الفصل السابع

تعليق على السويس

في سنة ١٨٦٥م زار ج. شارل رو — الرئيس اللاحق لشركة قناة السويس الدولية ومؤرخها — مصر لأول مرة بوصفه عضوًا في لجنة دولية من رجال الأعمال، دعاها فرديناند دي ليسبس ليرى أعضاؤها بأعينهم تقدم العمل في القناة. وفي تقرير مرفوع إلى غرفة مرسيليا التجارية وصف شارل رو انطباعاته الأولى قائلًا: «عند وصولنا إلى الإسكندرية أدهشنا أن نجد أن هذه المدينة هي بؤرة المعارضة العنيفة للمشروع. فمعظم ممثلي البنوك الأوروبية الكبيرة، بل والفرنسية، كانوا يتسابقون في الهجوم على القناة ويسمونها — كما فعل لورد بالميرستون — المشروعَ الوهمي. وقد كان السبب الحقيقي في هذه العداوة، التي ما زالت قائمة حتى اليوم، هو خوفهم من أن تتبوأ بورسعيد مركز الإسكندرية في يوم من الأيام، وأن تضم لحساب أرباحها جانبًا من تدفق التجارة.»

وأيا كان شعور مجموع رجال الأعمال في الإسكندرية إزاء القناة، كان ديرفيو من بادئ الأمر مؤيدًا للمشروع. ففي خطابه الأول إلى أندريه المؤرَّخ ٢٥ ديسمبر سنة ١٨٥٨م، أشار بالتفصيل إلى التناقضات الدبلوماسية التي عُقدت وهددت وجود شركة قناة السويس، وختم خطابه قائلا: «مهما كان الحال، فإنني أؤيد بقوة من جانبي بناء قناة السويس؛ فإن هذا المشروع سيؤدي إلى دخول كميات كبيرة من رأس المال إلى مصر، وهذا يعني على وجه التأكيد رخاء البلاد.»

إن هذا العطف من جانب ديرفيو على مشروع يحرم الإسكندرية في المدى الطويل من جزء من تجاراتها الترانزيت المزدهرة، يعود في الأرجح إلى وطنية ديرفيو أولًا، كما يعود ثانيًا إلى اعتبارات مادية. ومع ذلك فهذه الاعتبارات المادية الهامة تتمثل في مصلحته كمُمَول في التدفقات التجارية من مصر وإليها، بالقياس إلى التدفقات التي تمر عبرها فحسب، وتتمثل في اهتمامه الأول برأس المال والعمليات التجارية قبل اهتمامه بالبضاعة وعمليات الشحن، كما تتمثل في حاجته المباشرة لأعمال مالية جديدة في عام يتميَّز بالأزمة.

ولم تُخيِّب الأحداث آمال ديرفيو في أن تؤدي القناة إلى أعمالٍ مالية ومكاسب جديدة. فهناك أولًا حركة أسهم القناة التي كانت تتذبذب في مدًى واسع، ولذا كانت عُرضةً لنوع من المضاربة. ولقد كان ديرفيو وسيطًا في بعض هذه الصفقات. والأكثر أهمية من ذلك في المدى الطويل هو المصاعب المالية لشركة القناة ذاتها، التي كان من شأنها أن تؤدي إلى تدبير أرصدةٍ للشركة وتحويل هذه الأرصدة، الأمر الذي لا يمكن أن يتم بدون تعاون ممولي الإسكندرية.

ولكي يفهم المرء هذه العمليات ودور ديرفيو فيها، يكون من الضروري أن نقف لحظة نستعرض التاريخ الأول للشركة وعلاقاتها بالحكومة المصرية. فلقد تميزت هذه العلاقات قبل كل شيء بجو ودي غير رسمي، مما أدى بالضرورة إلى نوع من سوء التفاهم كان من الممكن تجنبه لو صيغت العقود بعناية.

والقصة كما يقولون هي أن عوارض السِّمنة بدأت تظهر لدى سعيد باشا وهو صبي، وهو أمر يميز كل ذكور الأسرة المالكة المصرية خلال نضجهم. ولقد كان والده يعتبر هذه النعومة في الجسد شيئًا كريهًا. وهكذا أمر محمد علي أن يُدرَّب ابنه تدريبًا رياضيًّا وعسكريًّا كاملًا. وبدأ سعيد يقضي يومه مُتَسلقًا حبالَ السُّفن، يقفز الحبل ويجري حول أسوار القاهرة. وعندما ينتهي من هذا المجهود الشاق ويستريح في المساء يتناول العدس والخضروات. ولم يكن مسموحًا لأحد باستثناء قنصل فرنسا أن يرى الصبي خارج القصر، وهكذا تحول سعيد إلى القنصل كمصدر للراحة من مشاقِّ التمرينات ومتاعب الجوع. فهُنالك في بيت صديقه الطيب فرديناند دي ليسبس يستطيع، وهو بعيد عن أعين والده، أن يأكل ألوان المكرونة المختلفة.

وأيًّا كانت الحقيقة في هذه القصة، فلا شك أن دي ليسبس قد ظل إلى النهاية صديقًا حميمًا لسعيد، وأن هذه الصداقة هي العامل الوحيد ذو الأهمية القصوى في وضع مشروع قناة السويس وبنائها. ولقد بدأ الامتياز الأصلي عام ١٨٥٤م بالعبارة الآتية: «لقد لفت نظرنا صديقنا فرديناند دي ليسبس إلى …» ولقد صيغ الامتياز الثاني عام ١٨٥٦م في عبارات مشابهة. غير أن هذه الخدمة الأولى من جانب سعيد، التي لم يكن لها مثيل في كرمها، لم تكن نهاية خدمات سعيد باشا. فنفس فرمان ١٨٥٦م يتحدث عن «التعاون المخلِص من جانب الحكومة المصرية.» وتحت إغراء دي ليسبس وضغطه تحول هذا التعاون بسرعة إلى التزامات مالية أبعد كثيرًا مما تصوره الوالي من قبل. ففي التحليل النهائي دفعت مصر ثمن القناة؛ إذ إن القناة، كما تصورها دي ليسبس، وقدمها إلى «رأسماليي كل الأمم» كانت مستحيلة التنفيذ؛ إن فرديناند دي ليسبس هو واضع المشروع، رجل يحمل في رأسه فكرة. وإذ كان مُتَّصفًا بالأفق الواسع والقدرة على الإنتاج استطاع أن يضيف إلى صفتي السرعة والعملية التي تميز الدبلوماسي القديم صفتي الحماس والتكريس، التي تميز صاحب النبوءة (لقد خدم دي ليسبس في القنصلية الفرنسية والعمل الدبلوماسي حوالي ربع قرن). إن فكرة قناة عبر البرزخ بين البحرين تعود إلى آلاف السنين: فلقد نجح الفراعنة فعلًا في بناء ممر مائي من النيل إلى البحر الأحمر، ولكن قرونًا من الفوضى والإهمال أعادت هذا الممر إلى الصحراء. وفي الأزمنة الحديثة عاد الاهتمام من جديد بالموضوع. فالعلماء والمهندسون الذين صحبوا نابليون في ١٧٩٨م اتجهوا إلى دراسة المشروع، وفي مرحلة ١٨٤٠–١٨٥٠م كون أنفنتين وتلاميذه شركة لتحضير مشروع أولي، إلا أن دي ليسبس هو الذي استطاع أخيرًا بفضل صداقته لسعيد أن ينجح في توحيد الفكرة بالعمل.

وفي مبدأ الأمر وقف دي ليسبس وحده تقريبًا؛ فقد كانت إنجلترا مصمِّمة على منعه، ولم تكن فرنسا قد وقفت خلفه بعد، وكان القصر التركي مترددًا بين تهديدات البريطانيين وتأكيدات المصريين، ولكن دي ليسبس كان على استعداد لأن يحارب العالم كله من أجل المشروع. ففي عصر المواصلات المتعِبة البطيئة حلت بعثاته النارية في كل مكان على الفور، تحض الرأسماليين الفرنسيين المتشكِّكين على فتح خزائنهم والإيمان بالمشروع، وتناشد تجار ليفربول وجلاسجو العنيدين أن يروا ما رآه من فوائد للقناة على التجارة البريطانية. وتملق دي ليسبس الوالي في القاهرة، وتودد إلى السلطان في القسطنطينية، بل وحاول أن يكسب «بالمرستون»، وأن يغري من هم غير قابلين للإغراء. وعندما جاء وقت تنظيم الشركة أدار ظهره للسوابق، ورفض مساعدة روزتشايلد والقوى المالية الأخرى المعروفة آنذاك، وذهب مباشرة للجمهور المستثمر. ولقد كان دي ليسبس مملوءًا بحماس الأنبياء، طليقًا في خطابه، أنيقًا في كتابته، وهكذا جعل من مشروع القناة كل شيء لكل الناس. فإذا كان من يكتب إليه دي ليسبس من أهل المثل قال له إن القناة خطوة عظيمة نحو عالم جديد مُشرِق، وإذا كان وطنيًّا فرنسيًّا، بل إذا كان مواطنًا أوروبيًّا، قال له دي ليسبس إن القناة ضربةٌ قاضية لغدر الشرقيين، وإذا كان رأسماليًّا حريصًا قال دي ليسبس إن المشروع استثمار عظيم التزمت الحكومة المصرية بضمانه ضد أي خسارة.

ومع ذلك فكل عبقرية دي ليسبس وإلهامه لم يكونا وحدهما كافيَين لكسب الجولة. فعندما فُتح باب المساهمة في الشركة الدولية لقناة السويس في خريف سنة ١٨٥٨م لم يأخذ الجمهور من الأسهم إلا ٢٢٢٣٦٨ سهمًا من بين أربعمائة ألف. وأخذ سعيد الباقي؛ إذ إن القانون الفرنسي لم يكُن يعتبر الشركة مؤسسة قانونًا إلا بشراء كل أسهمها. ولسنا في مجال الدخول في تفاصيل تلك الصفقة التي تمثل ضربة معلم من أساتذة الأمر الواقع. ويكفي أن نقول إن سعيد الذي ساهم في الأصل ﺑ ٦٤ ألف سهم، وكان مستعدًّا لأن يأخذ حوالي ٩٦ ألف سهم محجوزة للإمبراطورية العثمانية (لم تأخذ تركيا أية أسهم)؛ وجد نفسه محملًا بأعباء ١٧٦ ألف بفضل صديقه دي ليسبس، أي حوالي ٤٤٪ من رأس المال الكلي، وذلك حتى قبل أن يعرف ماذا يجري في حقيقة الأمر.

وابتلع سعيد اعتراضاته وسكت مُكرَهًا. فمقدار العبء المُلقى على كاهله يفوق حدود محبته لدي ليسبس، وحدود أحلامه في الخلود كفرعون السويس، وآماله الزائفة في أن تكون القناة وسيلة ضمان لاستقلال مصر الكامل. وفضلا عن ذلك فقد أكد دي ليسبس لسعيد أنه يستطيع أن يدفع عندما يكون قادرًا، وهو تنازل يتلاءم مع ميل الوالي لمسايرة الزمن.

وهكذا، ففي أغسطس ١٨٦٠م رهن سعيد المستقبل ووقَّع اتفاقية مع شركة القناة يدفع بمقتضاها أعباءه كمساهم عن طريق سندات من الخزانة، ولقد نصت هذه الاتفاقية على أن يكون سعر السهم مائة فرنك، ومعنى ذلك دفع ١٧٧٦٤٢٠٠ فرنك عن ١٧٧٧٤٢ سهمًا لم يكن قد دفع منها سعيد في أبريل ١٨٦٠م إلا ٢٥١٦١٥٧ فرنكًا فحسب، أما الباقي فيُعطى عن طريق السندات السالفة الذكر، ولا تستحق دفعاته الأولى الدفع إلا سنة ١٨٦٣م.

غير أن الموقف قد تغير عند نهاية عام ١٨٦٢م؛ فقد ارتفع ثمن السهم إلى ٣٠٠ فرنك، وارتفعت أعباء الوالي المباشرة من ١٥ مليونًا إلى ٥٤ مليون فرنك. وبدأت شركة قناة السويس تحس بوخز الموقف، وكان دي ليسبس غير ميال إلى المخاطرة بطلب أرصدة جديدة بينما أكبر مساهم في الشركة لا يدفع شيئًا. وفي هذه الظروف مات سعيد، وتوضح رسائل دي ليسبس الخاصة أي صدمة أصابت الرجل؛ فالباشا الجديد لم يكن صديقًا شخصيًّا، ولم يكن ميالًا إلى القناة بروح الرعاية الأبوية كما كان سعيد، فإسماعيل لم يكن مصدر الفكرة، وإن كان سعيد قد خلَّفها له كخرافة باهظة الثمن. وفي أفضل الأحوال ربما لا يكون متحمسًا للمشروع، وفي أسوأ الأحوال قد يكون معاديًا. والحقيقة أن إسماعيل قبل توليه العرش أبدى عدم رضائه عن المشروع. إلا أن دي ليسبس في هذه الظروف بالذات كان في حاجة إلى صديق كريم عطوف إذا قُدر للمشروع أن يمضي إلى نهايته.

وفي مبدأ الأمر على الأقل لم يخيِّب إسماعيل آمال دي ليسبس؛ فقد كان الحاكم الجديد صريحًا في تأكيداته بالعطف على المشروع، وأعلن أنه متحمس للقنال أكثر من دي ليسبس نفسه. وعلى الرغم من وجود بعض تحفظاتٍ لديه بخصوص نصوص معينة في الامتياز الأصلي، وعلى وجه الخصوص استغلال السُّخرة والتنازل عن أراضٍ واسعة للشركة، على الرغم من ذلك بدأ إسماعيل يوضح نواياه الطيبة تجاه المشروع بقبول أعباء الحكومة المصرية فيما يخص الأسهم التي أخذها سعيد. ولقد أكد اتفاق ۲۰ مارس ١٨٦٣م الاتفاقات الأولى في أغسطس ١٨٦٠م فيما يتعلق بالمائة فرنك الأولى للسهم. أما الخمسة والثلاثون مليون فرنك الباقية (من المائتي فرنك التالية عن السهم الواحد) فتُدفع ابتداءً من يناير ١٨٦٤م بمعدل مليون وخمسمائة ألف فرنك كل شهر نقدًا أو بأوراق قصيرة الأجل تُعطَى قبل ميعاد الدفع بثلاثين يومًا، على أن تتحمل الحكومة المصرية كل نفقات التبادل. ولقد رفض إسماعيل صراحة فكرة إصدار سنداتٍ لتغطية هذا الدين، ففي هذه المرحلة من حياته كحاكم كان إسماعيل ما زال معارضًا بعنفٍ لفكرة القروض العامة كأداة مالية.

عند هذه اللحظة بدأ إحساس ديرفيو الغريزي المبكر في المطابقة بين القناة وبين النشاط المالي يؤتي ثمراته. فقد أخذ هو وأوبنهايم سنداتٍ قيمتها عشرة ملايين فرنك (بسعر خصم ٪) مدفوعة لسداد الجزء الأول وحق شراء ما قيمته ٣٧ مليون فرنك من السندات في المرحلة الثانية والثالثة. وقد كتب ديرفيو بدوره إلى أندريه يخبره أن العملية مُجزية «إن المال وفير في سوقنا؛ حتى إننا نخشى من طرح هذه السندات، بخصم يتراوح بين ٪، ٪.» ومع هذا، فإن ديرفيو يهمه مرة أخرى أن يصرف له أندريه كمية كبيرة من هذه السندات في أوروبا بنفس سعر الخصم أو بسعر أفضل.

ورفض أندريه العرض. فقد كان هناك عدد كبير من السندات الأوروبية الجيدة التي كانت تعطي ربحًا أفضل، والرأسماليون الأوروبيون أصبحوا يتوقعون أكثر هذا الجزاء، من الاستثمار في مصر، وبالإضافة إلى ذلك، فإذا كانت مصر مزدهرة، كما يقول ديرفيو، فلماذا يلجأ إلى أوروبا لبيع سنداته؟

ولم يكن لدى ديرفيو إجابة على رد أندريه. وفي ١١ أبريل كتب إلى أندريه أنه إنما كان يريد تصريف السندات في أوروبا بسرعة حتى يستخدم أرصدته في عمليات أخرى. وبعد ذلك بثلاثة أسابيع كتب يقول إنه بدأ يتخلص من السندات بدون صعوبة بخصم ٪، ٪.

•••

وفي أثناء ذلك ظلت العلاقات بين مصر وشركة القناة — التي نظمتها ظاهريًّا اتفاقات مارس — كما هي. ولم يتوقف الضغط البريطاني على الحكومتين المصرية والتركية بهدف وقف العمل في القناة أو إعاقته على الأقل، بل زاد، إثر اتفاقات إسماعيل، إلى حد التهديد العلني. ولقد كان الهدف الرئيسي لرسل بالمرستون ووزارة الخارجية هو منع إنشاء القناة على الإطلاق، وإذا كانت الشركة لم تحصل على موافقة الباب العالي التي يُحتِّمها القانون التركي، وتنص على ضرورتها الخطابات الملحقة بعقد الامتياز، كان من حق البريطانيين أن يقولوا إن كل المشروع غير قانوني. إلا أنه — لسوء حظهم — كان يستحيل عليهم اتخاذ إجراء حاسم بسبب قوة المصالح الضالعة في المشروع وضغط فرنسا المعتاد. ومرة بعد أخرى وعد المسئولون في القسطنطينية والقاهرة — المدفوعون بإلحاح بريطانيا، والمسلحون بشجاعة جديدة — أن يتخذوا موقفًا حازمًا. وفي كل مرة تذوب الشجاعة في حرارة الاحتجاجات الفرنسية، ويعود كل المعنيين بالأمر إلى الطريق المائع الزئبقي الذي أثبت أنه مريح في الماضي، والذي يلائم دي ليسبس تمامًا.

ولم يكن أمام بريطانيا إلا الهجمات الجانبية، ولقد وجدت أن من المناسب أن تركز احتجاجاتها على جانبين دقيقين وقابلين للهجوم على الأقل في الظاهر: استخدام السُّخرة، وامتيازات الأرض الواسعة الممنوحة على ضفتي القناة. وقد أدان البريطانيون الجانب الأول على أسس إنسانية، على الرغم من أن استخدام بعض الشركات البريطانية مثل شركة «بينيسولار والأورينتال» لنظام السخرة أضفى على هذه الإدانة البريطانية رائحة النقاق. أما الجانب الثاني فقد أثار اعتراضات أكثر أهمية. فقد أوضح البريطانيون أنه — وفقًا لدي ليسبس — فإن امتيازات الأراضي على ضفتي القناة ستكون أساسًا لمستعمرة جديدة، واحة خصبة في قلب الصحراء. فهل تستطيع تركيا أن تقبل وجود مستعمرة فرنسية عند إحدى النقاط العظيمة الاستراتيجية في الإمبراطورية؟ وهل تتحمل مصر هذا التهديد لسيادتها، هذا السرطان الغريب؟ وهل تتحمل بريطانيا عدوًّا كامنًا يعسكر على الطريق القصير إلى الهند.

والحقيقة أن بريطانيا قد أخطأت جديًّا التقدير فيما يتعلق بإمكانيات الهجوم على شركة قناة السويس من هذين الجانبين. فإنشاء القناة — الذي سار بانتظام منذ عام ١٨٦٠م — كان على وشك الوصول إلى اللحظة التي أصبح فيها من الممكن — بل ومن الأنسب — الاستعاضة عن عمل السخرة بعمل الآلات والكراكات. وقد تزداد نفقات الشركة بعض الشيء بسحب السخرة (على الأقل في البداية) إلا أن هذا لا يصيب الشركة بضربة قاتلة. ولقد أثبتت الأحداث بعد ذلك أن استمرار استخدام السخرة قد جعل من المستحيل إكمال القناة في الموعد المحدد. وبالمثل فإن تحقيق مشروعات دي ليسبس في تحويل رمال الصحراء إلى جنة خضراء وفي بناء مدن تنافس الإسكندرية (وهي مشروعات ساعدت دون شك على إقبال المستثمرين على مشروع القناة) تتحقق في أفضل الأحوال في المستقبل البعيد، وليس لها أهمية جدية في الوقت الحاضر. وفي التحليل النهائي توقف الإحياء المباشر لمشروع القناة على قدرة دي ليسبس على إكمال القناة بسرعة وجعلها تدر دخلًا، أما التشويش على المشروعات الجانبية فلا يصيب الشركة في خزائنها بقدر ما يصيبها في حساسيتها.

وقد يحتاج إدراك الموقف على هذه الصورة إلى معرفة دخائل الأمور، إلا إنه كان ينبغي على وزارة الخارجية البريطانية أن تعرف أنه منذ ١٨٦٢م، على الأقل، كان دي ليسبس يفاوض بعض شركات المقاولات والهندسة الفرنسية على بناء واستخدام كراكات للقناة. وعلى أية حال فقد بدا في عام ١٨٦٣م أن مسألتَي السخرة وامتيازات الأراضي هما القضيتان الأساسيتان، وفي لندن وباريس والقسطنطينية والقاهرة بدأت المعركة حولهما.

ولقد كان لدوافع إسماعيل في هذا الصراع تفسيرات مختلفة. فمنذ أول حكمه كان إسماعيل معاديًا للسخرة، على أسس إنسانية وخُلُقية واضحة كما يقول البعض، وعلى أسس اقتصادية كما يقول البعض الآخر. فالسُّخرة هي استنزاف لقوة العمل في الزراعة، وثمة ثروة يمكن جمعها من القطن، وإسماعيل كان أكبر مالك زراعي في مصر. وبالمثل عُزيت معارضته لامتيازات الأراضي إلى خوفه الحقيقي من تهديد الفرنسيين لسيادة مصر وإلى رغبته في أن يضع حدًّا للتهديدات التركية المضادة. ولكن هذه الصورة من موقف إسماعيل يحيطها الضباب بسبب عدم اتساقٍ غريب في سلوك إسماعيل. فقد كان مع الشركة وضدها، ولقد قبل ديون سلفه، ولكنه رفض شروط الامتيازات التي منحها هذا السلف. وكان إسماعيل يخشى تركيا، ولكنه يقول لإنجلترا إنه لا يستطيع أن يعمل بدون أوامر من السلطان. ولقد أعطى إسماعيل لممثلي بريطانيا تأكيدات متكررة عن عزمه بأن يمضي معهم في حملتهم لتعديل الامتيازات، ولكن في اللحظات الحرجة تخلى عنهم. وبصورة متتالية هدد إسماعيل الشركة بالقول والفعل ثم أرضاها، إلا أنه على الدوام تمسك بمَطالبه. وباختصار فقد تلاءمت أفعاله مع تعقُّد شخصيته، ومنذ ذلك الوقت فضل المؤرخون أن يتجاهلوا دوافعه وأن يأخذوا أفعاله كما هي. وبشكل عام حاول المؤرخون أن يفسروا تناقض أفعال إسماعيل بالنظر إليه كمخلب يحاول الموازنة وسط لاعبين أشد قوة.

غير أن خطابات ديرفيو تقدم صورة مختلفة لإسماعيل. وبهذه الصورة تصبح أفعال إسماعيل أكثر معقولية على ضوء مبادراته ومناوراته؛ ففي خطاب ١٨ أبريل الذي تعرضنا له من قبل، قدم ديرفيو — بعد مناقشة صفقة سندات السويس — طُعمًا جديدًا مثيرًا (كان لديرفيو وَلَع بالغموض الذي يجعل منه شخصية هامة): «أرجو أن أكون قادرًا قريبًا على أن أحدثك عن مسألة أكثر أهمية، وهي ما زالت سرًّا ولكنها ستكون هذه المرة — كما أعتقد — محل رضاك.» ثم يمضي بعد التعرض لمسألة عارضة إلى التقدم بطلب بريء: «أكون شاكرًا جدًّا لو واليتنا باستمرار بأسعار أسهم القناة، وخصوصًا بكمية الأسهم المعروضة في بورصة باريس. فمن المحتمل أن تكون لدينا الفرصة في أن نهيئ لك بيع أو شراء هذه السندات.»

وفي خطاب لاحق بتاريخ ٨ مايو يتبدَّى ضوء جديد على المسألة: «أرجوك مرة أخرى ألا تنسى أن توافينا بأسعار أسهم القناة مع كل بريد. فربما كانت هناك عملية كبيرة من وراء هذا الأمر، وبالطبع سنوكلها لك.»

ولقد قدم الخطاب التالي كل المعلومات الناقصة. ففي ٢٠ مايو كتب ديرفيو:

«إن من المحتمل أن نوكل لك عملية كبيرة تتعلق بقناة السويس، وإن كانت تحتاج إلى السرية الكاملة. وهي تتضمن بيع أو شراء عدد كبير من الأسهم؛ إذ يتوقف الأمر على اتجاه المفاوضات الدائرة بخصوص القناة، ولا أستطيع الآن أن أقدم التفاصيل الكاملة، وآمل أن أفعل ذلك قريبًا. وفي نفس الوقت أرجو أن تلاحظ أني إذا أبرقت لك أن تبيع أو تشتري «مصرية» بأفضل الأسعار، فإن ذلك يعني أسهم القناة. وإذا اقترحت عليك الشراء، فعليك أن تنفذ فورًا حتى تهبط بالأسعار. وإذا اقترحت عليك من ناحية أخرى البيع، فعليك أن ترفع الأسعار، ولكن كل شيء يقنعني أن ما سنطلبه منك هو الشراء لا البيع.»

لم يكن ديرفيو على استعداد لأن يعطي التفاصيل الكاملة، غير أن خطابه كان ناطقًا بذاته. ولقد كان هناك احتمالان؛ أحداهما: أن ديرفيو — أو شخصًا آخر على معرفة داخلية بتقدم المفاوضات بين مصر وشركة القناة والدول الأوروبية — كان يستعد لاستغلال هذه المعلومات في سوق البورصة، مشتريًا إذا كانت هناك اتفاقية مناسبة للشركة، وبائعًا إذا كانت المفاوضات على وشك الفشل. وهذا الاحتمال هو أكثر الاحتمالين وضوحًا. أما الاحتمال الآخر — وهو أشد مكرًا، وإن لم يكن مستبعَدًا — فهو أن الشخص المهتم بأسهم القناة لم يكن يفعل ذلك لدوافع المضاربة، وإنما من أجل السيطرة، وتوقعات ديرفيو بشراء الأسهم تقوم على توقع فشل المفاوضات، الأمر الذي يؤدي إلى هبوط أسهم القناة.

ولم يكن رد فعل أندريه لاقتراح ديرفيو حماسيًّا. فهو اقتراح يفوح برائحة المضاربة. والبيوت المالية المحافظة، مثل بيت ماركوارد-أندريه، لا تضارب على الأقل من ناحية المبدأ. وأكثر من ذلك، كان أندريه لا يثق كثيرًا في مشروع قناة السويس؛ إذ بدا في عينيه وفي أعين كل البيوت المالية التقليدية التي رفضت مساعدة دي ليسبس، أنه ليس إلا مقامرة كبيرة. وعلى أية حال فإن أندريه يعتقد أن اقتراح ديرفيو ليس عمليًّا. ولقد أوضح أندريه في خطاب سابق بتاريخ ٦ يونيو أنه لا يوجد في السوق عدد كبير من أسهم القناة، وأن مما يدعو إلى الغرابة أن هذه الأسهم قوية في مركزها (كان معظم هذه الأسهم في أيدي المستثمرين الصغار أكثر مما هي في أيدي المضاربين). ونتيجة لذلك، فأي عملية شراء أو بيع واسعة النطاق لا بد أن تؤدي إلى تغيير كبير في أسعار الأسهم. ومع ذلك وافق أندريه على أن «يفعل كل ما يمكن عمله». «على ضوء كل المتاعب التي قُدر لمشروع القناة أن يمر بها، أعترف لك أنني لا أفهم كيف حافظت أسعار الأسهم على هذا المستوى.»

والحق أن أسهم القناة كانت ذات وضع ممتاز في السوق. فبعد أن هبطت ببضع فرنكات إثر تولي إسماعيل الحكم، ارتفعت مرة أخرى إلى أكثر من ٥٠٠ فرنك في أول أبريل، ثم إلى ٥٥٢ فرنكًا في العاشر والحادي عشر من نفس الشهر، ثم انخفضت إلى ٥٠٠ في أول شهر يونيو. وفي ٦ يونيو، وهو تاريخ الخطاب السالف، كانت أسعار الأسهم على ما هي عليه، وظلت كذلك حتى أكتوبر.

وفي نفس الوقت لم تكن الظروف مُلزمة لأندريه بأن يتخذ موقفًا، فمصير المفاوضات الجارية كان أكثر ظلامًا من أي وقت مضى، وديرفيو يكتب لأندريه في ٣ يونيو قائلا: «ليس لدي ما أقوله لك بخصوص أسهم القناة، فالوالي ما زال مترددًا جدًّا، ونوبار باشا قد سافر إلى القسطنطينية، ولم نستطع أن نفعل شيئًا قبل أن نعرف نوايا الباب العالي.» وفي ١٩ يونيو كانت المفاوضات ما زالت متعثرة، وكتب ديرفيو إلى أندريه مرة أخرى يقول إنه ليس لديه جديد.

وظلت الأمور كما هي لمدة ستة أشهر أخرى. وفي القسطنطينية استطاع نوبار ممثل إسماعيل أخيرًا أن يحصل في أغسطس على موافقة الباب العالي على أن تُفاوض مصر مباشرة شركة القنال. وفي مقابل هذه الخدمة ذات الأهمية القصوى، لحاكمٍ يعشق المظاهر وشديد الحساسية للتدخل التركي كإسماعيل، وافق نوبار على أن تشتري مصر كل امتيازات الأراضي مرة أخرى مهما كان السعر، كما وافق على أن يفاوض الشركة لإلغاء السخرة خلال ستة أشهر، وفي نهاية هذه الفترة تعرض المشكلة مرة أخرى على الحكومة العثمانية.

ورحبت القسطنطينية بهذه الاتفاقية؛ إذ قدمت لها مخرجًا مناسبًا من موقف دقيق. وقبلت فرنسا الاتفاقية باعتبارها اعترافًا بالأمر الواقع؛ إذ أصبح موقف دي ليسبس القانوني، بعد موافقة تركيا، غير قابل للطعن، بل إن السفير البريطاني بولوير كان مقتنعًا بأن هذه الاتفاقية خطوة هامة نحو تعديل امتياز القناة.

وفي ١٢ أغسطس عاد نوبار إلى مصر مشكورًا من الوالي الذي أهداه إقطاعية عظيمة مزوَّدة بأحدث الآلات الزراعية كتعبير عن سروره من نجاحه. ولم يتوقف نوبار في مصر كثيرًا، فبعد أسبوع سافر مرة أخرى إلى باريس ليفاوض الشركة في التغيُّرات المقترحة. ومنذ اللحظة الأولى استعد الطرفان المتفاوضان للمعركة؛ فدي ليسبس الذي كان واثقًا أن التعديلات المطلوبة لن تهدم المشروع، كان مستعدًّا لأن يوافق على هذه التعديلات بثمن غالٍ تمامًا، وإسماعيل كان مستعدًّا لأن يدفع ثمن هذه التعديلات، لا ثمن القنال ذاتها. وحاول كلٌّ من الطرفين أن يصرخ بأعلى صوته مُشهِدًا الجميع على سوء معاملة الطرف الآخر. وقد وجه دي ليسبس زملاءه في المفاوضات إلى عدم التعامل مع مبعوث مصر، وتمسك بأن ضياع امتيازات الأراضي والسُّخرة سيقتل المشروع. أما نوبار فقد أصدر من جانبه بيانات إلى الصحف يتجهم فيها على قانونية المشروع، ويحاول أن يوجه ضربته إلى أقوى مراكز تأييد دي ليسبس، أي الحكومة الفرنسية، بطلب مساعدة دوق دي مورفي رئيس الهيئة التشريعية، وقريب إمبراطور فرنسا.

وامتلأ خريف وشتاء عام ١٨٦٣-١٨٦٤م بالاتهامات والاتهامات المضادة، بالشكاوى القانونية والشكاوى القانونية المضادة، بالمذكرات البريطانية والفرنسية بالكلمات الساخنة والضغوط الباردة. وهبطت أسهم القناة.

عند هذه اللحظة يدخل ديرفيو القصة مرة أخرى. ففي ١٥ يناير وجه جالو (نيابة عن شركة ديرفيو وشركاه) وهيرمان وهنري أوبنهايم — وجميعهم كانوا في باريس آنذاك — خطابًا جماعيًّا إلى بنك ماركوارد وأندريه وشركاهما يؤكدون فيه اتفاقهم الشفوي على بدء العمل في عملية أسهم القناة التي طالما حلموا بها. ويطلب الخطاب من بنك ماركوارد أن يفتح لهم حسابًا مشتركًا، كما يرخص للبنك الباريسي أن يشتري لهذا الحساب كل ما يمكن شراؤه من أسهم القناة بسعر ٤٧٠ فرنكًا. على أن تظل الأسهم المشتراة في يدي بنك ماركوارد لحين تعليمات أخرى.

ولم يكد يتم التوقيع على هذا الخطاب حتى كانت الخبرة البسيطة قد أقنعت أندريه بأن هذا المشروع غير عملي. وفي ١٧ يناير كتب إلى ديرفيو يقول إنه إما أن العملية قد تسرَّبت بطريق أو آخر، أو أن السوق أشد هزالًا مما توقع. فشراء عدد بسيط من الأسهم قد أدى إلى ارتفاع ثمن السهم خمسة عشر فرنكًا. وختم أندريه خطابه قائلًا إنه إذا كان ديرفيو ينوي شراء كميات كبيرة من الأسهم فلا بد أن يضع أرصدته في بنك ماركوارد مقدمًا: «إني أعرف أن عميلك مفلس، ولكني أناشدك أن تتمسك قدر الإمكان بهذه النقطة (أي بالدفع مقدمًا)؛ إذ إن الظروف القائمة حاليًّا تفرض على كلٍّ منا قدرًا كبيرًا من التحفظ والحرص.»

وهذه الفقرة من خطاب أندريه هي أول إشارة صريحة إلى عميل ديرفيو، الرجل الذي يقف خلف العملية المقترحة. ولا بد أن القارئ قد خمن أن ديرفيو (أو أوبنهايم) لم يكن يعمل لحسابه الخاص في هذه العملية. فلو كان ديرفيو يريد الدخول في عمليات المضاربة في البورصة لكان أندريه آخر شخص يخبره بذلك. وليس هنالك شخص غير إسماعيل — الذي كان يملك ٤٤٪ من أسهم القناة — يمكن أن تكون له مصلحة في عملية من هذا النوع.

أكان إسماعيل إذن هو الذي يقف وراء هذه العملية؟ ليس من مهمة المؤرخ أن يقدم قائمة من المواصفات للأشخاص على أساس الاستنتاج المنطقي. والحقيقة أن خطاب أندريه نفسه لا يحسم هذا الموضوع، إلا أن إشارة أندريه إلى (العميل المفلس) قد استفزت ديرفيو إلى كتابة رد يؤكد ما كان يمكن أن يكون تخمينًا معقولًا. ففي ٢ فبراير يقول ديرفيو: «اسمح لي أن أهدم فكرة عبرت أنت عنها في خطابك الأخير، وهي أن الوالي عميل مفلس.»

وليس من الصعب أن يستنتج المرء بواعث إسماعيل في هذه العملية، ولم يكن هنالك إنسان آخر غير إسماعيل يستطيع أن يعرف كيفية تقدم المفاوضات، وإسماعيل وحده هو الذي كان قادرًا على أن يوجه هذه المفاوضات بسهولة في الاتجاه المرغوب. وصحيح أن إسماعيل لم يكن حرًّا تمامًا في حركته، فقد يفرض الضغط الدبلوماسي بسهولة عليه أن يتصرف ضد رغباته. ولقد زاد الضغط بشكل كبير بمجرد أن أعلنت الحكومة الفرنسية في ١٦ يناير أن الإمبراطور على استعداد للتحكيم بين مصر وشركة القناة. ولكن إسماعيل كان لديه ما يُقنعه بأنه قادر على إفساد هذا الضغط، وأنه، بفضل معونة مورفي، يستطيع أن يعتمد على تأييد فرنسا لا معارضتها. ولكن وفق أية شروط يكون هذا التأييد؟ بالطبع بشرط ألا تُهدم القناة التي كانت سلاحًا غاليًا كامنًا في يد الدبلوماسية الفرنسية. أم هل يقوم هذا التأييد بشرط إزاحة دي ليسبس نفسه؟ إن هذا أمر آخر. فدي ليسبس كان شوكة في جنب إسماعيل، ولا شك أن أي مدير آخر سيكون أكثر تفاهمًا. وفوق ذلك كان دي ليسبس عقبة في وجه دوق دي مورفي، الذي ربما كان يتوقع أن يحل محل دي ليسبس في الشركة بعد إعادة تنظيمها، ولقد كان مورفي أحد قراصنة الحياة المالية الذين يعشقون مزج المهارة السياسية بالنشاط المالي.

ولسوء الحظ كان هذا الاتفاق بين الوالي والدوق الطموح محل شك إلى حد كبير. ولقد كان ذلك أمرًا طبيعيًّا. فحتى لو كانت لدينا كل المكاتبات المتعلقة بأطراف هذه المسألة لبقينا على الأرجح في ظلام حول معظم هذه الاتفاقات. فمثل هذه الاتفاقات بين إسماعيل والدوق لا تكتب على الورق. ولكننا نشعر أن مورفي لم يقدم تأييده لأسباب منزَّهة عن الغرض. ونحن نعرف أن إسماعيل كان يأمل في أواخر يناير على الأقل أن يكون مسيطرًا على شركة القنال.

وثمة نقطة ما زالت غامضة غموضًا خاصًّا. فإذا كان هدف إسماعيل الأساسي أن يقطع المفاوضات وأن يحبط بأسعار الأسهم ثم يشتريها بثمن بخس، فلماذا بدأ هو في شرائها قبل وقوع الأزمة؟ أكان يأمل في أن تكون لديه من الأسهم ما يمنحه السيطرة عند اجتماع المساهمين الذي حدد له دي ليسبس مارس ١٨٦٤م؟ وحيث إن قوة تصويت أي مساهم — مهما كان حجم أسهمه — محددة، فإن الأمر كان يتطلب نشاطًا ضخمًا من جانب إسماعيل لترجمة استثمارات مصر الضخمة في الشركة إلى أصوات فعالة. وفوق ذلك، لما كانت قيمة أسهم إسماعيل لم تدفع إلى الحد الذي دفعه الآخرون، فقد كان من المشكوك فيه أن يكون قادرًا على أن يهزم بتصويته أصواتهم.

ومن المحتمل أن الوالي كان يعتقد أنه قادر على التغلب على هذه المصاعب، أو أنه قادر بالإشكالات القانونية على أن يخلق من التأخير ما يشل المشروع ويجبر دي ليسبس على الخضوع. ومن ناحية أخرى كان على إسماعيل دائمًا أن يقدر احتمال خضوعه للتحكيم وتعويض حملة الأسهم. وفي هذه الحالة كان من المهم أن يحصل على أكبر عدد الأسهم مقدمًا بينما كانت الأسعار منخفضة. ومن الواضح أن إسماعيل عليه أن يفكر في عدد من الاحتمالات المتناقضة، وأن يستعد لها.

ولسوء حظه فشلت كل خططه. فمن ناحية ثبت عجز إسماعيل عن شراء الأسهم بالثمن البخس الذي كان يأمل فيه، فقد ارتفعت أسهم القناة من ٤٦١ فرنكًا في ٨ يناير إلى ٤٧٥ في آخر هذا الشهر، ومن المستحيل أن نعزو إلى أي حدٍّ يعود هذا الارتفاع لما اشتراه إسماعيل من الأسهم، وإلى أي حد يعود إلى توقع التحكيم الذي بدا أمرًا لا مفر منه. على أية حال، فقد كان سعر الأسهم عاليًا جدًّا، ومثل هذه العملية لن تؤدي إلى أي مكسب إلا إذا كان هنالك هامش معقول بين سعر الشراء وبين القيمة الاسمية. وأكثر من ذلك، لم يكن إسماعيل في موقف يسمح له بقطع المفاوضات ودفع المساهمين الآخرين بالتالي إلى فزع البيع، فقد كانت هنالك أطراف ومصالح قوية عازمة على منع فشل المفاوضات، وفي مقدمة هؤلاء جميعًا نابليون نفسه. واضطر الوالي إلى أن يمضي قُدمًا في المفاوضات. وفي جو من التردد والخوف والأمل ركع إسماعيل أمام الأطراف الأقوى. وفي ٣٠ يناير طلب والي مصر بكل خضوع من إمبراطور فرنسا أن يكون حكمًا في النزاع.

لقد كانت اللعبة على وشك النهاية. وفي ٢ فبراير كتب ديرفيو من الإسكندرية قائلًا: «كان من الممكن أن تكون عملية شراء أسهم القنال واسعة النطاق، لو أن الاتفاق بين الوالي والشركة قد أُوقف، إذ إن نوايا فخامته عندئذٍ هي شراء كل ما يمكن شراؤه من الأسهم. ولكن الاتفاق بين الوالي والشركة قد أصبح اليوم وشيكًا، ولذا ينبغي أن تتوقف عمليات الشراء، وليس هنالك ما يدعو إلى أن أحدثك عنها بعد ذلك. ومع ذلك يظل طلبنا هو أن تشتري كل ما يمكن شراؤه بسعر أقل من سعر السوق.»

لقد كانت اللعبة على وشك الانتهاء، وإن لم تنتهِ تمامًا. ولقد رفض إسماعيل أن يستسلم كاملًا. فلم يكد خطاب ديرفيو إلى أندريه يصل إلى فرنسا حتى كتب تاستو (القنصل الفرنسي العام في الإسكندرية) إلى رؤسائه محذرًا من فكرة الاستسلام لتوقع الاتفاق بين الشركة والوالي:

«إن الناس يتحدثون عن اتفاقية بين الوالي والشركة. إلا أن موقف الوالي ما زال معاديًا، وهو لا يخفي سروره وشماتته في نجاح حملته ضد المشروع.»

وأيًّا كانت شماتة الوالي وسروره (لقد ظل يفعل ذلك حتى صدور قرار تحكيم الإمبراطور، بل وبعده) فقد توقفت عملية غزو سوق البورصة. وفي أوائل فبراير ارتفعت أسهم القنال إلى ٤٨٠ مرة أخرى. وفي ٧ فبراير، أي في نفس الوقت الذي كان فيه القنصل يكتب إلى باريس عن موقف إسماعيل العدائي، كان ديرفيو يطلب من أندريه أن يتوقف تمامًا عن شراء الأسهم القليلة التي يمكن الحصول عليها بأقل من أسعار السوق. ولم يتجدَّد بعد ذلك ذكر هذه العملية في المراسلات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤