الفصل السادس

تصنيع الدي إن إيه وصيانته

تضاعُف الدي إن إيه

بعد استنتاج بنية الدي إن إيه، قال واتسون وكريك: «لم يغِب عنَّا أن الاقتران المحدَّد الذي افترضناه يشير من فوره إلى آلية نسخٍ محتملة للمادة الوراثية.» لقد كانا يلمِّحان إلى ملاحظتهما بأن اللولب المزدوج يمكن فصلُه إلى شريطين فرديين، يكون كل شريط منهما بمنزلة قالب يمكن أن تتجمَّع عليه أشرطة جديدة. هذه العبارة البسيطة لا يمكنها حتى التعبير ولو قليلًا عن مدى جسامة المهمة التي يكون على الكائنات الحية القيام بها، وهي تَضاعف الدي إن إيه الخاص بها بالكامل بسرعة ودقة. لكن ربما يحدُث ذلك لو عرضنا بعض الحسابات التقريبية:

المسافة بين أزواج القواعد في الدي إن إيه تساوي ٠٫٣٤ نانومتر. ويتكوَّن جينوم الإنسان من حوالي ثلاثة مليارات زوج قاعدة، ومن ثَم تحتوي كلُّ خلية على حوالي متر واحد من الدي إن إيه الثنائي الأشرطة. يقدَّر أن جسم الإنسان يتكوَّن من نحو ٣٧ تريليون خلية، وهو ما يعني أن هناك ٣٧ مليار كيلومتر إجمالًا من الدي إن إيه داخل جسمك، وهذا يكفي أن يمتد من الشمس حتى كوكب نبتون ذهابًا وإيابًا أربع مرات. وإذا لم يكن هذا مثيرًا للاهتمام بالقدْر الكافي، فإن الخلية تتكاثر ٣٠٠ مرة في المتوسط، ومن ثَم يصبح الطول الإجمالي الذي يُصنع على مدى حياة الإنسان من الدي إن إيه أكثرَ من ١١ تريليون كيلومتر. وإذا تمكَّنت من فردِ هذا على خط طويل، فسيستغرق الضوء ١٤ شهرًا كي يقطع المسافةَ من طرَف إلى الآخر. بعبارة أخرى، قبل أن تموت سيصنع جسمُك على الأرجح دي إن إيه يزيد طولُه على مسافة سنة ضوئية!

الأعجب في هذا كله أن الكيمياء الحيوية في جسم الإنسان تستطيع صنْع كل الدي إن إيه هذا بدقةٍ مذهلة. ومعدَّل الخطأ بوجه عام هو فقط خطأ واحد لكل مليار زوج قاعدة. وهذا يعادل كتابةَ نُسخٍ من أعمال شكسبير الكاملة بمعدل خطأ مطبعي واحد فقط في كل ألفي نسخة.

قبل تناول الأمثلة الرائعة على الآلة الجزيئية التي تجعل كلَّ هذا ممكنًا، حريٌّ بنا دراسة الآلية التي كان يشير إليها واتسون وكريك. فقد أشارا إلى أن اللولب المزدوج في الدي إن إيه يسهُل فصله إلى شريطين، بحيث يصبح كل شريط منهما بمنزلة قالب لتصنيع شريط تكميلي جديد. عُرف هذا باسم التضاعف شبه المحافظ، إشارةً إلى أن كل لولب مزدوج فرعي من الدي إن إيه احتوى على شريط واحد جديد، وشريط آخر قديم احتُفظ به من الجزيء الأصلي.

اضطُر الدليل على ذلك أن ينتظر خمس سنوات بعد نشرِ بنية اللولب المزدوج التي توصَّل إليها واتسون وكريك؛ إذ انتظر تصميمَ تجربة رائعة على يد كلٍّ من ماثيو مسيلسون وفرانكلين ستال (انظر الشكل ٦-١). فقد أنميا بكتيريا في وسيطٍ يحتوي على نظير ثقيل من النيتروجين ( ). أدمجت البكتيريا هذا النظير في الدي إن إيه الخاص بها. عندئذٍ، حوَّل مسيلسون وستال وسيط النمو إلى نيتروجين أخف ( )، وتركا البكتيريا تنمو مدة جيل واحد فقط. وعندما استخرجا الدي إن إيه من هذه البكتيريا وتحقَّقا من كثافته، وجدا أنها تقع في المنتصف تمامًا بين تلك الخاصة بالدي إن إيه النقي المحتوي على ، وذلك المحتوي على . كانت هذه إشارة على أن كل شريط من اللولب المزدوج احتوى على نسبة ٥٠ : ٥٠ من الدي إن إيه القديم والجديد. لكن هذا لم يثبِت حدوثَ عملية تضاعُف شبه محافظ وليس تضاعفًا مبعثرًا، الذي من خلاله سيحتوي كل شريط فرعي على مزيج من الدي إن إيه القديم والجديد؛ إذ كلاهما كانا سيؤديان إلى هذه النتيجة. ولذا، ترك مسيلسون وستال البكتيريا تنمو مدة جيل آخر في وسيط . أدَّت هذه التجربة إلى مجموعتين من الدي إن إيه الثنائي الأشرطة: مجموعة تحتوي على دي إن إيه بشريطين محتويين على (شريط من الدي إن إيه المضاعَف حديثًا وشريط من الدي إن إيه الأصلي)، ومجموعة أخرى تحتوي على مزيج من الدي إن إيه المحتوي على (من الدي إن إيه الأصلي)، وشريط من الدي إن إيه المحتوي على المضاعَف حديثًا. الطريقة الوحيدة لحدوث ذلك هو بقاء كل شريط من الدي إن إيه كما هو في أثناء عملية التضاعف ونقله إلى الجيل التالي، مما يثبت حدوث التضاعف شبه المحافظ.
fig18
شكل ٦-١: تجربة مسيلسون وستال التي أثبتت التضاعفَ شبه المحافظ للدي إن إيه.

المفهوم الذي يقف وراء التضاعف شبه المحافظ بسيطٌ للغاية؛ فكل ما يتطلبه هو انفصال شريطَي اللولب المزدوج في الدي إن إيه ونسخ الشريطين الفرديين الناتجين. لكن الآلية المتَّبعة في هذا الشأن أعقدُ بكثير. فهذا العمل الفذُّ تنسِّقه مجموعةٌ تصل إلى عشرين بروتينًا، وتعمل بطريقة متآزرة، ويطلق عليها مجتمعةً جسيم التضاعُف أو الريبليسوم. لكن هذه العملية في حقيقيات النوى وبدائيات النوى مختلِفة بعضَ الشيء، وتوضيحًا لتلك الآلية، سنتناول فقط النظامَ الأبسط الخاص بإحدى بدائيات النوى، وهي بكتيريا الإشريكية القولونية.

جينوم البكتيريا دائريُّ الشكل؛ لذا فإن الخطوة الأولى هي تحديدُ نقطة البداية في هذه الحلقة. وهذا يحدُث في تسلسل معيَّن من الدي إن إيه يسمَّى أصل التضاعف. ترتبط قُرابة عشرين نسخة من بروتين يسمَّى DnaA بتلك المنطقة، ومعًا تفصل الشريطين بعضهما عن بعض، ما يؤدي إلى تكوُّن حلقة من الدي إن إيه الأحادي الأشرطة، وإحاطتها بقسمين من اللولب المزدوج. إن قدرات البروتين DnaA محدودة؛ فكلُّ ما يفعله هو الإبقاء على هذه المنطقة مفتوحة، ولا يستطيع تعميم هذا الفتح. أما وظيفة فك باقي الدي إن إيه فتئول إلى إنزيم هيليكاز يسمَّى DnaB. يرتبط هذا الإنزيم بالدي إن إيه الأحادي الأشرطة الذي أنشأه البروتين DnaA، ثم يشقُّ طريقه — مدعومًا بالأدينوسين الثلاثي الفوسفات — عبر الشريط الأحادي بحيث يبثقه من خلال مركز بنيته التي تشبه البرميل. ونتيجةً لذلك، يُدفع الشريط التكميلي إلى خارج البرميل، ومن ثَم يصبح الإنزيم DnaB بمنزلة إسفين يحشر نفسه بين الشريطين. وفي أعقاب ذلك، ترتبط بروتينات ربط الدي إن إيه الأحادي الأشرطة بالدي إن إيه المنفصل حديثًا، ما يضمن عدمَ إعادة ارتباط شريطيه معًا مرة أخرى. هناك شيء ينبغي أن يحدُث قبل بدء عملية النَّسخ الفعلي. إذ ينشئ إنزيم آخر — بريماز الآر إن إيه — أجزاءً صغيرة من الآر إن إيه التكميلي، ومن هذه الأجزاء، يبدأ إنزيم بوليميراز الدي إن إيه في إنشاء أشرطة الدي إن إيه الجديدة.
في الحقيقة، توجد على الأقل خمسة إنزيمات بوليميراز دي إن إيه في بكتيريا الإشريكية القولونية، التي يشترك ثلاثة منها في عملية التضاعف العادية. إنزيم بوليميراز الدي إن إيه الثالث (Pol III)، الذي هو عبارة عن مركَّب ضخم يتكوَّن من سبع عشرة وحدة فرعية، لديه القدرة على العمل مع ألف نيوكليوتيدة تقريبًا في الثانية، ومن ثَم يقوم بنصيب الأسد من العمل. أما إنزيما بوليميراز الدي إن إيه الأول (Pol I) والثاني (Pol II) فأصغر بكثير، ولهما وحدة فرعية واحدة. يناط بإنزيم البوليميراز الثاني إصلاح التلف والعمل بمنزلة إنزيم بوليميراز احتياطي. وفي نفس الوقت، يبدِّل إنزيم البوليميراز الأول بادئات الآر إن إيه، ويضع مكانها الدي إن إيه، كذا له دورٌ في تصحيح الأخطاء. لكن إنزيمي البوليميراز الرابع (Pol IV) والخامس (Pol V) لا يتدخَّلان إلا إذا حدثت مشكلة مع إنزيمات بوليميراز التضاعف. كذلك قد يؤدي حدوث تلفٍ في الدي إن إيه إلى مناطقَ تالفة تشبه انبعاج خطوط السكك الحديدية، وحينئذٍ يتوقَّف إنزيم البوليميراز الثالث عند شوكة التضاعف. عندئذٍ يتدخَّل إنزيما البوليميراز الرابع والخامس لإصلاح العيب وإرجاع قطار إنزيم البوليميراز الثالث إلى مساره.
من حيث الجوهر، تحفِّز كلُّ إنزيمات البوليميراز هذه التفاعلَ نفسه، المتمثِّل في إضافة نيوكليوتيدة منقوصة الأكسجين (النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين - dNTP) إلى الطرَف ٣ من الحمض النووي (سواء الدي إن إيه أو الآر إن إيه). يحتاج العديد من المكوِّنات إلى الارتباط معًا داخل الموقع النشط لإنزيم البوليميراز حتى يتحقَّق ذلك: الدي إن إيه القالب، والطرَف ٣ للحمض النووي، ونيوكليوتيدة ثلاثية الفوسفات منقوصة الأكسجين حرة، واثنين من أيونات المغنيسيوم.
تُكوِّن أيونات المغنيسيوم الموجبة تفاعلاتٍ إلكتروستاتية مع مجموعات الفوسفات في النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين والسلاسل الجانبية للأسبارتات داخل الموقع النشط للإنزيم (انظر الشكل ٦-٢). وهذا يساعد على استقرار اقتران قواعد النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين مع الدي إن إيه القالب. ويساعد أحد أيونات المغنيسيوم أيضًا في نزع بروتون ، الذي يمكن أن يشكِّل بعد ذلك رابطةً تساهمية مع مجموعة الفوسفات الأولى في النيوكليوتيدة. وفي تلك العملية، تتحرَّر مجموعتا الفوسفات الباقيتان وينتقل إنزيم البوليميراز إلى القاعدة التالية في الدي إن إيه القالب.
fig19
شكل ٦-٢: الموقع النشط لإنزيم بوليميراز الدي إن إيه.
إنزيمات بوليميراز الدي إن إيه إنزيماتٌ غير عادية من عدة نواحٍ، فموقعها النشط يمكن أن يستوعب أربع مواد متفاعلة منفصلة، ونقصد بذلك أيًّا من أزواج القواعد الصحيحة وهي C-G وG-C وA-T وT-A. ليس هذا فحسب، بل تُستبعد عمليات الاقتران غير الصحيحة هندسيًّا من الموقع النشط، ما يقلِّل بنحو كبير من فرصِ عدم التطابق في الدي إن إيه الناتج.
عند هذه النقطة تتعقَّد الأمور؛ لأن إنزيم بوليميراز الدي إن إيه له تقييد خطِر. إنه لا يستطيع التحرُّك إلا في اتجاه واحد (من الطرَف ٥ إلى الطرَف ٣ ) بطول الشريط. بالنسبة إلى الشريط الأول (المتقدِّم)، هذه ليست مشكلة؛ حيث يبدأ إنزيم البوليميراز من بادئة الآر إن إيه الخاصة به، ثم يتبع شوكة التضاعف الدائمة الحركة التي يولِّدها إنزيم الهيليكاز، ما يؤدي إلى ظهور شريط تكميلي واحد متصل من الدي إن إيه أثناء تقدُّمه. في نفس الوقت، في الشريط الآخر (المتأخِّر)، فإنَّ بادئة الآر إن إيه يولِّدها — بنحو متقطِّع — إنزيم بريماز آر إن إيه مرتبط بالجزء الخلفي من إنزيم الهيليكاز. يبدأ إنزيم بوليميراز الدي إن إيه عند هذه البادئات ويتحرَّك بعيدًا عن شوكة التضاعف حتى يصادف الطرَف الخلفي لشظيةٍ سبق تكوينها. عندئذٍ، ينفصل إنزيم البوليميراز ويرتبط مرةً أخرى عند شوكة التضاعف (انظر الشكل ٦-٣). ينتج عن هذه الآلية المعقَّدة في ظاهرها سلسلةٌ من القِطَع غير المترابطة (تسمَّى شظايا أوكازاكي) تكون بحاجة إلى ربطِها بعضها ببعض عبر إنزيم آخرَ يسمَّى إنزيم ليجاز الدي إن إيه.
fig20
شكل ٦-٣: شوكة تضاعُف الدي إن إيه. إنزيم هيليكاز يفكِّك اللولب المزدوج، في حين تنشئ إنزيمات بوليميراز الدي إن إيه أشرطةً جديدة من الدي إن إيه. في الشريط المتقدِّم، تنجَز هذه المهمة على نحوٍ متصل، ولكنها تتم على نحوٍ متقطع في الشريط المتأخِّر.

بالإضافة إلى إنزيمات البوليميراز والهيليكاز والليجاز وغيرها، فإنه توجد بروتينات أخرى أكثر داخل جسيم التضاعف تقوم بوظائفَ مثل تشبيك إنزيمات البوليميراز بالدي إن إيه، وحتى البنيات التي تُحمِّل المشابك في إنزيمات البوليميراز. لن أتطرَّق إلى تفاصيل هذه البروتينات، ولكني أود أن أضع بين يدي القارئ بروتينًا آخرَ في جسيم التضاعف، ولا يوجد سببٌ في رغبتي تلك سوى أنني اكتشفت قدرتَه على التعامل مع عدة أشرطة من الدي إن إيه بطريقة رائعة. يسمَّى هذا الإنزيم جايريز الدي إن إيه، ووظيفته يمكن توضحيها على الوجه الأكمل من خلال مثال توضيحي.

إذا شُدَّ شريط مطاطي أو حلقة خيط طويلة بين إصبعين ثم لُفَّت بحيث تتكون فيها خمس أو ست لفات، فإن الجزء الملتف يكاد يشبه امتدادَ الدي إن إيه ذي اللولب المزدوج. وإذا أُدخل إصبع الإبهام داخل الحلقة وحُرك باتجاه أحد الطرفين بحيث يدفع الجزء الملفوف مع حركته، فإن إصبع الإبهام يفعل الوظيفة التي يفعلها إنزيم الهيليكاز بالضبط؛ إذ يترك من خلفه أقسامًا أحادية الأشرطة. لكن لا يخفى أن الإصبع لا يفكِّك اللفات، بل يضغطها معًا فقط، بحيث يكوِّن لفاتٍ أكبر وتوترًا عبر الشريط. يؤدي إنزيم الهيليكاز إلى النتيجة نفسها في الدي إن إيه وينفك هذا التوتر بإنزيم جايريز الدي إن إيه. ولإنجاز هذه المهمة، يُحدِث إنزيم جايريز الدي إن إيه قَطعًا في اللولب المزدوج، ويرتبط بجزء آخر من الدي إن إيه، ثم يمرِّر هذا الجزء عبر الفجوة. في النهاية، يصلِح القَطْع ويترُك الدي إن إيه سليمًا دون لفات. ثم يكرر هذه العملية مرارًا وتكرارًا ويبقى طوال الوقت متقدِّمًا على إنزيم هيليكاز الدي إن إيه.

الدِّقة العالية

ذكرتُ من قبلُ أن تضاعُف الدي إن إيه يَحدُث بدقةٍ عالية مثيرة للدهشة، بحيث يقع خطأ واحد كل ١٠ مليارات قاعدة أو نحو ذلك. لكن إنزيمات بوليميراز الدي إن إيه وحدَها لا تتمتَّع بدقة شديدة. فهي تقع في خطأ واحد كل ١٠٠ ألف نيوكليوتيدة أو نحو ذلك، ولذلك تُوجد عملية تصحيح أخطاء في كل مركَّب إنزيم بوليميراز ثالث.

تؤدي كل نيوكليوتيدة مدرَجة بطريقةٍ غير صحيحة إلى تشوُّه في الدي إن إيه، وبإمكان البروتين اكتشاف هذا الخلل التكويني الطفيف. وعندما يقوم بذلك، يتوقَّف إنزيم البوليميراز ويتَّجه إلى الاتجاه المعاكس. عندئذٍ، يحول طرَف السلسلة الجديدة إلى موقع نشط ثانٍ. وهناك، يقتطع إنزيم إكسونيوكلياز النيوكليوتيدة غير الصحيحة. ثم يُعاد الشريطان إلى منطقة إنزيم البوليميراز ويتحرَّك مركَّب الإنزيم بالكامل إلى الأمام مرة أخرى. يقلِّل هذا القدْر البسيط من التحرير من معدَّل الخطأ على نحوٍ كبير، بحيث يقلُّ إلى حوالي واحد في كل عشرة ملايين زوج قاعدة، لكن هذا لا يزال غيرَ كافٍ للحفاظ على سلامة الجينوم.

تحدُث عملية تدقيق أخرى أيضًا بعد التضاعُف بفترة وجيزة. لكن تزيد بشدة صعوبةُ اكتشاف الأخطاء في هذه المرحلة. فعندما يحدُث عدمُ تطابق في أثناء التضاعف، فإن القالب يكون تحت تصرُّف إنزيم بوليميراز الدي إن إيه، ومن ثَم «يعرف» أين يكمُن الخطأ؛ أي في نهاية الشريط المخلَّق حديثًا. لكن إذا لم ينتبه جسيمُ التضاعف إلى عدم التطابق، فكيف ستتعرَّف الخلية على الشريط الذي يحتوي على التسلسل الصحيح وذلك الذي يحمل الخطأ؟ الإجابة ببساطة هي أن بكتيريا الإشريكية القولونية توسم أشرطة الدي إن إيه الخاصة بها. لكن عملية الوسم هذه تأخذ بضع دقائق. لذا في هذه الأثناء تتمكَّن الخلايا من التمييز بين الأشرطة الأصلية والفرعية. وهذا يتيح لنظام إصلاح عدم التطابق أن يتحقَّق من الشريط الفرعي بحثًا عن أخطاء.

تقع مهمة الوسم على عاتق إنزيم ميثيلاز أدينين الدي إن إيه، الذي يربط مجموعات الميثيل ( ) بالأدينين، ولكن فقط عندما يوجد بالتسلسل GATC. هذا التسلسل مهم لأن تسلسله التكميلي هو CTAG؛ أي إنه التسلسل نفسه، ولكن بالعكس. وهذا يعني أنه بمجرد أن يكمِل هذا الإنزيم دورته في الجينوم المخلَّق حديثًا (والتي تستغرق قُرابة دقيقتين)، سيكون هناك العديد من أزواج مجموعات الميثيل المواجهة بعضها بعضًا. يظهر التسلسل GATC بانتظام نسبيًّا في جينوم بكتيريا الإشريكية القولونية، ومن ثَم تصبح مجموعات الميثيل بمنزلة علامات منتظمة تشير إلى الشريط الأصلي الأقدم. أو على الأقل تقوم بهذه المهمة في هاتين الدقيقتين، وهذه الفترة طويلة بما يكفي بالنسبة إلى نظام إصلاح عدم التطابق كي يُجري مسحًا للجينوم.
fig21
شكل ٦-٤: نظام بروتين MutH الخاص بإصلاح عدم التطابق.
يتكوَّن نظام إصلاح عدم التطابق من ثلاثة بروتينات. أول البروتينات التي يجري تنشيطها هي بروتينات MutH (انظر الشكل ٦-٤). ترتبط هذه البروتينات بمواقع GATC/CTAG، ولكنها لا تقوم بذلك إلا عندما توجد مجموعة ميثيل واحدة؛ أي، أحد أشرطة الدي إن إيه قد جرى تخليقه حديثًا. بعد ذلك، تَفحَص بروتينات MutS فيما بين أزواج MutH، ثم ترتبط بالطفرات الناجمة عن عدم التطابق. وبمجرد تثبيت بروتينات MutS في مكانها، فإنها توظِّف البروتينات الثالثة؛ بروتينات MutL. عندئذٍ يُسحب الدي إن إيه من الاتجاهين عبر مركَّب MutL-MutS، ما يكوِّن حلقةً من الدي إن إيه تبرُز إلى أعلى. وفي تلك العملية، يصطدم بروتينا MutH في نهاية المطاف بمركَّب MutL-MutS ويكوِّنون معًا مركبًا أكبر. يحفِّز هذا عملَ إنزيم إندونيوكلياز في بروتينات MutH، التي يضع كلٌّ منها شقًّا صغيرًا في شريط الدي إن إيه الجديد. عندئذٍ تنفصل البروتينات وتجلِب معها شريطَ الدي إن إيه الفرعي المقتطع. وبعد فترة وجيزة، يكوِّن إنزيم بوليميراز الدي إن إيه الثالث شريطًا فرعيًّا جديدًا يُثبَّت في مكانه بإنزيم ليجاز دي إن إيه لإكمال عملية الإصلاح.

تمثِّل هذه العملية آخرَ فرصة لبكتيريا الإشريكية القولونية كي تصحِّح أيَّ أخطاء في تضاعُف الدي إن إيه لديها. لكن لا تزال الفرصة كبيرة لوقوع أخطاء في الدي إن إيه. على سبيل المثال، من مصادر إحداثِ التلف الشائعة على وجه الخصوص الضوءُ فوق البنفسجي. ومن الطرق التي يُغيَّر بها الدي إن إيه تحفيزُ تكوين روابطَ تساهمية بين قواعد الثايمين أو السايتوسين المتجاورة. هذه البنيات الثنائية تربِك الاقترانَ الطبيعي للقواعد ما يؤدي إلى تلفٍ في البنية اللولبية المنظِّمة، سيؤدي إلى عواقبَ خطِرة على الخلية إذا تُرك من دون إصلاح. ومن دون الطاقة من الضوء فوق البنفسجي، فإن تكوُّن هذه البنيات الثنائية سيكون مستبعدًا إلى حدٍّ بعيد. لكن بمجرد تكوُّنها، فإنه يصعُب تصحيحها من دون مصدر طاقة مماثل. لكنَّ الجميل أنه من بين الطُّرق التي تتعامل بها الآلةُ الخلوية مع هذه البنيات الثنائية، نظامُ إنزيمات فوتولياز، الذي يستخدم الطاقةَ الموجودة في الضوء المرئي لتصحيح التلف الذي سبَّبه الضوءُ فوق البنفسجي.

هذه الآلية واحدةٌ من الآليات الكثيرة التي تستخدمها الخلية للحفاظ الدقيق على سلامة سجلات الدي إن إيه الثمينة الخاصة بها. ويوجد العديد من الأنظمة الأخرى التي تطوَّرت كي تتعامل مع الدي إن إيه من أجل إصلاح الفواصل الناجمة عن التلف الكيميائي وحتى المهاجمة المباشرة للدي إن إيه للكائنات الغازية.

تحديد تسلسل الدي إن إيه وتضخيمه

أدَّى اكتشاف الطُّرق التي تُضاعِف بها الخلايا الدي إن إيه الخاص بها إلى طرح السؤال التالي: هل يمكننا الاستفادة من هذه الآلات الطبيعية المذهلة لإلقاء الضوء على الدي إن إيه نفسه؟ نتج عن هذا النهج تطبيقان، كلاهما يستخدم إنزيم بوليميراز الدي إن إيه.

التطبيق الأول هو تحديد تسلسل الدي إن إيه الذي مكَّننا من قراءة الجينومات وغير ذلك الكثير. يوجد الآن عدة طرق لتحديد تسلسل الدي إن إيه، ولكن أول أسلوب استُخدم على نطاق واسع طوَّره فريدريك سانجر عام ١٩٧٧ (وهو العالِم نفسه الذي كان أول مَن توصَّل إلى طريقةٍ لتحديد تسلسل البروتينات؛ ارجع إلى الفصل الأول).

تبدأ عملية تحديد التسلسل التي اكتشفها سانجر بامتداد الدي إن إيه المعني (انظر الشكل ٦-٥). أولًا يجري تفكيكه بتسخينه حتى درجة حرارة ٩٠ درجة مئوية تقريبًا. يؤدي هذا إلى تفكُّك اللولب المزدوج وانفصاله إلى شريطين منفردين. وبعد ذلك، يُضاف إلى المزيج بادئة قصيرة أحادية الأشرطة مصمَّمة خصوصًا للارتباط بالجزء التكميلي للدي إن إيه المعني. تشترك البادئة مع الشريط الطويل لإنشاء جزء قصير ثنائي الأشرطة، حيث يمكن أن يبدأ إنزيم بوليميراز دي إن إيه في نشاط التضاعف الخاص به. وبالإضافة إلى الدي إن إيه والإنزيم، توجد أربع نيوكليوتيدات (الأدينوسين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين والثايمين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين والجوانين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين والسايتوسين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين، والتي يُطلق عليها مجتمعةً النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين). عند هذا الحد، تُقسم العينة إلى أربعة أجزاء، ويضاف جزء صغير من شكل مختلف من النيوكليوتيدات يسمَّى النيوكليوتيدات الثنائية الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين إلى كل جزء من الأربعة الأجزاء. يختلف هذا الشكل عن النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين في جانب واحد مهم، وهو أنه يخلو من مجموعة المطلوبة لإضافة نيوكليوتيدة لاحقة. وبناءً على ذلك، فإنه يمكن دمجه في الدي إن إيه، ولكن بمجرد أن يثبت في مكانه، تنتهي عملية استطالة شريط الدي إن إيه. تمتاز النيوكليوتيدات الثنائية المنقوصة الأكسجين الثلاثية الفوسفات المستخدَمة في عملية تحديد التسلسل بسمةٍ أخرى مهمة وهي احتواؤها على وسمٍ من نوعٍ ما (كان الوسم مشعًّا في البداية، ولكنه الآن أصبح فلوريًّا في الغالب).
fig22
شكل ٦-٥: طريقة سانجر لتحديد تسلسل الدي إن إيه.
لتوضيح كيف يتيح لنا هذا تحديدَ تسلسل الدي إن إيه، لنتخيَّل ما سيحدُث مع التسلسل GAT TAC AGA TTA C في الأنبوب الذي يحتوي على ثنائي الأدينوسين ثلاثي الفوسفات منقوص الأكسجين. يشرع إنزيم بوليميراز الدي إن إيه في إنشاء دي إن إيه تكميلي عند بداية التسلسل. في البداية، يضيف السايتوسين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين لإكمال قاعدة الجوانين، ثم يضيف الثايمين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين لمطابقة قاعدة الأدينين. وعندما يصل إلى أول قاعدة ثايمين، فإنه يحاول إضافة نيوكليوتيدة تكميلية من الأدينوسين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين؛ وإذا فعل ذلك، فإنه يستمر في مهمته. لكن إذا أضاف نيوكليوتيدة ثنائي أدينوسين ثلاثي الفوسفات منقوص الأكسجين، فسيتوقف تفاعل الاستطالة. وفي كل مرة يصل فيها إنزيم البوليميراز إلى نيوكليوتيدة أدينوسين ثلاثي الفوسفات منقوص الأكسجين، تُتاح له الفرصة لجذب نيوكليوتيدة ثنائي أدينوسين ثلاثي الفوسفات منقوص الأكسجين، ما يؤدي إلى توقُّف التفاعل. وهذا يعني أن الأنبوب سيحتوي على خليط من النواتج CTA وCTAA وCTA ATG TCT A وCTA ATG TCT AA وCTA ATG CTT AAG. بعد ذلك، يُفصل بين هذه النواتج ذات الأطوال المختلفة حسب الحجم ويُنشأ تمثيل لها من خلال الوسم المشع أو الفلوري. وتحليل هذه البيانات يسمح لنا بمعرفة أن القاعدة الثالثة والرابعة والعاشرة والحادية عشرة كلها من الأدينين. في غضون ذلك، يتكرَّر الشيء نفسه — في ثلاثة تفاعلات منفصلة أخرى — مع النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين الأخرى، ومن خلال كل هذا يتكشَّف تسلسلُ الدي إن إيه بالكامل.
طريقة سانجر لتحديد تسلسل الدي إن إيه جعلته يحصل على جائزة نوبل للمرة الثانية عام ١٩٨٠ (ما جعله في مصافِّ النخبة المكوَّنة من أربعة علماء حصلوا على جائزة نوبل مرتين، والآخرون هم ماري كوري ولاينوس بولينج وجون باردين). ولا شك أن تلك التقنية كانت تقدمًا ثوريًّا؛ حيث إنها أتاحت لنا أخيرًا سبْر أغوار تركيب الجينات. لكنها كانت تنطوي على تقييد كبير. فمن الواضح أنها تحتاج إلى عينة كبيرة من الدي إن إيه المراد معرفة تسلسله. حينذاك، لم يكن أمرًا متصورًا تحديد الشفرة الوراثية لعينة ضئيلة الحجم جدًّا جُمعت من بضع خلايا أو أُخذت من بقايا حفرية. يمكن القول إن مثل هذه الأحلام اضطر تحقيقها إلى الانتظار حتى ظهور أهم تطور كيميائي حيوي في العصر الحديث، وهو تفاعل البوليميراز المتسلسل (الذي يُعرف اختصارًا ببي سي آر؛ انظر الشكل ٦-٦).
fig23
شكل ٦-٦: تفاعُل البوليميراز المتسلسل.

تفاعل البوليميراز المتسلسل أداة جوهرية في الكيمياء الحيوية وعلم الأحياء الجزيئي الحديثين، لدرجة أنْ وصفته جريدة «ذا نيويورك تايمز» بأنه «يقسم علم الأحياء فعليًّا إلى عهدين؛ عهد ما قبل تفاعل البوليميراز المتسلسل، وعهد ما بعد تفاعل البوليميراز المتسلسل». وفي الحقيقة، أيُّ شخص يعمل مع الدي إن إيه في المختبر لا بد أن يتعامل مع هذه التقنية (وأنا بالتأكيد قد قضيت معظمَ دراساتي الخاصة بالدكتوراه وأنا أستخدمها). الميزة الكبرى في تفاعل البوليميراز المتسلسل هي إتاحة عمل نسخٍ غير محدودة من تسلسل الدي إن إيه بدءًا من أصغر العينات. وذلك أتاح لنا دراسةَ كل شيء بدايةً من شظايا الدي إن إيه القديمة المستخرَجة من عظام إنسان النياندرتال وحيوانات الماموث المتجمِّدة، وحتى العينات التي تُؤخذ من الأفراد لاكتشاف الإصابة بفيروس كوفيد-١٩ والأدلة التي تُترك في مسرح أي جريمة.

تفاعُل البوليميراز المتسلسل في واقع الأمر بسيطٌ إلى حدٍّ بعيد لدرجة أن مبتكره كاري موليس (الذي تُوفِّي للأسف وأنا أكتب هذا الفصل) تعجَّب، في خطابه الذي ألقاه عندما تسلَّم جائزة نوبل عام ١٩٩٣، من أنه لم يفكر فيه أحدٌ من قبل:

قلت متعجبًا: «يا إلهي!» لقد توصَّلت إلى حلٍّ لأصعب المسائل في كيمياء الدي إن إيه في لمح البصر. الوفرة والتمييز. فباستخدام اثنين من قليل النيوكليوتيدات، وإنزيم بوليميراز الدي إن إيه، وأربع نيوكليوتيدات ثلاثية الفوسفات، كان بإمكاني تكوين أي قدر أريده من تسلسل الدي إن إيه، وكان بإمكاني ذلك على شظية ذات حجم محدَّد يسهُل عليَّ تمييزه. وبنحو أو بآخر، ظننت أن الأمر مجرَّد وهم. أو أنه كان سيغيِّر كيمياء الدي إن إيه إلى الأبد. أو سيُكسبني شهرةً كبيرة. كان الأمر غاية في البساطة. كان من الممكن أن يتوصَّل إليه شخص آخر، وكنت سأسمع عن الأمر بالتأكيد. وكنا سنستخدمها على الدوام. فما الصعوبة التي كانت تواجهني في فهْم هذه المسألة؟

وفي واقع الأمر، ربما تُرك جيلٌ من علماء الكيمياء الحيوية يتساءلون لماذا لم يفكِّروا هم في هذه التقنية. وقد حاجج حتى البعض (وقد رفعوا الأمر إلى المحكمة) بأنهم فعلوا ذلك؛ فقبل سبعة عشر عامًا من عمل موليس، نشرت مجموعة — بقيادة إتش جوبند خورانا عالِم الكيمياء الحيوية الحاصل على جائزة نوبل — شيئًا يشبه تفاعُل البوليميراز المتسلسل إلى حدٍّ كبير.

تقول القصة إنه عندما كان موليس عائدًا من عمله إلى المنزل في سيارته، عصفت بذهنه فكرةٌ رائعة (الاقتباس السابق جزء من روايته لتلك القصة). تخيَّل طريقة لأخذ نسخة واحدة من جينٍ ما وتضخيمها مليون مرة. أولًا، كان سيسخن الدي إن إيه إلى درجة حرارة أعلى من ٩٠ درجة مئوية، ما يؤدي إلى تفكيك اللولب المزدوج؛ تمامًا كما يحدُث في تقنية تحديد التسلسل الخاصة بسانجر. بعد ذلك، كان يمكن إضافة بادئتي دي إن إيه إلى المزيج، مع تصميم كل بادئة منهما كي ترتبط بشريط مختلف من الدي إن إيه بحيث يكوِّنان حاجزًا أمام الجين. وعندما بُرد المزيج، سترتبط كلٌّ من البادئتين بشريط الدي إن إيه الذي تستهدفه. إن كان المزيج يحتوي على إنزيم بوليميراز الدي إن إيه والعديد من النيوكليوتيدات الإضافية، فسيرتبط الإنزيم بالبادئتين ويبدأ في تضاعُف الدي إن إيه. لقد لاحظ في نهاية العملية أن عدد جزيئات الدي إن إيه قد تضاعف. وإذا كرَّر الدورة، فستحدث المضاعفة مرارًا وتكرارًا. وإن كرَّر الدورة عشرين مرة، فبإمكانه أن يُنشئ ما يزيد على مليون نسخة من الجين المأخوذ من قالب دي إن إيه واحد.

لقد نجح الأمر. ومع ذلك، كان هناك أحد المنغِّصات متمثِّل في تعطيل إنزيم بوليميراز الدي إن إيه بفعل درجة الحرارة ٩٠ درجة مئوية اللازمة لتفكيك الدي إن إيه. ومن ثَم بعد كل خطوة من خطوات التسخين في كل دورة جديدة، كان يجب إضافة إنزيم جديد غالٍ إلى المزيج. يرجع الفضل في التقدم الذي جعل تقنيةَ تفاعُل البوليميراز المتسلسل هي التقنية السائدة اليوم إلى بكتيريا تسمَّى «المستحرة المائية»، كانت تعيش في ينبوع ماء شديد السخونة داخل حديقة يلوستون الوطنية. ولأن بكتيريا المستحرة المائية محبَّة للحرارة، فإنه يدخل في تكوينها مجموعةٌ كاملة من البروتينات المستقرة حراريًّا، تتضمَّن إنزيم بوليميراز دي إن إيه تطوَّر للعمل في درجة حرارة تزيد عن ٧٠ درجة مئوية. وعند عزل إنزيم البوليميراز «تاك» (Taq) هذا (كما أصبح معروفًا) واستخدامه في تفاعل البوليميراز المتسلسل، فقد استطاع البقاء في درجات حرارة تقترب من درجة الغليان، ومن ثَم لم تَعُد هناك حاجة إلى تجديد الإنزيم بين الدورات. ونتيجة لذلك، أصبح بالإمكان إعداد أنبوب التفاعل في غضون دقائق وإحكام غلقه ثم وضعه في جهاز تدوير حراري آلي. وبعد ساعة أو نحو ذلك، سيعود العلماء ليجدوا ملايين النُّسخ المنشأة حديثًا من الجين أو أي تسلسل آخر محل اهتمام.

إذن، تفاعُل البوليميراز المتسلسل وتقنية تحديد تسلسل الدي إن إيه رفيقان مثاليان. فبساطةُ تفاعُل البوليميراز المتسلسل تغلَّبت على التقييد الكبير لتقنية تحديد التسلسل باستخدام طريقة إنهاء السلسلة والمتمثل في الحاجة إلى كمياتٍ كبيرة من الدي إن إيه. وبفضل هذين الاكتشافين، حدثت طفرة في مجال التكنولوجيا الحيوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤