الفصل الحادي عشر

العواطف والصدمات النفسية والصحافة الرشيدة

مارك براين

تمهيد
جون أوين

كان مصورًا فوتوغرافيًّا جيدًا، لكن كان من السهل على تشارلي إقناعه بالتحول، على حدِّ تعبيره، إلى تصوير الفيديو. ومنذ ذلك الحين صارا متلازمين؛ في سلوفينيا، صيف ١٩٩١؛ ونوفسكا وباكراتش، أكتوبر ١٩٩١؛ وسراييفو، كريسماس ١٩٩٢، وموستار، صيف ١٩٩٣، والقائمة تطول: مقديشو، ولواندا وهوامبو، وكابول، اصطفَّت جميع تلك المهام في خاطره كشريط سينمائي. كانت كل واحدة من تلك العطلات وكأنها قطعة من الجحيم، وبدا أن ياتزيك قادر على النجاة من لهيبها باحتواء كل شيء داخل الإطار الأسود لعدسة الكاميرا خاصته. (مايكل إجناتييف، «تشارلي جونسون وسط لهيب النيران»)

يُرتَكب القتل بسرعة كافية ويمكن أن يقترفه أغلب البشر حين تزول تأثيرات معينة أو تُمارَس. لكن ما أثقل قلبي هو مشهد أولئك المكلُومين. رأيتهم في كلِّ حربٍ شهدتها، الآلاف الذين اضطروا إلى التعامل مع قذيفة أو قنبلة، أو رصاصة قناص باغتتهم فانتزعتهم في لمح البصر من واحد أو أكثر من أعز أحبائهم. ثم تمكَّنوا من استيعاب ذلك الألم ومواصلة حياتهم. كيف فعلوا ذلك؟ (أنتوني لويد، «رسالة غرام أخرى مُلطَّخة بالدم»)

من بين الأفكار الأساسية الواردة في الخطب التي كان يُلقيها كريس كرامر أمام مجموعات الصحفيين أن طواقم الصحفيين، عند عودتهم من تغطية أخبار خطرة ومزعجة، يكونون في حاجة إلى إجراء غسيل لعقولهم كما يغسلون ملابسهم القذرة. كان من المُعتاد في السابق، كما أشار كرامر، أن يجد الصحفيون العائدون، بعد أن شاهدوا وشَهِدوا فظائع، صعوبةً في عملية الانخراط في مجتمعاتهم مرة أخرى. عجز أغلب هؤلاء الصحفيين عن حمل أنفسهم على إخبار ذويهم وأصدقائهم بما رأوه من أهوال في البوسنة أو رواندا أو الشيشان. وكانوا يطلبون المساعدة عادةً من صحفيين آخرين يتفهمون ما مروا به ويتقبلونه، غالبًا عن طريق السُّكْر حتى الثمالة.

وجد بعض هؤلاء المراسلين الحربيين العائدين أنفسَهم مُنخرطين في سلوكيات غريبة أثارت قلق أحبائهم، بل وخوفتهم. يذكر مراسل بي بي سي المخضرم، آلان ليتل، تلك الواقعة التي جرت أحداثها أثناء حفل عشاء شهده وكان من بين الحاضرين أطفال مضيفه، وذلك بعد عودته مباشرةً من مهمة صحفية تعرَّض خلالها لمشاهد أطفال صغار يموتون ويعانون. يذكر ليتل أنه قال في لحظةٍ ما كم أنه لطيف أن يُحاط بأطفال ليسوا موتى ولا يحتضرون. أخرس هذا التعليق الثرثرة البريئة حوله وأثار تساؤلات كثيرة بشأن حالته المزاجية، مما دفعه في النهاية إلى طلب المساعدة النفسية.

قلَّما أقرت المؤسسات الإخبارية فيما مضى بمدى خطورة المشكلة التي يعانيها أولئك الذين أوفدوا إلى أماكن خطيرة وكُلِّفوا بمهام مزعجة. صحيح أنه كان لدى الكثير من المؤسسات الإخبارية برامج رسمية للإرشاد النفسي للتعامل مع جميع أنواع مشكلات الصحة النفسية، لكن لم يكن أيٌّ منها موجهًا خصيصًا لدعم صحفييها الذين وجدوا أنفسهم فاقدين لاستقرارهم الانفعالي نتيجة لما كانوا يشهدونه في تلك المناطق النائية.

كما تغلغلت في جميع المؤسسات الإخبارية ثقافة ذكورية مُتسلطة. فنادرًا ما كانت تلك المؤسسات في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات تعيِّن مُراسلات ومُنتجات، فضلًا عن تعيين صحفيات فيديو. كان الأسلوب الذكوري في التعامل مع أيِّ شيء يمس الأمور النفسية أو العاطفية يتمثل في تبنِّي موقف الفتى القوي الشكيمة والتعامل مع ما يزعجك، أيًّا كان، بأي أسلوبٍ يبدو ناجحًا خارج نطاق العمل.

ذات مرة، اضطررت للتعامل مع مشكلة لم يكن لديَّ أي فكرة عن كيفية حلها وذلك في أثناء أدائي لمهمة صحفية كمنتج ميداني للقسم الإخباري بشبكة سي بي سي في السلفادور خلال أوائل الثمانينيات. حينها، كانت فِرَق الإعدام، المدعومة من الجيش السلفادوري الذي يسانده الأمريكيون، تعدم المتمردين أو مَن يُعتقد أنه متعاطف معهم. قادنا معاوننا السلفادوري الشاب إلى موقع مجزرة: أسرة مكوَّنة من أب وأم وأبناء في عقد العشرينيات، وقد قُتِلوا جميعًا رميًا بالرصاص وتُرِكت جثثهم طافية في حمام من الدم. وبعد أن التقطنا صورًا لهذا المشهد المُروِّع وجمعنا ما استطعنا من معلومات من جيرانهم، أوينا إلى مقهى. أدركت أن عامل الصوت خاصتنا لم ينبس ببنت شفة. لقد أصيب، في الواقع، بداء الجامود؛ فقد صُدِم بما رآه إلى حد أعجزه عن النطق. كل ما كان بوسعنا هو أن أعدناه إلى تورونتو على متن طائرة وكلنا أمل في شفائه العاجل بعيدًا عن أهوال ذلك المكان، الذي أفزعنا جميعًا وحرم أغلبنا النوم.

لو كنت منتجًا ميدانيًّا الآن لشبكة سي بي سي أو غيرها من المؤسسات الإخبارية الكبرى المستنيرة وحدثت نفس الواقعة، فسأكون جاهزًا للتعامل مع أغلب مشكلات السلامة والصدمات النفسية، وأعلم يقينًا الشخص الذي كنت سأتصل به فورًا طلبًا للمساعدة.

كنت سألجأ إلى دكتور أنتوني فاينستاين، أستاذ الطب النفسي بجامعة تورونتو وأهم مرجعية على مستوى العالم في «المخاطر النفسية» لتغطية الحروب والصراعات.

تعرفت إلى أنتوني في سياق تعاونِنا فيما أصبح دراسة رائدة لتوثيق المدى الكامل لحساسية الصحفيين الحربيين لما يُعرف باسم اضطراب ما بعد الصدمة (فاينستاين وآخرون ٢٠٠٢).

كشفت دراسة أنتوني أن ما يقرب من ثلث المشاركين في الدراسة (أكثر من ٨٠ بالمائة من أشهر الأسماء العالمية شاركت في الدراسة) عانوا أعراضًا مرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة، وهو ما أذهل صناعة الأخبار ودفع كثيرين، منهم بي بي سي وسي إن إن، وغيرهما من شبكات البث الكبيرة، إلى التحرك.

لجأ كريس كرامر وسي إن إن إلى أنتوني طلبًا لمساعدته في تقديم الإرشاد النفسي للصحفيين الذين عانوا من صراعات نفسية عقب رجوعهم من مهام مزعجة وخطيرة.

لم يمضِ وقت طويل بعد أن صارت دراسة أنتوني مرجعًا حول الصدمات النفسية والصحافة حتى صار مارك براين، المراسل والمحرر المخضرم، في رويترز أولًا ثم في الخدمة العالمية التابعة لبي بي سي، صوتًا صادحًا بحاجة المؤسسات الإخبارية إلى بذل قدر أكبر من واجب الرعاية لكوادرها.

خاض براين نفسه رحلة شخصية من الصحافة إلى دراسة الطب النفسي. رأى براين أن ثمة صلة مباشرة بين حالة الشخص المزاجية وجودة أدائه الصحفي. لقد اعتبر نفسَه ورقةً محروقة بعد تغطيته الخطيرة والمضنية للأحداث العاصفة في عام ١٩٨٩، والتي من بينها مجزرة ميدان تيانانمن في بكين والثورة الرومانية الدامية في بوخارست. أحسَّ براين أنه فقد قدرته على عزل نفسه عن الأحداث والحفاظ على حياديته بعد ذلك القدر الهائل من العنف والمعاناة الذي شهده، واعتقد أن الوقت قد حان للتنحي وممارسة عمله الصحفي من خلال دور المحرر المكتبي الأكثر أمانًا.

وجد مارك براين الصحفي ومارك براين المعالج النفسي المؤسسة المثالية لهويته الثنائية: مركز دارت للصحافة والصدمات النفسية. أُسِّس المركز على يد الدكتور فرانك أوكبرج، الطبيب النفسي الأمريكي صاحب الأبحاث الرائدة في مجال اضطراب ما بعد الصدمة. بدأت برامج مركز دارت تدفع الصحفيين ووسائل الإعلام إلى تحسين تغطيتهم لحوادث العنف التي تقع في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم توسع المركز إلى خارجها وصار مارك براين المدير المؤسس لفرعها في أوروبا.

تمامًا كالتدريبات المعنية بالسلامة، عانت فكرة دعم الصحفيين المصابين بالصدمات النفسية مما يكفي من المعارضين في صناعة الأخبار. فكثير من الصحفيين العاملين يمقتون فكرة قلق المراسلين الزائد حيال حالتهم النفسية مقارنةً باهتمامهم الضئيل بصقل مهاراتهم المهنية. غير أن المؤسسات الإخبارية المستنيرة أدركت العلاقة التي أشار إليها مارك براين بين «العواطف، والصدمات النفسية، والصحافة الرشيدة». إن هذه العلاقة هي محل تناول براين في هذا الفصل.

مراجع

Feinstein, A., Owen. J. and Blair, N. (2002) A hazardous profession: War, journalists and psychopathology. American Journal of Psychiatry 159: 1570–5.
Ignatieff, M. (2003) Charlie Johnson in the Flames. Grove Press.
Loyd, A. (2007) Another Bloody Love Letter. Headline Review.

تخيَّل أنك حصلت لتوِّك على شهادتك الجامعية في الصحافة وأنك تستعد لمقابلتك الأولى للحصول على وظيفة.

الوظيفة المُعلَن عنها هي مراسل اقتصادي ومالي يعمل في نيويورك، لكنك لست متخصصًا في علم الاقتصاد؛ لقد درست التاريخ بالجامعة قبل التسجيل بتخصص الصحافة، لكنك متحمس للتعلم.

كيف عساك أن تستعد للمقابلة؟

هل سترغب في التعرف، مثلًا، على أسواق العقود الآجلة وكيفية عملها؟ هل ستود معرفة المزيد عن مؤشرات داو جونز، أو فوتسي، أو ناسداك، أو داكس؟ ربما تريد أن تتعلم الأساسيات المتعلقة بكيفية قراءة التقارير السنوية للشركات.

أو هَبْ أنك متقدم لوظيفة مراسل رياضي. إنك محبٌّ للرياضة لكنك لست واثقًا تمامًا من معرفتك بعض المجالات التي قد تُكلَّف بتغطيتها.

هل ستفكر، قبل المثول أمام لجنة الاختيار، على سبيل المثال، في مراجعة الألعاب التي تتكون منها رياضة الخماسي؟ هل تثق بقدرتك في شرح قواعد لعبة البيسبول؟ هل سترغب على الأقل في معرفة الفرق بين كرة القدم الأمريكية والبريطانية؟

إليك سؤالًا آخر يُدنينا أكثر من موضوع هذا الفصل.

ما مقدار الحصة التي تشغلها مسألة الصدمات النفسية في أجندة الأخبار الغربية النموذجية، كما تنعكس في النشرات التليفزيونية أو صفحات الجرائد الأمامية أو عناوين الأخبار الإذاعية أو على الإنترنت؟ ونعني بالصدمات النفسية هنا الشعور بالكرب الإنساني الشديد، سواءٌ أكان ذلك الشعور بدأ عقب محنة ما، أم في أثنائها أم تحسُّبًا لها.

الجواب المعتاد الذي نتلقاه أثناء التدريب، بصرف النظر عن الجنسية أو الثقافة، هو الثلثان تقريبًا.

إذًا، بالنظر إلى مثال الرياضة — الذي يفيد أن فهم اللعبة شرط أساسي لتغطيتها بذكاء — واعتبار أن الصدمات النفسية، في الوقت نفسه، هي عماد أجندة الأخبار اليومية في أغلب الثقافات الإخبارية، ما مقدار التدريب الذي تعتقد أن الصحفيين يتلقونه، أو ينبغي أن يتلقوه، ليفهموا قواعد الصدمات النفسية (فللصدمات النفسية قواعد، وهي قضية من السهل تمامًا استيعابها)؟

إن جواب السؤال الأول — ما مقدار التدريب الذي يتلقونه؟ — ليس باعثًا على السرور؛ فلم يحصل الصحفيون قديمًا، وحتى وقت قريب جدًّا، على أي تدريب معنيٍّ بالصدمات النفسية، لا في كليات الصحافة، ولا خلال التدريبات التي تُقدَّم للمبتدئين في الوظائف، ولا خلال ما يطلق عليه في ميادين الحياة المهنية الأخرى، التنميةَ المهنيةَ المستمرة.

لقد عملت صحفيًّا لرويترز وبي بي سي لثلاثين عامًا والمقدِّمة الوحيدة عن الوعي العاطفي تلقيتها حين تنحَّيت جانبًا في تسعينيات القرن الماضي وسعيت لمداواة نفسي وتدرَّبت لأصير معالجًا نفسيًّا، ثم عدت إلى الصحافة حاملًا تلك الأفكار لتنفيذ حملة أدعو فيها لمنهج جديد في التعامل مع الصدمات النفسية.

لنكن مُنصفين. ينبغي ألا ننكر على الصحفيين ومؤسساتهم عدم أدائهم لأمر لم يعلموا ضرورة القيام به.

على كل حال، لم يُحدَّد اضطراب ما بعد الصدمة رسميًّا لأول مرة إلَّا مؤخرًا نسبيًّا، في عام ١٩٨٠، كما أن المهن الأخرى التي تتعامل مع الكوارث والمآسي، كالشرطة والطوارئ والمطافئ، استغرقت وقتًا للإقرار بأن الصدمات النفسية جانب رئيسي في عملهم.

ورغم ذلك فإن قضية هذا الفصل هي أن الجهل بمسألة الصدمات النفسية ونقص التدريب المَعْنِي بالتعامل معها في مجال الصحافة لم يعودا أمرين مبرَّرين.

إذًا فالجواب عن السؤال الثاني — ما مقدار التدريب الذي يحتاجه الصحفيون؟ — هو بالتأكيد: «أكثر بكثير من المقدار شبه المعدوم الذي تلقَّوه حتى الآن.»

ورغم أنه ليس من الممكن أن تتحول إلى خبير بالصدمات النفسية بعد قراءة هذا الفصل القصير فقط، فإنني أرجو بنهاية قراءتك له أن تقتنع بأهمية هذه الأجندة.

(١) لماذا أحتاج إلى التعرف على الصدمات النفسية؟

لا يعني فهم مسألة الصدمات النفسية أن تصير مرهف العواطف، أو تذرف الدموع وأنت تنقل الأحداث على نحوٍ مباشر أو تطَّلع على الصور التي التقطتها أو الأخبار التي كتبتها، أو أن تكتفي بنقل الأخبار السارة فقط، كما لا يعني إرسال الصحفيين إلى طبيب نفسي حين يضطرون لنقل الصدمة التي تُعانيها قطة عالقة أعلى شجرة.

إن التعرف على الصدمات النفسية في مجال الصحافة مهم نظرًا لأن الصدمات والعواطف هما، إلى حد بعيد، أهم عاملين محركين للسلوك البشري.

وسواءٌ أكان البشر يختارون شريك حياتهم، أو حزبًا سياسيًّا يؤيدونه، أو نوع معجون أسنان ليستخدموه، فهم يعتمدون في قراراتهم على حدسهم أكثر من اعتمادهم على المنطق والعقل. والفرق بين البشر والحيوانات هو أن البشر يتوهمون أنهم يتخذون قرارات منطقية.

لذا فالحصول على المعرفة الأساسية بالعواطف والصدمات النفسية واحد من أهم الأدوات التي نحتاجها لتحسين أدائنا بوصفنا صحفيين.

تساعدنا تلك المعرفة على وجه الخصوص على:
  • أن نفهم كيف يتصرف البشر ولماذا، لا سيما في حال وقوعهم تحت تأثير كرب شديد (وهو غالبًا ما نجدهم يعانونه عند تغطيتهم للأخبار الكبرى).

  • أن نُجريَ أفضل مقابلات ممكنة ونقدم أفضل أداء صحفي.

  • أن نجيد رواية أخبار المآسي والكوارث — بمصداقية، ودقة، واحترام.

  • أن نكتسب، كأفراد وبشر ضعفاء، الأدوات اللازمة لإبقائنا على المسار الصحيح وأداء عملنا على أفضل وجه ممكن، مهنيًّا وعاطفيًّا (وهو أمر يجدر بك أن تضعه نصب عينيك إذا وجدت نفسك تنقل أحداثًا مثيرة للصدمات الشديدة).

إن هذا الفصل باختصار يتناول العواطف والصدمات النفسية والصحافة الرشيدة، وكيفية ارتباط كلٍّ منها بالآخر.

(٢) ما هي الصدمات النفسية؟

باعتبارنا نتاجًا لعملية التطور، فقد جرت برمجتنا على الانجذاب إلى العنف والمآسي والتأثر بهما. إن استجابتنا كبشر للتجارب المثيرة للصدمات، قبل ظهور الأخبار والصحافة بوقت طويل، ساعدت في تحديد كيفية بقائنا وازدهارنا كنوع بيولوجي.

إن تجربة الصدمات النفسية قديمة قِدَم الجنس البشري، وقد وصِفت كثيرًا في الأدبيات بدءًا من الكتاب المقدس وكتابات الإغريق القدماء (والحق أن كلمة صدمة بالإنجليزية هي في الواقع كلمة إغريقية تعني الثَّقب أو الجرح) وانتهاءً بشكسبير وشعراء الإنجليزية المعاصرين للحرب العالمية الأولى.

غير أن علم الصدمات النفسية أحدث عهدًا بكثير؛ إذ نشأ منذ أواخر القرن التاسع عشر وتطور خلال الحربين العالميتين وصولًا إلى عام ١٩٨٠ الذي شهد وضع تشخيص لاضطراب ما بعد الصدمة.

وقبل الخوض في الآثار المترتبة على الصدمات النفسية في مجال الصحافة والعناية بالذات، دعونا نلقِ نظرة على ما قد يُعَد مثيرًا للصدمات النفسية في مقابل ما قد يُعتبر مثيرًا للتوتر لا أكثر.

قدمت عالمة النفس الأمريكية الرائدة، جوديث لويس هيرمان، في كتابها الرائع «الصدمات النفسية والتعافي منها»، تناولًا مهمًّا لمسألة الصدمة النفسية باعتبارها محنة العجزة. وكتبت فيه قائلة: «في لحظة الصدمة، تصبح الضحية لا حول لها ولا قوة تحت وطأة قوة ساحقة. حين تكون الطبيعة صاحبة هذه القوة، فنحن نتحدث عن الكوارث الطبيعية، وحين يكون البشر مصدر هذه القوة، فإننا نتحدث عن أعمال وحشية. تقهر الأحداث المسببة للصدمات أنظمة الرعاية العادية التي تمنح البشر شعورًا بالسيطرة والترابط والأهمية» (هيرمان ٢٠٠١: ٣٣).

ليس بالضرورة أن يكون الحدث المسبب للصدمة حدثًا هائلًا، كحرب أو كارثة طبيعية. فربما يكون أمرًا مؤسفًا جرى لصديق. وقد يكون شيئًا يحسبه الناظر هينًا، لكنه عظيم في حياة المرء. كما أن الفرد الذي يُعاني من صدمة ليس بالضرورة في الحقيقة أن يكون قد وُجد في محل الحدث، بل ربما يكون ذا صلة به فقط.

المهم في الأمر هو كيفية تأثُّر الفرد شخصيًّا بالأمر؛ لذلك فليس للآخرين أن يقولوا لشخص ما يشعر بصدمة نفسية إن الأمر ذا الصلة لم يكن في الواقع بذلك السوء وأن عليه أن يتمالك مشاعره ويستعيد رباطة جأشه.

قد يساعدك هذا خلال تغطية خبر ما في أن تُفسِّر التأثر الشديد للغاية لبعض الأشخاص بالمصائب التي تحل بهم والذي يفوق في حدَّته تأثُّر غيرهم.

لو أدركت ذلك بوصفك صحفيًّا، فستكون أمامك فرصة أفضل بكثير لاستيعاب مشاعرهم وإعادة سرد قصتهم بمصداقية وتعاطف.

لو تناولنا القضية من منظور أكثر تحديدًا، فإن «التشخيص الإكلينيكي» لاضطراب ما بعد الصدمة طبقًا لتعريفه الحالي الذي وضعته الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين يُقصد به الكرب الذي قد ينتج عن:

المعايشة الشخصية المباشرة لحدثٍ يتضمن وفاةً فعلية أو محتملة أو إصابة خطيرة أو أي تهديد آخر للسلامة الجسدية لشخص ما، أو معاينة ذلك الحدث؛ أو العلم بتعرض أحد أفراد الأسرة أو غيرهم من الأشخاص المقربين للوفاة غير المتوقعة أو العنيفة، أو الأذى الشديد، أو خطر الموت أو الإصابة. (الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين ٢٠٠٠: ٤٦٣)

سيشهد الشخص، بناءً على هذا التعريف، شعورًا حادًّا بالخوف أو العجز أو الرعب. وإيجازًا للمعايير التشخيصية التي حدَّدتها الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين (٢٠٠٠)، فإن الأعراض التي قد يستند إليها تشخيص حالات اضطراب ما بعد الصدمة، لو دامت لأكثر من شهر، يمكن أن تتضمن:
  • تكرار تذكُّر الحدث وتسلُّطه، بما في ذلك، على سبيل المثال، الاستحضار اللاشعوري له أو الكوابيس.

  • التبلد العاطفي وتجنُّب الأشخاص والأماكن التي تُذكِّر الفرد بالحدث.

  • الاستثارة الفسيولوجية المستمرة، والتي قد تشمل سرعة الانفعال وضعف التركيز واضطرابات النوم وأعراضًا جسدية كتقلصات المعدة أو التعرق، والاستجابة الإجفالية المفرطة.

يُعَد ذلك تعريفًا أضيق للصدمات النفسية، لكن ينبغي ألا يُفهَم منه أن الشخص الذي لا يُعاني من جميع تلك الأعراض مجتمعة أو غالبيتها بخير تمامًا ولا يعاني من أيِّ مشكلة.

في الواقع، يعمل الأطباء النفسيون حول العالم في وقتنا الراهن (وقت كتابة الفصل) على تشخيص جديد من المتوقع أن يضمه المرجع القادم للاضطرابات النفسية والمُقرر نشره عام ٢٠١٢ تقريبًا، ومن المرجح أن يُطلق عليه «اضطراب ما بعد الصدمة المعقد» أو ما شابه. وسوف يُبرز هذا التشخيص تجارب المعاناة النفسية المنهِكة التي تمتد جذورها في حالات الصدمة بتعريفها الأوسع مثل التعرض للعنف أثناء الطفولة أو الطلاق أو التنمر.

بناء على ما سبق، حين تنقل حالات الصدمة والمعاناة النفسية الحادة أو تتعامل معها، فعليك أن تعي (وسوف أعود إلى تلك النقطة لاحقًا) أن معظم البشر يتعافون تمامًا في الغالب منها لا سيما لو حصلوا على الدعم الاجتماعي المناسب من الأصدقاء، والأسرة، وزملاء العمل.

ثبتت صحة ذلك الأمر بالنسبة إلى سكان نيويورك عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر على مركز التجارة العالمي في ٢٠٠١، وكذلك بالنسبة إلى سكان لندن وسكان برلين أثناء تعرُّضهم للقصف خلال الحربين العالميتين. وربما الأكثر غرابة أنه يَصْدُق على الناجيات من تجارب الاغتصاب، والتي أثبتت الأبحاث أنها أكثر التجارب إيلامًا وإثارة للصدمات النفسية التي قد يمر بها أيُّ إنسان.

يتغير البشر إثر إصابتهم بالصدمات النفسية، والتجارب الأليمة لا تُنسى، لكن البشر، من جميع الثقافات وعلى مدار حقب التاريخ، قادرون على التكيف على نحو يُثير الدهشة.

ولذلك فمن الضروري عدم النظر إلى الصدمات باعتبارها مرضًا نفسيًّا أو معضلة إكلينيكية هائلة. تذكَّر أيضًا حين تنقل الصدمات أو تعاني منها بنفسك أن حتى اضطراب ما بعد الصدمة في أشد أشكاله يُعتبر نتيجة أقل وقوعًا بين أولئك الذين يجدون أنفسهم يتألمون على المدى الأبعد، مقارنةً بالاكتئاب والقلق، أو انهيار العلاقات، أو إدمان الكحوليات، أو تعاطي المخدرات.

وإذا بالغنا في ذلك التقييم الإيجابي إلى حد التطرف، فسنجد من يحتج بأن اضطراب ما بعد الصدمة ليس سوى مفهوم سياسي غربي ابتدعه في سبعينيات القرن الماضي دُعاة حقوق المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية ممن ينتمون إلى التيار اليساري ويُناهضون حرب فيتنام.

لكنني بوصفي صحفيًّا ومعالجًا نفسيًّا عمل مع أفراد من أغلب ثقافات العالم، لا أتفق مع هذا الرأي.

صحيح أن غالبية من يعانون من الصدمات النفسية لن يصل بهم الأمر إلى الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة، لكن أقلية لا يُستهان بها سوف تُصاب به. لماذا عليهم أن يستمروا في معاناتهم، لعقود في بعض الأحيان، في حين أن القليل من التنوير والدعم والإقرار والعلاج، في بعض الحالات، قد يُحدِث تحولًا في حياتهم؟

تفيد البيانات المستمدة من عقد التسعينيات والموضحة في جدول ١١-١ أنه يمكن توقُّع الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة في أي مجتمع إحصائي أمريكي أو أوروبي بعد هذه الحوادث.

لاحظ أن ثمة اختلافات بين الرجال والنساء في استجابتهم للصدمات النفسية.

دأبت الدراسات البحثية على الإشارة إلى أن احتمال إصابة النساء باضطراب ما بعد الصدمة يقارب ضعف احتمال إصابة الرجال بها بوجه عام.

لاحظ أيضًا أن احتمال الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة جرَّاء الكوارث الطبيعية أقل من نظيره جرَّاء التعرض للعنف أو الاعتداء على يد البشر. إذًا النتيجة المستنبطة من هذه الحقيقة، رغم قسوتها، هي أن تقبُّل المصائب يبدو أسهل لو لم يكن للبشر دخل فيها.

صحيح أن الثقافات المختلفة تتعامل مع الصدمات النفسية بأساليب مختلفة وأن محاولة تطبيق التحليل النفسي الفرويدي على سبيل المثال على راعي ماشية من التبت، أو لاجئ من السودان، أو ناجية بوسنية من حادثة اغتصاب ستكون فكرة في غاية السوء. وربما يحتج الكثيرون الآن بأن ذلك النمط من العلاج لا يمثل أفضل إجراء يمكن اتخاذه للتعامل مع المصابين بالصدمة في العالم الغربي أيضًا.

جدول ١١-١: الإصابة المتوقعة باضطراب ما بعد الصدمة في مجتمع إحصائي أمريكي أو أوروبي.*
الحادثة الإصابة المتوقعة باضطراب ما بعد الصدمة (بالنسبة المئوية)
ذكر أنثى
معاينة وفاة/إصابة ٦ ٨
حادث مُهدِّد للحياة ٦ ٩
اعتداء جسدي ٢ ٢١
قتال ٣٨
كارثة طبيعية ٤ ٥
اغتصاب ٦٥ ٤٦
ملحوظة: لا توجد بيانات متاحة لحالات الإصابة بين النساء الناتجة عن القتال (المصدر: كيسلر (١٩٩٥)).

لكن أغلب اختصاصيي الصدمات النفسية في معظم البلدان يُدركون بالفعل الآن أن أوجه التشابه بين الاستجابات العاطفية التي يُبديها البشر حيال الصدمات أكثر بكثير من أوجه الاختلاف بينها وأن المساندة والروابط والعلاقات الاجتماعية يمكن أن تُحدث فارقًا عميقًا في كيفية تقبُّل البشر لمآسيهم ومصائبهم.

(٣) تغطية الصدمات النفسية: الصحافة

إن الصدمات النفسية، في أقصى مستوياتها الآنية، والاستجابات الفسيولوجية العميقة التي تُثيرها معاينة الإصابات أو الوفيات أو الخوف منها يمكن أن تؤثر على نحو كبير في إدراك الفرد وتكوينه للأحكام، سواءٌ أكان ضحيةً أم ناجيًا أم شاهد عيان أم مراسلًا.

يسهم مثال مقتبس من جريدة ذا جارديان اللندنية في توضيح هذه المسألة: لقد وجد مراسل الجريدة الشاب، المقيم في شنغهاي، نفسه في أكتوبر ٢٠٠٥ ينقل تعرُّض ناشط مَعْني بالحقوق المدنية لما بدا أنه ضرب مُفْضٍ للموت على يد لجان حراسة شعبية قروية في إحدى قرى الصين الجنوبية. قاد المراسل والناشط سيارتهما إلى القرية معًا، على خلاف ما ارتآه المراسل، إذ كان معروفًا أن القرية مكان يسوده العنف وخشي أن يتعرضا لهجوم. وهو ما حدث بالفعل للناشط؛ إذ تعرَّض لاعتداء عنيف؛ فما كان من المراسل إلَّا أنْ دفعه خوفه على حياته أن حبس نفسَه في السيارة وراح يراقب من نوافذها في هلع مشهد صديقه وهو يتعرض للضرب المبرح، حسبما اعتقد، وقد فارقت إحدى عينيه محجرها وتكشَّفت أربطة عنقه، والتوى جسده وتكسر: باختصار، لقد أردَوه صريعًا. هُرع المراسل عائدًا إلى الفندق ودوَّن ما رأى في سرد طويل مفعم بالانفعالات، وقد وجد طريقه إلى صدارة الصفحة الأولى من عدد الصحيفة الصادر في اليوم التالي. لقد نقل المراسل في الواقع التفسير الذي أضفاه عقله المصدوم على المشهد الذي رآه، لكن المشكلة الوحيدة هي أن الناشط لم يلقَ مصرعه، بل ظهر بعد بضعة أيام مصابًا بعدة كدمات جرَّاء الضرب لكنه كان لا يزال على قيد الحياة.

بمجرد أن اتضحت معالم الأمر، أجاد فريق الجريدة التحريري التعامل مع تَبِعاته، وقد أدركوا، وإن كان متأخرًا بعض الشيء، أن المراسل مرَّ بتجربة كبرى خلَّفت لديه صدمة نفسية وأنه بالغ، لا شعوريًّا، في تفسير ما رأته عيناه.

تقدمت الصحيفة بالاعتذار للسلطات في بكين ونشرت استدراكًا على الخبر،١ وحظي المُراسل بقدرٍ كبيرٍ من التعاطف والتفهم لحالته، لكن كل هذا كان يمكن تجنبه بمزيد من التدريبات التي تستهدف الوعي بحالات الصدمات النفسية، ميدانيًّا وفي مقر الجريدة.

إذًا، ماذا حدث؟

من منظور صحفي، كانت تجربة المراسل مؤسفة، لكنها منطقية تمامًا لو نظرنا إليها من وجهة نظر العلوم المعرفية.

إن وظيفة المخ هي تنقيح الكم الهائل من المعلومات التي يتلقاها من الحواس الخمس، وتفسيرها، واستيعابها من وجهة نظر شخصية. وهي وظيفة يؤديها حتى في أكثر الظروف هدوءًا واستقرارًا.

لكن حين يواجه المخ توترًا ناجمًا عن صدمة نفسية — واعتمادًا على مجموعة من العوامل الأخرى — فإنه يميز الإشارات التي يتلقاها ويفسرها بطرق معينة؛ إذ سرعان ما يتحول إلى وضع الإنذار والبقاء على قيد الحياة ويمكن أن يعتري البشر فجأة مشاعر وتصرفات تختلف تمامًا عن ذواتهم الطبيعية.

إن ما سبق يُفسِّر لماذا لا يمكن التعويل على رواية شهود العيان على الأحداث المسببة للصدمات النفسية ولماذا قد يرتكب الصحفيون، حتى المخضرمون منهم، أخطاء في اللحظات المفعمة بالانفعالات الشديدة، كما حدث مع مراسل جريدة ذا جارديان (وربما حدث أيضًا مع كثير من الصحفيين، ذوي الخبرة العالية أحيانًا، والذين قد لا تُكتَشف أخطاؤهم ألبتة).

(٤) الحصول على الخبر بطريقة ملائمة

لقد تصرَّف حوالي نصف الصحفيين الذين أجرَوا هذه المقابلات بمهنية مُبْدين قدرًا هائلًا من المشاركة الوجدانية والتفهم. ولأنها عملية متبادلة، فقد منحتهم في المقابل قصة إخبارية أفضل كثيرًا … أجريت أيضًا كثيرًا من المقابلات السيئة. أثارت التجربة السيئة في كل مرة إصابة جديدة بصدمة نفسية وتمكنت من تمييز قاسمين مشتركين. أعتقد أن أهم عاملين في تحفيز إصابة جديدة بالصدمة النفسية خلال المقابلات مع ضحايا الصدمات النفسية أو الناجين منها هما فقدان الثقة وانعدام الإحساس بالسيطرة. (دكتورة ماري سيلف، التي تصدَّرت قصة تعافيها بعد إصابتها بالسرطان الصفحات الأولى في الصحف الدولية عام ١٩٩٩)

إن الصحافة الرشيدة — والاتسام بالدقة والإنصاف قبل كلِّ شيء — ذات أهمية بصرف النظر عن محتوى الخبر، وحين يتعلق الأمر بصحافة الصدمات والمعاناة البشرية الشديدة، تتضاعف أهمية تلك القيم.

إن مراعاة تلك القيم سوف تمنحك قصة إخبارية أفضل وسوف تضْمن أن تغطيتك لن تزيد الأمر سوءًا دون داعٍ بالنسبة إلى أولئك الذين تروي قصتهم.

غالبًا ما تأتي الحوادث المسببة للصدمات النفسية مصحوبةً بمواعيد نهائية ضيقة للغاية وبضغوط تنافسية شديدة جدًّا؛ لذا، حين تسعى لإجراء مقابلات مع ناجين أو ضحايا للتعرف على قصصهم، فلا تنسَ أنك تتعامل مع بشر ضِعاف ربما يمرون بأسوأ تجارب حياتهم.

إليك بعض الاقتراحات التي تصلُح لتغطية الجرائم أو المآسي المحلية كما تصلُح لنقل الحروب أو الكوارث العالمية:

  • إن الضحايا والناجين، ومن فُجِعوا في عزيز، وغالبًا أيضًا من عاينوا «فقط» مثل تلك الأحداث أو تعاملوا مع تبعاتها، قد يشعرون أحيانًا بفقدان مفاجئ لإحساسهم بالأمان في هذا العالم. ولا يقتصر الأمر على ما تعرَّضوا له جسديًّا. تذكَّر التعريف الافتتاحي في هذا الفصل الذي يتناول ما يمكن أن يُشكل صدمة نفسية: فالمهم هو ما يعنيه الحدث بالنسبة إلى الشخص المتأثر.

  • تختلف ردود الأفعال، وقد تُدهِش بل وتُصدِم؛ فربما يبدو الأشخاص فائقي الهدوء وعقلاء ورزناء، وقد يُظهرون وقارًا وأحيانًا رباطة جأش مثيرة للعجب، لكن من ناحية أخرى، قد يتسم آخرون بالانفعال الحاد، وربما يستحوذ عليهم الأسى واليأس، وقد يتصرَّفون بغضب وسخط، وربما يُعانون من الحيرة والارتباك والتشتت، وقد يُصيبهم الجمود والعجز عن الكلام. كل ما سبق يُعَد جزءًا من ردود الأفعال الطبيعية والمتوقعة الناجمة عن الصدمات النفسية.

  • غالبًا ما سيكافح الضحايا والناجون والعائلات والأصدقاء لاستعادة قدرتهم على التحكم في عالمهم الذي انقلب رأسًا على عقب. إن إجراء مقابلة مع مثل هؤلاء الأشخاص يختلف كليةً عن مقابلة سياسي أو خبير؛ لذلك لا تألُ جهدًا في منحهم شعورًا بالتحكم والسيطرة خلال الحوار.

  • اسمح لهم بتحديد مكان المقابلة، والحصول على استراحات، وإنهاء المقابلة. وإذا شعرت أنهم قلقون إزاء ما روَوه وكان هناك متسع من الوقت، فربما يجدر بك أن تُعِيد عليهم قراءة بعض المقتطفات التي سجلتها أو دونتها وتحقَّقْ منهم أنك قد استوعبت قصتهم كما ينبغي.

  • مهما كان موعد تسليم العمل عاجلًا أو أبدى المحررون في مقر عملك ضجرًا، تعامل مع الأمر بتأنٍّ. كن واثقًا وواضحًا ومحترمًا ودمثًا. اعلم أن الأشخاص الذين تتحدث إليهم ربما لا يستطيعون أن يتذكروا لاحقًا أسئلتك أو إجاباتهم.

  • ليس لك أي عذر، بوصفك صحفيًّا، في تعقيد الوضع بلا داعٍ بالنسبة إلى من تنقل قصصهم. وربما يشعر الضحايا والناجون أن تعرُّضهم لمعاملة أو تغطية سيئة على يد الإعلاميين صدمة أكبر من مصابهم الأصلي.

ثمة خاطرة هامة في هذا الشأن: ربما تكون اللحظة التي يتلقى فيها المرء خبر وفاة عزيز له هي أشد لحظات حياته إثارة للصدمة؛ لذا قبل التوجه إلى إجراء مقابلة، حاول أن تعرف، لو أمكن، ما إذا كان من ستُجري معه المقابلة قد تلقَّى خبر ما حدث من السلطات المختصة أم لا. وتجنَّب، إن استطعت، أن تكون أول من يُبلغ الأهل والمقربين بمثل تلك الأخبار غير السارة.

(٥) إجراء المقابلات

يُعَد إجراء مقابلات جيدة تراعي مشاعر الآخرين ركيزة أساسية لجميع أنشطة الصحافة الرشيدة، لكنك حين تتعامل مع ضحايا الصدمات النفسية والناجين منها، تكتسب هذه المهارات أهمية خاصة.

لا يقتصر الأمر على مجرد إلقاء أسئلة جيدة، بل يتجاوزها إلى خلق تآلف ورابطة، ولو لفترة قصيرة، بما يُمكِّن كلًّا منكما من بذل أفضل ما لديه.

  • قبل التوجه إلى الشخص الذي ستحاوره أو بدء المقابلة معه، ينبغي أن يكون لديك فكرة واضحة بشأن ما تريده من تلك المقابلة. ما المعلومات التي تحتاجها؟ وكيف يمكن أن تُلائم تجربة ذلك الشخص القصة الإخبارية الأكبر التي تتحرَّى عنها؟ فمن المهم أن تجري تحضيراتك وبحثك، لكن تذكَّر أن المعرفة ستأتي من الشخص الذي تُجري معه المقابلة.

  • ربما تشعر شخصيًّا بالعصبية والخوف، بل والغضب، حيال الخبر الذي تنقله؛ لذا، من الضروري أن تُقِر بمشاعرك وتعيها، لكن حاول أن تدفع عواطفك إلى إيضاح فهمك لا تضليله. تمهل وحاول أن تتمالك أعصابك.

  • تأكد ما إذا كان مقبولًا أن تطرح سؤالًا صعبًا. ثم أنصت! فإن أسوأ خطأ قد يرتكبه مراسل هو أن يتحدث أكثر من اللازم.

  • استعن بمهارات الإنصات الإيجابي، كالتواصل البصري المناسب، والإشارات غير الشفوية الدالة على الاهتمام والمشاركة، والتصرف على نحو يعكس حركات مَن تجري معه المقابلة. وتذكَّر أن قدر التواصل الذي تُحققه لغة الجسد ونبرة الصوت أكبر كثيرًا من القدر الذي تحققه الكلمات الفعلية التي تتلفظ بها.

  • أفضل أسئلة هي الأسئلة البسيطة المفتوحة. وتجنَّب (تقريبًا) دائمًا الأسئلة التي يمكن أن يُجاب عنها بمجرد الإيجاب أو النفي. ولا تسأل أكثر من سؤالٍ واحدٍ في المرة الواحدة.

  • ألقِ نظرة على ما حصلت عليه من معلومات. أعد صياغتها ولخِّصها وتحقَّقْ من فهمك لها. حاول أن تقدِّم لأسئلتك بقولك: «أتساءل …» أعطِ فرصة للحظات توقُّف وصمت.

  • لا تطرح أبدًا ذلك السؤال الأكثر استعمالًا والأقل فاعلية: «بِمَ تشعر؟» فربما يُجيبك الشخص بالدموع، لكن من غير المُرجح أن تتلقى جوابًا مترابطًا ومفيدًا وهادفًا. في الواقع، هذا هو السؤال الذي يصفه الناجون والضحايا دائمًا بأنه أشد الأسئلة إيلامًا وأبعدها عن التوفيق. لكن ماذا عن طرح أسئلة بديلة على شاكلة: «كيف خبرت هذه التجربة؟» أو «كيف حالك الآن؟»

تناول المهمة كما ينبغي، وغالبًا ما ستحظى ممن تقابلهم بروايات واضحة وقوية لقصصهم، وهو أمر في صالحك، وصالحهم، وصالح الصحافة.

(٦) إذًا، ما الخبر؟

في الفترة التي تلي مباشرةً الحادثة أو التجربة المثيرة للصدمة، سوف يشهد كثيرون ممن لهم صلة بالأمر أعراضًا تُشبه أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، كاستحضار الذكريات المتسلط والتبلد واجتناب الآخرين وفرط الاستثارة.

وتمامًا كما ننزف عقب الإصابة أو نتألم جرَّاء كدمة أو كسر، تُعتبر أعراض المعاناة النفسية كما هو الحال مع الجسدية طبيعية تمامًا وتمهيدًا لما يعده الجسد عملية تعافٍ.

ومثلما يستغرق الجرح بضعة أسابيع ليلتئم والكسر بضعة أشهر حتى يُجبَر، تمر النفس بدورة طبيعية لتتعافى من الصدمة العاطفية، وبوجه عام، سيشعر أغلب البشر بتحسن كبير في غضون أربعة إلى ستة أسابيع.

ما يحتاجه الإنسان في المقام الأول هو الدعم العملي والدفء الإنساني والطمأنة والتعرف على الاستجابات الطبيعية للصدمات النفسية.

إن القصص الإخبارية التقليدية المتعلقة بالكوارث تمر، بالمثل، عبر دورة محددة، ومن المفيد لك بوصفك صحفيًّا أن تعرف المرحلة التي وصلت إليها القصة؛ إذ يمكن أن يساعدك ذلك في الحصول على تصوُّر حقيقي للموقف في وقت مفعم بالانفعالات الشديدة:
  • خلال استيعاب وقع ما حدث، سيمر الفرد غالبًا في البداية بمزيج من الصدمة المبدئية والحيرة والذهول. وستمر عليه أوقات يعجز فيها عن التعبير عما يشعر به.

    figure
    شكل ١١-١: نُشرت لقطتا الفيديو الثابتان بإذن من القسم الإخباري لهيئة بي بي سي.
  • يمكن أن يواكب ذلك الشائعات الكثيرة التي تظهر مبكرًا: حصيلة قتلى كبيرة، أو خوف من التلوث والإصابة بالمرض، أو أنباء عن انهيار اجتماعي. ربما يكون بعضها صحيحًا، لكن غالبًا ما يتضح أن تلك الشائعات والأقاويل المبكرة مُبالَغ فيها.

  • مع بدء عمليات الإنقاذ على قدم وساق وتغطية الآلة الإخبارية، سرعان ما يتبع ذلك فترة من البطولة واللامبالاة: شجاعة الناجين؛ بطولة عُمَّال الإنقاذ؛ قدرة المدينة على تجاوز الكارثة، إلخ. تُمثِّل هذه مرحلة أيضًا ربما تكون مفيدة وملائمة أحيانًا، لكنها قد ترتبط بقدر من الإنكار لفظاعة ما جرى.

  • بعد تلك المرحلة المبدئية، التي قد تكون مفعمة بالخوف (ولا تتجاوز عادةً بضعة أيام)، يمكن أن ينتقل الناجون/الضحايا ووسائل الإعلام إلى مرحلة إلقاء اللوم. وتوجَّه الانتقادات إلى عمليات الإنقاذ البطيئة؛ الاستجابة الحكومية المرتبكة؛ سوء إنشاء المباني المتهدمة أثناء زلزال؛ تحمُّل المهندسين المعماريين لمسئولية الحادثة، إلخ.

  • بعد مضي بضعة أيام أو أسابيع، حسب أبعاد الحادثة، تستأنف القافلة سيرها. وتجد وسائل الإعلام عناوين جديدة. ويُترَك الناس لاستئناف حياتهم، وتذهب القصة طي النسيان، بالنسبة إلى عامة الجماهير على الأقل.

  • بالنسبة إلى الأفراد الذين يمرون باستجاباتهم العاطفية الخاصة حيال ما حدث، سيعود أغلبهم إلى ذواتهم الطبيعية خلال بضعة أسابيع، لكن البعض ستظل جراحهم غير مندملة ومؤلمة أمدًا طويلًا، لسنوات أحيانًا، بعد أن يكون الركب الإعلامي قد تجاوز الحدث وانتقل إلى غيره. الجميع يتعافون — أو لا يتعافون — بطريقتهم الخاصة.

تذكَّر هذه الدورة وأنت تنقل القصة الإخبارية.

(٧) كتابة القصة الإخبارية

لديَّ قناعة بأنه ينبغي علينا بذل جهد مساوٍ للتعرف على ما يجري بعد مغادرة الكاميرات. إن تقديم هذه الوجبة من العواطف المتأججة لا يُمثِّل سوى نصف القصة؛ فنحن ننقل الأسى والغضب والدموع، لكن هناك المزيد من العواطف الإنسانية ومجموعة متنوعة من المشاعر المستبعَدة من هوسنا بما هو آنيٍّ. إننا نحتاج، لكي ننقل صورة حقيقية لعالمنا، إلى نقل تلك الاستجابات الإنسانية الأكثر رصانة، حيث يسعى الناس إلى إعادة بناء حياتهم وحمل أنفسهم على تقبُّل ما حلَّ بهم. (بوردن ٢٠٠٦)

لو كانت مهمة الصحافة الأولى هي التغطية الفورية للحدث وكيفية تأثُّر الأفراد به — الدم والألم والعنف واليأس — فالمهمة الثانية هي سرد ما حدث لاحقًا، والذي لا يُنقَل غالبًا.

ينطوي ذلك أحيانًا على التئام الجراح، والتعافي، ومواجهة الماضي، بما يسمح للمجتمعات والعائلات، والأفراد باجتياز صدماتهم النفسية والوصول إلى معنًى جديد للحياة. وقد لا يحدث ذلك في أحيان أخرى، وتبقى مرارة ما حدث عالقة في الوجدان.

مهما كان الأمر، فالصحفيون ملزمون أمام قُرَّائهم ومستمعيهم ومشاهديهم بتنفيذ المهمتين الأولى والثانية.

فعقب كارثة أو مأساة كبرى، لا توجد حاجة إلى عرض القصص الإخبارية على نحو مثير أو تنميقها. اعتمدْ على الممارسة الصحفية الرشيدة القائمة على الوقائع الراسخة واستعن بقدر كبير من مراعاة مشاعر الآخرين.

  • احرص على عدم تحريف الحقائق أو الاقتباسات أو التفاصيل في هذا النوع من الصحافة أكثر من غيره؛ فهذه قصة إخبارية عليك أن ترويها أو تكتبها بأسلوب يتسم بالدقة وعمق الرؤية ورقة الشعور ودماثة الخلق.

  • إن من يعانون من صدمات نفسية قد تُسبب لهم أبسط الأخطاء ألمًا نفسيًّا عميقًا؛ لذلك عليك أن تتحقق بعناية من الوقائع والأسماء والأزمنة والأماكن أكثر من مرة.

  • تعامل بحرص واحترام مع ما أخبرك به الناس. وإن كنت تعمل في مجال الصحافة المطبوعة، فحاول أن تستخدم الصيغة الحرفية لكلمات من حاورتهم، مع قليل من التعديل حسبما تقتضي الضرورة اللغوية.

  • حين تنقل الصدمات النفسية، تأمَّل بعناية خاصة ما تستخدم من عبارات وكلمات. هل اللغة التي تستعملها تضيف شيئًا إلى فهم المستمع/ المشاهد/القارئ؟ هل تتسم صياغة العبارات بالاحترام دون محاولة التباكي والتظاهر بالأسى المفرط؟ تجنب مثلا الأساليب التالية:

    – «يندب هذا المجتمع المصدوم وفاة …» إن مثل هذا التعبير سطحي وساذج. وعليك أن تكتفي بوصف ما جرى وكيف استجاب الناس له.

    – «لا يزال أهل القرية يحاولون استيعاب المأساة …» لا شك أنهم كذلك. ركز، مجددًا، على نقل ما يفعله الأشخاص وما يقولونه.

    – «لا يزال هذا المجتمع يعيش حدادًا حتى يومنا هذا …» أو «لم يزل الوالدان/الأشقاء يفتقدون ابنهما/أخاهم …» ربما يعني ذلك أن الحزن له مدة محددة، بحيث يبدأ في وقتٍ معين وينبغي أن ينتهي بسرعة، وإذا تجاوز هذه المدة، فسوف يكون الأمر غريبًا أو غير طبيعي.

    – «المستشارون المدرَّبون مستعدون لتقديم المساعدة …» ربما كان الأمر جديرًا بالذكر لو لم يكونوا مدرَّبين. على أيِّ حال، إن الذين يُكلَّفون بدعم الناجين والضحايا لا يُقدمون في الواقع إرشادًا نفسيًّا، بل مزيدًا من المساعدة العملية أو مجرد الاستماع لهم.

    – «يتلقى فلان إرشادًا نفسيًّا …» راجع الخبراء لمعرفة نوع الدعم العاطفي المقدَّم. من المستبعد أن يكون إرشادًا رسميًّا؛ إذ لا يُوصى به إلَّا لغير القادرين على التعافي طبيعيًّا من التجربة الصادمة، وهو ما لا يتضح عادةً إلَّا بعد مُضي بضعة أسابيع.

    – «هذا المجتمع/المدرسة/العائلة لن تتعافى مطلقًا من هذا …» كلا، بل يتعافى بالفعل أغلب الأفراد والمجتمعات، بل وأحيانًا بسرعة مثيرة للدهشة. الأهم هو أنهم سوف يتغيرون نتيجةً لتلك التجربة، وهذا هو مربط الفرس ومحور القصة الإخبارية.

    – بالنظر إلى كل ما سبق، لو كُتِب هذا عنك وعن تجربتك الخاصة، فهل ستعتبره تصويرًا منصفًا لك؟ لو أجابتك غريزتُك بوصفك صحفيًّا ﺑ «لا»، ولو إلى حد ضئيل، فهذا يعني أن قصتك الإخبارية تحتاج إلى إعادة صياغة.

(٨) تغطية الصدمات النفسية: الصحفي

لو كانت تلك هي الآثار المترتبة على صحافة الصدمات النفسية، فما الذي تعنيه تلك المعرفة لك بوصفك صحفيًّا؟ قد تعني أكثر مما تعتقد، أو ربما ترغب في الاعتراف به لنفسك. إذا كنت طالبًا في إحدى كليات الصحافة وتتساءل حول كيفية الحصول على وظيفة وتحقيق الشهرة، فعليك أن تعيَ جيدًا حقيقة المهنة التي تختارها.

أجريت تغييرًا في تفاصيل القصص التالية والأسماء المذكورة فيها:

  • كان جون محررًا بقسم الصور في محطة تليفزيونية حين بدأت تتدفق عليه صور هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي وقعت في نيويورك عام ٢٠٠١. ظل جون على مدار ٢٤ ساعة يستقبل دفعات متلاحقة من صور الدمار والموت والأجساد المتساقطة. بعد بضعة أسابيع، انهار جون عاطفيًّا، مصابًا بألم نفسي لم يفهمه. ما حدث له هو أن طوفانًا من الذكريات القديمة التي اجترها من حرب شهدها منذ عقد مضى ولم يعالجها عقله في حينها قد انفجر مغرقًا إياه بآلام ما بعد الصدمة.

  • كانت كارولين تغطي أخبار القضايا المنظورة أمام المحاكم المحلية ووجدت نفسها تُغطي محاكمة أجريت لثلاثة رجال اعتدوا على شاب آخر بالضرب حتى الموت مستخدمين مطارق ثقيلة. كانت تفاصيل الحادثة غاية في البشاعة لدرجة أن الشبكات الإخبارية قرَّرت عدم نقل المحاكمة إطلاقًا. تُرِكَت كارولين بمفردها أمام المعلومات التي اضطرت إلى سماعها، وبدأت تُعاني الكوابيس والأرق. لم تبدأ كارولين في التحسن إلا حين أوضح صديق لها الصلة بين ما تُعانيه وما أُجبِرَت على الاستماع له.

  • كانت مهمة يفجينيا الصحفية هي رصد البرامج الإذاعية التي تُبَث بالروسية. نشأت يفجينيا في الشيشان لكنها كانت تعيش في إنجلترا حين نشبت الحرب في بلادها. أمضت سنوات تستمع إلى قصص الفظائع والموت القادمة من جروزني وتنقلها، وبدأت تعاني تدريجيًّا من حالة اضطراب ما بعد الصدمة مكتملة الأعراض دون أن تستوعب ما يجري لها. وحين أدركت هي ورؤساؤها في العمل المشكلة، كان عليها أن تتوقف عن العمل لمدة سنة تقريبًا حتى تتعافى.

  • لم يلبث أندرو أن التحق بالعمل في صحيفة محلية عقب تخرُّجه مباشرة في كلية الصحافة حتى كُلِّف بتغطية حادث تحطم سيارة بشع للغاية على مشارف مدينته. انحرفت سيارة تقل شابين ليلة السبت عن الطريق بسرعة شديدة واصطدمت بشجرة. لم يسبق لأندرو أن رأى جثة قَطُّ، وأصيب بصدمة عميقة عند رؤية حالة الرجلين؛ إذ تشوهت جثتاهما إلى حد يصعب معه التعرف على ملامحهما. وظل لعدة سنوات يستيقظ ليلًا غارقًا في عرقه فزعًا من مشاهد الحادث الراسخة في عقله، وكان يخشى من أن يبث شكواه إلى أي أحد لئلَّا يُتَّهم بالعجز عن التكيف واجتياز الصعاب.

  • بالنسبة إلى ديفيد، تَمثَّل الأمر في رحلة صحفية لتغطية مجاعة في أفريقيا. سبق أن سافر إلى المنطقة من قبلُ وظن أنه قادر على التكيف جيدًا مع الأوضاع، غير أن العذاب النفسي الذي عانته إحدى الأمهات وهي ترى طفلها يموت أمام ناظريها، وعجز ديفيد عن مساعدتها، أصاباه بأزمة نفسية حادة لفترة عند عودته إلى مقرِّ عمله.

يمر الجميع بصدمات نفسية، كلٌّ بطريقته الشخصية الخاصة، والأمر نفسه يسري على الصحفيين أيضًا. يتوقف الأمر على نوعية شخصيتك، والأحداث التي مررت بها في الماضي، وكيفية استيعابك الشخصي للأحداث التي نقلتها وشهدتها.

إن الصحفيين الذين يتعاملون مع المعاناة الإنسانية الحادة غالبًا ما يجدون عملهم مجزيًا بشدة على المستويين الشخصي والمهني. وفي سبيل إنجاز مهامهم، يحتاج هؤلاء، تمامًا كالأطباء أو الشرطة في تعاملهم مع الأمراض أو الجرائم، إلى حد ما إلى بناء جدار مهني يفصل ذواتهم عن الناجين والشهود الذي يروون قصصهم.

لكن حتى أكثر الصحفيين حنكةً ومهنيةً يمكن أن يتأثروا بما يُشهدونه من مآسٍ وربما يعانون نفسيًّا بسببها.

إننا، في نهاية المطاف وتأكيدًا على تلك النقطة مجددًا، بشرٌ في المقام الأول وصحفيون في المقام الثاني. وهو ما يعني أننا أيضًا يمكن أن نتألم، مهما كان إيماننا ﺑ «الموضوعية» الصحفية وأهمية النأي بمشاعرنا عما ننقله.

تذكَّر أن المصورين يبدون عرضة بصفة خاصة للإصابة بالصدمات المتراكمة.

قد يكون ذلك لأنهم لا يجلسون يوميًّا، كالصحفيين الذين يكتبون القصص الإخبارية، ليسردوا ما شهدوه في قطع صحفية لها مقدمة ووسط ونهاية، مما يساعد العقل على استيعاب ما حدث بعض الشيء؛ إذ إن مهنتهم تقتضي منهم الانفصال عما حولهم أثناء معاينتهم للأحداث من خلال عدساتهم؛ فهم موجودون بلا شك بأجسادهم في موقع الحدث، لكن تركيزهم العقلي مُنصب على ما يلتقطونه من صور.

إن للدعم المُقدَّم من الفريق والزملاء دورًا رئيسيًّا في المحافظة على التوازن العاطفي والصحة النفسية. لكن لو أخفق أحد أفراد الفريق في التغلب على مشكلاته كما ينبغي أو إذا حدث وتسبَّبت تجربة صادمة جديدة في عودة ذكريات مؤلمة قديمة إلى السطح مرة أخرى، أو إذا وجد فرد صعوبة في التعامل مع حياته اليومية، فمن المهم ألا يخشى أيٌّ منهم اللجوء في سرِّية إلى استشاريين متخصصين أو أن يقترح على زملائه النظر في الخيار نفسه.

تذكَّر، بينما تُفكِّر في كلِّ ما ذكرناه، أن الانفتاح على التجارب العاطفية يمكن أن يجعل منك مراسلًا أفضل. فإن لم تستطع، في النهاية، أن تتعاطف مع من تنقل قصصهم، فلن تنجح حقًّا في نقل تجاربهم.

(٩) نصائح للتعامل مع الأحداث التي قد تسبب صدمات نفسية

إن أهم الطرق التي ينبغي عليك اتباعها للمحافظة على توازنك العاطفي هي ذاتها الخطوات التي عليك، بديهيًّا، تنفيذها من أجل حماية صحتك الجسدية.

  • إن من يتعاملون بحكم مِهَنِهم مع الصدمات النفسية يحتاجون أحيانًا، بلا شك، إلى التصرف بحزم وإنجاز المهام. تبرز الحاجة إلى تمالك النفس، غير أن هذا لا يعني أن إقرارك بمشاعرك وقرارك بالحديث عن عواطفك علامة ضعف. بل على النقيض، فإن المناقشة الملائمة والمستنيرة عقب الأحداث أو المهام الصحفية مع الزملاء ومع المديرين والمحررين المهتمين — لو وجِدت الثقة الكافية — إنما هي تعبير على حسن التكيف.

  • ضع لنفسك روتينًا معتادًا من العادات الصحية. يوجد عدد كبير من الأبحاث التي تُظهر أهمية التدريبات الخفيفة، ولو بقدر صغير، باعتبارها أكثر مضادات الاكتئاب فاعلية؛ فالمشي لمدة ثلاثين دقيقة يفيدك تمامًا كالركض ثلاثين دقيقة، لذا فليس من الضروري أن يكون التدريب شاقًّا. كما أن للعادات الغذائية السيئة وقلة شرب المياه تأثيرًا فوريًّا على حالتك المزاجية. لذلك، عليك أن تتناول طعامًا صحيًّا وأن تشرب كميات كبيرة من الماء.

  • يستخدم الجيش البريطاني عبارة للدلالة على عنصر رئيسي من عناصر العناية بالذات، وهي: «ثلاث وجبات طازجة ونوم هادئ». أي، حاول أن تتناول طعامًا جيدًا وصحيًّا ثلاث مرات يوميًّا. وخذ كفايتك من النوم، وهو أمر له أهمية خاصة؛ فمواصلة الحياة دون الحصول على ما يكفي من النوم ليس مدعاة للفخر؛ لأنه يؤثر على سلامتك البدنية والعاطفية وتقديرك الصحفي.

  • امنح نفسك فترات للراحة وشجع الآخرين على ذلك؛ فالابتعاد عن الخبر أو المادة الإخبارية لدقائق أو ساعات معدودة — أو ليوم أو يومين خلال مهمة طويلة — يساعد جسدك وعقلك على معالجة واستيعاب ما يشهدانه على نحوٍ صحيٍّ أكثر.

  • احترم قدراتك. لو طُلِب منك إنجاز مهمة صعبة أو خطرة تفضِّل عدم القيام بها، فلا تخشَ أن تصرِّح بذلك.

  • أوجد لنفسك هواية ما، أو رياضة ما، أو خَصِّص وقتًا للتأمل، أو اقضِ بعض الوقت مع أسرتك أو أصدقائك المقربين — أو افعل جميع ما سبق.

  • جرِّب التنفس بعمق. خذ نفسًا طويلًا وعميقًا ببطء بينما تعد إلى خمسة، ثم أطلقه ببطء وعد إلى خمسة مرة أخرى. تخيَّل هذا التدريب وكأنه حركة دائرية، تستنشق خلالها السكِينة وتُطلق التوتر.

  • يمكنك أيضًا الاستعانة بخيالك للتوجه إلى ما يُسمى أحيانًا في علاج الصدمات ﺑ «الملاذ الآمن» الداخلي: وهو مكان ما دافئ وداعم وهادئ، كشاطئ أو سفح جبل جميل، أو مكان طبيعي آخر.

  • حاول أن تتذكر الأشياء التي تثير ضحكك. احترس عند تناولك للكحوليات؛ فلا بأس من تناولها باعتدال، أما لو وجدت نفسك تستخدمها كوسيلة لحجب الذكريات أو الإخلاد إلى النوم، فعليك حينها أن تنظر مليًّا في وضعك وأن تُفكر في طلب المساعدة.

  • احترس من الانفعالات المتأخرة. إن الصحفيين الذين يشعرون أنهم نجحوا لسنوات في التعامل جيدًا مع تغطية الأخبار الصعبة ربما يجدون أن شيئًا بسيطًا نسبيًّا قد أصابهم فجأة بمعاناة نفسية حادة. لو حدث ذلك، فلا تكتمه، بل تحدَّث إلى زملائك عنه وقد تحتاج إلى طلب الدعم من المتخصصين.

  • لو وجدت نفسك بدأت تحس بمشاعر سلبية تجاه وظيفتك أو ذاتك بعد تغطية الأحداث المثيرة للصدمات، فعليك أن تقاوم الخواطر الداخلية من قبيل «أنا عديم الفائدة» أو «كم أنا جبان» وأن تزرع مكانها تقديرًا أكثر إيجابيةً وملاءمةً لذاتك. وإذا شقَّ عليك ذلك، فتحدَّث إذًا إلى شخصٍ ما يساعدك على تغيير تفكيرك.

إن النظر إلى الأحداث المسببة للصدمات النفسية باعتبارها تحديًا وفرصةً لإنجاز شيء إيجابي في وجه المأساة يمكن أن يقويَ من عزمك ويُبقي انتباهك مركَّزًا على قيمة عملك وجدواه.

(١٠) إدارة الصدمات النفسية: قبل المهام الصحفية، وفي أثنائها، وبعدها

يجب ألا يُنظَر إلى التعامل مع الصدمات النفسية باعتباره مشكلة كبيرة بصورة مُبالَغ فيها أو مثيرة جدًّا للخوف؛ فهي جزء من ماهية الصحافة. والإدارة الجيدة للصدمات تندرج، في جوهرها، تحت الإدارة الرشيدة للعمل. وقد حان الوقت لوضع حدٍّ للحرج والجهل الذي طالما تعاملت به الصحافة مع تلك القضية.

من المهم لك التعرف على الصدمات النفسية قبل الشروع في تغطية الأخبار التي تتناول معاناة إنسانية حادة. فستحتاج إلى دعم مناسب أثناء تغطيتك لها كما ستحتاج لدعم مناسب أيضًا بعدها من الناحيتين العملية والاجتماعية.

يجب على الصحفيين المُقبلين على الانخراط في العمل الصحفي أو الالتحاق بفريق عمل جديد أن يعلموا في أقرب وقت ممكن أن الصدمات النفسية يجب النظر إليها بجدِّيَّة. ولا بد أن تعلم كيف يجري التعامل معها في إطار ثقافة المؤسسة التي تعمل بها، سواءٌ أكنت متفرغًا أم مستقلًّا.

لا شك أن النشرات والكُتيبات الخاصة بالصدمات والمعلومات المتوفرة عنها على الإنترنت ضرورية، لكن الأهم أن يتحدث عنها مَن هم في مراكز القيادة والإدارة بصراحة ودون تكلف، باثِّين الثقة في أن المؤسسة وطواقمها قادرون على معالجة المشكلات، مهما كانت.

وإذا كانت المؤسسة تتبنَّى ثقافة يسودها الوعي بالصدمات النفسية، فلا شك أنه سيكون أكثر سهولة واعتيادية بالنسبة إلى المديرين والمحررين أن يجلسوا مع شخص مقبل على مهمة تنطوي على صعوبات محتملة، ويراجعوا معه ما سبقت مناقشته أثناء الدورات التدريبية والجلسات التوجيهية العامة.

فيما يلي بعض الأمور العملية والبسيطة الواجب وضعها في الاعتبار في هذا الإطار.

(١٠-١) قبل أداء المهام الصحفية

  • أبدِ شكرك وتقديرك للصحفي، حتى قبل بدء المهمة الصحفية. فإشعارُ الآخرين أنهم موضع تقدير يساعدهم في المحافظة على اتزانهم وسلامتهم عاطفيًّا. ومن المهم أن يشعروا أنهم لم يوفدوا لإنجاز المهمة لعدم وجود شخص آخر يؤديها، بل لأن رؤساءهم يدركون أنهم أهل لها.

  • اذكر صراحةً ما قد تتضمنه المهمة الصحفية من تحديات عاطفية وكذلك التحديات البدنية المتمثلة في المحافظة على السلامة الجسدية. لا تشعر بالحرج أو الخوف حيال الحديث عن التأثيرات المحتملة للصدمات التي قد يتعرضون لها هناك؛ ففي تلك المحادثات العادية يمكن أن يكمن أهم الجهود الرامية إلى تغيير الثقافة المؤسسية.

  • يساعد التواصل مع الآخرين في تحقيق الاتزان وزيادة المواد الكيميائية والهرمونات التي يُفرزها الدماغ وتمكِّننا من معالجة المعاناة العاطفية وتحمُّلها. اتخذ ترتيبات موثوقًا فيها للتواصل بصفة منتظمة والتزم بما جرى الاتفاق عليه.

  • شجع على العناية بالذات، وذكِّر المقبلين على المهام الصحفية بأن الاهتمام باحتياجات الجسد إلى النوم والماء والطعام والتدريبات يمكن أن يُحدِث فارقًا كبيرًا بالنسبة إليهم.

  • عليك أن تُطَمئن المقبلين على المهام الصحفية مرة أخرى أن المعاناة النفسية أمر معتاد عند التعامل مع الصدمات، لكنها ليست حتميةً في نفس الوقت. المهم في الأمر هو كيفية التعامل معها وأن التحدث عنها أمر إيجابي.

(١٠-٢) أثناء أداء المهام الصحفية

  • ابقَ على تواصل منتظم مع المكلَّفين بالمهام الصحفية؛ فإن ذلك من شأنه أن يُخفف من قلقهم.

  • يجب على القيادات — الموجودة ميدانيًّا وفي مقر المؤسسة على السواء — أن تكون نموذجًا يُحتذى به، في عادات النوم على سبيل المثال. إننا ندرك من الخبرة العسكرية أن الجنود لن يخلدوا إلى النوم ما لم يروا قائد الوحدة يأوي إلى فراشه. فينبغي ألا يُسمَح في الصحافة بالتباري بين الزملاء حول قدر النوم الضئيل الذي يحصل عليه كلٌّ منهم.

  • انتبه إلى التوقيت الذي توجِّه فيه النقد إليهم وإلى لهجته. فحين يتعامل الإنسان مع أحداث مثيرة للمعاناة العاطفية الحادة، فإن دفاعاته النفسية ستضعف بينما ستقوى حساسيته.

  • احرص على أن تُقدِّم الطواقم العاملة في مقر المؤسسة الدعم اللازم. فعندما يكون الإنسان واقعًا بالفعل تحت أقصى درجات الضغط العاطفي — سواء أثناء تغطيته لمحاكمات في قضايا قتل أو نقله للحروب — ثم يطلب منه أحد برامج المؤسسة أو أقسامها (بما فيها قسم الحسابات!) شيئًا دون مراعاة لمشاعره أو تَحيُّن الوقت المناسب أو اختيار الكلمات المناسبة، فإن ذلك قد يحبطه أو يُغضبه أو حتى يُعرِّضه لصدمة نفسية، مخلِّفًا جراحًا قد لا تلتئم لسنوات.

  • ربما يكون من الجدير بك تشجيع الأفراد، قبل عودتهم من مهام مرهقة، متى كان ذلك مناسبًا، على قضاء يوم أو يومين في فندق فاخر في طريق عودتهم، مما يساعدهم على «تفريغ ضغوطهم» قبل الرجوع إلى بيئاتهم المعتادة. لقد انهار الكثير من زيجات الصحفيين نتيجة للانتقالات الصعبة بين المهام التي تتعامل مع مشاهد الحياة والموت والمسئوليات المعتادة المتعلقة بإدارة البيت والأسرة.

(١٠-٣) بعد أداء المهام الصحفية

  • تذكَّر أن الدعم الاجتماعي والعملي هو أفضل منهج نفسي وأن الأشياء البسيطة تُحدث فارقًا كبيرًا: إبداء التقدير، وإرسال برقيات الشكر والرسائل الإلكترونية، والاستقبال في المطار، وإقامة الحفلات، والعرفان العلني بالنجاح، إلى غير ذلك من أشكال الدعم.

  • تُمثل المعلومات مصدر طمأنينة؛ لذلك احرص على التوسع في تبادلها مع الآخرين. إذا وقع أمر خطير لصحفيين أو مصورين أو أصيبوا بأذًى، فمن المهم أن توافي الجميع أولًا بأول بأكبر قدر ممكن من التفاصيل حول الإجراءات التي تُتخذ وحالة الأفراد أطراف الحدث؛ إذ لو لم توافيهم بالمعلومات وتُطلعهم على التطورات، فسوف تنتشر الشائعات المدمرة.

  • عند التخطيط لكيفية الاستجابة للأحداث المثيرة للصدمة التي ربما قد وقعت، ينبغي عدم قصر الاهتمام على الصحفيين المرموقين والأسماء اللامعة فقط، بل عليك أن تتذكر أيضًا المعاونين والمترجمين والفنيين ومحرري الصور ومديري المكاتب الإخبارية، وأنت نفسك، مهما كان دورك.

  • احرص على أن يكون لدى الأفراد الذين مروا بظروف مسببة للصدمات الفرصة للحديث عنها. إنهم يحتاجون إلى الوقت والتشجيع برفق كي يَقُصُّوا تجاربهم، وهو ما يتطلب ما هو أكثر من مجرد استفسار عرضي مقتضب مثل: «كيف حالك يا صديقي؟» والذي عادةً ما يُجاب عنه ﺑ: «بخير»، ثم ينطلقون إلى مهمتهم التالية.

يوجد أسلوب مفيد لتنظيم مثل هذه الأحاديث غير الرسمية، والذي ستجده على نحو يثير الدهشة مجديًا في الصحافة اليومية العادية. ويتضمن هذا الأسلوب النقاط التالية:
  • «الوقائع»: اسألهم عما حدث. اطرح عليهم الأسئلة الصحفية المعتادة: متى، وأين، ومَن، وما، وكيف. لا تحاول أن تقفز مباشرةً إلى استكشاف مشاعرهم حيال ما حدث، بل حافظ على هدوء الحوار وتركيزه على الوقائع، لكن لا تجعله كالاستجواب.

  • «التأثير»: من هنا يبدأ التركيز على تجربة الفرد الشخصية. كيف عايشت ذلك «حينها»؟ كيف أثَّر ذلك عليك «آنذاك»؟ فيمَ كنت تفكر وكيف كان شعورك «وقتها»؟

  • «الوضع الحالي»: كيف حالك «الآن»؟ كيف أصبح حالك منذ تلك الواقعة؟ ناقِش مع الشخص قوائم التحقق البسيطة المذكورة أدناه وقيِّما معًا كيفية رؤيتكما لحالته.

  • «التوعية»: يمكن الاستفادة من تلك المحادثة لطمأنة الشخص بأن أعراض المعاناة ليست أمرًا غريبًا، رغم اختلاف الأفراد في استجاباتهم لها؛ فمن المقبول تمامًا أن تكون إنسانًا وصحفيًّا أو مُعدًّا للبرامج في نفس الوقت، ورغم أن معظم الأشخاص غالبًا ما يشعرون بتحسن عند تعرُّضهم لهذه المعاناة بعد أسابيع قليلة، فإنه ليس بمستغرب أن تستغرق مرحلة التعافي بالنسبة إليك وقتًا أطول.

لا تنسَ أن تُرتب لإجراء محادثة للمتابعة في غضون ما يقارب الشهر؛ وذلك لترى ما إذا كانت الأمور تسير نحو الاستقرار. أما لو لم تكن كذلك، أو كانت تسير نحو الأسوأ، فمن الضروري أن تُقدم سريعًا المشورة والدعم المناسبين لحالات الصدمات النفسية وأن تخلو النظرة إليهما من أيِّ حرج.

(١١) إذًا، ما الأمور التي يجب أن أنتبه إليها؟

إن الساعات والأيام الأولى التي تعقب واقعة، أو مهمة، أو مشروعًا هامًّا يتضمن صدمات نفسية قد تشهد جيشانًا شديدًا في العواطف وإفراز الأدرينالين؛ لذا فليس من الغريب مطلقًا أن يشعر المرء منا بأحاسيس غريبة: البؤس، والإثارة، والحيرة، والتبلُّد، وشيء من «الاستثارة المُفرطة»، كما أنه ليس غريبًا أن نشعر بالبرود متى توقف ضخ الأدرينالين داخل أجسادنا.

كيف عساك أن تكتشف أن شخصًا يُعاني صعوبات وهو يُصر على أن كلَّ شيء على ما يرام؟ إليك بعض الأمور التي يمكنك أن تنتبه إليها:

  • يعلن اضطراب ما بعد الصدمة عن نفسه، قبل كل شيء، من خلال تغيُّر في السلوك، بل وحتى في الشخصية. فربما يبدو أن الشخص ليس على طبيعته المعتادة، أو يشعر هو بذلك. ويشعر هو وأفراد فريقه أن شيئًا ما مختلًّا فيه، غير أنه ليس من اليسير دائمًا أن يُربط هذا الخلل فورًا بحادثة معينة، لا سيما أن تلك التغيرات عادةً ما ستتكشف على نحوٍ واضح بعد أسابيع أو حتى شهور.

  • من يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة قد ينغلقون على أنفسهم أو ربما، على النقيض، لا يَكفُّون عن الحديث عما جرى باستمرار إلى حدٍّ يبلغ الهوس.

  • قد يصيرون سريعي الغضب أو الانفعال على غير عادتهم.

  • ربما يعبرون عن شعورهم بالذنب أو الحيرة. ويمكن أن تتسبب أيضًا الصدمات النفسية في جعل المصابين بها أكثر عرضةً لوقوع الحوادث، أو قد يفقدون قدرتهم على التركيز أو شغفهم بعملهم أو هواياتهم أو علاقاتهم.

  • ربما تبدأ صحتهم في الاعتلال كثيرًا؛ فالمعاناة العاطفية المكبوتة كثيرًا ما تُفصِح عن نفسها على هيئة أعراض جسدية كآلام الظهر أو المعدة.

  • ربما يخالف المصابون عاداتهم؛ فيبدءون بالحضور إلى العمل متأخرين أو عدم الالتزام بمواعيدهم النهائية، أو على العكس؛ فقد يعجزون عن مغادرة العمل مساءً خوفًا من البقاء بمفردهم.

  • ربما تظهر علامات على زيادة استهلاكهم للكحوليات أكثر من المعتاد.

سينجح أغلب الأفراد في اجتياز الصدمات النفسية، لا سيما لو نالوا دعمًا كافيًا من زملائهم وأصدقائهم وأسرهم. ويُستحسن إيجاد وقت لإجراء مناقشة مدروسة ومتأملة بعد بضعة أيام، مع المتابعة خلال الأسابيع التالية أيضًا.

تتَّبع البحرية الملكية البريطانية أسلوبًا بسيطًا للتحقق من مدى تكيُّف أفراد فرقها عقب تعرُّضهم للصدمات، مستخدمين في ذلك قائمة تحقُّق من عشر نقاط، يُطلق عليها استبيان التحري عن الصدمات النفسية، والتي تهدف إلى رصد أعراض المعاناة المرتبطة بالصدمات النفسية (بريوين وآخرون ٢٠٠٢).

  • (١)

    تمر بك كرهًا خواطر أو ذكريات مزعجة تتعلق بحدثٍ صادم.

  • (٢)

    ترى أحلامًا مزعجة تتعلق بما حدث.

  • (٣)

    تتصرف أو تشعر أحيانًا وكأن الحدث المؤلم يتكرر مرة أخرى.

  • (٤)

    تشعر بالانزعاج مما يذكرك بما حدث.

  • (٥)

    يُبدي جسدك استجابات (كتسارع في نبضات القلب، أو اضطرابات بالمعدة، أو التعرق، أو الغثيان) حين يجري تذكيرك بما حدث.

  • (٦)

    تجد صعوبة في الإخلاد إلى النوم أو الاستغراق فيه.

  • (٧)

    تصبح سريع الانفعال أو الغضب على غير العادة.

  • (٨)

    تجد صعوبة في التركيز.

  • (٩)

    تحذر المخاطر المحتملة التي قد تصيبك وتصيب غيرك على نحو مُبالَغ فيه.

  • (١٠)

    تتسم ردود فعلك بالحدَّة أو تجفل بسهولة عند وقوع أمر غير متوقع.

غالبًا ما سيعاني الأفراد من كثير من تلك الأعراض خلال الأيام التي تعقُب الحدث مباشرة، لكن غالبًا أيضًا ما ستتلاشى المعاناة خلال الأيام والأسابيع التالية.

لكن لو ظل شخص ما يعاني كثيرًا من تلك الأعراض بعد شهر أو نحو ذلك — وتذكَّر مدى أهمية الفحص — فربما يعني ذلك أن بعض المعاناة لا تزال قائمة، وأنَّ تُلقي النصائح أو الاستشارات المتعلقة بالصدمات من المتخصصين قد تُجدي نفعًا.

بالإضافة إلى ذلك، توجد عوامل خطورة واضحة تتعلق باحتمال ظهور استجابات مؤلمة للتجارب الصادمة، وهي تتعلق بالتعامل مع الناجين من الصدمات النفسية وضحاياها، وليس دعم الصحفيين فقط. ويمكن أن تضم هذه العوامل ما يلي:
  • خشيَ الشخص على حياته.

  • أحسَّ الشخص أنه فقد السيطرة على عواطفه في لحظة هلع أو أن التجربة قد قهرته.

  • يشعر الشخص بالخزي الدائم حيال سلوكه أو استجابته أو يعمد إلى لوم الآخرين على نحو غير ملائم.

  • مرَّ الشخص بصدمات نفسية خطيرة سابقة وتعاوده ذكرى المعاناة.

  • لا يحظى الشخص بدعم اجتماعي كافٍ متمثل في الأصدقاء، و/أو الزملاء، و/أو العائلة، أو يتعذر عليه الحصول عليه.

  • يتناول الشخص الكحوليات أو أدوية دون وصفة طبية لكبت أعراض المعاناة.

قد تتسبب المشكلات الشخصية خارج نطاق العمل في مضاعفة ردود أفعال الشخص؛ فالشخص الذي يمر بتجربة طلاق، مثلًا، أو لديه أطفال صغار، قد تسبب له الأحداث معاناة أكثر من غيره.

(١٢) ماذا لو كان هناك من يُعاني؟

شاع خلال تسعينيات القرن الماضي في كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا زعمٌ يقول بأن أغلب من يتعرضون لأمر مؤلم نفسيًّا على نحو خطير يمكن أن يتوقعوا إصابتهم بأعراض التوتر الناتج عن الصدمات النفسية ويحتاجون مِن ثَمَّ إلى تلقِّي المشورة.

كان المتوقع، لفترة من الوقت، أنه ينبغي على الناجين من حدث ما، وضحاياه، والشهود عليه، والمعنيين مهنيًّا بالتعامل مع تَبِعاته الجلوس معًا كمجموعة في أسرع وقت ممكن للحديث عن أسوأ جوانب هذا الحدث واستخراج كل مكنوناتهم في جلسة تنفيسية تستغرق ساعتين أو ثلاث ساعات، وبذلك يتجنبون الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة.

بدا ذلك الأسلوب معقولًا، لكنه تجاهل الحقيقة الأساسية القائلة بأن أغلب الناس يتعافون من تلقاء أنفسهم، وأن الإرغام على الإفصاح الجماعي بتلك الطريقة — رغم أن المشاركين فيه قد يُقدِّرونه للغاية — قد يؤدي في الواقع إلى ترسيخ الذكريات، واعتراض مسيرة التعافي الطبيعي، والتسبب في صدمة نفسية بلا داعٍ لمن تمكَّنوا من اجتياز التجربة الحقيقية.

أما الآن، فيُنصَح بعدم اللجوء الروتيني إلى أسلوب جلسات المرة الواحدة التي اصطُلِح على تسميتها بالتفريغ النفسي مع الأفراد الذين تعرَّضوا لصدمات نفسية. كما لا يُوصى باستخدام العقاقير والأدوية كأول خيار علاجي لاضطراب ما بعد الصدمة، رغم أن لها بالتأكيد استخدامها في علاج حالات أخرى.

لا يُعَد ذلك مبررًا للوقوف مكتوفي الأيدي، لكنها نصيحة واضحة بألا نسارع بردود أفعال غير فعالة، أو غير مؤكدة النتائج، أو ربما حتى قد تأتي بنتائج عكسية. ومن الضروري أن يستوعب الصحفيون ذلك الأمر، أثناء تغطيتهم للتأثير النفسي الذي تُخلِّفه الكوارث والمآسي ونقلهم لاستجابات الناس لها وكذلك وهم يُحددون ما يجديهم وما لا يجديهم نفعًا.

إن الأسلوب الذي يوصي به المعهد الوطني للتميز الإكلينيكي في بريطانيا هو ما يسمى «الانتظار اليقظ»، أي، سؤال الأفراد الذين تعرَّضوا لصدمات نفسية عن حالهم خلال الأيام والأسابيع والأشهر التالية لهذا التعرض، ومساعدتهم على فهم تأثير ما مروا به، مع الانتباه لظهور أعراض المعاناة الناتجة عن الصدمات ومد يد العون لهم، إذا لزم الأمر، لتلقِّي دعم متخصص قد يكون مُجديًا لو عجزوا عن تجاوز التجربة (المعهد الوطني للتميز الإكلينيكي ٢٠٠٧).

وذلك هو الهدف المرجو من المنهج الذي ندعو إليه هنا.

فبدلًا من إحالة مسئولية التعامل مع الصدمات إلى الأغراب عن المؤسسة واختصاصيي الصدمات النفسية، يجب على المديرين والمحررين والزملاء تحمُّل مسئولياتهم المؤسسية في إدارة تأثيرات الصدمات النفسية.

وختامًا، فالصحفيون والمديرون أو الزملاء الراغبون في طبيب نفسي ليتعامل مع تأثيرات الصدمات النفسية مدعوون للتأكد من أن الطبيب الذي يختارونه، أيًّا كان، يتمتع بخبرة خاصة في التعامل مع الصدمات النفسية علاوة على خبرة في التعامل مع الصحفيين والإعلام، إن أمكن.

وفي الختام

يمكن أن تكون تغطية الصدمات النفسية واحدة من أنفع التجارب المتاحة للصحفيين؛ إذ تضع حياتك خلالها على المحك، وتجعلك تتعامل مع القضايا الوجودية المرتبطة بالحياة والموت.

من المهم — بالنسبة إلى من تنقل قصصهم، وإلى من يتلقونها، وإليك شخصيًّا — أن تؤدي مهمتك على أفضل وجه.

لقد حان الوقت لتغيير الثقافة السائدة في صحافة القرن الحادي والعشرين فيما يتعلق بتغطية المعاناة الإنسانية والصدمات النفسية الحادة.

إن ذلك التغيير يجري الآن — وأنت جزء منه. حظ سعيد.

أسئلة يُجيب عنها الطالب

(١) ما هي السمات المميزة لاضطراب ما بعد الصدمة؟

(٢) ناقِش لماذا يمكن أن تؤثر حالتك العاطفية على حياديتك بوصفك صحفيًّا.

(٣) من واقع قراءتك، ما أبرز الحجج المؤيِّدة والمعارضة للاضطلاع بما قد يكون مهمة عالية الخطورة؟

(٤) توجَّه بالسؤال إلى مؤسسة إخبارية من اختيارك حول السياسة التي يتبعونها في تقديم استشارات الصدمات النفسية للصحفيين العائدين من مهام صحفية ويواجهون مشكلات في حياتهم الشخصية والعملية.

هوامش

(١) نُشِرَ الخبر الأصلي في صحيفة ذا جارديان في العاشر من أكتوبر عام ٢٠٠٥. ثم نشرت الصحيفة استدراكًا على الخبر يوم الثاني عشر من أكتوبر، وتحدَّث محرر بريد القُرَّاء عن ذلك في عموده في السابع عشر من الشهر نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤