مقدمة

يصدُر هذا الكتاب عن اهتمامٍ بدراسة البِنية الأدبيَّة، بجعلها موضوعًا جماليًّا؛ سعيًا نحو معرفة أكثر وعيًا بالممارسات الشعرية، وتحديدًا بالشعر العربي القديم الذي هو مقومٌ أساسٌ من مقومات الذات العربيَّة، ومكوِّن رئيسٌ من مكونات هويتها. ومن ثَم يهدف الكتاب إلى محاولةٍ أعمقَ للتعرف على مقومات الشعر العربي القديم بإعادة قراءته «نوعيًّا»، فنستكشف بعضَ معالم البناء السردي في القصيدة الجاهلية. وفي هذا يحاول الكتاب نقضَ انفراد مقولة «الغنائية» بالقصيدة العربيَّة القديمة، من خلال تحقيق مقولة أخرى هي مقولة «السَّرد»، التي يراها الكتاب جوهريَّة في القصيدة العربية القديمة في كثير من الأحيان، الأمر الذي يقودنا إلى زحزحة قيمتَي الثبات واليقين اللتين تجعلان من الشعر العربي القديم نوعًا صافيًا بإطلاق.

إن الشعر في الثقافة العربية القديمة نوع الأنواع، هو النوع الجامع لبذور الأنواع الأخرى التي نشأت أو كان يمكن لها أن تنشأ، ويضحي مرادفًا ضمنيًّا للأدب منطويًا على قيم سرديَّة، وغنائية، ودراميَّة، ورسائليَّة، وحجاجيَّة، وينفتح على التهديد، والمواعظ، المنافرات والمفاخرات، والمدح، والرثاء، والغزَل، التأمل … وما إلى ذلك وغيره كثير. ليبقى الشعر القديم في النهاية أكبر من أن تستبد بتصنيفه مقولةٌ نوعيَّة واحدة.

ومن هنا يعيد هذا الكتاب قراءة الشعر الجاهلي مُمَثَّلًا في «المفَضَّلِيات» من خلال بعض ما تطرحه النظريات السرديَّة الحديثة؛ لإعادة التعَرُّف على السمة النوعيَّة للشعر العربي القديم؛ الجاهلي تحديدًا، ولإعادة التعرُّف على مقومات القصيدة العربية عبر مباشرة بِنْيتها في ذاتها، لإعادة بناء تاريخ الأدب؛ حيث التأريخ الحقيقي للأدب هو التأريخ لأسلوبيته، بالإضافة إلى أننا لا يمكن أن نصف التطور الأدبي — على نحو حقيقي — إلا في مستوى البنى.

ولا تؤخذ مقومات البناء السردي هنا منفصلةً أو متجاورة؛ إذ تتفاعل في النهاية بشكل حَيٍّ خَلاق يحفظ على العمل وحدته وهويته، فوحدة العمل كما يقول الشكلانيون: «ليست كيانًا تناظريًّا مغلقًا؛ بل تكامل ديناميٌّ له جريانه الخاص، ولا ترتبط عناصره فيما بينها بعلامة تساوٍ أو إضافة، وإنما بعلامة الترابط والتكامل الديناميَّة.١

ويأتي الكتاب في مقدمةٍ، وتمهيدٍ، وبابين، يشتمل كل منهما على ثلاثة فصول، ثم خاتمة.

يقوم الباب الأوَّل على بحث علاقة الشعر من حيث هو سرد بالحياة، وهذا من خلال فصولٍ ثلاثة؛ الأول: وعنوانه «الشعر وسرد الواقع»، ويأتي على أربعة مباحث: الأول يُعنى بالنظر إلى القصيدة الجاهلية بوصفها علامة مستقلة، وتعمل في ذات اللحظة بوصفها علامة توصيليَّة. ويُعنى الثاني ببحث العلاقة بين الشعر وسرد التأريخ؛ فإذا كانت المسرودات التأريخيَّة قد تبدو مختلفة كلية عن المسرودات التخيِيليَّة، فثمة تقارب بينهما في بعض الوجوه، وبخاصَّة عندما يكون مدار القصيدة على تدوين الواقعة؛ فيسجِّل الشعرُ الأحداث كما يسجِّل النَّزَعات والآمال والقيم. ويُعنى المبحث الثالث بهذا الشكل الرسائلي الذي تأخذه بعض القصائد أو بعض أجزائها، فتعتمد القصيدة الترسُّلَ نمطًا من أنماط الحَكي. أما المبحث الرابع فيدور على النظر للقصيدة بوصفها فعلًا إنجازيًّا، مستفيدًا مما طرحه «جين أوستن» في نظرية الأفعال الكلاميَّة؛ حيث كانت حدود الاعتقاد تتوقف عند عَدِّ التكلم بشيء ما هو دائمًا ليس إلا إثبات الشيء وتقريره، والإسناد إليه، بالمعنى النحوي والمنطقي لمفهوم الإسناد، ولكن مع نظرية «الأفعال الكلاميَّة» أصبحنا نلتفت إلى أن التكلم بشيء ما قد يعني فعله وإنجازه، وبعبارةٍ أخرى: أن قولَ شيء ما هو إنجازه. وعلى هذا النحو يري الكتاب في بعض القصائد أنها قصائد أنشأت «فعلًا» أو عملت على إنجازه عند التلفظ بها، على الأقل في سياق تداولها الأول، و«الفعل» هنا ليس من قبيل المجاز أو النتائج المرجوَّة وإنما هو «الحدث» أو «النشاط» الذي أنجزته القصيدة بالتلفظ بها في واقع التواصل.

أما الفصل الثاني فيدرس الأسطورة في الشعر من حيث هي سَرْد يعتمده الشعر كما يعتمد صور الواقع الحياتي، ويأتي في ثلاثة مباحث؛ يربط الأوَّل بين مفاهيم السرد والأسطورة والسيناريو؛ حيث يعيننا المفهوم الأخير على التقاط الجُمَل الهدف في النصوص الشعرية، التي تؤدي بنا إلى التقاط الحكاية التي تقدمها الأسطورة، ويمنحنا القدرة على توليد توقُّعات الأحداث.

أما المبحث الثاني فيتتبَّع مشاهد الثور الوَحشي في المفضليات بما هي سرد مُطَّرِد الأبعاد، ترويه القصائد بهيكل شبه ثابت المعالم. وهي بَعْدُ مشاهد لها رصيدها الواقعي الحياتي الذي لا تُخطئه العين، ولها أيضًا أبعاد أسطوريَّة بما تكتنزه مكوناتها من أبعاد طقوسيَّة شعائريَّة. ويبين كذلك عن اطِّراد سيناريو مُعَيَّن بشكل يجعل غياب بعض وحداته دليلَ حضور. ويتتبَّع الكتاب الأبعاد الأسطوريَّة الطقوسيَّة للثور في حضارات الشرق القديم، بما يجعل منه كِيانًا متميزًا للشعراء يتخفَّى وراءه مغزًى كلي؛ كلٌّ بحسب صياغته. وكما توقف الكتاب عند الثور الوحشي توقف في المبحث الثالث عند الحمار الوحشي، غير أنه نظر إليه بوصفه أسطورة للحياة اليوميَّة يصنعها الناس ويعيشونها بقطع النظر عن جذور طقوسيَّة أو شعائريَّة، إنه أسطورة خلقها الشعراء ويتولون سردها، وإذا كانت البحوث تجري على تتبع ما هو مُتَفَرِّد وخاص، فإن القاسم المشترك الأعلى بين الشعراء والتعاور على منبع واحد يظل مثارًا للعديد من الأسئلة.

ويدرس الفصل الثالث الخبر المرافق للقصيدة من حيث هو سرد نثري موازٍ لسردٍ شعري، في محاولة لتحرير العلاقة السرديَّة بينهما؛ إذ كثيرًا ما تصوغ مثل هذه الأخبار غرض القصيدة أو مناسبتها بما يجور على معانيها المحتملة ويحد من إيراقها.

أما الباب الثاني فيدرس الشعر من حيث هو تمثيل سردي؛ فيستكشف الفصل الأوَّل عمل مقولتَي الزمانيَّة والسببيَّة في النصوص، وكيف تتشكَّل سَرْديًّا في ضوئهما؛ كأن يَدْرُس مثلًا تلك العلاقة القائمة بين زمن القصة وزمن الحكاية، وبخاصة من زاوية الترتيب، حيث المفارقات الزمنيَّة وقضايا المدى والسعة.

أما الفصل الثاني فيتتبع الطابع التمثيلي الرمزي (الأليجوري) الذي تأخذه بعض الشخصيات التي يَسْرُد عنها الشعر، ودلالاتها السرديَّة، وما يتأسس حولها من قيم سرديَّة مخصوصة. ويأخذ الكتاب اسم «سلمى» مثالًا، فيتتبع السرد؛ دلالاته وسياقاته السرديَّة. ويأتي الفصل في مبحثين؛ الأول: «الاسم وتنميط الشخصية»، والآخر عنوانه: «دلالة الشخصيَّة وخصوصيَّة النمط السردي».

أما الفصل الثالث والأخير فينصرف إلى محاولة تحديد نسبة السرد إلى مصدره، وبحث وجهات النظر المتجاورة معًا في السرد، متنافسةً أو متعارضةً في تبادلٍ جَدَلي، وهو ما يمنحنا القدرة على متابعة شخصيات النص وتحديد رؤيتها للعالم وأُطُر سلوكها، ومن ثَم ينشغل المبحث الأول بتحديد مَنْ يتكلم داخل النص، وهذا من خلال المبحث الأوَّل: «القصيدة بين السرد الشخصي واللاشخصي»، وكذلك يبحث علاقة السارد بما يُضَمِّنه سرده من سرود تعود إلى آخرين، وهو ما يشكل المبحث الآخر: «التنوع الكلامي وتنافذ اللغات: تمثيل الكلام». ثم تأتي خاتمة توجز أهم ما توصل إليه الكتاب من أفكار.

١  يوري تينيانوف، مفهوم البناء، مقال ضمن كتاب: نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس، تحرير: تزفيتان تودروف، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الناشر: الشركة المغربيَّة للناشرين المتحدثين، مؤسسة الأبحاث العربيَّة، بيروت، ط١، ١٩٨٢م، ص٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤