الفصل الثالث

البروتينات: آلات الطبيعة النانوية

البروتينات هي الشكل المهيمن في الآلة الخلوية. فالبروتينات تنظِّم كلَّ العمليات الحيوية أو تنفِّذها أو تحكمها. فتتحكَّم البروتينات في التدفُّق الأيضي، وتوفِّر الدعم الميكانيكي، وتشكِّل المسارات بين الخلايا التي تنقل المواد من خلالها، وتدير الجينومات، وكذلك تعمل بمنزلة البوابات عبر الأغشية. هذا العدد الهائل من العمليات اللازمة للحفاظ على عمل الخلايا تُدار في الكائن الحي أو الخلية عبر مجموعة كبيرة من البروتينات التي تُعرف معًا باسم البروتيوم. ويتفاوت حجم البروتيوم حسب تعقيد الكائن الحي: فقد تحتاج الخلية الواحدة في الثدييات ما يزيد على ١٥ ألف بروتين كي تعمل؛ ويتطلب الإنسان ما يربو على ٩٠ ألف بروتين. لكن بإمكان البكتيريا أن تتدبَّر أمرها بثلاثة آلاف بروتين فقط، بينما الفيروسات قد لا تحتاج إلى أكثر من بضع عشرات من البروتينات.

كما رأينا، البروتينات لها بنياتٌ هرمية تبدأ بتسلسل أولي من الأحماض الأمينية المرتبطة بعضها ببعض في سلسلة عديد ببتيد. وبعد ذلك تُطوى إلى بنيات ثانوية تتكوَّن من لوالب ألفا وأشرطة بيتا مرتبطة بعضها ببعض لتشكيل صفائح بيتا، بالإضافة إلى لفاتٍ أقل تحديدًا تربط البنيتين الأخريين إحداهما بالأخرى. وتتجمَّع العناصر البنيوية الثانوية معًا لتكوين شكل كلي ثلاثي الأبعاد يُعرف باسم البنية الثلاثية. أما ترتيب سلاسل البروتينات المتعدِّدة لتكوين مركَّبات البروتين فهو البنية الرباعية. البنيات المختلفة التي تتخذها البروتينات جميلة ومتعدِّدة ومتنوِّعة. ومنذ عام ١٩٥٨ عندما اكتُشفت بنية الميوجلوبين، زاد بشدة عدد البروتينات التي عُرفت بنياتها حتى وصل إلى أكثر من مئات الآلاف. ويمكن الاطلاع عليها جميعًا عبر أرشيفٍ يقع في نطاق الملكية العامة، وهو بنك بيانات البروتينات (والموجود على موقع rcsb.org).

الأنماط البنيوية

إذا بحثت في بنك بيانات البروتينات الفسيح (وأنا أحثُّك بشدة على ذلك؛ فهو مكان رائع في شبكة الإنترنت)، فقد تلاحظ ظهور أنماط في طيات البروتينات. يبدو أنه يوجد عدد محدود من الطرق التي تترابط بها البنيات الثانوية، والتي صُنِّفت إلى عدد صغير من الأنماط أو الموتيفات (انظر الأمثلة في الشكل ٣-١). ومن أشهر الأنماط دبوس الشعر بيتا، الذي يتكوَّن من أشرطة بيتا متضادة التوازي تترابط عبر لفة تتكوَّن من بضعة أحماض أمينية. وبالمثل، يمكن أن يترابط لولبان عبر لفة في نمط لولب-لفة-لولب. الأنماط الأخرى أعقد، ومن أمثلتها نمط المتشابكة المكوَّن من أربعة أشرطة بيتا، أو أخلاط من العناصر البنيوية الثانوية كما في نمط إصبع الزنك. وتلك من أشيع الطيات في البروتينات التي تتفاعل مع الدي إن إيه أو الآر إن إيه، وهي تربط شريطي بيتا مع لولب ألفا، بحيث تربط اثنين من بقايا الهيستيدين والسيستين بأيون زنك.
fig9
شكل ٣-١: الأنماط البنيوية الشائعة في البروتينات: (أ) نمطا لولب-لفة-لولب يشكلان حزمةً رباعية اللوالب؛ (ب) أربعة أشرطة بيتا تكوِّن نمطًا متشابكًا؛ (ﺟ) إصبع زنك ذو أيون زنك مثبت بسلاسل جانبية من الهيستيدين والسيستين؛ (د) طية روسمان الأكثر تعقيدًا.

يزيد تعقيد بنيات البروتينات أكثر مع تجمُّع الأنماط معًا حتى تُكوِّن نسقًا أكبر. لكن حتى في هذا المستوى، تظهر الأنماط البنيوية مع الحفاظ على تشكيلات معينة واستخدامها بمنزلة سقالات تعلَّق عليها التفاصيل الخاصة بالبروتينات.

على سبيل المثال، كثيرًا ما يُرى نمط لولب-لفة-لولب في الحزمة التي تسمَّى «حزمة اللوالب الأربعة». وهذا النسق الشائع والبسيط كثيرًا ما يظهر. إنه يظهر في بعض الأحيان في صورة حزم منفصلة مثلما هو الحال في هرمون النمو البشري. على نحوٍ بديل، تتحد أربع وعشرون حزمة فردية لتكوِّن الفيريتين، وهو بنية كروية ضخمة تنقل الحديد. أو ربما يكون مجرد عنصر واحد في بروتين أكبر بكثير مثلما هو الحال في بروتين تثبيط اللاكتوز، وهو بروتين ربط الدي إن إيه، يتكوَّن من عدة نطاقات طي مختلفة.

على الجانب الآخر، تلتصق العديد من أنماط المتشابكة مع أنماط دبابيس الشَّعر بيتا وتكوِّن صفائح ممتدة تلتف في النهاية على نفسها بحيث تكوِّن براميل بيتا. تشيع هذه الأنماط على وجه الخصوص في الأغشية البكتيرية حيث تعمل بمنزلة مسامَّ (تُعرف فئة البروتينات هذه باسم البورينات) والتي تنتشر من خلالها الجزيئات. ولقد تطوَّرت البورينات لتصبح خاصةً بجزيء معيَّن مما يتيح للخلايا أن تتحكَّم بعناية في تدفُّق المواد الكيميائية عبر أغشيتها.

ثم توجد نُسق أعقدُ مثل طية روسمان التي تتكوَّن من مجموعتين من الأزواج اللولبية تحيطان بصحيفة بيتا ذات ستة أشرطة. وكثيرًا ما تُرى طية روسمان في بروتينات ربط النيوكليوتيدات والبروتينات النازعة الهيدروجين.

العوامل المرافقة وتعديلات ما بعد الترجمة

ينتج العشرون حمضًا أمينيًّا التي تشكِّل أساس البروتينات المجموعةَ الهائلة من بنيات البروتينات، ولكنها لا توفِّر التنوُّع الكيميائي الكافي لتنفيذ كل العمليات الكيميائية الحيوية للخلية. ومن ثَم، كثيرًا ما تحتاج البروتينات إلى شيء إضافي والذي يكون في شكل مجموعات كيميائية إضافية. تضاف هذه المجموعات في بعض الأحيان بعد فترة وجيزة من تصنيع البروتينات (عملية الترجمة)، وتُعرف هذه التغييرات المهمة التي تطرأ على البروتينات باسم تعديلاتِ ما بعد الترجمة.

fig10
شكل ٣-٢: مثالان على البورفرينات: (أ) مجموعة هيم موجودة في الهيموجلوبين والميوجلوبين وإنزيم الكتالاز؛ و(ب) الكلوروفيل A.

الجلوزة من أشهر أنواع تلك التعديلات. يجري تعديل حوالي نصف كل أنواع البروتينات بإضافة السكر إلى سطحها. وفي بعض الحالات، قد تضيف هذه التعديلات ٥٠ بالمائة أخرى إلى كتلة البروتين المعني. تتنوَّع أدوار الجلوزة؛ إذ تتراوح بين تنظيم ارتباط البروتينات بالمستقبِلات وحتى زيادة الاستقرار الحراري والمدى العمري للبروتين. وبالمثل، تنظَّم العديد من البروتينات عن طريق إضافة مجموعات الفوسفات أو إزالتها؛ الأمر الذي يفسِّر سببَ ظهور الفوسفور في التحليل العنصري الأولي للبروتينات الذي أجراه مولدر.

تُعرَف الإضافات إلى البروتينات الضرورية لوظيفتها باسم العوامل المرافقة. ومن أشيع العوامل المرافقة أيونات المعادن. ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما يحدُث في الهيموجلوبين، حيث يؤدي الحديد دورًا بالغَ الأهمية باعتباره حاملًا للأكسجين (تستخدم بعضُ اللافقاريات النحاس بدلًا من الحديد، ما يعطي دمَها لونًا أزرق). الزنك مطلوب في العديد من الإنزيمات التي تتفاعل مع الأحماض النووية (كما في بروتينات إصبع الزنك المذكورة آنفًا)، والمغنيسيوم مطلوب في الإنزيمات الداخلة في عملية التخمُّر. ولهذا السبب، يجب أن نُدخِل إلى أنظمتنا الغذائية كمياتٍ صغيرة من هذه المعادن، بالإضافة إلى المنجنيز والنحاس والبوتاسيوم (على الرغم من أن هذا المعدن مطلوب بكمياتٍ أكبر بكثير نظرًا لدوره في نقل الإشارات العصبية) والنيكل والسيلينيوم والموليبدينوم.

هناك عواملُ مرافقة أخرى أعقد، غالبًا ما تُشتق من الفيتامينات، تُعرف باسم مرافقات الإنزيم. يمكن أن ترتبط هذه العوامل بصورةٍ ضعيفة بأحد البروتينات مثل ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل، أو ترتبط به بطريقة تساهمية (مثل مرافق الإنزيم A المشتق من فيتامين B الذي يظهر في عدد من مسارات الأيض التي تتراوح من تخليق الأحماض الدهنية وحتى إنتاج الطاقة). يتكرَّر ظهور ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل عبر عمليات الأيض؛ ولذا سنقابله مرة أخرى لاحقًا. ومن فئات مرافقات الإنزيم الأخرى التي يتكرَّر ظهورها البورفرينات، التي عادةً ما تُستخدم في تثبيت أيونات المعادن في مكانها (انظر الشكل ٣-٢). تُخلَّق مرافقات الإنزيم هذه من الأحماض الأمينية وغيرها من الجزيئات البسيطة، وتكوِّن هيم الهيموجلوبين والميوجلوبين وإنزيم الكتالاز، وكذلك جزيء صبغة البناء الضوئي، الكلوروفيل.

وظيفة البروتينات

انطلاقًا من الدور المركزي الذي تؤديه البروتينات في الكيمياء الحيوية، سنتناول بالتفصيل كيف تتفاعل البروتينات بعضها مع بعض ومع المواد الكيميائية الحيوية الأخرى. لكن لننظر أولًا إلى العلاقة بين بنية البروتينات ووظيفتها. وتوضيحًا لهذه النقطة، لننظر إلى بروتين الكتالاز. إنه مثال جيد لأسبابٍ ليس أقلها أنه سيسهُل رؤية الإنزيم أثناء عمله. فإذا أُضيفت ملعقة صغيرة من الخميرة الجافة إلى كوب من بيروكسيد الهيدروجين ( )، فستلاحظ على الفور تكوُّن فقاعات. هذه الفقاعات عبارة عن أكسجين، وهي نتيجة تحفيز الكتالاز الموجود في الخميرة لتحلل بيروكسيد الهيدروجين إلى ماء وأكسجين. يوجد إنزيم الكتالاز في كل خلية لدى جميع الكائنات الحية، ووظيفته حماية الخلية من بيروكسيد الهيدروجين الضار والكاوي الذي ينشأ باعتباره منتجًا ثانويًّا للعديد من التفاعلات الكيميائية الحيوية الأخرى.
قبل أن نتناول الكتالاز بمزيد من التفصيل، جدير بنا أن نقضي بعض الوقت في دراسة الإنزيمات بوجه عام. فمثل كل المحفزات، تسرِّع الإنزيمات من التفاعلات غير أنها لا تفضي إلى زيادة نواتجها. تخيَّل أن خزانًا مائيًّا كوَّنه سدٌّ مرتفع على جانب جبل. يتدفَّق الماء عبر بوابة مفتوحة في السد ويشق طريقه لأسفل. وإذا فُتح المزيد من بوابات السد، فسيزيد معدَّل الماء الذي يغادر الخزان، لكن البوابات ليس لها تأثير في الحالة النهائية. في النهاية، سيصل كلُّ الماء إلى أرض الوادي، وفتح المزيد من البوابات فقط هو ما أتاح الوصول إلى الحالة النهائية هذه بسرعة أكبر بكثير. وبالمثل، الإنزيمات ليس لها تأثير في النتيجة النهائية الممكنة؛ فكل دورها يتمثَّل في تسريع العملية للوصول إلى تلك النتيجة. لا نهدُف هنا إلى الاستهانة بقوة الإنزيمات؛ ففي بعض الأحيان تكون الزيادة في معدَّل التفاعل هائلة. على سبيل المثال، يُبدي إنزيم نازعة كربوكسيل ٥ -أحادي فوسفات الأوروتيدين كفاءات تحفيزية مذهلة، وذلك بأخذ تفاعلٍ يبلغ عمره النصفي ثمانية وسبعين مليون سنة في العادة، ويختزل تلك المدة إلى ثمانية عشر ملِّي ثانية فقط. (بوجه عام، تسمَّى الإنزيمات في الإنجليزية حسب التفاعل الذي تحفزه، ويتبع ذلك اللاحقة ase. على سبيل المثال، الإنزيم الذي يخلِّق الأدينوسين الثلاثي الفوسفات هو ATP synthase (سينثاز الأدينوسين الثلاثي الفوسفات)، في حين يسمَّى ذلك الذي ينتج بوليمرات الدي إن إيه DNA polymerase (بوليميراز الدي إن إيه).)
الكتالاز أيضًا مثالٌ رائع على الكفاءة التي تتحلَّى بها البروتينات. فإنزيم كتالاز واحد قادر على تفكيك ملايين الجزيئات من بيروكسيد الهيدروجين في كل ثانية. في الحقيقة، يُعتقد أن معدَّل التفاعل لا يتقيد إلا بالسرعة التي يمكن أن تترك بها الماء الإنزيم، ومن ثَم لا يمكن فعليًّا أن يعمل الكتالاز بسرعة أكبر. ومن ثَم يتطلَّب تحقيق هذا الإنجاز المهم بنيةً كبيرة ومعقَّدة تتكوَّن من أربع سلاسل عديد ببتيد متطابقة، تتكوَّن كلٌّ منها من أكثر من ٥٠٠ حمض أميني. تُطوى السلاسل إلى أربعة نطاقات منفصلة؛ برميل بيتا أساسي تحيط به ثلاث بنيات أخرى تتكوَّن من لوالب وحلقات أقل تنظيمًا. وبداخل برميل البيتا في كل سلسلة، تُوجد أربع مجموعات هيم. يزيد حجم هذه البنية الكبيرة بمقدار ٧ آلاف ضعف عن كل جزيء من جزيئات بيروكسيد الهيدروجين. لكنها كلها مطلوبة لتكوين قناة توجِّه بيروكسيد الهيدروجين إلى قلب الإنزيم؛ حيث يكون بانتظاره جيبٌ يتفق تمامًا مع شكل جزيئَي بيروكسيد الهيدروجين. وعلى حافة ذلك الجيب توجد سلسلة جانبية من الهيستيدين ومجموعة هيم مرتبطة ببقايا تايروسين. توجد كلٌّ من هذه المكوِّنات في الموقع الدقيق المطلوب للتعامل مع بيروكسيد الهيدروجين. وبذلك، فإن المسرح — أو «الموقع النشط» — مهيأ لرقصة جزيئية (انظر الشكل ٣-٣).
fig11
شكل ٣-٣: الآلية التحفيزية لإنزيم الكتالاز (تعبِّر الأسهم المنحنية عن حركة الإلكترونات).
لا يمكن ببساطة انتزاع الأكسجين من بيروكسيد الهيدروجين، بل ينبغي تفكيك الجزيء وتثبيت الأجزاء المختلفة في موضعها لفترة وجيزة (فيما يُعرف باسم الفترة الانتقالية) قبل إعادة تجميعها في الأكسجين الجزيئي والماء. أولًا: للوصول إلى أحد جزيئات الأكسجين في بيروكسيد الهيدروجين، يزيل الإنزيم إحدى ذرتي الهيدروجين ويلتصق بها. يؤدي الهيستيدين هذا الدور؛ بمعنى أن النيتروجين في سلسلة الهيستيدين الجانبية له شحنة سالبة خفيفة، ومن ثَم يجذب بروتونًا موجب الشحنة (أيون الهيدروجين). وهذه العملية تجعل الأكسجين متاحًا لأن يقترن بمجموعة الهيم، والتي تخلِّف وراءها أيون هيدروكسيد ذا شحنة سالبة (OH −). تجذب الشحنة السالبة هذه الهيدروجين مرةً أخرى من الهيستيدين، ما يكوِّن جزيء ماء. حينها يتبادل الماء المكوَّن حديثًا الأماكنَ مع جزيء بيروكسيد هيدروجين آخر. بعد ذلك تتكرَّر الخطوة الأولى بترْك بروتون لفترة وجيزة لبيروكسيد الهيدروجين من أجل الهيستيدين. لكن في هذه المرة، يرتبط الأكسجين المتاح مع الأكسجين الأول المقترن بمجموعة الهيم، ويكوِّنان معًا أكسجين جزيئيًّا آخرَ وأيون OH − آخر. في النهاية، ينضم الهيدروجين في سلسلة الهيستيدين إلى أيون OH − لإنتاج جزيء ماء آخر.

تعقيد عمل تفاعل الكتالاز ودقَّته مثال رائع على الصلة المهمة بين بنية البروتين ووظيفته. والتشبيه الذي يتكرَّر استخدامه لوصف هذه العلاقة هو نموذج القفل والمفتاح (الذي كان أول مَن اقترحه إميل فيشر عام ١٨٩٤)؛ حيث إن الإنزيم يمثل تجويفًا دقيقًا يتناسب تمامًا مع شكل جزيء ركيزة. إنه تشبيه رائع من عدة نواحٍ، ولكنه لا يراعي مرونةَ البروتينات، وهذا ما يفسِّر التفضيل العام لفرضية التلاؤم المستحث التي وضعها دانيل كوشلاند. في هذا النموذج، يكون الإنزيم وركيزته أقربَ إلى قفاز ويد، حيث ينثني كلٌّ منهما لاستيعاب التغييرات البنيوية في الآخر حتى يتناسبا معًا في شكل قفاز. هذه العلاقة المرنة بين البنية والوظيفة ستتضح أكثرَ مع التقدُّم في الكتاب.

حركية الإنزيمات

في الفصل الأول، رأينا كيف أن التصوير البلوري بالأشعة السينية أعطى علماء الكيمياء الحيوية أولَ لمحة عن البنيات الذرية للبروتينات. وقد أتاح لهم هذا أن يبدءوا في فهمِ كيف أن كل الأحماض الأمينية والعوامل المرافقة والربائط (وهي المواد التي ترتبط بالجزيئات الحيوية) يتجمَّع بعضها مع بعض لدفع العمليات الكيميائية الحيوية. لكن معظم الأساليب البنيوية — ولا سيما التصوير البلوري — تقدِّم صورًا ثابتة للبروتينات. ولفهم الطريقة التي تعمل بها الأنظمة الديناميكية مثل الإنزيمات، فهمًا كاملًا، ينبغي أيضًا دراستها عمليًّا. من الأمثلة الرئيسية على ذلك مجالُ حركية الإنزيمات.

منذ أواسط القرن التاسع عشر، أخذ يعكف علماء الكيمياء على دراسة معدلات التفاعل. وكثيرًا ما وجدوا تناسبًا بين سرعة التفاعل وتركيز المواد المتفاعلة. لكن يبدو أن هذا لا ينطبق على الأنظمة الحيوية؛ فعلى سبيل المثال، اتضح أن معدلات تخمُّر الخميرة غير مرتبطة بكمية السكروز الموجودة. لكن في عام ١٩١٣، لاحظ ليونور ميكايليس وماد ليونورا منتين أن هذا ليس صحيحًا تمامًا. ففي تركيزات الركائز القليلة، كان معدل التفاعل يعتمد على كمية الركيزة الموجودة، ثم يستقر في التركيزات الأعلى.

لتوضيح هذه الظاهرة التي اختلفت عن سلوك التفاعلات الكيميائية الأخرى، اقترح ميكايليس ومنتين أن الإنزيم (E) والركيزة (S) يكوِّنان مركبًا وسيطًا يتألَّف من الإنزيم والركيزة (ES). عندئذٍ، ينقسم المركَّب الوسيط ويطلق المواد الناتجة (P) وإنزيمًا حرًّا:
يشير هذا النموذج إلى أنه إذا كانت تركيزات الركيزة منخفضة، فستتقيد سرعةُ التفاعل بتكوُّن مركَّب الإنزيم والركيزة، لكن في التركيزات الأعلى، يتكوَّن مركَّب الإنزيم والركيزة بسرعة، وخطوة تقييد السرعة تعتمد على انقسام المركَّب. يسهُل تصوُّر هذا من خلال ما يُعرف باسم منحنى التشبُّع الخاص بميكايليس ومنتين؛ إذ يبين بوضوح كيف تعتمد سرعة التفاعل الخاصة بالإنزيم على تركيز الركيزة (انظر الشكل ٣-٤). وجب التنويه أيضًا إلى أن نموذج التفاعل الخاص بميكايليس ومنتين كثيرًا ما يكون تبسيطًا شديدًا. إذ إن للعديد من التفاعلات المحفزَّة بالإنزيمات عدة مركَّبات من الإنزيمات والركائز وكذلك المواد الناتجة من الإنزيمات. وهذا سيجعل التفاعل أعقدَ بكثير من الوصف البسيط المطروح بين هذه السطور. على الرغم من ذلك، فإن فهْم عمل ميكايليس ومنتين ونتائجه تعمل على توضيح عمليات الوصف الأكثر تعقيدًا لحركية الإنزيمات.
fig12
شكل ٣-٤: منحنى التشبُّع الخاص بميكايليس ومنتين، الذي يصوِّر العلاقة بين معدَّل تفاعل الإنزيم وتركيز الركيزة.
يقدِّم المنحنى عدةَ معاملات تصف سلوك الإنزيم. تتحقَّق أقصى سرعة للتفاعل (Vmax) عندما تتشبَّع المواقع النشطة للإنزيم بالركيزة. ومن المُعامل Vmax، يمكن اشتقاق مُعاملين آخرين. يعبِّر ثابت ميكايليس-منتين (Km) عن تركيز الركيزة عند نصف سرعة التفاعل القصوى، كما أنه يوفِّر مقياسًا لميل الإنزيم إلى الارتباط بالركيزة؛ ومن ثَم فإن قيمة Km المنخفضة تعني الوصول إلى السرعة القصوى في حالة التركيزات المنخفضة للركيزة، ومن ثَم يتمتَّع الإنزيم بدرجة ميل كبيرة للارتباط بتلك الركيزة، والعكس بالعكس. تتحدَّد السرعة التي يتحلَّل عندها مركَّب الإنزيم والركيزة إلى مادة ناتجة وإنزيم حر بثابت السرعة التحفيزية (kcat). وتتحدَّد هذه القيمة بقسمة السرعة Vmax على تركيز الإنزيم (أو بمعنًى أدقَّ الموقع النشط). ويوفِّر الثابت kcat مقياسًا لمدى سرعة عمل الإنزيم عبر تفاعله. آخر المُعاملات الذي له أهمية خاصة هو كفاءة الإنزيم، التي تتحدَّد بقسمة kcat على Km.
تتضح فائدة مُعاملات الحركية هذه بأفضلِ ما يكون بالمقارنة بين بضعة إنزيمات (انظر الجدول ٣-١).
قيمة الثابت Km في إنزيم نازعة كربوكسيل ٥ -أحادي فوسفات الأوروتيدين منخفضةٌ للغاية، ما يدُل على تمتُّعه بدرجة ميل كبيرة للغاية للارتباط بركيزته. لكن يبقى مركَّب الإنزيم والركيزة الخاص به مدةً طويلة نسبيًّا، ما يقلل من كفاءته الكلية (حاصل قسمة kcat على Km). وفي الوقت نفسه، يتمتَّع الكتالاز بدرجة ميل أقل بكثير للارتباط بركيزته، ولكنه أسرع بكثير في إطلاق المواد الناتجة، ومن ثَم فإن كفاءته الكلية أفضلُ من تلك من الخاصة بإنزيم نازعة كربوكسيل ٥ -أحادي فوسفات الأوروتيدين.
في الواقع، تصف مُعاملات حركية الإنزيم العلاقةَ بين الإنزيم وركيزة خاصة. يوضح إنزيم الكيموتربسين ذلك جيدًا. إنه إنزيم محلِّل للبروتين (أي، إنزيم يفكِّك البروتينات الأخرى) يفضَّل فكُّ الرابطة الببتيدية التي تسبق مباشرة سلسلةً جانبية لأحد الأحماض الأمينية العطرية الكبيرة (مثل التايروسين). ولكنه قادرٌ أيضًا على فكِّ الروابط التي بين الأحماض الأمينية الأخرى. تتجلَّى هذه الخصوصية في المُعاملات من خلال ثابت ميل ارتباط (Km) أعلى بكثير وثابت سرعة (kcat) أكبر، مما يجعل له كفاءةً أفضلَ بكثير لتحفيز التايروسين، الذي هو ركيزته المفضَّلة.
جدول ٣-١: المُعاملات الحركية لثلاثة إنزيمات وركائز متنوِّعة، موضَّحة بين الأقواس.
الإنزيم Km (M) kcat (s −1) kcat/Km (S −1 M −1)
نازعة كربوكسيل ٥ -أحادي فوسفات الأوروتيدين ٧٫٠ × ١٠ −٧ ٣٩ ٥٫٦ × ١٠٧
الكتالاز ١٫١ × ١٠ −٣ ١٫٠ × ١٠٦ ٩٫١ × ١٠٨
الكيموتربسين (الفالين) ٨٫٨ × ١٠ −٢ ٠٫١٧ ١٫٩
الكيموتربسين (التايروسين) ٦٫٧ × ١٠ −٤ ١٩٠ ٢٫٩ × ١٠٥
توضِّح حالةُ إنزيم الكيموتربسين وتفضيله لركائزَ معينة كيف أن فهْم حركية تفاعلٍ ما يبرز جوانبَ من تفاعلات الإنزيم لن تكون واضحة على الفور من الدراسات البنيوية. وبالمثل، تثبت حركيةُ الإنزيمات فائدتَها عند محاولة التعرُّف على الطريقة التي تُنظَّم بها الإنزيمات والبروتينات الأخرى. وكثيرًا ما يتعدَّل نشاط الإنزيم عبر التفاعلات مع البروتينات الأخرى أو الجزيئات المثبطة الصغيرة أو عمليات التعديل. وكل هذه التفاعلات سيكون لها تأثير ملحوظ في حركية الإنزيمات. على سبيل المثال، قد يرتبط جزيء بالموقع النشط لإنزيمٍ ما ويبعُد ركيزته. يتجلَّى هذا التثبيط التنافسي — كما هو معروف — في صورة انخفاض درجة ميل ارتباط الإنزيم بالركيزة، ومن ثَم تزيد قيمة الثابت Km، ولكن لا تتأثَّر قيمة Vmax. يمكن أن ترتبط جزيئاتٌ مثبطة أخرى بأماكنَ أخرى وتسبِّب تغييرًا في شكل الإنزيم. لكن هذا التثبيط غير التنافسي لا يؤثِّر في قيمة الثابت Km (حيث إنه لا يزال يمكن الوصول إلى الموقع النشط بنحو كامل)، ولكنه يعيق عملَ الإنزيم، ومن ثَم يقلِّل السرعة Vmax.

مسألة طي البروتينات

في عام ١٩٥٨، وقبَيل حصول جون كندرو على جائزة نوبل في الكيمياء لعمله على بنية البروتين، أشار قائلًا: «يبدو أن الترتيب [الخاص بالبروتينات] يفتقر تمامًا إلى نوع الانتظام الذي يتوقَّعه المرء على نحوٍ حَدْسي، كما أنه معقَّد أكثر مما تنبَّأت به أيُّ نظرية عن بنية البروتينات.» لخَّصت هذه الجملة ما أصبح معروفًا فيما بعدُ باسم مسألة طي البروتينات؛ باختصار، يبدأ البروتين حياتَه في صورة سلسلة عديد ببتيد طويلة، فكيف يُطوى إلى شكل ثلاثي الأبعاد معلوم الملامح كي يؤدي وظيفته؟ فهل يوجد كتيب وآلة تجميع خلوي تتعامل مع سلاسل عديد الببتيد الوليدة وتوجِّهها إلى الطية الصحيحة، أم إن البروتينات يمكنها أن تطوي نفسها؟

أُجيب عن السؤال الثاني في تجربةٍ ابتكرها كريستيان أنفينسن عام ١٩٦١. فقد أخذ إنزيمًا يسمَّى الريبونيوكلياز وقاس قدرتَه على قَطع الآر إن إيه. عندئذٍ، فكَّك البروتين مستخدِمًا اليوريا وعوامل الاختزال لكسر روابط ثاني الكبريتيد التي بين بقايا السيستين الثمانية في البروتين. وبذلك فقد البروتين شكله، ومن ثَم فقدَ قدْرتَه على هضم الآر إن إيه. بعد ذلك، أزال اليوريا وأتاح تصحيح ثاني الكبريتيد. وفي غضون دقائق، رصد الإنزيم وهو يستعيد قدْرتَه على هضم الآر إن إيه. قد تبدو هذه التجربة بسيطة — أو حتى تافهة — ولكنها بالغة الأهمية لأنها أوضحت أن البروتين يمكن أن يطوي نفسه من دون أي مساعدة خارجية. وهذا يعني أن كل المعلومات التي يحتاج إليها البروتين من أجل الطي موجودةٌ في تسلسله الأساسي. نتائج هذه التجربة مهمة، بمعنى أن بنية البروتين تتحدَّد حسب المعلومات المتضمَّنة داخل الجين. ومن ثَم، يمكن أن نتنبأ نظريًّا ببنية البروتين من تسلسل الدي إن إيه. أصبحت هذه الافتراضية معروفة باسم فرضية أنفينسن.

للأسف، فهْم أن البروتينات يمكن أن تطوي نفسها شيءٌ مختلِف تمامًا عن فهْم طريقة طي البروتينات، وهي مسألة معقَّدة إلى حدٍّ بعيد، وهو ما اتضح عبر تجربة فكرية ابتكرها سايراس ليفينثال عام ١٩٦٩. عُرفت التجربة باسم مفارقة ليفينثال فيما بعد، وهي كالتالي:
تخيَّل أنه يوجد بروتين صغير يتكوَّن من ١٠١ حمض أميني فقط. لنفترض الآن أن كل حمض أميني يمكن أن يتخذ ثلاثة اتجاهات فقط بالنسبة إلى الحمض الأميني المجاور له. في هذه الحالة، سيتمكَّن البروتين الخاص بنا من اتخاذ ٣١٠٠ أو ٥ × ١٠٤٧ من الأشكال. وإن كان هناك بروتين بإمكانه أن يبحث عبر كل هذه الأشكال بسرعة كبيرة للغاية بمعدَّل بحثٍ قدْرُه شكل واحد كل ١٠٠ فيمتو ثانية (وهذا غير ممكن)، فسيستغرق ١٠٢٧ سنة كي يتحقَّق من كل الأشكال الممكنة التي يمكن أن يتخذها. بالنظر إلى أن هذا النطاق الزمني أطولُ بكثير من عمر الكون بقيمٍ أسيَّة كبيرة وإلى حقيقة أن معظم البروتينات في الواقع يمكن أن تُطوى في عدد من الملِّي ثواني (بروتين الريبونيوكلياز الذي عمل معه أنفينسن بطيءٌ جدًّا في الطي)، فلا بد أن هناك طريقة تُوجَّه بها البروتينات تجاه مسارات طي فعَّالة. وإذا فهمنا ذلك، فربما نعثر على الضالة المنشودة للكيمياء الحيوية البنيوية؛ وهي القدرة على التنبؤ بالبنية الثلاثية الأبعاد للبروتين من تسلسل الدي إن إيه للجين الذي يشفِّره.

بُذلت جهودٌ تجريبية كبيرة (بما فيها تجاربُ أجراها صاحب الكتاب) في محاولات لرسم معالم مسارات طي البروتينات. فقد عدَّل العلماء الأحماض الأمينية، وأنشئوا بروتينات اصطناعية، وتلاعبوا ببيئات الطي، وغير ذلك الكثير. ثم استخدموا مجموعةً هائلة من التقنيات لرصد كيف أن كل هذا يؤثِّر في سرعات الطي واستقرار البروتينات وبنيات البروتينات النهائية. ونتيجةً لذلك، بتنا نعلم الكثيرَ عن القوى المعنية، وطريقة تجمُّع الأحماض الأمينية غير المحبة للماء بعضها مع بعض، بحيث تكوِّن نواة، وفي الوقت نفسه تستقر الأحماض الأمينية المشحونة على السطح كي تتفاعل مع المذيب المائي. وقد أدَّى ذلك إلى مفهومٍ يُطلق عليه في بعض الأحيان نموذج التكثيف والتنوي، وفيه تتشكَّل النواة غير المحبة للماء بسرعةٍ وتسحب العناصرَ البنيويةَ الثانويةَ إلى الاتجاهات الصحيحة بعضها بالنسبة إلى البعض.

تنبثق من ذلك نماذجُ لسلوك طي البروتين قائمة على فكرة «مشهد الطي»؛ حيث يكون المسارُ الذي يتخذه البروتين غير المطوي تجاه حالته المطوية شبيهًا بدحرجةِ كرة لأسفل على جانب جبل. تمثِّل كل بقعة في هذا المشهد شكلًا من الأشكال المحتملة العديدة المذكورة في مفارقة ليفينثال، والحالة المطوية هي البقعة الموجودة في أخفضِ نقطة في الوادي. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة مفيدةٌ في وصف المسألة، فإن فهْمنا لا يزال قاصرًا فيما يتعلَّق بشكل المشهد الحقيقي لطي البروتين وطريقة توجيه البروتينات إلى المسار (أو المسارات) الصحيح توجيهًا دقيقًا وصولًا إلى الحالة المطوية.

من المنتظر أن تُحل مسألة طي البروتينات بأساليبِ محاكاةِ الكمبيوتر باستخدام قدْرٍ هائل من القدرة الحوسبية. وتحقيقًا لهذه الغاية، فإن أحد أهم مشاريع طي البروتين الحوسبية عبارة عن مشروع يمكن لكمبيوتر أي شخص المساهمةُ فيه. فمنذ عام ٢٠٠٠، وزَّع مشروع فولدنج آت هوم مسائلَ طي البروتينات على أصحاب أجهزة الكمبيوتر غير المستغلة على مستوى العالم. وفي وقتِ تأليف هذا الكتاب، تسهِم مئات الآلاف من المعالجات في هذه المشاريع، حيث فاقت قدرة المعالجة ١٫٥ إكسافلوب. بالمقارنة، فإن أقوى كمبيوتر فائق في العالم (كمبيوتر ساميت الخاص بشركة آي بي إم) لديه عُشر تلك القدرة الحوسبية؛ إذ تبلغ أعلى قدرة له حوالي ١٤٣ بيتافلوب.

كما هو الحال مع كل المجالات التكنولوجية الأخرى، تتطوَّر الخوارزميات ومكوِّنات الأجهزة المخصَّصة لمسألة طي البروتينات تطورًا سريعًا، لكن يوجد في هذا الإطار نهجان بوجه عام. يستخدم النهج الأول النماذجَ المعتمِدة على القوالب، حيث يُقارَن تسلسلُ البروتين المستهدَف أولًا بتسلسلات بروتينات أخرى ذات بنية معروفة، ثم تُستخدم هذه المعلومات لتقييد النموذج البنيوي للبروتين المستهدَف. تؤدي هذه الطريقة إلى أدقِّ النتائج، لكنها لا تقدِّم في واقع الأمر أيَّ تصوُّر بشأن مشاهد الطي. بدلًا من ذلك، النهج الثاني يهدُف إلى إنشاء حلٍّ كامل لمسألة طي البروتينات من البداية مستمد ممَّا نعرفه من الفيزياء والكيمياء داخل بيئة طي البروتينات.

البروتينات المرافقة

قبل الانتهاء من تناول مسألة طي البروتين، تجدُر بنا الإشارة إلى فئةٍ من البروتينات بالغة الأهمية في قابلية الخلايا للاستمرار. هذه البروتينات تساعد في طي البروتينات الأخرى، ومن ثَم تُعرف باسم البروتينات المرافقة أو الوصيفة. في ظاهر الأمر، يبدو وجودُ هذه البروتينات متعارضًا مع ما جاء بفرضية أنفينسن. لكن يجب أن نتذكَّر أن البيئة داخل الخلية مختلفة تمامًا عن بيئة أنبوب الاختبار. الخلايا أماكن مزدحمة، كما أن البروتينات بداخلها معرَّضة لتغيُّرات في درجات الحرارة وعمليات الضغط الكيميائي، والتي يمكن أن تؤثِّر جميعها في طريقة طي البروتينات. ونتيجة لذلك، يمكن للخلية أن تُراكِم بسرعة بروتينات ذات خلل في الطي. والبروتينات المرافقة تساعد في ضبط كل هذا.

أحد البروتينات المرافقة الذي جرت دراسته جيدًا بنحو خاص هو مركَّب بروتين ضخم يتكوَّن من أربع عشرة سلسلة عديد ببتيد فردية، ويُعرف باسم GroEL. يتخذ هذا البروتين المرافق بنيةً تشبه البرميل ويمكنه أن يبتلع بالكامل البروتين الذي به خلل في الطي. وعندما يفعل ذلك، يغطي مركَّب ثانٍ يسمَّى GroES البرميل. يستخدم المركَّبان الطاقة الكيميائية المخزَّنة في الأدينوسين الثلاثي الفوسفات لفك البروتين ميكانيكيًّا بالداخل ثم السماح له بتكرار محاولة الطي. عندئذٍ، ينفصل غطاء GroES ويُطلَق البروتين المطوي حديثًا مرة أخرى في البيئة الخلوية؛ حيث يمكنه متابعة وظيفته. في واقع الأمر، البروتينات المرافقة لا تتعارض مع فرضية أنفينسن لأنها لا تقدِّم أيَّ معلومات إضافية، بل إنها بمنزلة مرشدين يوجِّهون البروتين كي يعودَ إلى بداية المسار في الوادي، كما توجِّهه بطول المسار الصحيح عبر مشاهد الطاقة الخاصة به.

البروتينات المضطربة جوهريًّا

تشبيه البروتينات بأنها آلات نانوية — أو روبوتات طبيعية — تشبيهٌ مثير للاهتمام. فمثلما هو الحال مع الروبوتات، فقد صُمِّم العديد من البروتينات (عن طريق التطور) بحيث تكرِّر مهمةً محددة مرارًا وتكرارًا. وينطوي التشبيه أيضًا على أن كل بروتين له بنية محدَّدة، مرتبطة بشدة بوظيفته. في الحقيقة، كان هذا الاعتقاد السائد على مدى القرن العشرين، وقد عزَّزته آلاف البنيات الواضحة التي زخر بها بنك بيانات البروتينات. وهكذا ترسَّخ في عقول علماء الكيمياء الحيوية المعنيين بدراسة البروتين أن تسلسل الأحماض الأمينية يحدِّد البنية الثلاثية الأبعاد، وهذا يؤدي بدوره إلى تحديدِ وظيفة البروتين. رجع جزءٌ كبير من السبب في ذلك إلى التقنية السائدة المستخدَمة لتحديد بنيات البروتينات وهي التصوير البلوري بالأشعة السينية.

على الرغم من الانتشار الواسع لهذه التقنية والنتائج الرائعة التي تحقَّقت من خلاله، فإن لها عيبًا خطِرًا وهو أن البنيات لا يمكن تحديدها إلا إذا كان في الإمكان إنتاجُ بلورات عالية الجودة من الجزيء محل الاهتمام. وهذه المهمة ليست هينة، فقد استُنفدت مسيرات مهنية كاملة في محاولات لبلورة بروتينات صعبة المراس على وجه الخصوص. تنبع المشكلة من حقيقة أن البلورات لا يمكن أن تُنتج إلا إذا تجمَّعت الجزيئات معًا في مصفوفات منظمة. وبناءً على ذلك، من المحتمل أن يتبلور بسهولة شيءٌ له بنية واضحة المعالم، لكن لا يُحتمل أن يتبلور شيء له بنية مضطربة وغير واضحة المعالم. وعلى سبيل التشبيه، بعض البروتينات تشبه مكرونة الاسباجيتي غير المطهوة المعبأة في جرة؛ حيث تصطف جميعُ أعواد المكرونة بترتيب جميل؛ في حين أن بروتينات أخرى تشبه أكثرَ مكرونةَ الاسباجيتي المطهوة والموضوعة في نفس الجرة بحيث تشكِّل أعوادها فوضى متشابكة من دون تنظيم معيَّن.

تكمُن المشكلة في أن التصوير البلوري بالأشعة السينية ينحاز إلى البروتينات المنظِّمة، أو البروتينات التي يمكن إجبارها على الدخول في حالةٍ منظَّمة معيَّنة. ونتيجة لذلك، أصبح تمثيلُ ما يُعرف باسم البروتينات المضطربة جوهريًّا قاصرًا في بنك بيانات البروتينات. ليس هذا فحسب، بل بات يتضح الآن أننا، بحشر البروتينات داخل بلورات، ربما لم ننتبِه إلى الاضطراب الجوهري المنتشر في عالَم الكيمياء الحيوية، حيث إن ٥٠ بالمائة من البروتينات تحتوي على مناطقَ كبيرة من الاضطراب. يبدو أن العديد من البروتينات «على حافة الفوضى»؛ إذ تتأرجح بين حالة الانتظام والاضطراب حسبما تقتضي الضرورة. يتضح الآن أن البروتينات المضطربة جوهريًّا لها عدة أدوار، مثل أنها بمنزلة ملاط جزيئي يثبت المركَّبات المتعددة البروتينات بعضها مع بعض، أو أنها في بعض الحالات تتخذ عدةَ أشكال ووظائف بناءً على شركائها المرتبطة بها. لا يزال فهمُنا لهذه البروتينات غيرِ المُنتبه لها والغامضة في مراحله الأولى، ولكن الواضح أن درجة المرونة في بنية البروتينات ووظيفتها أكبرُ بكثير مما كان يُعتقد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤