الفصل الثامن

التكنولوجيا الحيوية وعلم الأحياء التخليقي

تناول الجزء الأكبر من هذا الكتاب الكيمياء الحيوية «الطبيعية». لكن كلما زادت معرفتنا بعالَم الكيمياء الحيوية، بدأنا التفكير في الكيفية التي قد نطوِّعه بها من أجل مصلحة البشر. ومن هنا نشأ مجالٌ يُطلق عليه في كثير من الأحيان التكنولوجيا الحيوية، وفي الآونة الأخيرة علم الأحياء التخليقي. لا يزال ما يحتويه هذا المجال قيدَ التعريف على الرغم من المحاولة الجيدة المبذولة من جانب جمعية لندن الملكية عندما وصفت علم الأحياء التخليقي بأنه يسعى إلى «تصميم وإنشاء مسارات أو كائنات أو أجهزة حيوية اصطناعية جديدة، أو إعادة تصميم الأنظمة الحيوية الطبيعية».

من الواضح أن النطاق الصغير جدًّا لعلم الأحياء التخليقي والمسارات والكائنات المتضمنة في هذا التعريف قائمة على المعرفة المستقاة من الكيمياء الحيوية. لكن فلسفته تتفق مع مبادئ الهندسة أكثر من اتفاقها مع مبادئ العلوم البحتة. وقد أصبح من الشائع الآن أن نرى دورة التطوير الهندسي المكوَّنة من «التصميم والبناء والاختبار والتحسين» مطبَّقة على النطاق الصغير جدًّا جنبًا إلى جنب مع الرغبة في الحصول على مخرجات نمطية وموحَّدة. وبالفعل شهدنا البداية في الأمثلة التي تناولناها بالفعل مثل البروتين الفلوري الأخضر وتفاعل البوليميراز المتسلسل وتقنيات تحديد تسلسل الدي إن إيه. ومنذ ظهور هذه التقنيات في ثمانينيات القرن العشرين، أُحرزت خطوات كبيرة، مع إنشاء الجينومات التخليقية وإعادة تشفير الشفرات الجينية وإنشاء الآلات النانوية المصمَّمة من البروتينات، وغير ذلك الكثير. ولا يوجد مقياس لمدى التقدُّم في هذا الشأن أفضل من التغيير في تكلفة تحديد تسلسل الدي إن إيه. فقد حقَّق مشروع الجينوم البشري هدفَه المتمثل في تحديد تسلسل الجينوم البشري عام ٢٠٠٣ بتكلفة بلغت ٢٫٧ مليار دولار. وبعد أقل من عشرين عامًا، توجد شركات تنجز العملَ نفسه بتكلفة تبلغ أقلَّ من ألف دولار للجينوم. وهناك ارتباط مثير للاهتمام بين انخفاض تكلفة قدرات المعالجة الحاسوبية التي لا تتوقَّف عن التوسع، وانتشار استخدام أجهزة الكمبيوتر وخفض التكاليف في التكنولوجيا الحيوية. لذا في هذا الفصل الأخير، سنلقي نظرة على المزيد من الأمثلة الخاصة بالكيمياء الحيوية التخليقية والفرص التي تحملها بين طياتها، وسندرس بإيجازٍ ما يمكن أن يبشِّر به هذا المجال الجديد.

الجينومات والكائنات التخليقية

إذا كان هناك شخصٌ يمكن أن يكون خيرَ ممثِّل لعلم الأحياء التخليقي، فربما هو كريج فينتر. إنه لم يكتفِ بقيادة فريق خاص كُلف بتحديد تسلسل جينوم بشري (والذي قد تبيَّن أنه الجينوم الخاص به)، بل إنه قبل ثلاث سنوات من الموعد المتوقَّع لإكمال هذه المهمة المنوطة بمشاريعَ ذات تمويل حكومي وضعَ أيضًا نُصب عينيه إنشاء كائنات تخليقية.

خاض فريق فينتر — الذي كان يعمل في معهد جيه كريج فينتر — غمارَ هذا التحدي بالبدء بكائن حي بسيط للغاية ألا وهو بكتيريا المفطورة الفطرانية. ولما كان جينوم هذه البكتيريا يتضمَّن حوالي ألف جين مشفَّر بحوالي مليون زوج من القواعد (في مقابل نحو خمسة ملايين زوج في بكتيريا الإشريكية القولونية وثلاثة مليارات زوج في البشر)، فقد بدا أنها نقطة انطلاق سهلة التحكم يمكن بناء شكل من أشكال الحياة الاصطناعية عليها. لكن قبل أن يكون بإمكان الفريق خوض غمار هذه المغامرة، احتاج أولًا إلى معرفة هل الجينوم المخلَّق اصطناعيًّا بالكامل يمكن أن تقوم عليه خلية أم لا. لذا فقد أعادوا تصميم الجينوم الذي يحتوي على كل الجينات في بكتيريا المفطورة الفطرانية الأصلية، بالإضافة إلى بعض التسلسلات «ذات العلامات المائية» التي جرى تضمينها، على حدِّ ما ورد في ورقتهم البحثية التي نُشرت في مجلة «ساينس»، من أجل التمييز بين الجينوم التخليقي والجينوم الطبيعي. (وربما بهدف التسلية فقط، تضمنت إحدى العلامات المائية تسلسلًا إضافيًّا للدي إن إيه، والذي عند ترجمته إلى شفرات أحماض أمينية أحادية الحروف، تبيَّن أنها تحمل الحروف CRAIGVENTER.) ومع تطور المشروع، أُدرجت علامات مائية مشفرة على نحوٍ أكثر تعقيدًا. كانت إحدى هذه العلامات تكريمًا للعالم ريتشارد فاينمان العظيم؛ إذ اقتبَست كلماته الأخيرة التي تُركت على سبورته بعد مماته والتي تقول: What I cannot build, I cannot understand (أي، ما لا أستطيع خلقه، لا أستطيع فهْمه). أصبح هذا الاقتباس إلى حد كبير الشعارَ الأساسي لعلماء علم الأحياء التخليقي.
بحلول عام ٢٠١٠، أُنشئ الجينوم التخليقي (وهو اسمٌ يشبه أسماء برامج الكمبيوتر، وينسب إلى المعهد الذي أُنشئ فيه)، وأصبح جاهزًا للزرع في «غلاف» خالٍ من الدي إن إيه مشتق من بكتيريا أخرى تسمَّى المفطورة العنزية. على الفور، سيطر الجينوم المزروع حديثًا على الآلة الخلوية لدى البكتيريا المضيفة، ومعًا أصبحا بكتيريا ذاتية التضاعف وقابلة للنمو على نحو كامل. وعلى الرغم من هذا الإنجاز الكبير، فإن الجدال كان محتدِمًا بشأنِ ما إذا كان النظام الجديد يُعَد في واقع الأمر كائنًا اصطناعيًّا أم لا؛ حيث إن الجينوم كان إلى حد كبير نسخةً من الجينوم الطبيعي.
قطعت المرحلة الثانية للمشروع شوطًا في دحض هذا الاعتراض. فقد شرع الفريق في تقليص الجينوم تدريجيًّا ومنهجيًّا لتحديد الحد الأدنى من عدد الجينات اللازم لاستمرار العمليات الحيوية لدى أي كائن حي. وبحلول عام ٢٠١٦، تقلَّص حجم الجينوم — الذي قد جرى تحديثه إلى — إلى ما يزيد على النصف وأصبح لا يحتوي إلا على ٤٧٣ جينًا. ومع ذلك، كانت لا تزال البكتيريا المضيفة قابلةً للنمو. ولما كان تصميم هذا الجينوم ينطوي على إعادة تنظيم محتوياته وانتقائها اصطناعيًّا (حتى وإن لم يُعَدْ تشفير الجينات الفعلية)، فلا ضيرَ من قول إن بكتيريا «المفطورة المختبرية» (التي يُطلق عليها أحيانًا سينثيا) — والتي تشغل الآن «البرنامج» الاصطناعي الجديد — يمكن اعتبارها في الحقيقة شكلًا من أشكال الحياة الحيوية الاصطناعية. العجيب أن الفريق حاول أيضًا أن يعيد تنظيم مخطَّط الجينات بالكامل في بكتيريا سينثيا، ولكنهم وجدوا أن هذا غير ممكن في جزء كبير من الجينوم. وهذا الإخفاق يقول شيئًا مهمًّا ألا وهو: إن موضعَ الجينات بعضها بالنسبة إلى بعض عاملٌ مهم للغاية حتى وإن كان غير مفهوم حتى الآن. ولا بد من فهْم هذا العامل إذا كنا نريد تحديدَ القواعد التي تحكم هندسةَ الجينوم وتصميمه.

من السهل أن يتشتَّت انتباه المرء بهذا الكم الهائل من ضروب الإنجازات، وينسى أن الهدف النهائي الذي كان يسعى إليه فينتر وغيره من الباحثين في مجال علم الأحياء التخليقي، هو إنشاء كائنات حية مصمَّمة لحل مشاكل العالم الواقعي. يتمثَّل نهج فينتر في تقليص تعقيد الحياة إلى أدنى حد ممكن لها، ثم استخدام الناتج باعتباره أساسًا تُبنى عليه الكائنات الحية المصممة لإنتاج الوقود الحيوي والمنتجات الدوائية وغيرها من المواد. لكن اتخذ علماء آخرون نهجًا أقلَّ درامية وسعَوا إلى تعديل المسارات الكيميائية الحيوية في الكائنات الحية الموجودة.

سنورد مثالًا رائعًا من ورقةٍ بحثية نُشرت وأنا في خضم كتابة هذا الفصل. إنها تتناول كيف أن بكتيريا الإشريكية القولونية يمكن هندستها بحيث تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون. معروف أن بكتيريا الإشريكية القولونية غيرية التغذية، ما يعني أنها بحاجة إلى أن تستهلك مصادرَ أخرى من الكربون العضوي كي تنمو. وعلى النقيض من ذلك، فإن النباتات وبعض أنواع البكتيريا ذاتية التغذية؛ بمعنى أنها قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتحويله إلى كتلة حيوية عضوية. وقد رأينا في مواضعَ سابقة من هذا الكتاب كيف تحقِّق هذه الكائنات ذلك باستخدام الأنظمة الضوئية ودورة كالفن.

تطلَّبت عمليةُ تحويل بكتيريا الإشريكية القولونية من كائنات غيرية التغذية إلى كائنات ذاتية التغذية ثلاث خطوات. أولًا، لا يدخل في تكوين بكتيريا الإشريكية القولونية إنزيمات قادرة على تثبيت ثاني أكسيد الكربون، ومن ثَم أُدخل إلى بكتيريا الإشريكية القولونية جينات تُشفر الإنزيمات داخل دورة كالفن، أُخذت من بكتيريا ذاتية التغذية تسمَّى «الزائفة». ثانيًا، جرى تعطيل ثلاثة من الجينات المركزية في أيض الكربون في البكتيريا المضيفة، ومن ثَم أصبح نمو البكتيريا معتمدًا على إنزيمات غير أصلية. عندئذٍ، حدثت مشكلة لأن إنزيمات بكتيريا الزائفة — التي تعبِّر عنها جيناتٌ جديدة — غريبة على بكتيريا الإشريكية القولونية، ومن ثَم أخفقت في التكامل مع عملية الأيض لدى البكتيريا المضيفة. لم تكن هذه مفاجأة لأن البكتيريا كانت قد تطورت بحيث تنمو عبر التغذية على الغير؛ وإن توقُّع استخدامها مصدر الطاقة الجديد على الفور يشبه وضعَ وقود الديزل في محرِّك بنزين والاندهاش عندما لا يعمل.

لكن بخلاف المحرِّكات الميكانيكية، فإن الكائنات الحية بإمكانها التكيُّف مع الظروف المحيطة بها. ومن أجل دفع بكتيريا الإشريكية القولونية نحو التحوُّل إلى مصدر الوقود الجديد، جرَت ممارسة ضغط تطوري على نظام الأيض المعاد تصميمه. أُبقيت البكتيريا المعدَّلة في حالةٍ ثابتة من التجويع شبه التام، ولكن في بيئة غنية بثاني أكسيد الكربون. وفي ظل هذه الظروف، كان مصدر الكربون الوحيد لتراكم الكتلة الحيوية هو ثاني أكسيد الكربون، وكانت الوسيلة الوحيدة للوصول إليه هي إنزيمات دورة كالفن غير الأصلية. وبعد ٢٠٠ يوم من الوجود في هذه الظروف، راكمت البكتيريا إحدى عشرة طفرة، ما أتاح للإنزيمات الغريبة أن تتكامل مع مسارات الأيض لدى بكتيريا الإشريكية القولونية. كان الناتج نوعًا جديدًا من بكتيريا الإشريكية القولونية، تمخَّض من رحمِ الجمع بين الهندسة والتطوُّر الموجَّه، واعتمد اعتمادًا كاملًا على ثاني أكسيد الكربون من أجل كتلته الحيوية.

تعديل الجينات

البروتينات هي الآلات الجزيئية للحياة؛ ولذا فهي أيضًا المحور الأساسي لهندسة الجزيئات الحيوية. لكن التلاعب بها مباشرةً أمرٌ محفوف بالمخاطر. والأمر الأبسط بكثير هو تعديل الجينات المسئولة عن تشفير البروتينات ونقلِها.

على مدى سنوات عديدة، كانت الطريقة الأساسية لنقل الجينات وتعديلها تستخدم فئةً من البروتينات تسمَّى إنزيمات القطع. تُشتق هذه الإنزيمات من البكتيريا؛ حيث إن لها دورًا في الدفاع ضد عدوى العاثيات (وهي الفيروسات التي تهاجم البكتيريا)، وذلك عن طريق قَطع الدي إن إيه للكائنات الغازية. ولإنجاز هذه المهمة، وفي الوقت نفسه تحاشي قطع الدي إن إيه الخاص بها، فإن إنزيمات القطع بوجه عام تميز تسلسلات دي إن إيه متناظرة محدَّدة. على سبيل المثال، أحد أشيع إنزيمات القطع المستخدمة والمعروفة باسم HindIII تميز التسلسل AAGCTT والتسلسل التكميلي TTCGAA (والذي هو أول تسلسل عكسي، ومن ثَم فهو متناظر). تقطع إنزيمات HindIII من بين قاعدتي الأدينين في شريطي الدي إن إيه، ومن ثَم تترك امتدادات متبقية من دي إن إيه أحادي الأشرطة. وفي الوقت نفسه، يوجد إنزيم آخر شائع الاستخدام، وهو إنزيم EcoRI الذي يبدأ الشق من بعد قاعدة الجوانين في تسلسل الدي إن إيه GAATTC.

تبيَّن أن هذه السِّمة مفيدة إلى أقصى حد في التلاعب الجيني، لا سيما في البكتيريا. وكثيرًا ما يدخل في تكوين البكتيريا بنيات جينية صغيرة يمكن أن تتضاعف على نحوٍ مستقل عن الدي إن إيه الكروموسومي. هذه البنيات — التي تسمَّى البلازميدات — ناقلاتٌ مفيدة تحمل المادة الوراثية إلى البكتيريا. وهذا بالضبط هو الغرض الذي تستخدمها البكتيريا لتحقيقه. على سبيل المثال، تتشارك البكتيريا جينات مقاومة المضادات الحيوية عن طريق نقل البلازميدات بعضها إلى بعض. ويستخدم العلماء هذا الميل إلى نقل البلازميدات من أجل التلاعب بجينات البكتيريا.

fig29
شكل ٨-١: استراتيجية استنساخ الجين باستخدام تفاعل البوليميراز المتسلسل والبلازميدات وإنزيمات القطع.
وفي الوقت الراهن، يمكن شراء بلازميدات اصطناعية مزوَّدة بمنطقة تُعرف باسم موقع الاستنساخ المتعدِّد، تحتوي على سلسلة من تسلسلات هضم إنزيمات القطع (انظر الشكل ٨-١). يوضع موقع الاستنساخ المتعدِّد هذا قبل التسلسلات المحفزة مباشرةً. وهذا يعني أنه عندما يدخَل جين في موقع الاستنساخ المتعدد، تبدأ آلة التضاعف في العمل ويئول أمرُ البكتيريا إلى إنتاج البروتين المشفَّر بالجين. إن هذه هي العملية التي حُثت بها البكتيريا على إنتاج مجموعة من البروتينات المفيدة مثل هرمونات النمو والإنسولين والمنفحة.

لإدخال جين إلى البلازميد، ينبغي تحديد موقع إنزيم القطع المطلوب أولًا. وفي الوقت الراهن، نحن نعرف حرفيًّا مئات إنزيمات القطع، والتي معظمها متوفر تجاريًّا. بعد ذلك، يُستخدم تفاعل البوليميراز المتسلسل لعمل نسخٍ من الجين ذي الصلة، وتُدرَج مواقع إنزيمات القطع داخل بادئات الدي إن إيه. عندئذٍ تندمج هذه في ناتج عمليات تفاعل البوليميراز المتسلسل. وحينها تقطع إنزيمات القطع البلازميدات والجين المتضاعف الآن بفعل تفاعل البوليميراز المتسلسل. ستحتوي أطراف القطع لكل أجزاء الدي إن إيه هذه على تسلسلات متبقية، كلها تحتوي على تسلسلات تكميلية تساعدها على أن يرتبط بعضها ببعض. تتحقَّق الخطوة الأخيرة الخاصة بربط أجزاء الدي إن إيه عبر إضافة إنزيم ليجاز الدي إن إيه. عندئذٍ، تُحث البكتيريا (في عملية تسمَّى التحوُّل) على تقبُّل البلازميد الذي يحتوي على الجين الجديد.

ظلت طريقةُ إنزيمات القطع هذه الخاصة بتعديل الدي إن إيه مستخدمةً لعدة عقود، ولكنها مرهقة ومحدودة. لا شك أن إنزيمات القطع مفيدةٌ إلى أقصى حد، ولكنها تشبه إلى حدٍّ ما امتلاك مئات من خيارات «القص واللصق» في برنامج معالجة النصوص الخاص بك، وكل خيار محدد لكلمة واحدة فقط. لكن توافر أداة أكثر تنوعًا للقص واللصق سيفيد أكثر بكثير.

تقنية كريسبر

في السنوات الأخيرة، ظهرت تقنية جديدة قوية لتعديل الجينات تسمَّى كريسبر (وهو اختصار للتكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة المنتظِمة التباعد). وعلى خلاف إنزيمات القطع، فإنها تتيح وظيفتي «القص واللصق» و«البحث والاستبدال» بنحوٍ أو بآخر في أي جزء من تسلسل الدي إن إيه داخل جينوم الخلية. نتائج هذه التقنية هائلة. جرى استخدام التقنية بالفعل في إزالة جينات فيروس نقص المناعة البشرية من خلايا بشرية مصابة، وإزالة الجينات المتحورة التي تسبِّب المرض، وتحفيز الجين الخاص بالنسخة الجنينية من الهيموجلوبين، وعلاج المصابين بداء الخلايا المنجلية، وتعديل أعضاء الحيوانات بهدف جعلها قابلةً للزرع في الإنسان.

بدأت قصة تقنية كريسبر عام ١٩٨٧ عندما لاحظ يوشيزومي إشينو وزملاؤه تكرار تسلسلات دي إن إيه متناظرة مكوَّنة من ثلاثين قاعدة تقريبًا في بكتيريا الإشريكية القولونية. بجانب التسلسلات المتناظرة، كانت هناك تسلسلات شديدة التباين ذات نمط صغير يمكن تمييزه. لم يكن لدى الفريق أيُّ فكرة عن الغرض من تلك السِّمة الغريبة في الجينوم، لكنهم نشروا النتيجة، ثم لم يفكِّروا كثيرًا في الأمر. وعلى مدى العَقد التالي أو نحو ذلك، ظهرت أنماطٌ مماثلة في أنظمةٍ أخرى من بدائيات النوى، ومن ثَم زاد الاهتمام بها. أتى الأمر الذي ساعد في توضيح وظيفتها من مقارنة مناطق التسلسل المتباينة بتسلسلات دي إن إيه معروفة أخرى وتبيَّن أنها متماثلة مع جينات العاثيات. ومن هنا، بدأت نظرية في الظهور مُفادها أن تسلسلات كريسبر هذه كوَّنت جزءًا من نوعٍ ما من نظام مناعة تكيفي. اختُبرت النظرية حينما أُدخل دي إن إيه عاثية معينة في المنطقة المتباينة، وكما كان متوقعًا، فإن البكتيريا التي تحتوي على منطقة كريسبر المحدَّدة حديثًا هذه أصبحت مقاومة لتلك العاثية.

بعد ذلك، رصد العلماء جينات تشفر إنزيمات هيليكاز ونيوكلياز (وهي البروتينات التي تقطع الأحماض النووية) تظهر بالقرب من مناطق كريسبر (وأصبحت تلك الجينات معروفة باسم جينات كاس (CAS) أو الجينات المرتبطة بكريسبر؛ انظر الشكل ٨-٢). اتضح أن تسلسلات كريسبر المتناظرة عند نسخها إلى الآر إن إيه تكوِّن بنيات ثانوية على هيئة دبوس الشَّعر. يتعرف أحدُ بروتينات كاس وهو كاس-٩ ( ) على عمود دبوس الشَّعر ويرتبط به، ويقدِّم التسلسل المتباين بطريقة تجعله حرًّا للارتباط بالدي إن إيه أو الآر إن إيه الفيروسي التكميلي الذي حقنته العاثية في الخلية. وهنا، يوجِّه تسلسل الآر إن إيه بروتين كاس إلى جينات العاثية؛ ولذا أصبح معروفًا باسم الآر إن إيه الدليل. عندما يرتبط الآر إن إيه الدليل بالجينات الفيروسية المستهدفة، فإنه يضع موقع تنشيط نيوكلياز كاس بالقرب من المادة الوراثية الفيروسية الغازية، ما يتيح للبروتين أن يخترق شريطَي الدي إن إيه الفيروسي، ومن ثَم يمنع العدوى من إكمال مساراتها. لكن بالطبع لا تؤتي هذه العملية ثمارها إلا إذا كان لدى البكتيريا سجل من المادة الوراثية الفيروسية في إحدى المناطق الفاصلة. ولعمل هذا السجل، تتعرف فئة أخرى من بروتينات كاس على الدي إن إيه الوارد، وتقطع شقًّا وتدخله بين التسلسلات المتناظرة. وبذلك، تحتفظ البكتيريا ﺑ «ذكرى» عن العدوى، ما يتيح لها أن تستجيب بسرعةٍ أكبر في المستقبل.
fig30
شكل ٨-٢: نظام كريسبر-كاس-٩.

بمجرد أن أصبحت آليات كريسبر وكاس معروفة، أدرك الباحثون — لا سيما جنيفر داودنا، وإيمانويل شاربنتيه (اللتان حصلتا معًا على جائزة نوبل في الكيمياء عام ٢٠٢٠) وفيرجينيوس شيكشنيس — أنه يمكن برمجة النظام وهندسته بحيث يقطع أيَّ تسلسل للدي إن إيه، وهذا بمجرد استبدال تسلسل كان تكميليًّا لجين معيَّن بالتسلسل الفاصل الطبيعي. وذلك أتاح لهم الدقة في استهداف أي جين وتعطيله. ولذا، فإن التقنية مثالية في تعطيل أي جين به خلل. لكن كيف هو الحال إذا كنا نريد استبدال تسلسل سليم بذلك الجين؟ لتحقيق ذلك، عدَّل العلماء عمليةً كيميائية حيوية طبيعية تسمَّى الإصلاح الموجَّه بالتماثل.

يسهُل إصلاح القطع في الشريط المنفرد من الدي إن إيه؛ يعمل الشريط التكميلي بمنزلة جَبيرة تُمسك كل شيء مع بعضه إلى أن يصلح إنزيم ليجاز القطع. لكن القطع في الشريطين، والذي كثيرًا ما تتسبَّب فيه عوامل بيئية مثل الأشعة فوق البنفسجية أو المواد الكيميائية أو تقنية كريسبر، أشقُّ بكثير من القطع في شريط واحد. لا توجد صعوبة في إعادة ربط الأطراف، لكن ماذا لو كان هناك أكثر من قطع وفُقد جزء من الدي إن إيه؟ حينها، قد يؤدي القطع إلى تضرر أحد الكروموسومات وإعادة تنظيم الجينوم وجينات معطَّلة أو غير منتظمة، ما يؤدي إلى موت الخلايا أو قد يسوء الأمر وتتحوَّل إلى خلايا سرطانية. ما تحتاج إليه الخلية هو نسخة احتياطية من التسلسل المفقود بحيث يمكن أن تستند إليه عملية الإصلاح، وهو ما يمكن أن يوجد في الغالب في كروموسوم آخر. تتعرَّف الآلة الخلوية على المناطق المتماثلة، ثم تضاعف أي أجزاء مفقودة بناءً على الكروموسوم السليم، قبل وضعها في القطع.

وهذا يعني أنه إذا أردنا إدخالَ جين في جينوم، فإننا ببساطة نكيِّف نظام كريسبر لقطع جزء من الدي إن إيه، ثم نغمر الخلية بنسخٍ من الجين الذي نريد إدخاله، ونحصرها بين المناطق المتماثلة مع التسلسلات على جانبي القطع. ومن المرجَّح أن يستخدم بعد ذلك نظام الإصلاح الموجَّه بالتماثل الدي إن إيه المحقون اصطناعيًّا لإصلاح القطع المحفز بنظام كريسبر.

أطفال معدَّلون جينيًّا

رغم كل التطبيقات الواعدة التي يوفِّرها علم الأحياء التخليقي، بدايةً من الكائنات التخليقية التي يمكن أن تُوجد مصادر مستدامة من الوقود وحتى تعديل الجينات المعطوبة، فإنه توجد مشكلاتٌ أخلاقية خطِرة نحتاج إلى التعامل معها، وتطبيقاتٌ سيئة لهذه التقنيات.

في نوفمبر ٢٠١٨، صَدم هه جيان كوي — من الجامعة الجنوبية للعلوم والتكنولوجيا بمدينة شنجن بالصين — العالَم عندما أعلن عن ميلاد فتاتين توأمين ذواتي جينات معدَّلة. كان هدفه تحصين الفتاتين من الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. وتحقيقًا لهذا الهدف، فقد خصَّب بويضتين من متبرِّعة أبدت موافقتها باستخدام السائل المنوي لشريكها.

حينها، استخدم هه تقنية كريسبر لتعطيل جين يسمَّى لدى الجنينين. عادةً ما يعبِّر هذا الجين عن بروتين مستقبِل يستخدمه فيروس نقص المناعة البشرية للالتصاق بالخلايا وإصابتها. وافق الشريكان المتبرعان على زرع الجنينين، وقد نما الجنينان نموًّا طبيعيًّا، ومن ثَم وُلدا أحياءً.
أثارت تجارب هه — وكانت تجاربَ إلى حدٍّ كبير — جدلًا واسعًا، لا سيما أنه لم تكن توجد ضرورة طبية لهذا الإجراء. كان الأب مصابًا بفيروس نقص المناعة البشرية، ولكن تتوافر بالفعل تقنيات مجرَّبة ومختبَرة لإزالة فيروس نقص المناعة البشرية من عينات السائل المنوي قبل إجراء عملية الحقن المجهري، ومن ثَم يُزال خطر إصابة الأمهات والأطفال بهذا الفيروس. إضافة إلى ذلك، الجين له دورٌ إيجابي في الجهاز المناعي، وبإزالته فقد تؤثِّر إجراءات هه تأثيرًا خطِرًا على صحة الفتاتين. بل الأسوأ من ذلك، بالتلاعب في الجنينين، فقد غيَّر هه في الخط الجرثومي، ولو كوَّنت الفتاتان أسرةً في المستقبل، فسيحمل أطفالهما الجينات المعدَّلة وتبِعاتها غير المعروفة. وعلى إثر ذلك، اتُّهم هه بارتكاب «ممارسات طبية غير قانونية» وحُكم عليه بالسَّجن لمدة ثلاث سنوات.

فيروسات معدَّلة جينيًّا

في عام ٢٠٠٢، عندما كان العمل على الجينوم ما زال في بدايته، نشر الدكتور إيكارد فيمر ورقةً بحثية رائدة ذكر فيها كيف أنشأ فريقه نسخةً مطابِقة وعاملة من فيروس مُمرض. بدأ فيمر بتنزيل تسلسل جينوم فيروس شلل الأطفال المتاح للجميع. ولما اشترى فيمر امتداداتٍ قصيرة للدي إن إيه من إحدى الشركات المتعدِّدة التي توفِّر التسلسلات حسب الطلب، جمَّع مع فريقه التسلسلات القصيرة بعضها مع بعض حتى أعادوا تكوين جينوم كامل مكوَّن من ٧٧٤١ قاعدة. إن فيروس شلل الأطفال له جينوم قائم على الآر إن إيه، ومن ثَم كان يجب نسخ الدي إن إيه إلى الآر إن إيه. وعندما أُدخل الجينوم التخليقي في خط خلوي، أنتجت الخلايا جسيماتٍ فيروسية أدَّت إلى إصابة الفئران بشلل الأطفال.

وبحسب قول فيمر نفسه، «لم تَعُد هناك حاجة إلى الفيروس الحقيقي حتى تجعله يعمل وينتشر». فكل ما تحتاج إليه هو تسلسل الجينوم وتسلسلات الدي إن إيه التي يمكنك طلبُها عبر الإنترنت وتسلُّمها من البريد، وعدد من الفنيين المهرة.

ضع في اعتبارك بعد ذلك التطورَ الهائل الذي حدث في القدرات التكنولوجية الحيوية منذ عام ٢٠٠٢. ففي عام ٢٠٠٥، أعاد العلماء من مركز مكافحة الأمراض بالولايات المتحدة تخليقَ فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي تسبَّب في جائحة عالمية في عام ١٩١٨، وفي عام ٢٠١٨ أنشأ فريق كندي فيروس جدري الخيول — وهو مشابه لفيروس الجدري — من دي إن إيه طُلب عبر البريد. لا يشكِّل جدري الخيول خطرًا على صحة الإنسان، ولكن بمعرفة طريقة تخليقه، وهو فيروس معقَّد (حيث إن جينومه أكبر بنحو عشرين ضِعفًا من جينوم فيروس شلل الأطفال)، فإن هذا يقرِّبنا أكثرَ من إنشاء جدري تخليقي.

هناك تطوُّر آخر مثير للقلق وهو البحث المعني بإضافة الوظائف، الذي تُعطى الكائنات الحية بموجبه «قدرات» إضافية. أُبرز هذا القلق بعمل رون فوشير الذي أدخل خمس طفرات على فيروس إنفلونزا الطيور ما جعله فيروسًا منقولًا عبر الهواء وقادرًا على إصابة الثدييات.

هذه التطورات تجعل الإطلاق العرَضي أو المتعمَّد لمسبِّبات الأمراض الخطِرة احتمالًا حقيقيًّا. ومن ثَم، هناك حاجة ملحَّة لفرض أطرٍ تنظيمية للسيطرة على هذه التكنولوجيات الناشئة. يوجد بالفعل قدْر من التنظيم الذاتي. فشركات التكنولوجيا الحيوية تفرز طلبات الدي إن إيه بحيث لا ترسل تسلسلات معينة خطِرة. أتى هذا الإجراء عقِب واقعةٍ حدثت في عام ٢٠٠٦ حين حصل صحفيون من صحيفة «ذا جارديان» على تسلسل الجدري، وطلبوا جزءًا من الدي إن إيه الخاص به. لكن هل هذا التنظيم الذاتي كافٍ؟ تُحفظ مسبِّبات الأمراض الخطِرة في منشآت شديدة الانضباط وعالية التأمين. لكن الأمر استغرق مني نحو خمس دقائق حتى أعثر على التسلسل الكامل لجينوم فيروس الجدري على قاعدة بيانات متاحة للجميع. واجهت العصورُ السابقة المخاطرَ الناجمة عن التكنولوجيا التي ابتُكرت فيها، وكان علينا التعامل مع العواقب. وبما أننا نعيش في عصر علم الأحياء، فإننا بحاجة إلى دراسة الآثار المترتبة على ما لدينا من معارفَ، ومعرفة كيف يمكننا التحكُّم في الوصول إلى المعلومات الحيوية. هل ربما ينبغي علينا فرض قيود على المخطَّطات التي يمكن استخدامها لبناء كائنات خطِرة مثل القيود المفروضة على تلك الكائنات نفسها؟

في عام ٢٠١٢، ألقت البروفسير آن جلوفر، كبيرةُ المستشارين العلميين لرئيس الاتحاد الأوروبي، كلمةً في المنتدى العالمي للتكنولوجيا الحيوية التابع لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. ذكرت فيها كيف أن القرون تكتسب أسماءها من التطورات العلمية الحادثة فيها؛ لقد كان القرن التاسع عشر هو عصر الهندسة؛ حيث إنه شهِد تطوير تكنولوجيات غيَّرت المجتمع، مثل قطار ستيفنسون البخاري، وسيارة بنز، وراديو ماركوني. وفي القرن العشرين، كان هابر وبوش السببَ وراء حدوث انفجار سكاني عبر تطوير وسيلة للإنتاج الواسع النطاق للنشادر، ومن ثَم المخصِّبات الزراعية؛ وأنشأ فلوري وتشاين وفليمنج دواءً غيَّر الطريقةَ التي نتعامل بها مع أنواع العدوى؛ ووضعت ماري كوري نظريةَ النشاط الإشعاعي؛ وقدَّم تيم بيرنرز-لي لنا شبكةَ الويب العالمية، وبذلك أصبح القرن العشرون هو عصر الكيمياء والفيزياء. ولما بزغ فجر القرن الحادي والعشرين، حُدد تسلسل الجينوم البشري ما يبشر بأنه «عصر علم الأحياء»، في ظل حدوث توسُّع كبير ومستمر في التكنولوجيات القائمة على الكيمياء الحيوية التي تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع (سواء للأفضل أو للأسوأ)، تمامًا كما فعلت السيارات والمضادات الحيوية وشبكة الإنترنت في القرنين الماضيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤