الفصل الخامس

إمداد الخلايا بالطاقة: عِلم الطاقة الحيوية

بما أننا تعرَّفنا الآن على كل مجموعات الجزيئات الكبيرة والدقيقة التي لها دور في الكيمياء الحيوية، فقد حان الوقت لدراسة بعض الأمثلة على طريقة عمل هذه الجزيئات معًا بحيث تكوِّن مسارات مترابطة من التفاعلات الكيميائية.

يميل الكون نحو الفوضى، والحياة في أساسها معركةٌ ضد تلك الإنتروبيا المتزايدة. مواجهة الإنتروبيا تحتاج إلى طاقة. وبالنسبة إلى كل أشكال الحياة على الأرض تقريبًا (سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة)، فإن مصدر هذه الطاقة هو الشمس. وبالطبع البناء الضوئي هو العملية الكيميائية الحيوية التي تجمع أشعةَ الشمس وتستخدم طاقتها لتحويل ثاني أكسيد الكربون والماء إلى كربوهيدرات.

لما كان ضوء الشمس مصدرًا غنيًّا بالطاقة، فلا عجب أن يطوِّر أكثرُ من شكل من أشكال الحياة عملياتٍ لجمع ضوء الشمس. فالطحالب الحمراء والخضراء والهالوبكتيريا الأرجوانية وبكتيريا البناء الضوئي الحمراء، وبالطبع النباتات الخضراء، تستخدم كلها وسائلَ متنوعة لاحتجاز الطاقة من أشعة الشمس. لكن في كل الحالات، يبدأ البناء الضوئي باصطدام فوتون ضوء بجزيء صبغة. بالنسبة إلى الهالوبكتيريا الأرجوانية، فجزيء الصبغة ذاك عبارة عن نوع من فيتامين A يسمَّى الريتينال (والذي هو أيضًا جزيء الصبغة في بروتينات استشعار الضوء في أعيننا)، وصبغة الفيكوارثرين هي التي تعطي للطحالب الحمراء لونَها، لكن جزيئات الصبغة الحمراء المائلة إلى اللون البرتقالي التي تسمَّى الكاروتنويدات لها دورٌ في النباتات والطحالب الخضراء. لكن أشهر جزيئات الصبغة التي تُجمِّع الضوء هي الكلوروفيل. وفي الحقيقة، يوجد جزيئان شائعان مختلفان من جزيئات الكلوروفيل تستخدمهما النباتات (وهما الكلوروفيل A والكلوروفيل B)، ولكني لن أفصِّل الفرق بينهما انطلاقًا من مبدأ الإيجاز.

تفاعلات الضوء

بدأت الحياة على الأرض منذ ما يقرُب من ٣٫٧ مليارات سنة، وقد استغرقت ١٫٢ مليار سنة أخرى حتى طوَّرت البكتيريا الزرقاء الأولى عمليةَ بناء ضوئي تنتج الأكسجين. يُعتقد أن البلاستيدات الخضراء — وهي العضيات التي تحدُث فيها عمليةُ البناء الضوئي في النباتات والطحالب — مشتقة من بكتيريا زرقاء سالفة ابتلعتها إحدى حقيقيات النوى البدائية، مما أمدَّها بقدرة البناء الضوئي. ولا تزال آثار البكتيريا الزرقاء هذه ظاهرةً في بعض الجينات الكائنة في البلاستيدات الخضراء.

تنقسم البلاستيدة الخضراء إلى مقصورات محاطة بأغشية، يُطلق عليها الثايلاكويدات. وعلى حافة الثايلاكويد وبداخل الغشاء الليبيدي، يوجد مركَّبا بروتين يسمَّيان النظام الضوئي الأول (PSI) والنظام الضوئي الثاني (PSII). هذان هما مركَّبا جمْع الضوء السائدان على الأرض، ويصبح الدور الحاسم الذي يؤديانه في إمداد أنظمتنا البيئية بالطاقة واضحًا بنحوٍ لافت للنظر عندما تدرك أن المساحات الخضراء الواسعة على وجه الأرض المرئية من الفضاء يرجع وجودُها بنحو رئيسي إليهما.

سُمي النظام الضوئي الأول لأنه اكتُشف أولًا، لكن النظام الشمسي الثاني له دورٌ أسبق في عملية البناء الضوئي؛ ولذا سنبدأ من هناك. النظام الضوئي الثاني تكتلٌ ضخم مكوَّن من نحو عشرين وحدة فرعية بروتينية، ومائة عامل مرافق أو نحو ذلك بما في ذلك حوالي خمسة وثلاثين جزيئًا من الكلوروفيل، بالإضافة إلى أيونات معادن وليبيدات وصبغات أخرى متعددة.

تبدأ عملية البناء الضوئي بأن يصطدم فوتون ضوء بجزيء كلوروفيل واحد في النظام الضوئي الثاني (انظر الشكل ٥-١). طاقة ذلك الفوتون (ومن ثَم، طول الموجةِ واللونِ الخاصان به) بالغةُ الأهمية لما سيحدُث بعد ذلك، ويرجع السبب في ذلك إلى أن جزيئات الكلوروفيل تمتص اللونين البنفسجي والأزرق في أحد طرفَي الطيف الضوئي المرئي وتمتص اللونين الأحمر والبرتقالي في الطرَف الآخر. وهذه العملية تترك فجوةً كبيرة من الضوء الأخضر والأصفر في منتصف الطيف المنعكس، وهو ما يعطي النباتات اللونَ الأخضر. في ظاهر الأمر، تبدو هذه العملية غريبةً قليلًا؛ لأن انبعاث الشمس يبلغ ذروته في واقع الأمر ضمن نطاق اللونين الأخضر والأصفر، ومن ثَم ترفض النباتات كميةً كبيرة من الطاقة الشمسية. هذا، وليس واضحًا تمامًا السببُ في تطوُّر النباتات على هذا النحو. قد تكون المسألة بسيطةً مثل حقيقة أن النباتات السوداء — التي تمتص كل الضوء من الطيف المرئي — ربما ترتفع درجة حرارتها.
fig17
شكل ٥-١: تفاعُل البناء الضوئي المعتمِد على الضوء الذي يحدُث في أغشية ثايلاكويدات البلاستيدات الخضراء.
بالعودة إلى عملية البناء الضوئي، لنفترض أن فوتونًا «أزرق» يضرب جزيء كلوروفيل، فإن امتصاص الفوتون يرفع إلكترونًا من الكلوروفيل إلى حالة طاقة أعلى. إذا كان الكلوروفيل في حالة انعزال، فسيعود الإلكترون ببساطة إلى حالته القاعية، ما يؤدي إلى انبعاث الطاقة في صورة ضوء أحمر. في النظام الضوئي الثاني، تُنظَّم مصفوفة الصبغات بدقة لالتقاط طاقة الضوء «الأحمر»، وتكون بمنزلة سلسلة من مستقبِلات الإلكترونات تنقلُ الإلكترونات المثارة عبر النظام الضوئي. انطلاقًا من هناك، تنتقل الإلكترونات عبر الغشاء عبر جزيء محب لليبيدات اسمه البلاستوكوينون، ثم إلى مركَّب البروتين التالي في تفاعُل الضوء الذي يسمَّى السيتوكروم . لكن هذه العملية تترك النظامَ الضوئي الثاني مفتقرًا إلى أحد الإلكترونات. وتوفير الإلكترون تسهِّله منطقةٌ أخرى في النظام الضوئي الثاني تسمَّى مركَّب تقسيم الماء. كما يشير الاسم، فإن هذا المركَّب يستخلص الإلكترونات من الماء، مما يؤدي إلى تكوُّن أيونات الهيدروجين (البروتونات)، ومادة مهدرة وهي الأكسجين. ومن هذه الخطوة الكيميائية الحيوية، ينبعث الأكسجين في الغلاف الجوي.
ينقل السيتوكروم الإلكترونات إلى المستقبِل القابل للذوبان في الماء المسمَّى البلاستوسيانين. وفي هذه العملية، يُضَخ بروتون عبر الغشاء إلى مساحة الثايلاكويد.

في الوقت نفسه، وبداخل مركَّب البروتين الآخر الجامع للضوء — النظام الضوئي الأول — تحدُث عملية مماثلة لتلك التي تحدُث في النظام الضوئي الثاني. هنا أيضًا، يثير الضوء الإلكترونات في الكلوروفيل، ولكن هذه المرة ينتقل الإلكترون إلى الفيريدوكسين، ثم ينتقل عبر الرابط النهائي في السلسلة إلى إنزيمٍ يسمَّى ريدكتاز فوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين والفيريدوكسين. يستخدم هذا الإنزيم الإلكترونات لإعادة شحن فوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل، وهو عامل مرافق أساسي يُستخدم في عمليات الأيض في النبات، وبالتحديد في دورة كالفن، والتي فيها يُحوَّل ثاني أكسيد الكربون إلى جلوكوز. بعد اكتمال كلِّ هذه الخطوات، يُترك النظام الضوئي الأول أيضًا به إلكترونات مفقودة، ولكنه لا يتمكَّن من استخلاصها من الماء؛ بدلًا من ذلك، يستقبل الإلكترون الذي جرى إيداعه في البلاستوسيانين في مرحلة سابقة من العملية.

في الوقت نفسه، تتراكم البروتونات من مركَّب تقسيم الماء الخاص بالنظام الضوئي الثاني والسيتوكروم داخل مساحة الثايلاكويد. تكون النتيجة ارتفاعَ تركيز البروتونات داخل مساحة الثايلاكويد مقارنةً بخارجها. هذا التدرُّج البروتوني في الحقيقة مَخزن للطاقة الكامنة. ومثلما يتدفَّق الماء من أعلى عبر توربين لتحويل الطاقة الحركية الكامنة إلى كهرباء، تتدفَّق البروتونات عبر بروتين آخرَ يسمَّى سينثاز الأدينوسين الثلاثي الفوسفات (والذي حتى يدور مثل التوربين)، ما يتسبَّب في تحوُّل الأدينوسين الثنائي الفوسفات وأيون فوسفات (Pi) إلى الأدينوسين الثلاثي الفوسفات.

يمكن تلخيص هذه العملية المذهلة برُمَّتها — بما في ذلك مركَّبات البروتين الأربعة وعواملها المرافقة المتعددة — في مخطط تفاعُل واحد بسيط، وهو كالتالي:

لعلكم لاحظتم أنه لا توجد أيُّ علامة على وجود ثاني أكسيد الكربون أو الكربوهيدرات حتى الآن. يرجع السبب إلى أن العملية الآنفة الذكر لا تشكِّل سوى ما يسمَّى بتفاعلات الضوء، التي تشكِّل نصف عملية البناء الضوئي. يرتبط النصف الثاني من العملية بتفاعلات الظلام. وفي الواقع، لا تحدُث تفاعلات الظلام، والتي يُطلق عليها أيضًا دورة كالفن، في الظلام. لكن الضوء ليس له دورٌ مباشر في التفاعلات، ومن هنا جاء الاسم المضلل قليلًا. في هذا الجزء من العملية، يُستخدم الأدينوسين الثلاثي الفوسفات، وفوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل، اللذان كوَّنتهما تفاعلات الضوء لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى لِبنات بناء الكربوهيدرات.

تفاعلات الظلام

تقوم كل أشكال الحياة على الأرض على كيمياء الكربون؛ فكل البروتينات والليبيدات والأحماض النووية والهرمونات والكربوهيدرات مبنيةٌ على سِقَالة قائمة على الكربون. كذلك المصدر الأساسي للكربون في الغلاف الحيوي هو ثاني أكسيد الكربون، ولا يوجد سوى إنزيم واحد يقود عملية استخلاصه من الهواء وإدخاله في النظام البيئي. يسمَّى هذا الإنزيم كربوكسيلاز/أوكسيجيناز ريبولوز-١، ٥-ثنائي الفوسفات، ويُعرف اختصارًا باسم إنزيم روبيسكو، ويوجد بداخل البلاستيدات الخضراء في النباتات كما أنه محور الحياة. يخزِّن إنزيم روبيسكو الطاقةَ الكيميائية بداخل الإلكترونات العالية الطاقة في الروابط المستقرة بين ذرات الكربون في الكربوهيدرات. تبيِّن بعضُ الأرقام المذهلة مدى أهمية هذا الإنزيم للحياة على الأرض. عادةً ما يكوِّن إنزيم روبيسكو نحو ٥٠ بالمائة من البروتين في ورقة النبات، وهذا يعني أنه ربما هناك ٤ × ١٠١٠ كيلوجرامات من هذا الإنزيم منتشرة في العالم، وهذه الإنزيمات جملةً تثبِت ما يقرُب من ١٠٠ جيجا طن من الكربون كل عام، وهو ما يساوي خمسين ضعف كتلة البشر على الأرض.
لكن على الرغم من دور إنزيم روبيسكو الحيوي في النظام البيئي، فإنه غيرُ كفؤ باعتباره إنزيمًا. فليس بإمكانه معالجة سوى بضعة جزيئات من ثاني أكسيد الكربون في الثانية (قارن بينه وبين معدَّل دوران (kcat) الكتالاز؛ إذ يعالج ما يقرُب من مليون جزيء في الثانية). لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنه كثيرًا ما يرتكب أخطاء؛ فهو معرَّض لأن يستخدم الأكسجين في صورة ركيزة بدلًا من ثاني أكسيد الكربون. وعندما يفعل ذلك، يؤدي ذلك إلى تكوُّن مركَّب سامٍّ يسمَّى ٢-فوسفوجليكولات، وحينها يضطر النبات إلى بذل مجهود كبير للتخلص منه. قد يرجع السببُ في عدم الكفاءة واللانوعية الشديدة لإنزيم روبيسكو إلى السقوط في فخ تطوري. فعندما ظهرت عمليةُ البناء الضوئي لأول مرة باعتبارها عمليةً حيوية، كانت مستويات الأكسجين في الجو منخفضة للغاية، ومن ثَم لم يكن هناك أيُّ ضغط تطوري بحيث يميز النبات بين ثاني أكسيد الكربون والأكسجين الجزيئي. باختصار، ما كان التفاعل الثانوي السام ليسبِّب مشكلة. لكن مع ارتفاع مستويات الأكسجين، بدأ تأثير التفاعل السام؛ فقد بدأت النباتات تفرز المزيدَ والمزيد من مركَّب ٢-فوسفوجليكولات، ومن ثَم سمَّمت نفسها. واستجابةً لذلك، كان على إنزيم روبيسكو أن يتطوَّر ليكون نوعيًّا أكثرَ لثاني أكسيد الكربون. يوجد بوجه عام ارتباطٌ عكسي بين نوعية الإنزيم وسرعته؛ لذا، عندما تطوَّر إنزيم روبيسكو للتمييز بين الغازين، تباطأ نشاطه التحفيزي بدوره. والآن، وبعد مئات الملايين من السنين، لا تزال النباتات الحديثة تتعامل مع نفاياتها «السامة»، ولكن التطوُّر قدَّم مقايضةً تتمثَّل في تقليل الكفاءة في مقابل زيادة النوعية.

إنزيم روبيسكو — مثل النظام الضوئي الأول والنظام الضوئي الثاني — هو مركَّب بروتين ضخم آخر، وفي النباتات هو يتركَّب من ثماني نسخٍ متطابقة من وحدة بروتينية فرعية كبيرة (مشفَّرة بالدي إن إيه الخاص بالبلاستيدات الخضراء)، وثماني نسخٍ متطابقة من وحدة فرعية أصغر (مشفَّرة بالدي إن إيه الخاص بالنواة)؛ ومعًا يكوِّن كلُّ هذا بنيةً تشبه الكرة تبلغ كتلتها الذرية ٥٤٠٠٠٠؛ أي أكبر تقريبًا بمقدار ١٢ ألف مرة من جزيئات ثاني أكسيد الكربون التي يستخلصها الإنزيم من الهواء. يتكوَّن موقع ربط ثاني أكسيد الكربون الخاص بإنزيم روبيسكو من ثماني سلاسل جانبية ذات أحماض أمينية وأيون مغنيسيوم وظيفتهما تثبيت ثاني أكسيد الكربون مدةً طويلة بالقدْر الكافي، بحيث يضاف إلى مركَّب يتكوَّن من خمس ذرات كربون يسمَّى ريبولوز-١، ٥-ثنائي الفوسفات. وينتج عن هذا التفاعل مركَّب غير مستقر يتكوَّن من ست ذرات كربون، وهو ٣-كيتو-٢-كربوكسيارابينيتول-١، ٥-ثنائي الفوسفات، وهذا المركَّب يتفكك على نحوٍ شبه فوري ليخلِّف جزيئين بثلاث ذرات كربون من جليسيرات-٣-الفوسفات.

ببساطة، تتمثَّل وظيفة باقي تفاعلات الظلام في إعادة توليد ركيزة ريبولوز-١، ٥-ثنائي الفوسفات من أجل إنزيم روبيسكو. يحدُث هذا في عددٍ من الخطوات التي تشهد إدخالَ معظم إنتاج جليسيرات-٣-الفوسفات الخاص بإنزيم روبيسكو، بالإضافة إلى الأدينوسين الثلاثي الفوسفات، وفوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل، اللذين يتشكَّلان في تفاعل الضوء، في دورة كالفن لإنتاج مركَّب ريبولوز-١، ٥-ثنائي الفوسفات جديد لإنزيم روبيسكو كي يتفاعل مرة أخرى مع جزيء آخر من جزيئات ثاني أكسيد الكربون. يعني القياس الكمي الكيميائي للدورة أنه من كل ستة من جزيئات جليسيرات-٣-الفوسفات (ثماني عشرة ذرة كربون) ينتجها إنزيم روبيسكو، فإنه يعاد استخدام خمسٍ منها في الدورة لإنتاج ثلاثة مركَّبات من ريبولوز-١، ٥-ثنائي الفوسفات (خمس عشرة ذرة كربون). وهذا يعني أنه من أجل تصنيع جزيء واحد إضافي من جليسيرات-٣-الفوسفات، فإن الدورة ينبغي أن تكتمل ثلاث مرات، وذلك على حساب تسعة جزيئات من الأدينوسين الثلاثي الفوسفات وستة جزيئات من فوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل. ومن هنا فصاعدًا، تتباين عملياتُ الأيض بسرعة. يبقى قدْر من هذا الفائض الضئيل من جليسيرات-٣-الفوسفات في البلاستيدات الخضراء حيث يرتبط جزيئان لتكوين الجلوكوز. وقد ينتهي هذا الجلوكوز — بالإضافة إلى أشياء أخرى — في شكل مشتقات نيوكليوتيد أو يُخزَّن في صورة نشا. في الوقت نفسه، تُنقل جزيئات جليسيرات-٣-فوسفات الأخرى من البلاستيدات الخضراء وتتحوَّل إلى فركتوز-٦-فوسفات وسكروز، وغير ذلك الكثير.

يتمثَّل جوهر عملية البناء الضوئي في تحويل النباتات للضوء وثاني أكسيد الكربون إلى سكريات وكربوهيدرات. بعد ذلك، تستخدم الكائنات الأخرى — ومنها الإنسان — الطاقةَ الكيميائية المخزَّنة في هذه الكربوهيدرات، وفي تلك العملية تُطلِق ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي مرة أخرى.

تحلُّل الجلوكوز

في البداية، كان للأكسجين الناتج عن البكتيريا الزرقاء القادرة على القيام بعملية البناء الضوئي تأثير ضئيل في الغلاف الجوي؛ إذ تسبَّب معظم الأكسجين ببساطة في صدأ الحديد الموجود في القشرة الأرضية. لكن بعد ٢٠٠ مليون سنة، أصبح مصرف الأكسجين هذا مشبَّعًا، ونتيجة لذلك أحدثت الكيمياء الحيوية أولَ أكبرِ تأثير لها في جيولوجيا الأرض. ولما لم يكن هناك مكان آخر ينتقل إليه الأكسجين، تراكم في المحيطات والغلاف الجوي، ومن ثَم، غيَّرت الحياة كيمياء هواء الكوكب وبِحاره على حد سواء. وسرعان ما تكيَّفت الحياة مع هذه الظروف الجديدة، ومن ثَم انتشرت الكائنات الحية التي اعتمدت على الأكسجين الناتج عن عملية البناء الضوئي، وذلك في غضون ٦٠٠ مليون سنة أخرى. أدَّت القدرة على استخدام الأكسجين إلى انتشار الكائنات الحية المتعددة الخلايا على الأرض. وقبل هذا، كانت قد تمكَّنت الحياة من البقاء — بأشكال بسيطة نسبيًّا — من دون الأكسجين مدة ملياري سنة تقريبًا.

وبشأن بقايا العملية الكيميائية الحيوية التي قيَّدت الحياة على الأرض التي سبقت انتشار الأكسجين فيها، فإنها لا تزال تشكِّل بدايةَ مسار الأيض الذي يحوِّل الجلوكوز إلى عملة الطاقة الكيميائية في الخلية الممثَّلة في الأدينوسين الثلاثي الفوسفات. تسمَّى هذه العملية بتحلل الجلوكوز، وهي عبارة عن مسارٍ مكوَّن من عشر خطوات، كل مرحلة فيها يحفِّزها بروتين معيَّن. وينتج عن تحلُّل الجلوكوز جزيئان من الأدينوسين الثلاثي الفوسفات وجزيئان من ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل وجزيء من البيروفات. لا يمثل الأدينوسين الثلاثي الفوسفات سوى جزء من الطاقة الكامنة المحتجزة في الجلوكوز (إذ لا يزال معظمها محتجَزًا في البيروفات)، ولكن في غياب الأكسجين، لا تستطيع الخلية أن تفعل الكثيرَ سوى إعادة توليد جزيء ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المؤكسد الذي يدخل مرةً أخرى في مسار تحلُّل الجلوكوز. تنفِّذ الحيوانات وبعض البكتيريا (مثل المكورة اللبنية، وهي الكائنات الدقيقة التي سبق ذكرُها في بداية الكتاب) ذلك بتحويل البيروفات إلى لاكتات عبر إنزيم نازع هيدروجين اللاكتات. وفي الوقت نفسه، تضيف الخميرة خطوتين في نهاية مسار تحلُّل الجلوكوز ما يؤدي إلى عملية تخمُّر الإيثانول. تتكوَّن هذه العملية من تحويل البيروفات إلى أسيتالدهيد وثاني أكسيد الكربون (ومن هنا تظهر الفقاقيع في الجِعَة)، ثم يأتي عمل إنزيم يسمَّى نازع هيدروجين الكحول الذي يحفِّز تكوين الإيثانول من الأسيتالدهيد.

يظهر إنزيم نازع هيدروجين الإيثانول أيضًا في الكائنات الحية التي لا تخمِّر الإيثانول، ومنها البشَر. إن الهدف منه في هذه الحالات تصادف أنه يوضح سِمة مثيرة للاهتمام للإنزيمات، وهي إمكانية عملها في الاتجاهين معًا. في الخميرة، يحوِّل الإنزيم الأسيتالدهيد إلى إيثانول، ولكن عندما نحتسي الكحول، فإن نسخةً مماثلة من الإنزيم تحوِّل الإيثانول إلى أسيتالدهيد. (إن الأسيتالدهيد هذا الذي درجة السُّمية فيه أعلى من الإيثانول هو ما يؤدي إلى آثارِ السكَّر السيئة.)

يتطلَّب الوصول إلى باقي الطاقة من الجلوكوز إلى عامل أكسدة. قبل تراكم الأكسجين في الغلاف الجوي، لم تكن هناك مادةٌ كيميائية متوافرة لتنجز هذه المهمة. ومثلما لم تكن هناك نيرانٌ من دون أكسجين حر في الغلاف الجوي، لم يكن أيضًا بمقدور الكائنات الحية أن «تحرق» الجلوكوز بالكامل. ومن ثَم اقتصرت الحياة على الكائنات الحية الأحادية الخلية البسيطة. لكن كل هذا تغيَّر عقبَ ما يسمَّى بحدث الأكسجة العظيم، ومع تزايد مستويات الأكسجين رويدًا رويدًا تطوَّرت كيمياء حيوية جديدة كي تستفيد من الفرص الكيميائية التي توفِّرها القدرة التفاعلية للأكسجين.

آخر الخطوات اللاهوائية غير الفعَّالة حلَّ محلَّها عملية دقيقة تحدُث بالكامل في محطة الطاقة الخاصة بالخلايا وهي الميتوكوندريا. توجد هذه العضيات المحاطة بالأغشية في حقيقيات النوى، وهي شأنها شأن البلاستيدات الخضراء نشأت من البكتيريا الحرة، وهي متخصصة في الكيمياء الحيوية لاستخلاص الطاقة الكامنة من الكربوهيدرات (والدهون، ولكننا لن نستكشف هذه المسارات هنا من أجل الإيجاز). وأغشية الميتوكوندريا ليست مجرَّد وسائل لاحتواء التفاعلات، بل إن لها أدوارًا حيوية في العملية برُمَّتها، وذلك كما سنرى. في الحقيقة، يلزم توافر مساحات كبيرة من الأغشية، ما يؤدي إلى ظهور أغشية ميتوكوندريا داخلية ذات تجاعيد وطيات كثيرة. وهذه الأغشية بدروها يجرى تضمينها في غشاء ميتوكوندريا خارجي أملس. الغشاء الخارجي قابلٌ للنفاذ بالكامل من قِبل نواتج الأيض، ومن ثَم فإنه يُثبت فقط الغشاء الداخلي في مكانه. لكن الغشاء الداخلي يمتاز بدرجةٍ انتقائية أكبرَ بكثير. وذلك ينشئ التحدي الأول المتمثِّل في أن تحلل الجلوكوز يحدث بداخل العصارة الخلوية (وهي جزء يوجد داخل الخلية، ولكن خارج العضيات) للخلية، ومن ثَم قبل أن يكون بالإمكان حدوثُ أي تدخُّل، تحتاج البيروفات إلى أن تُنقل إلى الميتوكوندريا. وقد اتضح هذا منذ اللحظة التي صار فيها دور الميتوكوندريا واضحًا. وعلى الرغم من ذلك، استغرق الأمر أربعين سنة من البحث قبل (في عام ٢٠١٢) تحديد حاملات بيروفات الميتوكوندريا في النهاية.

بمجرد أن تمكَّنت البيروفات من الدخول إلى الميتوكوندريا، يبدأ جديًّا استخلاص الطاقة الكيميائية المتبقية من الجلوكوز. أولًا، يتحوَّل البيروفات إلى أسيتيل مرافق الإنزيم A. يُغذى هذا في مخطَّط تفاعل دائري يُعرف باسم دورة حمض الستريك (أو دورة كريبس نسبةً إلى هانس أدولف كريبس الذي اكتشفها هو ويليام آرثر جونسون عام ١٩٣٧). وبداخل هذه الدورة، يرتبط أسيتيل مرافق الإنزيم A بالأوكسالوأسيتات لتكوين السترات. تكتمل الدورة بسبع خطوات أخرى (بحيث تكون ثماني خطوات في المجمل) وتعيد إنتاج الأوكسالوأسيتات الجاهز لدورة أخرى. في تلك العملية، يتفكَّك البيروفات إلى ثاني أكسيد الكربون وماء. النواتج الكيميائية الحيوية لكل هذا في دورة واحدة هي أربعة، وهي ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل وثنائي نيوكليوتيد الفلافين والأدينين المختزل، وأربعة بروتونات وجزيء جوانين ثلاثي الفوسفات (والذي له وظيفة شبيهة بوظيفة الأدينوسين الثلاثي الفوسفات). يُحتجز كل هذا داخل مصفوفة الميتوكوندريا، وبسبب ما سيحدث بعد ذلك، لا تقلُّ أهمية هذا الموقع عن أهمية الجزيئات نفسها.

ترتبط المرحلة النهائية من العملية بنظرية التناضح الكمي لبيتر ميتشل. في عام ١٩٦١، وصف ميتشل الآلية الجوهرية لتحويل الطاقة في الكيمياء الحيوية (على الرغم من أنها كانت مثيرة للجدل بشدة حينذاك لأنها تتعارض مع النظريات السائدة وقتها). تنص النظرية في الأساس على أن الطاقة المحتجَزة تُستخدم لنقل البروتونات عبر الغشاء (وقد تطرَّقنا إلى هذا الموضوع عندما تناولنا تفاعلات الظلام في البناء الضوئي). ويولِّد هذا تركيزًا عاليًا من البروتونات على جانبٍ من الغشاء، وتركيزًا منخفضًا في الجانب الآخر. حركة البروتونات العكسية عبر الغشاء من خلال مركَّب الأتباز تحفِّز تكوين الأدينوسين الثلاثي الفوسفات. وهنا تكمُن أهميةُ الغشاء الشديدة؛ حيث إنه يشكِّل الحاجز بين التركيزات العالية والمنخفضة للبروتونات.

مكوِّن آخر يربط دورةَ السترات وإنزيم الأتباز، وهو البروتينات في مركَّب نقل الإلكترونات. هذه البروتينات تقبل الإلكترونات التي يحملها ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل وثنائي نيوكليوتيد الفلافين والأدينين المختزل. تكون الإلكترونات في حالة طاقة عالية، وتتحكَّم البروتينات في تقليل حالات طاقاتها. وبينما تفعل ذلك، فإنها توجِّه تلك الطاقة لضخ البروتونات عبر الغشاء الداخلي وخارج مصفوفة الميتوكوندريا. وهذا يولِّد القوةَ الدافعة للبروتونات والتي تُستخدم لدفع إنزيم الأتباز وإنتاج الأدينوسين الثلاثي الفوسفات. تُنتِج الميتوكوندريا الهوائية مجتمعةً صافي اثنين وثلاثين جزيئًا من الأدينوسين الثلاثي الفوسفات (عند مراعاة تكلفة النقل) من جزيء الجلوكوز، وهو تحسُّن كبير مقارنةً بجزيئي الأدينوسين الثلاثي الفوسفات الناتجين من عملية تحلُّل الجلوكوز.

بدأتُ هذا القسم بذكرِ أهمية الأكسجين. لكن لن تفوتكم ملاحظة أنه حتى الآن لم يظهر في أيٍّ من التفاعلات. في الحقيقة، دوره بسيط لدرجةِ أنه يسهُل تجاهله، وسط تعقيد الدورات والناقلات وغير ذلك. في مركَّب نقل الإلكترونات الأخير، تحتاج الإلكترونات إلى مكانٍ تذهب إليه، وإلا فسيحدث تراكمٌ في السلسلة وتتوقَّف محطة طاقة الميتوكوندريا بالكامل عن العمل. إن الأكسجين يكون بمنزلة مستقبِل الإلكترونات النهائي هذا، وكهربائيته السالبة تجعله مثاليًّا لهذه المهمة، وبما أنه من مصدرٍ خارجي للكائن الحي ومتوافر بكثرة في الغلاف الجوي، فإنه يوجد قدْر كبير وجاهز منه. ومن ثَم فإن التفاعل النهائي في التعقيد المتمثِّل في تنفُّس الهواء بسيط للغاية؛ يتَّحد جزيء أكسجين ( ) بالإضافة إلى أربعة إلكترونات وبروتونين لتكوين جزيئين من الماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤