرار مع مثل هذا المدين المهمل.

بيد أن إسماعيل كان كريمًا في وعوده. فإذ كان توقيعه يعتبر ضمانًا كافيًا، وجد إسماعيل أن من السهل عليه إصدار جميع أنواع الأذونات، والفواتير، والسندات، والأدوات المماثلة، التي غذَّت نيران المضاربة المصرية وانتشرت في أسواق أوروبا، ومن وجهة نظر ديرفيو، بالطبع كانت طريقة الدفع المؤجل هذه خطيرة، ما دام مصرفه متمسكًا بسندات الوالي واضعًا إياها ضمن إيراداته، ولكنه كان يتخلص منها غالبًا عن طريق أندريه والوسطاء الآخرين للمستثمرين الأوروبيين.

والأخطر من ذلك هو ميل إسماعيل الشديد للاقتراض على الحساب الجاري، والحق أن من أهم أهداف إسماعيل في استثماره ٢٫٥ مليون فرنك في بنك ديرفيو كان ضمان الحصول على مزية السحب كلما شاء. وبالنسبة لإسماعيل، كان السحب على المكشوف يأخذ في العادة صورة إصدار الأذونات وأنواع الاقتراض الأخرى الرسمية. أما هنا فقد كان هذا أمرًا خاصًّا؛ ولن تكون هناك دعاية سيئة تؤثر على سمعته في السوق المفتوح. إنها قروض خاصة تتمتع بمرونة لا تتمتع بها القروض العادية. إنها قروض خاصة شخصية، وهي بهذه الصفة تتجنب رقابة وزرائه الأدبية وتتهرب من جهد القسطنطينية في السيطرة على الموقف.

ولم تكن تقديرات إسماعيل بعيدة عن الصواب. ففي مقابل اﻟ ٢٫٥ مليون التي استثمرها، سحب إسماعيل حوالي ٧ ملايين قبل نهاية سنة ١٨٦٣م. وضاق الخناق على ديرفيو؛ إذ إن نصف رأس ماله كان مربوطًا في حساب غير مضمون، بأملٍ بسيط في أن يفرج عنه. ومن ناحية كانت لصعوبات إسماعيل المالية صفة الدوام. ومن ناحية أخرى، لم يكن في وُسع ديرفيو أن يفعل شيئًا حيال هذا العميل بالذات. وقد اعتمدت مكانة وأرباح ديرفيو على عطف الوالي، الذي كان يعتمد بدوره على التسهيلات التي كان يؤديها ديرفيو له، تلك التسهيلات التي أثقلت كاهل عمليات ديرفيو المالية، وهكذا تمضي الأمور في دائرة مفرَغة قد تؤدي إلى الخراب، وفي الوقت ذاته لم يكن هناك وسيلة في العالم لمنع إسماعيل من الاقتراض من أوبنهايم، وباستريه أو أي ممول آخر مستعد، مثل ديرفيو، لأن يتاجر في السندات مقابل أرباح مالية الوالي. وفي الحقيقة، كان إسماعيل يقترض هكذا عشرات الملايين من الفرنكات. حتى إن كل شركة من هذه الشركات الكريمة لم تكن تهتز من مصاعبها الخاصة فحسب، بل كانت بإقراضها إسماعيل تزيد الخطر على الشركات الأخرى.

وبحلول خريف سنة ١٨٦٣م، بعد تولي إسماعيل الحكم بتسعة أشهر فقط كان الوالي قد استنفد تقريبًا الأرصدة التي كان رجال الأعمال في الإسكندرية مستعدين لتقديمها. واقترب الوقت الذي أحس فيه الجميع أنه لا مفر من قرضٍ عام في صورة من الصور. ولقد ناقش ديرفيو المسألة مع أندريه في خطاب طويل كتبه على ضفاف النيل عند عودته من القاهرة، وأرسله في ٢٠ أكتوبر: «لقد أزالت الفيضانات جزءًا من جسر الخط الحديدي، وأصبحت الباخرة هي وسيلة الاتصال السريع الوحيد بين القاهرة والإسكندرية.»

وفي هذا الخطاب خطط ديرفيو لصديقه ميزانية لمالية إسماعيل. ففي جانب المدين، كان لا يزال ميراث سعيد ينتظر التصفية. فثمة دين سائل يبلغ ٤٠ مليون فرنك، بالإضافة إلى ثروة في حسابات قابلة للدفع، وحقوق قريبة الأجل. وكانت قناة السويس هي أبهظ ما في ذلك كله؛ فوفق ميثاق مارس سنة ١٨٦٣م، وعد إسماعيل بدفع ١٫٥ مليون فرنك شهريًّا تبدأ في يناير ١٨٦٤م حتى مبلغ إجمالي يصل إلى ٣٥٤٠٠٠٠٠ فرنك تقريبًا — هذا بالإضافة إلى ١٢ مليون فرنك في ١٨٦٤م — لسداد أذونات الخزانة الصادرة قبل يوليو. وبالإضافة إلى ذلك رضخ إسماعيل لدفع مبالغ أخرى في نهاية المفاوضات الدائرة على إلغاء السخرة والمزايا الإقليمية المنصوص عليها في اتفاقيات القناة الأصلية، وذلك بناء على تحكيم نابليون الثالث الذي يقضي بأن تدفع مصر ٨٤ مليون فرنك أخرى.

وبالطبع كان هذا ما تخلف عن الماضي فقد كان لدى إسماعيل نفقاته التي تشتغل باله: ملايين الفرنكات للماشية والآلات لتعويض خسائر مرض الحيوانات وملايين أخرى لإصلاح ما أتلفه الفيضان الكبير. ولم يكن هذا شيئًا بالنسبة لما أراد أن ينفقه — لو كانت مشروعاته قد تحققت. وبالإضافة إلى المشروعات التي نوقشت من قبل، كان هناك سد النيل العظيم الذي ينتظر الإكمال بعد عشرات السنين من الإهمال، وبناء شبكة ري في الوجه البحري، وخطوط حديدية فرعية إلى مناطق القطن.

وفي مقابل هذه التعهدات والنفقات المتوقعة، كان هناك دخل مصر الذي يتزايد بسرعة بسبب القطن. فقد كتب ديرفيو عن توقع محصول يصل إلى ٢ مليون قنطار، وإذا حسبنا ثمن القنطار الواحد ١٢٥ فرنكًا — (السعر السائد ٢٢٥ أو ٢٣٥) — فمعنى هذا أن ٣٠٠ مليون فرنك ستدخل مصر في فترة الحصاد. ولم يكن كل هذا بالطبع مِلكًا لإسماعيل. ولكن الوالي أكبر مالك أرض في مصر، وكان دخله الشخصي يُعد بعشرات الملايين، وقد توقع ديرفيو لهذا الدخل أن يتضاعف في محصول السنة التالية. وفي نفس الوقت، قدر دخل الحكومة المصرية بمائة مليون جنيه.

باختصار، كان الوالي يحتاج إلى المال، ويستحقه، وهو قادر على سداده، ومع ذلك، كان إسماعيل مترددًا في طرح قرضٍ عام، فقد كانت ذكرى إسراف سعيد حية في الأذهان. ولقد حاول ديرفيو أن يقنع إسماعيل بأن الوقت حرج، وبأن حالة أسواق المال الأوروبية تستدعي تصرفًا سريعًا. وأجاب إسماعيل على قائلا:

«إن كل منطقك صحيح تمامًا، يا عزيزي ديرفيو، ولكنِّي لا أريد أن أطرح قرضًا قبل إتمام قناة السويس، وقبل أن يأتي وزرائي بأنفسهم ويطلبوا مني ذلك. ولقد عرضت المسألة على مجلس الوزراء، وأوضحت لهم في نفس الوقت موقفنا المالي. وبالطبع، لم يجرؤ أحدهم على اتهامي بالخطأ، ولكنني لاحظت أن بعضهم كانت لديه تحفظات وشكوك … وقد فهمت ذلك بسرعة؛ فهؤلاء السادة يتذكرون العهد الماضي ويعتقدون أنني إذا ما طرحت قرضًا، سأنفقه، وأضيعه في سنة كما فعل سلفي. ولذا، فإنني اتخذت موقف عدم الإصرار على القرض، مُبينًا أعظم الثقة في الموارد التي يدعي وزير المالية أنه يمكنه أن يوفرها من داخل البلاد، وإنني أنتظر اليوم عندما يأتي بنفسه ليخبرني بأنه لا مفر لنا من الحصول على قرض.»

ولسوء الحظ، كما اعترف إسماعيل، كان هذا الانتظار غير مناسب له إلى أبعد الحدود. فقد كان يحتاج إلى المال في الحال — ستمائة أو سبعمائة ألف جنيه، منها ١٠٠٠٠٠ جنيه تُنفق في شراء آلات إنجليزية فقط، والذين سيقرضون المال سيتقاضون عمولتهم أيضًا. فهل يستطيع ديرفيو الحصول على هذا المبلغ؟

وقد عرض ديرفيو بدوره المسألة على أندريه. فقد كان ديرفيو يعرف أن أوبنهايم يعارض المشروع، وأنه يريد أن يدفع إسماعيل إلى قرضٍ عام برفض كل التسهيلات قصيرة الأجل. وكان نوبار باشا، أكثر من يثق فيه إسماعيل بين وزرائه، من نفس الرأي. إلا أن ديرفيو، كان يشعر بأن أي قرض عام كبير، مهما كان مريحًا للمتعاقدين، سيُلحق بهم الضرر في نفس الوقت؛ إذ بمجرد أن يجد إسماعيل المال في جيبه، سيكون قادرًا على أن يتعامل مع من يشاء. كما أن ديرفيو لم يكن سعيدًا بفكرة إصدار سندات جديدة عن طريق حلفاء أوبنهايم الإنجليز والألمان … فروهلنج وجوشن وميدل دويتش كريديت بنك. فقد كان ديرفيو يريد شخصًا مثل أندريه للقيام بالعملية، «كبنك فرنسي، يكون رصيد مصر قائمًا في فرنسا».

ولذا فضل ديرفيو أن يغطي القرض القصير الأجل بمبلغ ٧٠٠٠٠٠ جنيه في باريس. فقد كان هو وأصدقاؤه مستعدين لأخذ حوالي ٨٠٠٠٠ جنيه، وأندريه يمكنه دون شك أن يجد الباقي، ربما بمساعدة بنك الكريدي موبيلييه. ولقد كان ديرفيو خائفًا من بنكٍ كبير مثل موبيلييه يُشاع أنه يضع عينيه على مصر «إنني لا أحب أن يكون هذا القرض وسيلة الكريدي موبيلييه لابتلاعنا فيما بعد، وعليه أن يعِد بألا يفعل أي شيء في مصر بدوني أو بدون وسطائي.» ولكن ديرفيو كان مستعدًّا لأن يلعب بالنار ليخدم سيده الوالي جيدًا. فآمال التعامل مع إسماعيل كانت تملؤه سرورًا. وفي نفس خطاب ٢٠ أكتوبر يستطرد ديرفيو في حماس:

«إنني لا أدري، يا صديقي العزيز، إن كنت تعرف، إن كنت تقدر حقيقة والينا الجديد. كل ما يمكنني أن أقوله هو أنني كلما عرفته أكثر توثقت علاقتي به، وكلما أدهشني ذكاؤه، وروحه الطيبة، ازددت اقتناعًا بأننا سنشهد عهدًا عظيمًا، بل وحتى بعثًا جديدًا للشرق.»

لقد بدأت عقدة القصة تتضح، وهي ككل العقد الممتازة، تدور حول صراعات محددة. ومن بين هذه الصراعات كانت اثنتان منها تشكلان الخيط الأساسي للقصة:

  • (١)

    الأهداف المتناقضة لديرفيو وشركائه الأوروبيين في المالية الدولية:

  • (٢)

    الحرب الدائرة بين الخزانة المصرية والبنوك الأوروبية.

ولقد ناقشنا أول هذين الصراعين، وخاصة فيما يتعلق بالشركة التجارية، أما الآن فنحن نرى الصراع مرة أخرى حول مسألة القرض المقترح، وإن كان في صورة أشد وبالًا.

والثاني هو الصراع الذي أثار انتباه المؤرخين، حتى الآن، الذين ناقشوا المزايا والأضرار في لغة قارصة، والذين صوروه مثل «اغتصاب مصر، وخيانتها» وهكذا. إن من الواضح من المراسلات أنه بالنسبة لديرفيو وكل رجال الأعمال الآخرين في مصر، كانت خزانة إسماعيل مجرد حافظة تُنهَب. فلم تكن المسألة عندهم هي مسألة كم، وإنما كانت مسألة كيف؛ كيف يشجعون الوالي على الإنفاق في الأشياء السليمة، كيف يجبرونه على الاقتراض من جماعة معينة، كيف يقرضونه مبالغ بأكثر الطرق إغراءً، كيف يضعونه في القيد أيضًا!

ومن ناحية أخرى، لم يكن إسماعيل طفلًا قاصرًا. فخطاب ديرفيو المرسَل في ٢٠ أكتوبر يثبت قوة الوالي الخارقة على سحر سامعيه، وقد وصفها أحد المراقبين بأنها «موهبته العجيبة»، كتب هذا المراقب يقول: «لم أصادف في حياتي رجلًا رفض أن يستكين مثل إسماعيل.» لقد كان إسماعيل ينفق أكثر من إمكانياته، وكان يعرف ذلك. واقترض أكثر من اللازم أموالًا كثيرة على الحساب الجاري والقروض القصيرة الأجل، ولكنه كان قادرًا على ابتكار كل أشكال الارتباطات التي تُقنع دائنيه بإمداده بأموال أكثر على نفس الأساس. ومن المؤكد أن إسماعيل كان مستعدًّا لأن يدفع ثمنًا غاليًا لما يلائمه، مثلما كان يدفع ثمنًا غاليًا لما يشتريه. ذلك، فقد كانت هذه الملاءمة هامة له، وهي تمثل مخاطرة في نفس الأهمية لدائنيه. وباختصار، لم يكن كلا الطرفين بريئًا؛ بل كان الوضع مجرد توازن دقيق للمنافع والمساوئ المتبادلة، منطقة عدم استقرار يتحصن فيها كل من المقترض والمقرض، يحاول أحدهما أن يتفوق على الآخر بحيلته ومهارته.

وحول هاتين الفكرتين الأساسيتين تدور شخصيات الدراما، فالممثلون الأساسيون، هم ديرفيو، أوبنهايم، إسماعيل. والممثلون المساعدون: أندريه، فروهلنج وجوشن والبيوت التجارية والبنوك في الإسكندرية؛ ثم تأتي بعد ذلك، الشركة التجارية، جارية، والشركة المجيدية الجديدة، وبنك الكريدي موبيلييه. وبين هؤلاء جميعًا تنسج شبكة معقدة من التحالفات والمنافسات، بعضها مكشوف وواضح، وبعضها كامن وغير ملحوظ. وفي هذا الصدد، تعتبر بعض جوانب الموقف ذات أهمية خاصة:

  • (١)

    الصراع بين ديرفيو وأوبنهايم. وقد مهدنا لهذا في القصة. وفي الجوهر، كان هذا الصراع يرتكز على نفس الاختلاف في المصالح التي فرقت بين ديرفيو وأندريه، فأوبنهايم، على عكس زميله السكندري، كانت له روابط قوية مع اتحاد أصحاب البنوك الدوليين. ولقد عقد القرض المصري الأول باسم هذه المجموعة، وكان مستعدًّا وشغوفًا بتنظيم قروض أخرى.

    وباختلاف المصالح اختلفت الأفكار والاتجاهات. ومن المستحيل بالطبع، أن نقول ما إذا كانت المصالح أو المواقف هي التي ظهرت أولًا، ولكن تظل الحقيقة بأن ديرفيو وأوبنهايم لم يتصرَّفا بشكل مشابه، ولم يفكرا أيضًا بشكل مشابه.

  • (٢)

    خطر بنك الكريدي موبيلييه. ففي مجال أعمال البنوك الدولية، كان هذا البنك قويًّا يستسلم له الآخرون. وإذ كان عدوانيًّا استعماريًّا، وصل إلى كل مكان، وحيثما ذهب أراد أن يكون السيد. ولذا فإن ديرفيو كان مشبعًا بخوفه منه، فمثل ضفادع الأسطورة، قد ينتهى هذا البنك بإحلال قبضته الطاغية الجبارة محل فوضى الوضع القائم التعيس.

  • (٣)

    وطنية ديرفيو، وفي وطن كان المال فيه إلهًا غيورًا، لا يطبق قيمًا أخرى تكون الوطنية من أندر القيم؛ ففي خطاب بتاريخ ١٦ سبتمبر سنة ١٨٦٢م، كتب القنصل الفرنسي إلى باريس عن إسماعيل، الوريث المتوقَّع حينئذٍ:

    «إن إسماعيل يحيط به أناس عاديون، صحيح أنهم فرنسيون، ولكن في مصر لا يعني هذا شيئًا. فالطمع يتغلب على كل الاعتبارات الأخرى، وأعمال كثيرة، ذات أهمية لفرنسا، كثيرًا ما يعارضها مواطنونا. (لست مبالغًا في هذا بحال من الأحوال).»

    ومن الصعب تصوُّر أن هذا النقد كان موجهًا إلى ديرفيو، الذي كان من مؤيدي شركة قناة السويس منذ سنة ١٨٥٨م عندما كان كل مجتمع رجال الأعمال في الإسكندرية يعارض القناة بقوة. وزيادة على ذلك، فإن مراسلاته مع أندريه، المعزَّزة بتعليقات تأييد بخصوص منح ديرفيو وسام الشرف، تُبين أنه قبل منتصف سنة ١٨٦٣م كان ديرفيو قد أصبح بطل المصالح المالية والتجارية الفرنسية في مصر.

    وإلى حد ما كان هذا الموقف النبيل أيضًا عملًا مصرفيًّا طيبًا. فالمنافسات القوية في مصر، وخاصة بين إنجلترا وفرنسا، كانت أحيانًا على درجة قوية؛ بحيث تصبح عاملًا هامًّا في المنافسة التجارية. ولقد أمكن ديرفيو أن يجادل في مجلس إدارة الشركة المجيدية، مثلًا، بأنه بصرف النظر عن الأسعار المقارنة، فإن طلب كل سفن الشركة من شركة بينيسولار والأورينتال Oriental & Peninsular يعتبر إهانة لفرنسا، وكتب إلى أندريه: «ليساعدنا الله إذا لم ننتج سُفُنًا جيدة مثل السفن الإنجليزية.» وفي الوقت ذاته كان تأييد قنصليته له هو المصدر الأخير لمركزه في مصر، ولقد كانت القنصلية الفرنسية، مثلها مثل القنصليات الأخرى، تُكِن محبة خاصة للأشخاص الوطنيين الصالحين مثل إدوارد ديرفيو.

    من أجل هذا كله، كانت خطابات ديرفيو تُبين أن الوطنية عنده كانت أكثر أداة في يده. ويبدو أنه كان يشعر بنوع من المسئولية نحو المصالح الفرنسية، إلى درجة أن أحد القناصل اضطر إلى أن يشكو إلى باريس من تدخله. ولقد كان ديرفيو رجلًا مخلصًا قبل كل شيء، يعتقد فيما يفعله أو يقوله. ومهما كانت الأسباب الأصلية لوطنيته المتوهجة، فإنها كانت تعتمد في سنة ١٨٦٣م على حُب صادق، وزهو لعلمه وبلاده.

    والحقيقة، إن وطنية ديرفيو لم تكن دائمًا ذات نفع مادي، بل كانت أحيانًا عقبة في طريقه. فمن الصعب أن يكون المرء رجلَ بنوك دوليًّا ناجحًا إذا كان وطنيًّا متحمسًا. وفي هذا الصدد كانت الوطنية عبئًا إذا ما قورن ديرفيو بآل أوبنهايم الذين نَشَئوا في فرانكفورت، وأصبحوا مواطنين بروسيين من أجل الحماية في مصر، وإن كانوا على ارتباط وثيق في العمل والأُسرة بإنجلترا وفرنسا (أخيرًا أخذ هنري الجنسية البريطانية وهيرمان الجنسية الفرنسية)، وذوي نزعة فوق القوميات «قلبًا وقالبًا». وفي هذه الحالة، كان ديرفيو أيضًا يختلف عن أندريه وبقية مجموعة المالية العالية من البروتستانت، ومعظمهم مرتبط عائليًّا بنصف بلاد غرب أوروبا، وكثير منهم كانوا يجمعون بين الجنسية الفرنسية والجنسية السويسرية، وهو جمع مفيد، حتى إن الكثيرين منهم احتفظ به إلى اليوم الحاضر.

  • (٤)

    مركز أندريه. لقد رأينا أنه إذا كانت البنوك الخاصة القديمة من مجموعة المالية العالية قد تدخلت عن قرب في كل الصراعات، والأحلاف، ومشاريع عصر الشركة المساهمة، إلا أنها جميعًا قد حرصت على الاحتفاظ بشخصيتها، وطابعها المميز، وحرية العمل. ولقد كان أندريه يشعر أكثر من ديرفيو بخطر ابتلاع الاتحادات العملاقة للشركات الصغيرة. ولكنه على العكس من ديرفيو، أدرك أن أسرع طريق لابتلاع الشركات الصغيرة هو بالدقة محاولتها التوسع بأكبر مما تسمح به إمكانياتها.

وفي نفس الوقت، فقد كان أندريه وريثًا لأسرة رجال أعمال شهدت مائتي سنة من الاضطهاد، والفرار، والثورة، والحرب، وعاشت في ظل ستة دساتير منذ إنشائها في فرنسا في بداية القرن، ولذا كان موقفه اتجاه الدولة — أي دولة — يختلف تمامًا عن اتجاه ديرفيو. فعند أندريه كانت الدولة عدوًّا كامنًا. ومع أن الدولة تكون أحيانًا عميلًا طيبًا وحاميًا ونافعًا، إلا أنها أيضًا غالبًا ما تكون مماطلة، ومتهرِّبة في عمليات الدفع، وناهبة للأموال، وإذا قورنت بعائلته بدت الدولة لأندريه وكأنها شيء عابر وغريب في الجوهر؛ على المرء أن يستخدمها، ويطريها، بل ويحبها، ولكن لا يجب عليه إطلاقًا أن يثق بها. وأما عن الحكومات الأخرى فعلى المرء أن يحذر منها إلى أبعد الحدود.

على ضوء هذه المنافسات، والتحالفات، والاختلافات والتعاطفات، يمكن أن نفهم إجابة أندريه.

ولقد بدأ خطابه الطويل — في طول خطاب ديرفيو — بالحديث عن إسماعيل: «صاحب الشرف الذي يستحق التشريف.» لقد كان أندريه مستعدًّا لقبول تقييم صديقه للرجل العظيم: «إنني أدرك جيدًا كم يطيب للمرء أن يسير في كنفه، وأن يساعد على تحقيق مشروعاته الكبيرة.» ولكنه على عكس ديرفيو، كان يشعر بأن فضائل إسماعيل هي التي تدعو إلى الحذر والحرص لا الثقة.

«إن هذا النوع من الامتصاص الدائم لرأس مالك، الذي يستفيد منه هو والذي يمكنه أن يسيء استعماله، وهذه الحساسية المفرطة فيما يتعلق برصيده، وهذا العقل المحاسب المساوم، الذي يظهره في كل المناسبات، يثبت لي أنك تتعامل مع طرف قوي … ومن الواضح أنك تجد نفسك في مأزق معه. فعليك أن تقدم له كل المساعدة الممكنة، وفي ضوء الاحتياجات المتزايدة التي تتبدَّى، فإن عليك أن تبذل كل جهد لكي تكون في مستوى مهمتك. ولكن في الوقت ذاته، يجب أن تحذر، لأن اتجاه وميل جميع الحكومات، في مصر أو في فرنسا، في الحاضر والمستقبل هو الاستيلاء على أرصدة الشركات والمؤسسات المحيطة بهم. وفي هذا الصراع ضد القوى التي تعتمد عليها، تكون دائمًا عاجزًا؛ وعليك دائمًا أن تكون على حذَر، فإذا لم تفعل ذلك، فسيأتي الوقت الذي ترى فيه أن مواردك مشلولة بين يديك.»

وفي ضوء هذه الاعتبارات، كان أندريه، مثل أوبنهايم، يفضل قرضًا قويًّا عاجلًا يمكِّن إسماعيل من أن يسدد ما عليه لديرفيو ودائنيه الآخرين. ولما كان الوالي لا يرغب في مثل هذا القرض حاليًّا، فقد تحول أندريه إلى مسألة تقديم مبلغ مؤقت. كتب أندريه يقول: إن مشروع ديرفيو بقرض كبير لإسماعيل على الحساب الجاري ينبغي استبعاده تمامًا؛ فتقديم قرض على الحساب الجاري يضع المقرِض تمامًا تحت رحمة المقترض، وهو يتضمن مخاطرة عدم استرجاع المال في وقت محدد، والخضوع للتأجيلات، وقد يجد المرء نفسه في نزاع مع خليفةٍ للعرش، ومن ناحية أخرى، فإن قرضًا يتمثل في سندات قابلة للبيع ذات أجل محدود يعتبر أمرًا معقولا تماما.

وفي أثناء ذلك، كما ذكر أندريه، كان أوبنهايم يسير في المشروع بطريقة مختلفة بعض الشيء. فبدلًا من إضاعة وقته في سؤال أصدقائه من الممولين بإقراض المال لإسماعيل على الحساب الجاري، كان أوبنهايم يتفاوض في أمر قرض مشابه من الشركة المصرية التجارية، على أن تتولى هذه الشركة جمع الأرصدة اللازمة لإصدار سنداتها، فقد عرف أوبنهايم أن أي مؤسسة تقوم على الأسهم تستطيع أن تفعل ما لا يستطيع البنك الخاص أن يفكر فيه.

ولم يكن أندريه مُحبِّذا للفكرة تمامًا، وكان رأيه أنه إذا نجح إصدار السندات فلا بأس في ذلك. أما إذا فشل، فإن سمعة الشركة التجارية ستتأثر بشكلٍ عنيف. فمثل هذا الإصدار يمثل على الأرجح أفضل توفيق بين مطالب إسماعيل وبين الممارسة المالية والتجارية الحسنة. ولقد كان أندريه يدرك بالطبع، أن ديرفيو لن يكون سعيدًا بأي حل يستبعده من الصورة؛ إذ كان ديرفيو طموحًا إلى درجة رفض المنافسة، غير مستقر إلى درجة أنه لم يكن مستمِدًّا لاحتمالها، مفرد التفكير إلى حد العجز عن التكيُّف. وقد ناشد أندريه صديقه ديرفيو أن يصبر؛ فمن لا يشارك اليوم في القروض ويكتفي بجمع ما له من أموال لا بد أن يعيش حتى يقرض الناس بعد ذلك.

وفي هذا الصدد، كان أندريه قلِقًا من علاقات صديقه بأوبنهايم. فلقد أحس باختلاف جذري في الاتجاهات والمبادئ بين البيتين الماليين السكندريين، الأمر الذي قد يؤدي يومًا ما إلى منافسة «مدمرة». ومع ذلك «فإن أمامك وأمامهم مزايا متساوية إذا وحدتم جهودكم، إذا مارستم نفوذكم معًا لتدعيم هذه الجهود وتقوية معاهدة التحالف التي تربط بينكم.» لذلك نصح أندريه ديرفيو بألا يستمر في محاولاته لإيجاد ٧٠٠٠٠٠ جنيه لإسماعيل حتى لا يعرق مفاوضات هنري أوبنهايم في لندن، وفضلًا عن ذلك، فإن ديرفيو سيستفيد أيضًا — بوصفه أحد مديري الشركة المصرية التجارية — من أي مساعدة تقدمها له الشركة الإنجليزية.

أما عن خوف ديرفيو من تسلُّل بنك الكريدي موبيلييه إلى مصر، فقد شعر أندريه بأن هذا التسلل أمر حتمي. وكتب يقول: «إن هذه المؤسسة التي تمثل اتحاد رأس المال الضخم والعقول الجريئة، تستهدف امتصاص كل شيء في كل مكان. إن قانون وجودها هو الحركة إلى الأمام دائمًا؛ إذ إن الثبات يعني التدهور. ولذلك، فلسوف ترى هذه المؤسسة تمد ميدان نفوذها بنجاح إلى كل مكان.» وفوق ذلك، كما أوضح أندريه، فإن النمو الضخم في تجارة مصر وأعمالها المصرفية لا بد أن يؤدي إلى تدخل المالية الأوروبية: «وإذا كان منذ ستة شهور يعتبر إنشاء بنك إصدار في مصر عملًا مفيدًا أو مرغوبًا فيه، فإن إنشاء هذا البنك اليوم يبدو لي أمرًا لا غنى عنه.» وإذا لم يقُم بنك الكريدي موبيلييه بهذا المشروع، فربما قام به بنك كونتوار دي كومت، أو ربما الشركة العامة المقترحة، بل وحتى بنك روزتشايلد قد يتدخل بنفسه فيستفيد من الموقف. لذلك ناشد أندريه ديرفيو أن يتحدث مرةً أخرى إلى إسماعيل عن فكرة إنشاء بنك وطني.

وفي الختام، انتهز أندريه الفرصة ليحاضر صديقه مرة أخرى عن أهمية السيولة المالية وضرورة مقاومة مطالب إسماعيل الزائدة. فأندريه يشعر بأن أسعار القطن أعلى من اللازم، وأن احتياطيات أوروبا الغربية من الذهب تتدهور، وربما أخذ سعر الخصم في الارتفاع. وفي نفس الوقت فهناك دائمًا خطر الثورة السياسية في فرنسا، فأندريه، مثل كل الفرنسيين الطيبين، لا يطمئن أبدًا إلى استقرار حكومته: «الله يرحمنا يا عزيزي ديرفيو من ثورة أخرى على نمط ثورة ١٨٤٨م.» ومع ذلك، فإن أندريه يود أن يكون مستعدًّا إذا حدثت مثل هذه الثورة مرة أخرى. لذلك أخبر ديرفيو أن يتمسَّك قدر الإمكان بشيكات على البنوك لا على الشركات الصناعية، وأن يأخذ الأوراق القصيرة الأجل فحسب، وأن يبعد توقيعه عن السوق.

«إنني أريد أن أقنعك بالفائدة المتحقِّقة لك ولنا من التعامل في رصيدك بحذَر بالغ، ومن عدم السماح لأن تضع نفسك في موضع النقد بأي حال، ومن رفض الوقوع في إغراء لفت نظر الجمهور إليك عن طريق قيامك بدور الوسيط في عمليات مالية ضخمة جدًّا؛ إذ إن تجميع مثل هذه المخاطر الجارية على فترة طويلة المدى لا بد أن يشكل خطَرًا حقيقيًّا.»

وفي نفس هذا المساء أضاف أندريه إلى خطابه لديرفيو بطاقة بريدية يخبره فيها أن سعر الخصم قد ارتفع إلى ٦٪ كما هو متوقَّع، وأن قرض الشركة المصرية التجارية قد غطى معظمه؛ ولذلك ينبغي أن يكون ديرفيو سعيدًا لاستعادته أمواله. وقد كان من الواضح أن أندرية يخشى أن يكون صديقه غير سعيد بهذه الأنباء. لقد كان من المفروض أن تدفع سندات الشركة التجارية المصرية ٧٪ كل ستة أشهر، وأن تستحق السداد في عامين. ولقد كانت معظم هذه السندات من نصيب أصحاب الشركة ومديريها، فقد أخذت الشركة المالية الدولية ما قيمته مائة ألف جنيه، وأخذت مجموعة سولزباخ في فرانكفورت ٣٠٠٠٠ جنيه، وأخذ فروهلنج وجوشن وأوبنهايم وديرفيو وآخرون مقادير مماثلة. وقد توقَّعت الشركة المصرية التجارية التخلُّص من سندات بمائة ألف جنيه للمنتجين الذين يحظَون بتنفيذ طلبات الوالي؛ إذ إن أَخْذ هذه السندات هو أقل ما يفعلونه في مقابل فرصة بيع منتجاتهم. وفي النهاية بالطبع سيدفع إسماعيل ثمن هذه الخطوة أسعارًا أعلى لهذه المنتجات، غير أن هذا أمر لا يشغل الشركة التجارية.

•••

ولقد عمق من تحفظات أندريه المعتادة عن «التطور السريع والزائد» لنشاط ديرفيو المالي، وتشكُّكه شبه الغريزي في كل ما يبدو غريبًا في المهنة، نقول: لقد عمَّق من هذا كله اهتزاز وضع سوق النقود في أوروبا. فأزمة عام ١٨٦٣م لم تكن إلا نوعًا من التصفية والتحصُّن في مجال المالية الأوروبية. ولقد كان هذا العام عام ازدهار في تكوين الشركات. ففي إنجلترا وحدها امتصَّت سندات الائتمان ١٤٥ مليون جنيه، وفي فرنسا حوالي ۱۲۰۰ مليون فرنك. وفي نفس الوقت تدفقت ملايين الجنيهات إلى الشرق — وخصوصًا إلى الهند ومصر — حيث كان للفلاحين وَلَع خاص بالعملة المعدنية. وعندما حل يونيو ١٨٦٣م كان هذا العبء واضحًا في احتياطيات الذهب لبنكَي إنجلترا وفرنسا؛ وقبل نهاية العام كان بنك إنجلترا يقوم بالخصم بسعر ٪۸، وظل بنك فرنسا متمسكًا بسعر ٦ و٧ تحت ضغط الحكومة، التي خشيت آثار أزمة جديدة على قرضها لحرب المكسيك.

وبارتفاع سعر الفائدة أخذت أسهم البورصة في الانخفاض؛ ففي إنجلترا أصيبت سندات دين الحكومة الإنجليزية نفسها، غير أن أسوأ انخفاض هو الذي حدث في السندات المضاربة، ولا سيما ذات الأصل الأجنبي. وكانت بورصة باريس، بحساسيتها لأية خطوة ما زالت ضعيفة، ترقد في حذر وترفع رأسها من حين لآخر، لتسقط مرة أخرى بمجرد ظهور أول إشاعة. ومثل هذه الظروف لم تكن، على وجه القطع، الظروف المواتية لكي يتوسع أي ممول حصيف في أعماله. ولقد دعم هذه الاعتبارات العامة عند أندريه ما يعرفه عن حالة حساب ديرفيو، والواقع أن استنزاف إسماعيل المستمر لبنك ديرفيو وشركاه قد أدى إلى عجز مستمر لحسابه في باريس، واقترب هذا العجز في نهاية ١٨٦٣م من حوالي ٢ مليون فرنك. ولقد كان هذا عجزًا ضخمًا إذا قورِن برأس مال بنك أندريه وشركاه، البالغ حوالي ٣٦٠٠٠٠٠ فرنك ولهذا اضطرَّ البنك الباريسي في ١٨ يناير ١٨٦٤م إلى أن يذكر ديرفيو في الإسكندرية في لباقة بأنه يعوِّل على سداد العجز.

ولقد كان أندريه لطيفًا في طلبه، وإن ظل بنفس الإصرار في خطابه الخاص: «إننا مسرورون بأن نرى بأن نشاط عملياتك يجعل من الضروري لك أن تطلب منا مثل هذه التسهيلات الهامة. ولكننا في نفس الوقت نطلب منك ألا تدع حسابك مدينًا بشكل دائم.» غير أن أسبوعًا مضى دون نتيجة، فاضطرَّ أندريه أن يرسل بطاقة بريدية شخصية إلى جانب الخطاب الرسمي من البنك: «ينبغي أن نذكركم أيها السادة بما قلناه في خطابنا السابق عن حالة حسابكم، ونحن نتوقع دفعات هامة السداد بالبريد.»

وثمة أناس يتكفَّل الزمن بتهدئة كل أسباب قلقهم، فيختفي هذا القلق بعد أكلة طيبة على الرغم من بقاء المشاكل كما هي. وثمة آخرون يزداد قلقهم ويكبر بمجرد التفكير فيه، لا يستطيعون ترك بيتهم لحظة دون إغلاق الباب والمزلاج ووضع ناقوس الخطر في مكانه، وعند هؤلاء يدفع كلُّ احتياط إلى احتياط آخر.

ولقد كان ألفريد أندريه من بين هؤلاء. فعند إعادة قراءة بطاقته البريدية إلى ديرفيو لم يشعر بكفاية ما كتب، بل أحس بأن الموقف يدعو إلى كتابة خطابٍ مفصل شخصي، ولا سيما أن ديرفيو — مخالفًا كل قواعد العمل المصرفي السليم — قد أخذ بالتعاون مع أوبنهايم ما قيمته ٣٨ مليون فرنك من سندات الخزانة المصرية التي تستحق الدفع لشركة قناة السويس.

«يؤسفني أن أراك حاليًّا ضالعًا مع الوالي في مثل هذه العملية الكبيرة … إن كل الاعتراضات التي قدمتها في نوفمبر بمناسبة عرض السبعمائة ألف جنيه ليست صحيحة حتى اليوم فحسب، بل إنك لن تستطيع أن تمنع الرأي العام في مثل هذه العملية المالية الضخمة من أن يعتقد في خطأ وضع توقيعك على سندات قيمتها ٣٨ مليون فرنك، وهي سندات مهما كانت مضمونة فإنها قد تضعك في لحظة معينة في وضع خطير. وأخيرًا يا عزيزي ديرفيو أعتقد أن فرصتك الوحيدة في النجاح تتمثل في أن تكون هذه العملية هي الخطوة الأولى في قرض، وأعتقد أنك تخدم مصالحك الحقيقية لو أنك بدلًا من إقحام نفسك يومًا بعد يوم مع الحكومة، قد رفضت أن تعطي الوالي التسهيلات التي لا تسمح بها المصادر التي تحت تصرفك. إنني آسف أنه لا يوجد عندي الوقت الذي أستطيع أن أتوسع فيه في شرح أفكاري؛ إذ إنني أشعر بأن لك مصلحة (من وجهة نظر الأرصدة الكبيرة التي ينبغي الاحتفاظ بها في عالم المال) في تذكُّر أفكار ومبادئ فرنسا وفي الاحتراس من تقاليد الشرق الخطِرة، وهي تقاليد تشتد خطورتها بسبب إغراء نتائجها المباشرة.»

ولقد عبرت رسالة أندريه أفضل تعبير عن الخلاف في النظرة بين رجلين؛ فعند أندريه كانت تقاليد العمل المالي في الشرق هي عكس كل ما يمثل العمل المصرفي الصحيح؛ كان أندريه متشائمًا، استعدادًا وفكرًا، ولم تكن ثقة ديرفيو ذات أثر على نظراته المتشائمة؛ فعند هذا المصرفي الحريص المنحدر من أجيال من الممولين الكلفانيين الحريصين، كانت كل هذه الوعود المبشرة وكمبيالات المجاملة والقروض المتراكمة فوق القروض، وكل هذه السندات والأوراق التي حان سدادها؛ ليست إلا نذيرًا بالخراب. ومن مكتبه في باريس استطاع أن يرى على البعد دوامة التجارة المصرية وآمال ازدهار الأوراق المالية بعين قلِقة، هي عين المدافع عن عقيدة توجِّهُها هرطقات شيعة جديدة كريهة.

ولقد كان أندريه مستاءً على وجه الخصوص من عملية قناة السويس؛ إذ كان يعتقد بأن مركز ديرفيو قد أضعفه اقتراض إسماعيل إلى الحد الذي لا يسمح بإضافة عبء جديد من هذا الحجم. والأسوأ من ذلك هو أن يعلن ديرفيو عن هذا في عالم المال. إن بنك أندريه وشركائه حريص تمامًا على توقيعه الذي يمثل أجيالًا من العمل المصرفي السليم، وهو لا يمنح بخفة للتداول من يد ليد في أسواق أوروبا المالية. ففي عالم المال، كما في كل شيء آخر تؤدي الخفة إلى الاحتقار، وبنك أندريه وشركائه يتقاضى سعرًا مناسبًا لاستخدام اسمه، ولذا كثيرًا ما نبه مراسليه إلى أن المال قد لا يكون كافيًا لتعويض انطباع سيئ خَلَقَه توقيع مشوش. ومع ذلك فها هو ديرفيو يضع اسمه على سندات تبلغ حوالي أربعة أمثال رأس مال شركته!

والأكثر من ذلك أن صفقة قناة السويس قد فاحت منها رائحة كريهة. وعلى الرغم من أهمية المبلغ الذي دفعه ديرفيو (٣٨ مليون فرنك) فلم يكن هذا إلا جانبًا واحدًا من موقف معقَّد حساس تلعب فيه المصالح القومية الهامة والمستقبل السياسي للشرق الأدنى دورًا خطيرًا. وديرفيو، الذي أشعَره قربُه من الوالي بالزهو والرضا، بدأ يُقحم نفسه — بالمساعدة المترددة من جانب صديقه في باريس — في أمور أقرب إلى الدبلوماسية منها إلى العمل المصرفي. ومن السهل أن يتحول هذا المزيج إلى مادة متفجِّرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤