الفصل التاسع

الثمن الغالي للنعمة

عند ما عاد ديرفيو إلى مصر في آخر سبتمبر ١٨٦٤م لم يكن أمامه لحل مشاكله غير قرض عام. لقد كان ديرفيو مفلسًا. نعم إنه ما زال على الورق غنيًّا، مهمًّا، وأول مصرفي في مصر، وكانت دفاتر حساباته تعبر عن فائض كبير؛ فإسماعيل وحده كان مدينًا لديرفيو بأكثر من التزاماته بكثير. ولكن ثمة فرق بين دَين ودَين. فبينما كان مقرضو ديرفيو بنوكًا أوروبية تتمسك بمواعيد الدفع، كانت مسحوبات إسماعيل بلا ميعاد على الإطلاق.

والأكثر من ذلك أن الخديوي كان عاجزًا عن الدفع حتى لو أراد ذلك، فقد استهلك منذ زمن إيراد محصول ١٨٦٣م، وامتص كلًّا من ديرفيو وأوبنهايم حتى الثمالة؛ إذ كان مدينًا لهما في سبتمبر بمبلغ ٤٠ مليون فرنك. ولقد بذلت شركة التجارة المصرية جهدها بإقراض إسماعيل مرارًا خلال الربع الأول من ١٨٦٤م، ولكنها عندما رفضت الاندماج مع الشركة المجيدية، فقدت وسائل المساعدة وأغضبته. ولقد استنفذ إسماعيل إلى آخر قطرة ممولي الإسكندرية وتجارها، حتى بريفيري وحثالة مجتمع التجارة لم يسلموا منه. أما البقرة الوحيدة التي لم تُحلب فهي البنك الإنجليزي-المصري، ولكن الخديوي كان مدينًا بمبالغ ضخمة لبنكَي باستري وسينادينو اللذَين ورثهما البنك الإنجليزي المصري في المطالبة بهذه المبالغ.

ولم يكن إسماعيل مهتمًّا بدفع ديونه، إلا عندما كان عليه أن يفعل ذلك حتى يقترض مبالغ أكبر. لقد ابتعد عن صورة الأمير الحريص الذي كان يتحدث بفخر عن إقطاعياته الممتازة في إدارتها، والذي وعد أن يقتصر في نفقاته على مخصصات مدنية. فعبء الدَّين ووصمته قد فقدا كل معنًى عنده، وأصبح الدَّين كإدمان المخدر، كلما اقترض زادت شهوته إلى الاقتراض. هذا الجبل من الأعباء الذي الممكن أن يحطم شخصًا غيره، لم يكن له من أثر عليه إلا أن يساعده على أن يتسلق إلى أعلى ويرى آفاقًا جديدة أشد اتساعًا.

ولقد كانت آماله وخياله تفزع سامعيه. ففي قيظ صيف ١٨٦٤م لم يكن إسماعيل يفكر في إنشاء الترع والسكك الحديدية فحسب، وإنما في جعل القاهرة باريسًا أخرى على النيل، وفي أن يجعل من نفسه إمبراطورًا لأفريقيا. وكان يحلم بأن تكون للقاهرة ميادين فسيحة وبورصة ومسارح وأوبرا، ويكون لمصر جيش كبير وأسطول بحري قوي. ولقد سأله القنصل الفرنسي: لماذا يريد كل هذا؟ وربما كان عليه أن يضيف: كيف يفعل هذا؟

إن إسماعيل، مثله مثل ديرفيو، لم يكن أمامه ما ينقذه غير قرض عام. إلا أن هذا هو نوع الدَّين الذي كان الخديوي يكرهه. فقد كان دينًا مفتوحًا، خاضعًا لموافقة رؤسائه في القسطنطينية، وهو يعني مساومات غير مريحة، ويكشف رصيده ويضعه موضع البحث والتقييم في السوق، وفوق ذلك فالقرض العام يفترض الدقة في المواعيد — فعندما يريد المساهم أن يتخلص من الكوبون فإنه يأخذ فلوسه فورًا. وأخيرًا فهناك بقية الشرارة الباقية من اعتزاز إسماعيل الوهمي بأنه لم يضِف إلى قرض مصر القومي، وهو اعتزاز كاعتزاز المرأة الساقطة بآخر مظاهر الفضيلة.

وأحيانًا كان من الصعب أن تُقنع إسماعيل بأن يقترض مالًا. ولقد حاول بنك أوبنهايم أن يدفع إسماعيل منذ توليه الحكم إلى عمل قرض عام؛ فإذ كان البنك قد تولى طرح قرض مربح من قبل، كان حريصًا بالطبع على أن يتولى طرح قرض آخر. أما ديرفيو فقد رأينا أنه كان أقل حماسًا في أول الأمر، ثم أخذ يؤيد هذه الفكرة بعد ذلك تحت ضغط الظروف.

ولقد اشتد ضغط الظروف في أواخر شتاء ٦٣-١٨٦٤م عند ما كان أندريه يلح على بنك ديرفيو وشركاه بدفع ما عليهم، وكان الخديوي يبتكر وسائل تجعل بنك ديرفيو أكثر غنًى حتى يستطيع أن يُقرضه أموالًا أكبر. وفجأة أصبحت فكرة القرض مغرية جدًّا لديرفيو. فإلى جانب أنه سيمكن إسماعيل من سداد ديونه، فإن هذا القرض سيمنح البنوك التي تصدره أرباح كبيرة، ولقد كان إسماعيل يؤكد لديرفيو دائمًا أنه سيُكلَّف بكل العمليات التي من هذا النوع.

غير أن إسماعيل لم يكن مقتنعًا — مثل دائنيه — بضرورة الإسراع في عمل قرض. وانتهى الضغط عليه في فبراير ومارس ١٨٦٤م بتأكيده أن القرض سيتم فعلًا. إن هذا أمر مقرر، ولكن ينبغي الانتظار حتى يصفي الخلاف مع شركة قناة السويس. ولقد بدا هذا التفكير معقولًا. فالتعويضات التي توقَّع إسماعيل أن يدفعها (وإن لم يتصور أنها ستكون باهظة إلى الحد الذي تبين بعد ذلك) تمنحه تبريرًا جميلًا لإصدار سندات.

غير أن التحكيم في مشكلة القناة تم ومضى، ومع ذلك فلم يتم القرض. عند ذلك الوقت، لم يكن حتى ديرفيو مهتمًّا، فقد كان منهمكًا في مشروع تحويل بنكه، الذي كان يبشر بحل مشاكله المالية بشكل أنسب من أي قرض، ولكن بمجرد أن أصبح واضحًا أنه لا مفر من بعض التأخير في تكوين شركة الائتمان الجديدة وطرح أسهمها، انضم ديرفيو إلى صف رجال الأعمال المصريين الذين كانوا في أشد الحاجة إلى قرضٍ لإنقاذ جلودهم، والذين كانوا حريصين على تولي إصداره لملء خزائنهم.

ولقد كانت هنالك وفرة في المستعدين للإقراض؛ إذ كان الخديوي محوطًا بحاشية صغيرة من الممولين الأغنياء المتنافسين واحدًا بعد الآخر على أن يضعوا أنفسهم في خدمته. فهناك بالطبع أوبنهايم، والاتحاد المالي الإنجليزي الألماني الذي يمثله، وهناك أيضًا باستريه، والبنك الإنجليزي المصري الجديد، الذي يكون سعيدًا بأن يبدأ حياته المالية بعملية ضخمة من هذا النوع. وهناك عرض ثالث بقرض يتراوح من ٥٠ إلى ١٥٠ مليون فرنك، تقدمت به مجموعة مالية يمثلها ساباتييه — القنصل الفرنسي السابق بالإسكندرية — وهو رجل ذو سمعة معروفة في الجشع والرشوة. وقد حاول أن يجد في النشاط المالي والتجاري بمصر تعويضًا عن الأرباح والرشى المجزية التي كان يتقاضاها خلال عمله كقنصل. وهناك أيضًا بريفيه الدجال المستعطف الذي يقدم نفسه دائمًا كممثل لبنك روزتشايلد. بل حتى الشركة المالية لمصر المعروفة دائمًا بتواضعها والموصومة بأنها الشاة السوداء في الأعمال المصرفية، تقدمت تعرض خدماتها. أما ديرفيو فقد وجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه، ألا وهو محاولته ركوب جوادين في وقت واحد. فقد كان يود أن يكون المتعاقد الأساسي على القرض بوصفه مديرًا لبنك الائتمان المزمَع إنشاؤه، ولكن عند ما ضعف الأمل في إنشاء هذا البنك كان عليه أن يغطي نفسه بتقوية علاقاته القديمة بأوبنهايم وبحجز مكان له في اتحاده المالي. وفي مثل هذا الوضع كانت هناك فرصة كبيرة بأن يفقد ديرفيو زمام الجوادين ويقع بينهما.

وغنيٌّ عن البيان أن كل هذه البنوك لم يكن لديها المال الذي تقرضه. فكلها في حاجة ماسة إلى المال، ومعظمها يعتمد في الحصول عليه على هذا القرض الذي يريدون إصداره. وفي التحليل النهائي كانت هذه البنوك تعتمد على رأس المال الأوروبي في تقديم الأرصدة المطلوبة، وكل ما كانت تعرضه هذه البنوك في حقيقة الأمر هو تقديم الخديوي إلى رجال المصارف في لندن وباريس الذين كان عليهم بدورهم أن يعتصروا جيوب المستثمرين الصغار. والحق أنه كلما كان مركز البنك ضعيفًا من الناحية المالية كان أشد رغبة في التعاقد على قرض ينتظر أن يكون مُجزيًا جدًّا؛ وهذا على الرغم من — أو ربما بسبب — التدهور الشديد في سوق الأموال الذي جعل من أشد المطالب مبالغةً أمرًا مقبولًا.

وينبغي أن نقول إنصافًا لهؤلاء المقرضين المتعطشين إن إسماعيل لم يكن رجلًا سهلًا في التعامل معه. ففي أوائل سبتمبر، عندما كانت الحكومة عاجزة عن دفع مرتبات الموظفين، وكانت نصف بنوك الإسكندرية تصرخ من شدة حاجتها إلى أرصدة، وكان إسماعيل نفسه مُفلسًا، حرص الخديوي على أن يوضح بأن الإنباء عن قرض جديد سابقة لأوانها، وأن التزاماته لم تكن ملحة التنفيذ كما يُشاع، وأنه يأمل أن تمضي الأمور بدون قرض بعضًا من الوقت. وبالتأكيد كان إسماعيل يعتمد على إيراد محصول القطن الجديد لكي يغطيه حتى الأزمة التالية؛ ولسوء حظه لم يكن سوق القطن ما كان من قبل: ففي سنة ١٨٦٣م، فاقت أسعار القطن كل التوقعات المعقولة، وفي سنة ١٨٦٤م خف تأثير التضخم على أسعار القطن، ووجد إسماعيل أن دخله ليس إلا ثلثا ما كان يتوقع؛ مائتا فرنك بدلًا من ثلاثمائة في البالة الواحدة.

وفي الحقيقة فإن إسماعيل لم يحصل على أي دخل من القطن. فإذ كان مترددًا أمام أسعار غير معقولة من وجهة نظره فضل الخديوي أن يمنع قطنه عن السوق، وهكذا أصبح القرض أمرًا لا يمكن تجنبه، وكان الفائز بهذه العملية هو بنك أوبنهايم وحاشيته؛ وفي ١٠ من سبتمبر أبرق هنري أوبنهايم إلى أندريه قائلًا إنه عقد القرض مع إسماعيل، وإنه قد اتفق على كل شيء باستثناء التفاصيل.

وكما هو الحال غالبًا، فإن التفاصيل الصغيرة تثبت دائمًا أنها العقبة الكبيرة، وربما كانت هذه التفاصيل ليست غير تَكِئة. وعلى أية حال فقد اختلف الخديوي وأوبنهايم حول ضمانات القرض وحول نصيب المتعاقدين وحول علاقات أوبنهايم بالأمير مصطفى — شقيق إسماعيل — وعديد من المسائل المتعلقة بالقرض وغير المتعلقة به. ورفض إسماعيل أن يوقع القرض، وسافر إلى الصعيد حيث اعتزل في أحد قصوره بعد أن أوضح أنه ما زال يفكر في عروض أخرى.

ومع ذلك فعندما هدأ إسماعيل لم يكن هناك غير أوبنهايم. فسباتييه لم يكن مستعدًّا للموافقة على شروط إسماعيل، وباستريه فقد أعصابه، وبرفييه ممثل روزتشايلد العظيم اختفى تمامًا؛ أما ديرفيو فقد كان بالطبع سعيدًا لأن يكون مع صديقه الطيب أوبنهايم.

ولقد ماطل إسماعيل وسوَّف قدر إمكانه. وفي ١٨، ١٩ من سبتمبر كانت البرقيات إلى باريس تنبئ بأن المفاوضات قد قطعت. وفي ٢١ من سبتمبر أعلن أن اتفاقية قد أبرمت على «وجه التأكيد»، ومع ذلك، فحتى ٢٧ من سبتمبر كان الخديوي ما زال مستعدا لقبول عروض جديدة كما يقول القنصل الفرنسي. وعلى الرغم من أننا لا نعرف التاريخ الدقيق لعقد القرض، إلا أننا نعلم أن ديرفيو كتب لأول مرة في ٨ من أكتوبر إلى أندريه يعلن وهو يتنفس الصعداء أن القرض قد تم «وها نحن اليوم قد أُنقذنا من الناحية المالية.»

•••

فهل أُنقذ ديرفيو؟ نعم ولا. فمنذ أن جف مداد التوقيعات كان يعتبر أن المال قد دخل جيبه فعلًا. وكان من المفروض أن تكون خبرته في مشروع بنك الائتمان المصري قد علَّمته غير هذا. فالأسهم لن تطرح في السوق حتى يتكون الاتحاد المشرف على القرض ويتحدد نصيب كل مشترك فيه، وبالإضافة إلى ذلك، فما زالت هناك نقاط عديدة للمناقشة بين المتعاقدين والحكومة المصرية، ولا سيما فيما يتعلق بشروط الدفع؛ وكل هذا كان يعني مئات من الساعات في الأخذ والعطاء قبل أي محاولة لاستمالة المستثمر.

وبينما كان رعاة المشروع يناورون ويستعدون للَّحظة المناسبة لإصدار القرض كان ديرفيو قد أضعفه استنزاف إسماعيل المستمر له تحت أنسب الظروف، ووجد ديرفيو نفسه محاصرًا بأزمة مالية أشد قسوة من أزمة ٦٣-١٨٦٤م. وكما هي العادة دائمًا كانت نُذُر الأزمة، ومع ذلك فقد بدت للكثيرين وكأنها مفاجأة. فمنذ عدة شهور كان سعر فائدة البنوك في مستوًى مخيف تمامًا، ومع ذلك كان السوق منتعشًا؛ إلى حد أن المال الغالي الثمن لم يستطع أن يطفئ حماس المستثمرين، وحتى عندما أدى الصيف في النهاية إلى حالة ركود، كان الشعور العام أن هذا أمر مؤقت، وأن الأمور ستتغير مع أول نسمة من نسمات الخريف.

غير أن بنك إنجلترا رفع في ٤ أغسطس سعر الفائدة إلى ٨٪، وفي ٨ سبتمبر إلى ٩٪، وباستثناء أسبوعين سابقين في سنة ١٨٦٤م يعتبر هذا السعر أعلى معدل منذ سعر اﻟ ٪۱۰ الفظيع في نوفمبر وديسمبر سنة ١٨٥٧م. وفي هذه المرة لم تكن المشكلة مجرد تدفق مؤقت لتمويل عمليات شراء القطن من الشرق، وإنما كانت أسعار السلع لأول مرة في طريق الهبوط وكانت التجارة في أزمة.

وكان القطن أشد السلع تأثرًا بهذه الحالة. ففي ٤ مايو سنة ١٨٦٤م عبَر جرانت نهر رابيدن ليبدأ حملته العسكرية في فرجينيا، التي كان منتظرًا انتهاؤها عند أبوماتوكس. ولم يكد يحل ١٥ يونيو حتى كان جيش الاتحاد قد تقدم إلى ضواحي مدينة بترسبورج، وجعل التفكك المستمر في قوات الجنرال لي من نتيجة المعركة مجرد مسألة وقت. وفي ميناءي ليفربول والهافر بدأت إشاعات السلام تهز بورصة القطن. وتوقفت الأسعار برهة بسبب ما استهلكه المحصول السابق. ولكن عندما بدأ محصول ١٨٦٤م يتدفق في سبتمبر إلى مواني مصر والهند، كانت حالة الانتعاش التي شاهدها سوق القطن خلال السنوات الأربع في طريقها إلى الاختفاء. وهبط سعر القطن المصري من ٣٠ بنسًا في الرطل في نهاية يونيو إلى ٢١ بنسًا في الأسبوع الأخير من أكتوبر.

وأحس الجميع في كافة أركان الحياة المصرية بآثار الانهيار. نعم ظلت البلاد منتِجًا ومُصدِّرًا هاما للقطن — لم ينخفض الإنتاج السنوي أبدًا بعد ذلك إلى المستوى الذي كان عليه قبل الحرب الأهلية الأمريكية — ولكن التضخم الكبير الذي كان بمثابة القوة الموجهة لارتفاع أسعار المحصول في أوائل الستينيات اختفى تمامًا. وفقد الفلاح إيراده الكبير، وإن بقيت ضرائبه الكبيرة، ووجد التجار من كافة الأنواع (مضاربو القطن ومستوردو المنسوجات وصغار أصحاب الحوانيت والباعة المتجولون) أنفسهم متورطين في التزاماتهم، وأن رءوس أموالهم وتوقعاتهم تجمَّدت في شكل سلعة غير قابلة للبيع. وكان عالم المال في الإسكندرية أسوأ حالًا، فمعظم الأرصدة ليست مربوطة بسلع، وإنما بأرصدة أخرى، وأي تصفية قهرية لا بد أن تؤدي إلى بعض المفاجآت المؤلمة.

وكانت الظروف في أوروبا حرجة أيضًا. فبسبب الاندفاع وراء الأرباح السهلة، نسيت الشركات المالية دورها كمورد لرءوس الأموال على فترات طويلة، وأصبحت تضع توقيعها على ملايين الجنيهات من الأوراق التجارية. فما دام هذا أمرًا سهلًا، فلماذا تدفن الأموال إذن في المصانع والخطوط الحديدية التي تؤتي ثمارها ببطء، بينما تمتلئ التجارة بمئات البيوت الجديدة كلها تنتعش في جو التضخم السلعي ومستعدة أن تدفع أسعارًا مناسبة في الخصم والقبول؟ لقد حولت الشركة المالية نفسها إلى بنك تجاري، وهذا التدعيم الجماعي لهيكل الائتمان التقليدي قد أضاف عزمًا جديدًا لحالة الرواج، وأدى هذا بدوره إلى شحنات جديدة من الأرصدة … وهكذا.

وعلى هذا الجبل من الورق (وكثير منه هو أسوأ أنواع أوراق المجاملة) كوَّمت شركات مالية عديدة فواتيرها وأوراقها. وإذا كان عملاؤها قادرين على أن يحلوا مشاكلهم بالتجارة في أوراق القبول للشركات المالية، فلماذا لا تفعل هي نفس ما يفعلونه؟ ومنذ بادئ الأمر كانت معظم هذه الشركات في حاجة إلى أموال. فرءوس أموالها — المحددة عن قصد في مستوًى منخفض لاستمالة المستثمر، والضائعة غالبًا منذ البداية كمخصصات للمشرفين ونفقات مماثلة — قد أثبتت أنها غير كافية لمواجهة آمالها الكبيرة. وفي نفس الوقت كانت مشكلة التخلص من الحصص غير المباعة عقبة في سبيل الاستعانة من جديد بالمساهمين. وهكذا أصبح خلق أوراق المجاملة — أحيانًا بتستُّر البنوك الأخرى وأحيانًا من خلال سحب الفروع من البنك الأم — هو الحل الأمثل.

وبدا هذا الحل نموذجيًّا حتى جاءت الأزمة. وعندما انتزع هبوط الأسعار الأعمدة التي كانت دعامة بنوك الأوراق، كانت أوراق القبول في الشركات المالية وفواتيرها هي أول ما سقط. ورفض بنك إنجلترا أن يتدخل في هذه الأزمة، وكانت النتيجة أن شركات الخصم والبنوك أوقفت كل ائتمانٍ مع عملائها المندفعين، ووجدت شركة هامة مثل «شركة خصم الأسهم» نفسها مؤقتًا بدون موارد، واضطرت أن تبيع السهم بخمسة جنيهات في سوق متوتر إلى أقصى حد.

وفي ظل اقتصاد متكامل إلى درجة كبيرة، كان الإحساس بالصدمة شاملًا، من تاجر الشرق الذي كان يعتمد على شركة مالية لقبول كمبيالاته إلى الممول الخاص المحافظ، مثل أندريه الذي كان لعملائه عملاء يقومون بالتعامل مع هؤلاء التجار. وبدا مؤقتًا أن الزلزال الذي كان متوقعًا منذ زمن بعيد قد حل، وأن حُمَّى سنوات ١٨٦٠م الكبيرة قد انتهت أخيرًا.

وهكذا ففي نفس اللحظة التي كان ديرفيو فيها في أشد الحاجة إلى أندريه، كان أندريه عاجزًا عن مساعدته. لقد كان ديرفيو يتعلم درسه الثاني الكبير في. العمل المصرفي. إن من الصعب أن يتبين من خطابات أندريه أنها خطابات صديق حقًّا؛ كان حازمًا، بل دقيقًا، ولكنه كان متجهمًا وجامدًا أيضًا. نعم إن الخطابات من باريس دائمًا ودية وقلبية، ولكنها كانت واضحة أيضًا.

وجاء أول خطاب تحذير في ٢٧ سبتمبر، في الوقت الذي كان ديرفيو في طريقه إلى مصر لمعالجة أزمة طارئة في علاقة بنكه بالخديوي. وكان الخطاب يُذكِّر ديرفيو أن حسابه مع بنك ماركوارد يثبت دائمًا عجزًا كبيرًا، والأسوأ من ذلك أن ديرفيو متأخر دائمًا في دفع مبالغ كبيرة من النقد. وفرق ذلك فإنه يعتمد أكثر من اللازم على «أوراق طويلة المدى» لتغطية التزاماته، مرتكنًا إلى «صفقات ناتجة عن وضع تجاري استثنائي قد يتغير كثيرًا من لحظة لأخرى». وكل هذا ينبغي أن يتوقف.

وكان هناك ما يدعو بنك ماركوارد إلى القلق. فالعجز النقدي في حساب ديرفيو وصل إلى حدود مخيفة. فبينما كان العجز النقدي في حساب بنك ديرفيو وشركاه هو ٧٢١٦٨ فرنكًا في ٣٠ أغسطس، بلغ العجز بعد ذلك بشهر أكثر من ۷۰۹۷۱٢، بالإضافة إلى ١٠٢٤١٥٨ كمبيالات قبول. وإذا قورن وضع ديرفيو بوضع أوبنهايم (١٠٠٠٠٠ فرنك نقدًا، ۱۲۰۰۰۰۰ كمبيالات قبول) لكان وضع هذا الأخير محتملًا. ومع ذلك فقد تلقى أوبنهايم تحذيرًا عنيفًا. فبنك ماركوارد كان يحاول استعادة كل مليم ويتجه إلى تغطية نفسه.

ولم يخجل ديرفيو من تقديم طلبات بالمعونة إلى أندريه. وما كان في إمكانه أن يفعل غير ذلك. فمهما كان الوقت الذي يستغرقه طرح القرض، كان على ديرفيو أن يجتاز بطريقة ما تصفية أكتوبر التي تهدد بكارثة، وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك بدون مساعدة جديدة من لندن وباريس. وبهذا الهدف في ذهنه، كتب خطابًا مطولًا إلى أندريه في الثاني عشر من أكتوبر يشرح وضعه المالي، مؤكدًا سلامته في الجوهر، وموضحًا حاجته إلى مزيد من الصبر والكرم من باريس وأسباب ذلك. واعترف ديرفيو بأنه مَدين بسبعة ملايين فرنك مسحوبة من بنوك في أوروبا، من بينها ١٢٥٠٠٠٠ فرنك من بنك التحالف مقابل إيداع أوراق مالية. وبالإضافة إلى ذلك كان مدينًا بمليون فرنك تستحق الدفع في ١٨ نوفمبر. ولمواجهة هذه الديون نجح في أن يحصل من إسماعيل على تنازل عن الدفعتين الأوليين للقرض: ٢٠٥٠٠٠ جنيه في أول نوفمبر، ومبلغ مماثل في أول يناير. وفي مواجهة هذا يوجد التزامه — كأحد المتعاقدين على القرض — بأن يقدم ١٠٠٠٠٠ جنيه للحكومة المصرية في نفس هذين التاريخين. وبينما يرجح أن يغطي طرح الأسهم في السوق المبالغ المطلوبة، إلا أنه ليس من المؤكد أن يتم هذا قبل تاريخ أول دفعة في أول نوفمبر. وفي هذه الحالة فإن حصة ديرفيو لا تمثل أكثر١٠٥٠٠ جنيه أو أكثر من ثلث حساباته القابلة للدفع بقليل. وحتى المدفوعات التي يتوقعها ديرفيو من مقرضي إسماعيل الآخرين، والتي ستصبح سائلة بعد القرض، لا يمكن أن تغطي مثل هذه الفجوة الكبيرة.

والأكثر من ذلك أن الحصة ليست مالًا نقدًا. انها ببساطة وعد مكتوب، أو إذا شئنا أن نكون أكثر دقة: شيك مسجل مؤجل التاريخ. ونتيجة ذلك، كان ديرفيو مضطرًّا أن يطلب من مراسليه الأوروبيين اعتمادات جديدة في حقيقة الأمر، لا ليدفع لهم ديونه فحسب، بل لتصفية التزاماته إزاء الآخرين.

وبالتأكيد لم يكن ديرفيو يرى الأمور من هذه الزاوية. فعنده أن «حصة» الخديوي هي «نقود في البنك»، ولم يرَ شيئًا من الغرابة في أن يطلب ديرفيو من أندريه أن يدفع له ديونه على أساس هذه النقود. والحق أن ديرفيو لم يجد في وضعه العام «ما يدعو إلى الانزعاج». فمنذ يوليو عندما كان يعطي أرباحًا بلغت ٢٤٪، لم يفقد ديرفيو نقودًا فحسب، بل إنه حقق أرباحًا «ليست بالقليلة». وهكذا كان ديرفيو لا يرى في تصرفاته هو مصدرًا للمتاعب، وإنما تتمثل المتاعب في أسواق المال الأوروبية. وكل ما يطلبه هو مهلة شهرين أو ثلاثة لتصفية وضعه.

ومن الصعب أن نعرف ما إذا كان ديرفيو يُسِر بهذا إلى أندريه للتأثير عليه، أم أنه كان يعتقد حقًّا أن «الموقف لا يدعو إلى الانزعاج». وعلى أية حال كان رد فعل أندريه عكس ما أراده ديرفيو تمامًا. فاعتراف ديرفيو بسوء إدارته (كان خطاب ديرفيو اعترافًا غير واعٍ بهذا، وأسوأ ما فيه هو هذا اللاوعي) مرة، ثم حديثه مفاخرًا عن أرباحه الورقية مرة ثانية إنما هو غباء مستحكم. حتى إذا كان ممكنًا إخراج ديرفيو من أزمته الحالية في «شهرين أو ثلاثة» فإن إنقاذه النهائي بدا لأندريه أمرًا محل شك.

وأُرسل الرد من باريس في ٢٢ أكتوبر يحمل التوبيخ والنصيحة، فذكر أندريه صديقه أن بنك ماركوارد-أندريه وشركاهما كان دائمًا حريصًا، وأنه نتيجة لذلك كان «أقل تأثرًا بمشاغل الساعة» عن البنوك الأخرى. ولا يعني هذا أنه يستطيع تجاهل هذه المصاعب، بل على العكس فإن الانتشار الواسع لتوقيعه والثقة العامة في قيمة هذا التوقيع، تدعوه إلى إظهار حرص أكبر في أوقات الشدة.

إن الظروف صعبة حاليًّا، وفي إنجلترا على وجه الخصوص كانت كل البنوك الجديدة والشركات المالية على شفا الهاوية. فحتى فوائد ٪۹، ٪۱۰ لم تعد مغرية للرأسمالي الخائف، وقيمة كل الأوراق المالية آخذة في الهبوط، والمضاربون على السوق وجدوا فرصتهم، وفي مثل هذه الظروف فإن أول واجبات المصرفي هو أن يخفض من ارتباطاته، وأن يحتجز كل ما يمكن من رأس المال كاحتياطي للطوارئ.

وحذر أندريه ديرفيو من النتائج. فأولًا: ليست آفاق طرح قرض ناجح مشرقة أبدًا في المستقبل القريب، ومخصصات إسماعيل لهذا أقل قيمة مما يتصوره ديرفيو. وثانيًا: من المستحيل على ديرفيو تجديد القروض الحالية. وسيكون عليه أن يدفع كل التزاماته إلى آخر مليم. وأخيرًا فمن المستحيل تدبير اعتمادات جديدة. وبينما لا يستطيع أندريه أن يتحدث بلسان البنوك الأخرى، كبنك فروهلنج-جوشن، إلا أن بنك ماركوارد ينوي تخفيض ارتباطاته في مصر ويعتمد على أن يدفع ديرفيو ما عليه.

ويختم الخطاب بنصيحة صغيرة عن أخطار تمويل الخديوي:

«أنت تعلم كم لفتنا نظرك إلى متاعب السلف التي تقدمها للحكومة المصرية. لقد بلغت أخيرًا رقمًا لا يتناسب مع مواردك لا مع أهمية رأس مالك. ومهما كان امتياز مدينك الرئيسي فأنت تجد اليوم يديك مغلولة، ومحرومًا، نتيجة لذلك، من أن تكرس جهودك ومواردك لخدمة عملائك ولتنفيذ الطلبات التي قد تُكلف بها، ولخدمة العلاقات اليومية. وإذا كنت أذكرك بذلك اليوم فليس هدفي هو الإشباع العقيم لشهوة إنسان يقول: «لقد قلت لك ذلك»، وإنما لأنه يبدو لي أن المهم أن تتذكر بمجرد أن تخرج من الورطة الحالية أنه من الضروري ألا تلقي بحريتك في العمل مرة أخرى، وأن تفضل العمليات التجارية السليمة؛ حيث يكون الربح قليلًا وإن كان مؤكدًا، على عمليات الإقراض الحكومي، التي قد تكون أوفر جزاءً وإن كانت أكثر خطورة.»

إن عودة ديرفيو إلى مصر في أوائل أكتوبر لم تكن إلا لاستراحة قصيرة. فقد كان حريصًا على العودة إلى باريس ولندن؛ حيث كانت حياته مرتبطة بطرح القرض بشكل ناجح وفي الموعد. ولقد كان رفض أندريه للمساعدة (وقد أنذرَتْه بذلك برقية وصلت قبل خطاب ٢٢ أكتوبر) دافعًا إلى استعجال السفر. لقد كان عليه أن يغطي نفسه في أوروبا أو أن يتوقف. ولقد أراحه رحيله لا من النصيحة الصغيرة التي أشرنا إليها سالفًا، وإنما من خطاب رسمي بتاريخ ٢٦ أكتوبر يكرر المذكرات المهذبة السابقة، ويخبر بنك ديرفيو وشركاه أنه لن تكون هناك أرصدة متاحة. وكل مسحوبات على بنك ماركوارد ينبغي أن تكون مصحوبة بمدفوعات تغطيها.

عند هذه النقطة تتوقف الخطابات؛ إذ إن ديرفيو كان في باريس حيث يمكن أن يتحدث إلى صديقه شخصيًّا. وعلى هذا فيمكننا أن نتخيل في أفضل الأحوال نشاط ديرفيو المحموم في هذه الأسابيع الحرجة القليلة: الرحلات بين لندن وباريس، المؤتمرات مع فروهلنج وجوشن، ومع بنك التحالف، والبنوك الأخرى، العروض والمقترحات والمذكرات والإنذارات المهذبة … إلخ، وأحاديث من نوع: نحن نود أن نساعدك تمامًا، ولكن …، لو كان الأمر بيدي، ولكن …، نحن نأسف أن نطالبك في مثل هذه الظروف، ولكنك ترى …

وبشكلٍ ما استطاع ديرفيو أن يجتاز الممر الضيق، وفي ٣١ أكتوبر حصل على حصته من دفعة نوفمبر في القرض، وظل يراقب الطرح الفعلي للقرض في ۱۸ نوفمبر.

ولقد تمت العملية بمهارة. واشترك ٩٠٠ مستثمر في دفع ٦١٠٠٠٠٠ جنيه، أكثر القيمة الاسمية للقرض، وتقريبًا ضعف ما كان أصحاب المشروع مستعدين لطرحه في السوق. ولكي يغطي هؤلاء أنفسهم إذا كان الإقبال ضعيفًا أصدر الاتحاد الجديد القرض بسعر ٩٣، وهو يزيد عن الرقم الأصلي بدرجة ونصف. ولقد كان هذا الاحتياط غير ضروري. وفي ٢٢ أبريل سنة ١٨٦٥م، أي ثلاثة أسابيع بعد التاريخ الذي كان محددًا لحل الاتحاد المصدر للقرض، كانت العملية ما زالت جارية. أما أندريه الذي أراد أن يصفي نصيبه في الإصدار، فقد طلب أن يعفى من التزاماته. ولم تقفل دفاتر العملية نهائيًّا إلا بعد سنتين.

•••

لقد أُنقذ ديرفيو إذن من الناحية المالية، ولكنه أيضًا تحطم. فنفوذه في مصر يعتمد في المدى الطويل على نفوذه لدى الخديوي، وما دام ديرفيو قد بدأ يجمع قروضه، فقد ألقى بعيدًا بعطف سيده. فإسماعيل يفضل المقرضين الذين لا يتوقعون ما لهم مرة أخرى. ولقد بذل ديرفيو كل جهده، وطالب سيده بماله في لباقة وتواضع، وفي لهجة المعتذر بدون جدوى. فبمجرد أن أصبح على الخديوي أن يدفع لديرفيو أكثر مما يأخذه منه، لم يفقد الممول كل فائدة له فحسب، بل أصبح مصدرًا للتعب.

والحق أن تدهور مركز ديرفيو كممول القصر المفضل قد بدأ قبل توقيع عقد القرض. فقد أثار مركزه المرموق حقد زملائه عليه، وأضاف اعتزازه بنفسه وادعاء التحدث بلسان الخديوي حقدًا على حقد. وصدرت صحيفة فضائح تُدعى «أرجوس» تتحدث إلى المتعلمين في مصر عن نشاط ديرفيو وبقية رجال القصر (اللصوص الجدد كما كانوا يسمونهم تمييزًا لهم عن حاشية سعيد)، وكانت الإشاعات تقول إن بريفاي هو الذي يقف وراء «أرجوس». وإذا كان صحيحًا أنه «لا يعرف اللص إلا اللص»، فإن دقة أنباء هذه الصحيفة توضح أن أعتى اللصوص كان يقف وراءها. ولقد منع إسماعيل الصحيفة، وإن استمرت تصدر لفترة ما سرًّا. ولكن الرقابة لم تستطع أن تزيل الخلاف المر الذي مزق المستعمرة الأوروبية بمصر، أو المخاوف الحقيقية من جانب عديد من صغار التجار الذين خشوا أن يكون النجاح الضخم لديرفيو وأوبنهايم وشركائهما هو المقدمة الطبيعية لامتيازات واحتكارات تطرد الشركات الصغيرة من ميدان الأعمال. لقد شاهدنا من قبل غليان هذه المشاعر حول مشكلة شركة التجارة المصرية في صيف ١٨٦٣م. وبعد ذلك بعام تخلت المجموعة المنافسة عن العرائض والالتماسات، وبدأت في توجيه الضربات. وفي هذا الجو طُرد ريتشارد-كونيج (شقيق زوجة ديرفيو) مؤقتًا؛ لاعتدائه على أحد نقاد مجموعة ديرفيو.

ومن المحتمل أن إسماعيل — مهما ضايقته هذه الهجمات على مجموعة ديرفيو — كان متأثرًا بها، على الأقل لأنه لم يكن يحب أن يكون هو محل سخرية. وفوق ذلك، كانت هذه الهجمات تتفق مع غيظه من ديرفيو لمساعدته مصطفى باشا، وربما كانت مدعاة للتفكير عندما بدأ الحرج المالي يشكل علاقاته بديرفيو. ومن هذه الزاوية كانت رحلة ديرفيو إلى أوروبا في صيف ١٨٦٤م غير موفَّقة في توقيتها.

فأولًا: من النادر أن يؤدي الغياب إلى زيادة المحبة، ولا سيما إذا كان هناك كثير المنافسين يقدمون أنفسهم ويتجهَّمون على المسافر البعيد. ثانيًا: وعلى الرغم من أن ديرفيو كان يؤدي مهمته جزئيًّا، على الأقل بناءً على إلحاح إسماعيل، إلا أن كل ما عرفه إسماعيل هو أن ديرفيو يتجوَّل في أوروبا بينما شريكه ظل في الإسكندرية يلح على الحكومة في الدفع بإصرار فجٍّ كان ديرفيو حريصًا على تجنبه. لقد كان جالو (شريك ديرفيو) مُرتاعًا. وإذ أزعجته احتمالات الإفلاس أخذ يعتصر كل الأطراف، ويطالب بالمبالغ التي ينبغي أن تُدفع مقدمًا، ويرفض القروض ويوفر في الائتمان. وكان هذا الموقف مفهومًا. ولكن في أفضل الظروف ليس لدى المدينين ما يكفي من الفهم والمال يقدمونه لمقرضيهم، والحكام المستبدون أسوأ في هذا المجال من المدنيين العاديين. وأخيرًا، وهذا هو الأهم، فشلت مهمة ديرفيو في أوروبا. فعلى الرغم من كل وعوده وادعاءاته كان عاجزًا عن تشكيل شركة الائتمان. أين إذن كل اتصالاته التي يباهي بها؟ وأين أصدقاؤه الأقوياء؟ وما هو مصير كل أحاديثه عن ٢٠٠٠٠٠ جنيه من الأرباح سنويًّا؟ إن هذا الرجل نصَّاب أو أحمق. وفي كلتا الحالتين ليس من حقه أن يجعل من خديوي مصر رجلًا أحمق. ولم تكد تحل نهاية سبتمبر حتى كانت عواطف إسماعيل نحو صديقه القديم قد فترت، وكان انزعاجه من مصاعبه المالية يزداد يومًا بعد يوم، ولم يكن ينقص الموقف غير التكِئَة التي يبدأ بها الانفجار. وعندما وقع الانفجار كان جالو هو الضحية.

وفي ٢٦، ۲۷ سبتمبر عندما كان ديرفيو في مرسيليا يستعد للعودة إلى باريس للمساهمة في مفاوضات القرض، وصلته رسالة عاجلة من الإسكندرية تقول: «إن جالو قد ساءت علاقته بالخديوي، وإنه مريض بسبب ذلك لا يعرف ماذا يفعل، وإنه من الأنسب أن يعود ديرفيو إلى الإسكندرية لمدة أسبوع لرفع معنويات شريكه العزيز ومقابلة الخديوي.» وهكذا سافر ديرفيو إلى مصر على أول باخرة.

وعندما وصل إلى الإسكندرية، عرف الأنباء السيئة! فقد رفض الخديوي أن يوضَع اسم ديرفيو في عقد القرض. لقد كانت هذه الأنباء السيئة ضربة بشعة، إلى الحد أن ديرفيو لم تكن لديه الشجاعة في أن يخبر أندريه بها. وفي خطاب ۱۲ أكتوبر تحدث ديرفيو فحسب عن نواقص جالو: فقدان الثبات وحضور البديهة، واندفاعه، وغلاظته، والحماقات التي ارتكبها. فقد كان شريكه بلا خبرة كافية في معالجة ثقل ومسئولية مثل هذا النشاط المالي الكبير والدقيق. ولقد أدت احتياطاته التي شملت الجميع إلى معاداة كل عملاء الشركة، بما في ذلك إسماعيل نفسه. واعترف ديرفيو أنه ربما فعل نفس ما فعله جالو لو كان في مكانه، ولكن الحقيقة أنه كان غائبًا عن مصر، ويستطيع أن يعيد علاقات الشركة إلى ما كانت عليه، بالتبرؤ من سلوك جالو. وكان هذا الموقف بمثابة طرد لشريكه، الذي استعد لترك الشركة. ولم يكن ديرفيو سعيدًا تمامًا بهذه النتيجة:

«إنني لا أريده أن يتركني، ولكني أريد أن أمنعه من معاداة كل شخص في مصر من الكبير إلى الصغير.» وفي نفس الوقت أصر ديرفيو في خطابه على أن موقفه ثابت تمامًا، وإذا نحينا التواضع جانبًا، فإن «عودتي كانت كافية لإصلاح ما خرب.»

وأجاب أندريه مطمئنًّا. وفي خطابه يقول إنه ليس سعيدًا بأنباء انفصال جالو. فديرفيو لا بد قد افتقد مساعدًا «شريفًا» حي الضمير، حريصًا وذا خبرة، وبالطبع فإن إساءة معالجة مصاعب الشركة من جانب جالو لم يكن أمرًا مفاجئًا تمامًا. فمن النادر أن تجتمع الطاقة وحضور الذهن الضروري للسيطرة على الموقف الصعب مع صفات الحرص والحذر الشديد والتواضع التي تميز شريكك السابق.» في ظل هذه الظروف فإن بقاء ديرفيو في مصر أمر ضروري. «فبفضل بقائه إلى جانب الخديوي ستزول آثار هذا الحادث الذي هددك بفقدان عطفه.»

وفي النهاية نسي ديرفيو وجالو خلافاتهما وأبقيا على الشركة كما هي. ولكن ضياع القرض قد وجه ضربة عنيفة إلى سمعة البنك وإلى التأكيدات التي قدمها ديرفيو لأندريه بعكس ذلك. وأصبح من الواضح أن إسماعيل لم ينسَ! لقد منحت عودة ديرفيو لأوروبا — لتصفية التزاماته في الخريف — أعداءه فرصة ثلاثة أشهر لتنمية وتغذية ذكريات الخديوي التي لا تسُر. وعندما عاد ديرفيو أخيرًا إلى الإسكندرية في يناير ١٨٦٥م كان قد فقد بالتأكيد كل مركزه كممول القصر المفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤