الفصل الرابع

الأحماض النووية: المخطَّطات الأولية للحياة

العقيدة الأساسية في علم الأحياء الجزيئي

في عام ١٩٥٨، وصف فرانسيس كريك العقيدةَ الأساسية في علم الأحياء الجزيئي كما يلي.

تنصُّ هذه العقيدة على أنه بمجرد تمرير «المعلومات» إلى البروتين، فإنها لا يمكن أن تخرج منه مرةً أخرى. لمزيد من التوضيح، من الممكن أن تُنقل المعلومات من حمض نووي إلى حمض نووي آخر أو من حمض نووي إلى بروتين، لكن يستحيل نقلُ المعلومات من بروتين إلى بروتين آخر أو من بروتين إلى حمض نووي. يُقصد بالمعلومات في هذا السياق التحديد الدقيق للتسلسل، سواء ذلك الخاص بالقواعد في الحمض النووي أو ببقايا الحمض الأميني في البروتين.

أو بعبارة أخرى، تسلسل الدي إن إيه يحدِّد تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين، وليس العكس. ومع إجراء بعض التعديلات الطفيفة، أبرزُها تخفيف كلمة «مستحيل» إلى شيء أقل تقييدًا، فلا تزال العقيدةُ الأساسية صحيحة.

تتكوَّن العقيدةُ الأساسية مما يلي: تضاعُف الدي إن إيه وهو النسخ المباشر للمعلومات (حسب تعريف كريك)؛ والنسخ وهو عملية إنشاء الآر إن إيه من قالب دي إن إيه؛ والترجمة وهي إنشاء تسلسل بروتين من قالب آر إن إيه. في الواقع، العقيدة الأساسية أعقدُ من ذلك بقليل؛ حيث إن الآر إن إيه يمكن أيضًا أن يكون بمنزلة قالب للدي إن إيه والآر إن إيه. ولكن تحقيقًا للإيجاز، سأكتفي بهذه الخطوات الثلاث. وفي بقية هذا الفصل، سنلقي نظرةً أقربَ على شكل جزيء الحمض النووي ووظيفته، وكيف أنهما يعززان تدفُّقات البيانات الثلاثة الأساسية الخاصة بالعقيدة الأساسية.

النيوكليوتيدات والأشرطة وأزواج القواعد

يمكن القول إن بنيةَ اللولب المزدوج للدي إن إيه تجعله أبرز الجزيئات. لكن الصور التي نراها كثيرًا في الأعمال المطبوعة وعلى الشاشات نادرًا ما تكشف عن لبنات البناء الكيميائية للدي إن إيه ولا تكشف عن طريقة تجمعها معًا بحيث تكوِّن اللولب المزدوج. كذلك نادرًا ما يُذكر الآر إن إيه وهو قريب الدي إن إيه الكيميائي مع أنه جزيء أكثر تنوعًا بكثير وله العديد من الأدوار في الكيمياء الحيوية.

كما رأينا في الفصل الأول، تتكوَّن الأحماض النووية من النيوكليوتيدات، والتي بدورها تتكوَّن من ثلاثة مكوِّنات كيميائية وهي: سكر ريبوز مكون من خمس ذرات كربون، ترتبط به قاعدة (جوانين أو سايتوسين أو أدينين أو ثايمين أو يوراسيل) ومجموعة فوسفات. دائمًا ما ترتبط القاعدة بأول ذرة كربون في السكر (والتي تُعرف باسم ذرة الكربون ١ ) وفي الوقت نفسه ترتبط مجموعة الفوسفات بذرة الكربون الخامسة (٥ ) (انظر الشكل ٤-١).
يتمثَّل الفرق بين الدي إن إيه والآر إن إيه في بعض التغييرات الكيميائية الدقيقة في القاعدة وسكر النيوكليوتيدات. فيحتوي الآر إن إيه على مجموعة هيدروكسيل (-OH) مرتبطة بذرة الكربون الثانية (٢ ) في سكر الريبوز، أما ذرة الكربون الثانية في الدي إن إيه فترتبط بها ذرة هيدروجين. وفي الوقت نفسه، يفتقر اليوراسيل (الذي يستخدمه الآر إن إيه) إلى مجموعة ميثيل، في حين أن الثايمين (في الدي إن إيه) يحتوي على مجموعة ميثيل.
تتكوَّن أشرطة الأحماض النووية عن طريق الارتباط التساهمي لذرة الكربون الثالثة (٣ ) مع مجموعة الفوسفات للنيوكليوتيدة السابقة. وهذا أتاح لنا تحديدَ قدْر من الاتجاهية في السلسلة؛ حيث إن الطرَف ٣ يبدأ بذرة سكر ريبوز، وينتهي الطرف ٥ بمجموعة فوسفات.
fig13
شكل ٤-١: نيوكليوتيدات الدي إن إيه الأربع، وهي (أ) الأدينين و(ب) الثايمين و(ﺟ) الجوانين و(د) السايتوسين؛ ومثال على نيوكليوتيدة آر إن إيه وهي (ﻫ) اليوراسيل.
يتكوَّن كل لولب مزدوج خاص بالدي إن إيه من شريطين فرديين متضادَّي التوازي (ما يعني أن الطرَف ٣ لأحد الجزيئات يصطف مع الطرَف ٥ للجزيء الآخر). يرتبط هذان الشريطان أحدهما مع الآخر عبْر روابط هيدروجينية غير تساهمية تتكوَّن بين القواعد. وتتكوَّن أزواج القواعد في الدي إن إيه من اقتران الجوانين مع السايتوسين والأدينين مع الثايمين. أما الآر إن إيه فيتكوَّن في الغالب من شريط واحد، ولكن عندما يكوِّن شريطين فإن الأدينين يقترن مع اليوراسيل.

إن هذا الاقتران المتسق بين قواعد الجوانين مع السايتوسين والأدينين مع الثايمين هو الذي يسهِّل نسخ تسلسلات الدي إن إيه في أثناء انقسام الخلية نسخًا دقيقًا. وعند الحاجة إلى نسخة جديدة من الدي إن إيه، ينفك اللولب المزدوج وينفصل الشريطان. حينئذٍ، يصبح كل شريط بمنزلة قالب يُنتج منه شريط فرعي. وهذه العملية المتمثلة في بناء شريط دي إن إيه جديد من قالب تنفِّذها فئة من الإنزيمات تسمَّى إنزيمات بوليميراز الدي إن إيه. وبما أن قاعدة الجوانين تقترن دومًا مع قاعدة السايتوسين، وقاعدة الأدينين تقترن مع قاعدة الثايمين، فإن إنزيم بوليميراز الدي إن إيه يضع قاعدة سايتوسين في الشريط الفرعي؛ حيث توجد قاعدة جوانين في الشريط الأصلي. يحدُث الأمر نفسه مع القاعدتين الأدينين والثايمين. وعند هذا المستوى، تبدو العملية بسيطةً للغاية، ولكنها في الواقع تتضمَّن عشرين بروتينًا آخر على الأقل يتضافر بعضها مع بعض في العمل. يُعرف هذا المركَّب المذهل باسم جسيم التضاعف وسنتناوله في الفصل السادس.

البنيات الثانوية للحمض النووي

ألقينا نظرةً على العناصر الأولية والثانوية والثلاثية التي يتكوَّن منها التسلسل الهرمي البنيوي للبروتينات، وتوجد فئاتٌ مماثلة في الأحماض النووية. لكن في حالة الأحماض النووية، فإن البنية الأولية يحدِّدها تسلسل النيوكليوتيدات بدلًا من الأحماض الأمينية.

fig14
شكل ٤-٢: اللولب المزدوج لبنية الدي إن إيه B (أ)، واقتران القواعد الذي يربط الشريطين معًا (ب).

في البروتينات، البنية الثانوية تحدِّدها روابطُ الهيدروجين بين المجموعات الأمينية ومجموعات الكربونيل ما يؤدي إلى تكوُّن لوالب ألفا وصفائح بيتا. أما في حالة الأحماض النووية، فإن تفاعلات اقتران القواعد هي التي تحدِّد البنية الثانوية. الجمال البسيط للولب المزدوج للدي إن إيه هو أوضح مثال على البنية الثانوية للحمض النووي. في واقع الأمر، بإمكان الدي إن إيه أن يتخذ ثلاث بنيات لولبية ذات صلة بيولوجيًّا. أشيعها هي بنية الدي إن إيه B (B-DNA) (انظر الشكل ٤-٢)، وهي تلك التي وصفها كلٌّ من واتسون وكريك وويلكنز. هذا الشكل عبارة عن لولب يميني الاتجاه (تلتف السلسلة باتجاه عقارب الساعة حين النظر في محور اللولب)، وتحدُث لفة كل عشر نيوكليوتيدات، كما أن اللولب المزدوج له أخدودان مختلِفا الحجم اختلافًا ملحوظًا، وهما: الأخدود الرئيسي والأخدود الثانوي. بنية الدي إن إيه A (A-DNA) اكتشفتها روزاليند فرانكلين ورايموند جوزلينج في بلوراتهما. كثيرًا ما تتكوَّن بنية الدي إن إيه هذه حين يجفُّ الدي إن إيه، وقد تبيَّن أن هذه البنية تتخذها الأبواغ البكتيرية اليابسة. بنية الدي إن إيه A يمينية الاتجاه هي الأخرى، لكن بالمقارنة مع بنية الدي إن إيه B، فإنها أعرض ويبدو أنها أشبه بزنبرك مضغوط. وفي الوقت نفسه، فإن بنية الدي إن إيه Z (Z-DNA) عبارة عن لولب يساري الاتجاه ممدود، وعلى عكس الشكلين A وB، لا يكاد يوجد فرق بين الأخدودين الرئيسي والثانوي. يظهر الشكلان A وB في الوظائف الحيوية الطبيعية، أما الشكل Z فلا يظهر إلا في بعض الحالات المرَضية.
في المقابل، غالبًا ما يتكوَّن الآر إن إيه من شريط واحد، على الرغم من أن الجزيئات كثيرًا ما تحتوي على مناطقَ ذات تسلسلات تكميلية، ما يؤدي إلى ظهور تفاعلات داخل الشريط. يؤدي هذا إلى مجموعة من البنيات الثانوية، ومنها اللوالب المزدوجة، التي تميل عادةً في حالة الآر إن إيه إلى التشابه مع بنية الدي إن إيه A. تظهر هذه البنيات في الغالب على شكل دبوس شَعر، وتتميز بجذع لولبي قصير مقترن القواعد تعلوه حلقة من القواعد غير المقترنة. ينشأ المزيد من تعقيد البنيات الثانوية من التفاعلات بين البنيات التي تتخذ شكل دبوس الشعر، عندما تقترن أجزاء من قاعدة الحلقة بعضها ببعض، ما يكوِّن عُقدًا كاذبة.

عالَم الآر إن إيه

تنطوي العقيدة الأساسية في صميمها على موقفٍ أشبه بمعضلة الدجاجة والبيضة. الحياة بحاجة إلى جزيئاتٍ لديها مجتمعةً القدرةُ على إنتاج المزيد من الجزيئات المماثلة لنفسها. بإمكان البروتينات القيامُ بنصف هذه المهمة. فهي «أدوات تصنيع» ممتازة لديها القدرة على تكوين البنيات المتعددة والوظائف المرتبطة بها اللازمة لتحفيز مجموعة كبيرة من التفاعلات الكيميائية. على سبيل المثال، بإمكان البروتينات ربطُ قواعد النيوكليوتيدات في امتدادات من الدي إن إيه والآر إن إيه. لكن لا توجد آلية معروفة يمكن أن تستخدمها البروتينات كي تنسخ نفسها. وفي الوقت نفسه، الدي إن إيه ينتج جزيئًا ممتازًا لتخزين البيانات، وهذا الجزيء له بنية ملائمة لآلية تضاعف بسيطة. لكن الدي إن إيه لا يمكنه تحفيزُ التفاعلات، ومن ثَم لن يُنسخ أبدًا تسلسل الدي إن إيه من دون البروتينات وستستحيل عملية الوراثة. باختصار، تضاعُف الجينات بحاجة إلى البروتينات، ولا يمكن تصنيع البروتينات من دون المعلومات المتضمَّنة في الجينات. بناءً على ضرورة التعاون هذه بين الدي إن إيه والبروتينات، فالسؤال هو: كيف يمكن أن يكون قد بدأ هذا النظام التآزري؟

توجد عدة نظريات، ومنها التزامن في تطوُّر الدي إن إيه والبروتينات، أو فرضية «البروتينات أولًا» التي تقول إن بروتيناتٍ صغيرة نسخت نفسها بالفعل باستخدام آليةٍ ما اندثرت الآن في غياهبِ الزمن التطوري. لكن النظرية السائدة تكمُن في وجود آلة جزيئية متعددة الوظائف، وهي نظرية تُعرف باسم عالَم الآر إن إيه. يقول هذا السيناريو إنه قبل ظهور خلايانا الحالية المليئة بالدي إن إيه والبروتينات، كان هناك شكلٌ من أشكال الحياة معتمد على الآر إن إيه. تعود صلاحية هذه النظرية إلى أن الآر إن إيه يبدي بعضَ خصائص كلٍّ من البروتينات والدي إن إيه. وعليه، يمكن أن يعمل بمنزلة مخزن للمعلومات الوراثية، ولا تزال بعض الفيروسات تستخدمه لهذا الغرض. إضافة إلى ذلك، فإن البنيات التي على شكل دبابيس شعر والعُقد الكاذبة وغيرها من العناصر البنيوية الثانوية يمكن أن تُطوى لتكوين بنيات معقَّدة قادرة على تحفيز التفاعلات الكيميائية.

لا يزال بالإمكان رؤية بقايا عالَم الآر إن إيه هذا كامنة في الأركان الكيميائية الحيوية للخلية. وقد اكتُشف بعضه في ثمانينيات القرن العشرين عندما كان توماس تشيك يدرُس الآلية التي يتم بها تضفير جزء من الآر إن إيه. حاول قدْر جهده، ولكنه لم يستطِع التوصُّل إلى البروتين المسئول عن التفاعل، لكنه استنتج في النهاية أن الآر إن إيه يمكنه أن يضفر نفسه. بعد ذلك، صاغ تشيك مصطلح ribozymes؛ أي الريبوزيمات (وهي لفظة اقترانية مشتقة من ribonucleic acid enzymes؛ أي إنزيمات الآر إن إيه) كي يصف الآر إن إيه النشط تحفيزيًّا هذا.

اكتشافات تشيك والاكتشافات المماثلة لغيره أعطت ثِقلًا لفرضية عالَم الآر إن إيه، ولكن كانت لا تزال هناك حاجة إلى برهان يثبت أن الآر إن إيه يمكن بالفعل أن ينسخ نفسه كي تُحل معضلة الدجاجة أَم البيضة المتضمَّنة في هذا الأمر. وحتى الآن، لم يرصد أحدٌ دليلًا على ذلك في الأنظمة الطبيعية، وهو ما لا يدعو إلى المفاجأة؛ لأنه كان سيصبح زائدًا عن الحاجة في الأنظمة الفعَّالة أكثر القائمة على البروتين. ومع ذلك، أنشأ العلماء ريبوزيمات اصطناعية قادرة على استنساخ نفسها، مما يثبت أنَّ السيناريو القائل بأن الأنظمة الحية يمكن أن تقوم على الآر إن إيه الذاتي التضاعف، ممكنٌ من منظور الكيمياء الحيوية على الأقل.

النَّسخ وبنيات الجينات

في اللغة الدارجة، الكروموسومات والجينات والدي إن إيه كلماتٌ شبه مترادفة، لكن في الواقع الكروموسومات هي البنيات التي تُخزَّن فيها الجينات، والجين هو امتداد الدي إن إيه الذي يشفِّر جزيئًا آخرَ وظيفيًّا من الناحية الحيوية؛ أي البروتينات والآر إن إيه. بالإضافة إلى منطقة التشفير هذه، سيحتوي الجين على سلسلةٍ من التسلسلات التي تنظِّم طريقةَ نسخ الجينات.

عند الحاجة إلى المعلومات الجينية، تُنتَج نسخٌ من الجينات وتُنقل إلى أجزاء أخرى من الخلية. والآر إن إيه المرسال هو المادة المستخدَمة لعمل هذه النُّسخ وتتشابه طريقةُ تكوينه إلى حدٍّ بعيد مع طريقة تكوين شريط فرعي من الدي إن إيه من قالبٍ ما. في هذه الحالة، يكمُن الفرْق في أن الإنزيمات المسئولة عن اقتران القواعد (السايتوسين مع الجوانين والأدينين مع اليوراسيل) هي إنزيمات بوليميراز الآر إن إيه (وليس الدي إن إيه).

يُعرف شريط الدي إن إيه الذي سيجري نسخه (بنحوٍ غير متوقَّع نوعًا ما) بأنه الشريط غير المشفِّر لأنه بلعبه دورَ القالب، فإن الآر إن إيه المرسال الناتج سيحتوي على تسلسل تشفير تكميلي. ومثلما هو الحال في أي عملية تصنيع، يلزم توفُّر إشاراتٍ للدلالة على موعد بدء الإنتاج وكمِّ الإنتاج المطلوب. لذا يوجد بالقرب من جزء التشفير أو بداخله نطاقٌ من التسلسلات الأخرى التي يؤدي العديد منها أدوارًا تنظيمية. وبداخل الجين، تُسبق مناطقُ التشفير هذه بتسلسلات «محفِّزة» تفعل ذلك بالضبط.

تحتوي بدائيات النوى بوجه عام على تسلسلين محفِّزين يقعان على مسافة عشر نيوكليوتيدات وخمس وثلاثين نيوكليوتيدة تقريبًا قبل نقطة بدء النَّسخ. وتكشف المقارنة بين مئات الجينات عن وجود تسلسل توافقي وهو و للصندوقين −٣٥ و−١٠ (حسب تسميتهما خياليًّا) على التوالي. ترتبط البروتينات المعروفة بأنها عواملُ نسخٍ بمواقع المحفِّزات هذه، ثم تجلِب إنزيماتُ بوليميراز الآر إن إيه إلى المنطقة. أما معدَّل نسْخ الجينات فيُنظَّم من خلال التباينات في تسلسلات المحفِّزات. فكلما زاد الانحراف عن التسلسل التوافقي، قلَّ تقاربه من عامل النسخ، ومن ثَم يقل معدَّل نسخ الجين. وعلى العكس من ذلك، فإن البروتينات المطلوبة بأعداد كبيرة سيكون لها تسلسل محفِّز يتطابق إلى حدٍّ بعيد مع التسلسل التوافقي.

لا يقلُّ إنهاءُ عملية النَّسخ أهميةً عن بدئها. فمن دون وجود بعض التحكم، ستندفع بسرعة إنزيمات بوليميراز الآر إن إيه بطول تسلسل الدي إن إيه مثل القطار الخارج عن السيطرة، مما يؤدي إلى إنتاج الآر إن إيه المرسال بأعداد وسرعة كبيرة بطول الطريق. في البكتيريا، توجد آليتان للإنهاء، تتضمن الأولى بروتينًا يسمَّى رو هيليكاز يرتبط بمنطقة غنية بالسايتوسين في الآر إن إيه المرسال المكوَّن حديثًا. إن وجود بروتين رو يزعزع استقرار التفاعلات بين الآر إن إيه المرسال والدي إن إيه، ما يؤدي إلى انفصالهما وإنهاء عملية النَّسخ. تتضمَّن الآلية الثانية جزءًا غنيًّا بالسايتوسين/الجوانين في الآر إن إيه المرسال الذي تتكوَّن بداخله أزواجُ القواعد. وتؤدي بنية دبوس الشَّعر الناتجة فعليًّا إلى إيقاف عمل إنزيم بوليميراز الآر إن إيه، ومن ثَم تتوقَّف عملية النَّسخ.

الترجمة

بوصولنا إلى هنا، أرجو أن يكون واضحًا أن الدي إن إيه والآر إن إيه جزيئان متماثلان بشدة، حيث إن كليهما لهما تسلسلات مكتوبة بأبجدية متشابهة مكوَّنة من أربعة حروف. لكن البروتينات جزيئات مختلِفة تمامًا؛ حيث إنها تتكوَّن من عشرين حمضًا أمينيًّا مختلفًا. لذا فإن ترجمة المعلومات المتضمَّنة في تسلسل جين إلى تسلسل بروتين تحتاج إلى آلية مختلِفة تمامًا عن اقتران القواعد البسيط المستخدَم في نقل المعلومات من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه.

بعد اكتشاف بنية الدي إن إيه، أصبح تحديدُ آلية الترجمة أحدَ أكثر المسائل إلحاحًا حينذاك. كانت المسألة بسيطة. لا تحتوي الأحماض النووية إلا على أربع قواعد. لكن الجينات بطريقةٍ ما تشفِّر العشرين حمضًا أمينيًّا المختلفة الموجودة في البروتينات. ومن ثَم، كيف يمكن لأبجدية من أربعة حروف أن تُترجَم إلى أبجدية مكوَّنة من عشرين حرفًا؟ ما الطُّرق التي يمكن أن يستخدمها علم الأحياء من أجل ذلك؟

من أبرز المحاولات لحل هذه المسألة محاولةٌ قام بها فرانسيس كريك. لقد رأى المسألة بالطريقة التالية: لا بد أن الشفرة الجينية تتكوَّن من ثلاثيات قواعد غير متداخلة. لكن إذا كان الحال كذلك، فكيف يمكن تمييز ثلاثية عن الثلاثية التالية؟ ففي النهاية لا توجد علامات ترقيم في الدي إن إيه. يشبه هذا إيجاد كلمات من ثلاثة حروف في SATEATEATS من دون أي مسافات. يمكن أن تكون الكلمات هي: SAT EAT EAT أو ATE ATE ATS أو TEA TEA، ويعتمد هذا على موضع بدء تكوين الكلمات.
توصَّل كريك إلى نظريةٍ رائعة أسماها «شفرات من دون فاصلات». أخذ الأربع والستين شفرة المحتملة للثلاثيات وجمعها معًا في مجموعات وفقًا لما إذا كان لديها التباديل الدائرية نفسها (بمعنًى آخر، توجد ACG وCGA وGAC في مجموعة واحدة؛ وCCG وGCC وCGC في مجموعة أخرى، وهكذا). عندئذٍ، طرح فرضيةً تقول إنه لن يُستخدم غير تسلسل واحد من كل مجموعة لتشفير أيِّ حمض أميني. أطلق على هذه الكودونات «ذات المعنى». ثم أطلق على الباقي الكودونات «الخالية من المعنى». ومن ثَم إذا كان للكودونين ACG وCCG معنًى، يمكن للتسلسل ACGCCGACG أن يُقرأ ACG CCG ACG؛ لأن الكودونين CGC وCGA لا معنى لهما.
أيضًا في سلة الكودونات الخالية من المعنى، توجد الكودونات AAA وUUU وGGG وCCC؛ لأنها ستسبِّب لبْسًا بشأن موضع بداية الكودون (على سبيل المثال، هل التسلسل CCCCGGG يُقرأ CCC CGG أم CCC GGG؟). نظرية الشفرات من دون فاصلات التي طرحها كريك أعطتنا ٦٤ كودونًا محتملًا في المجمل، وباستبعاد الكودونات CCC وGGG وAAA وUUU يتبقى لدينا ٦٠ كودونًا. ومن بين الكودونات المتبقية هذه، فقط كل كودون ثالث هو الذي «ذو معنًى»، ومن ثَم يتبقى ٢٠ كودونًا لتشفير العشرين حمضًا أمينيًّا.

كانت الشفرات من دون فاصلات فكرة رائعة جدًّا، وتوافقت الأعداد تمامًا لدرجة أن الجميع قبِلَها معظم الوقت على مدى خمس سنوات. لكن في عام ١٩٦١، أنتج مارشال نيرنبرج ويوهان هينريش ماتاي امتدادًا من الآر إن إيه يتكوَّن من اليوراسيل فقط. وعندما أضافاه إلى مزيج الريبوسومات وأحماض الآر إن إيه الناقلة والأحماض الأمينية الضروري من أجل الترجمة، كانت النتيجة سلسلة عديد ببتيد من الفنيلالانين الصافي. وفقًا لنظرية كريك، من المفترض أن عديد يوراسيل كان سلسلة خالية من المعنى، ومن ثَم بقيت نظرية الشفرات من دون فاصلات التي طرحها على أرففِ النسيان في تاريخ الكيمياء الحيوية.

في الحقيقة، الشفرة الجينية أبسطُ بكثير. إذ يُفسَّر على نحوٍ كبير وجود الكودونات الثلاثية الأحرف الأربعة والستين المحتملة بناءً على حقيقةِ أن معظم الأحماض الأمينية (باستثناء الميثيونين والتربتوفان) تُمثَّل بأكثرَ من كودون واحد. على سبيل المثال، الكودونات GUU وGUC وGUA وGUG يترتَّب عليها إنتاج الفالين.
fig15
شكل ٤-٣: الشفرة الجينية.
توجد أيضًا أربعة كودونات تؤدي وظائفَ إضافية. الكودون AUG يشفِّر الميثيونين، لكنه أيضًا كودون البداية؛ إذ يشير إلى النقطة التي تبدأ عندها عملية الترجمة في تسلسل الآر إن إيه المرسال. لكن الكودونات UGA وUAG وUAA هي كودونات توقُّف؛ حيث إنها تشير إلى النقطة التي ينبغي أن تتوقَّف عندها عملية الترجمة في جزيء آر إن إيه مرسال. العجيب أن هذه الشفرة الجينية (انظر الشكل ٤-٣) تتشاركها (مع وجود بعض التباينات النادرة والطفيفة) كلُّ أشكال الحياة على الأرض.
هنا، تظهر تأثيرات الطفرات. ويمكن للتكرار في النظام أن يخفِّف من تأثير بعض التغييرات التي تطرأ على الشفرة الجينية؛ على سبيل المثال، يتحمَّل تسلسلُ أيِّ بروتين أي طفرة تُغير النيوكليوتيدة الأخيرة في كودون الفالين (وتُعرف تلك الطفرات باسم الطفرات الصامتة). وغالبًا ما تكون البروتينات قويةً بالقدْر الكافي الذي يجعلها تستوعب التغييرات التي تؤدي إلى تبديل الحمض الأميني. لكن في بعض الحالات حتى التغيير في حرف واحد — مثل تغيير GAG إلى GTG الذي يؤدي إلى إحلال الفالين محل الجلوتامات — قد يؤدي إلى أعراض خطِرة. وعندما يحدُث هذا في نقطةٍ معيَّنة من جين الهيموجلوبين، تكون النتيجة الإصابةَ بداء الخلايا المنجلية.

تحدُث الترجمة في بنيات كبيرة ودقيقة قائمة على الآر إن إيه تسمَّى الريبوسومات. وربما تكون هذه الآلات الجزيئية النموذجية بقايا أخرى من عالَم الآر إن إيه. فمنذ ذلك الحين، مرَّت هذه الآلات بتطوُّر كبير، وأصبح الآن هناك تباينات جوهرية في شجرة الحياة. لكن بوجه عام، هي تتكوَّن من ثلاث أو أربع سلاسل من الآر إن إيه وكذلك عشرات بروتينات السقالات التي تكوِّن معًا وحداتٍ فرعيةً منفصلة.

fig16
شكل ٤-٤: أحماض آر إن إيه ناقلة محمَّلة بالأحماض الأمينية ترتبط بكودونات في آر إن إيه مرسال داخل ريبوسوم. يحفِّز الريبوسوم تكوينَ روابط ببتيدية بين الأحماض الأمينية لتخليق البروتينات.
يُدخَل شريط من الآر إن إيه المرسال في الوحدة الفرعية الريبوسومية الأصغر. وفي الوقت نفسه، الأحماض الأمينية تُنقل إلى الوحدة الفرعية الريبوسومية الأكبر، وترتبط بها لنقل أحماض الآر إن إيه (الآر إن إيه الناقل؛ انظر الشكل ٤-٤). يوجد ٦١ آر إن إيه ناقلًا مختلفًا؛ أي واحدًا لكل كودون تشفير حمض أميني، ويحتوي كل آر إن إيه ناقل على تسلسل حرٍّ ثلاثي الأحرف (كودون مضاد) يُعَد تكميليًّا لذلك الكودون. على سبيل المثال، توجد أربعة أحماض آر إن إيه ناقلة لحمل الفالين، وهي تحتوي على الكودونات المضادة CAA وCAG وCAU وCAC التي تُعَد تكميلية لكودونات الفالين: GUU وGUC وGUA وGUG. يساعد الريبوسوم في ربط أحماض الآر إن إيه الناقلة بالكودون الصحيح في الآر إن إيه المرسال، ثم يبقى على هذا إلى أن يرتبط آر إن إيه ناقل آخر. عندئذٍ، يكون الحمضان الأمينيان قريبين بعضهما من بعض، ما يتيح للريبوسوم أن يحفِّز تكوين رابطة ببتيدية بينهما. وحينها، يُحرَّر الآر إن إيه الناقل الأول والخالي من الحمض الأميني ويتحرَّك الريبوسوم بطول الآر إن إيه المرسال. تتكرَّر عملية ربط الآر إن إيه الناقل والتحفيز وتحرُّك الريبوسوم حتى يصادف كودون توقُّف، لا يوجد له أحماض آر إن إيه ناقلة. بدلًا من ذلك، ترتبط بروتينات تسمَّى عوامل الإطلاق في هذا الموضع وتعمل على طرد الريبوسوم من الآر إن إيه المرسال، وفي هذه العملية ينطلق البروتين المكوَّن حديثًا في السيتوبلازم حيث يتمتَّع بالحرية في الطي والعمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤