الخاتمة

ونعين هنا أهمَّ النقاط التي انتهينا إليها، فيما يلي:
  • تظل النظرة للقصيدة الجاهلية بوصفها «علامةً» ذات طابع إشكالي؛ حيث تعمل بوصفها علامة مستقلة، وأيضًا بوصفها علامة توصيليَّة؛ تظل نظرةً قادرة على توصيف طبيعة القصيدة الجاهلية التي تحفل بتفصيلات الحياة الفعليَّة ووقائعها البسيطة ومغامراتها، وتُولَع بتعيين الأماكن والشخوص مُستنزِلةً النص إلى حيز الوجود الفعلي، وتعتد في ذات اللحظة بقيمتها التخييليَّة؛ حيث يتحول مفهوم «الواقع» في التحليل الأخير من «الواقع المادي» العيني الخارجي إلى «واقع نَصِّي» محكوم بتقاليد الكتابة النوعيَّة.

  • على الرغم من الاختلاف بين المسرودات التاريخيَّة والمسرودات التخيِيليَّة، إلا أن الأخيرة يمكن لها أن تتقاطع في بعض الوجوه مع الأولى؛ فيحتفي الشعر بتدوين الواقعة، ويأخذ الشاعرُ موقع المؤرخ والشاهد والمرجِع، ويسجل الشعر والحوادث كما يسجل النزعات والآمال والقيم. ولكنه حينئذٍ لا يترصَّد بالضرورة التحولَ الزمني الذي هو سمة الكتابة التاريخيَّة، وإنما يترصد الواقعة عند لحظةٍ ما، وتُتْئِرُ عينُه البصرَ إلى ما وراءها من قيمة.

  • وفي إطار علاقة الشعر بما يمتلكه من مقومات سردية بالواقع:

    – حازت بعضُ القصائد مقامَ التَّرسُّلِ، فحفِظ الشعرُ على «الرسالة» تقلبَها — أدبيًّا — في حيز المشافهة قبل أن تتقلب في حيز المكتوب، ثم تُلازِم الأخير.

    – كان تبني القصيدة شكلَ الرسالة مرادًا به في المقام الأول «إشاعة الخبر»، من خلال ضمان «الوسيط»، هذا المُبَلِّغ الذي يمثله جمهور المستمعين أو المروي لهم، فشكل الرسالة محاولة للمجاوزة بالقصيدة حدود المجلس أو المقام المتعين للقول — من خلال الشعر — لإطلاقه في المكان والزمان، بعيدًا عن مقام المشافهة ومَبْلَغ الصوت.

    – وكذلك يقوم الشعر القائم على الرسالة أو الإبلاغ على إقصاء المخاطب الذي هو حاضرٌ بالضرورة في عمق الخطاب الذي تتبنَّاه القصيدة، لإبراز عمق التباعد بين المتخاطَبين، وهو حينئذٍ نمط فنيٌّ يتجاوز مفهوم الالتفات الذي تتوقف به البحوث عند مستوى الجملة.

    – وفضلًا عن ذلك يؤشر هذا الشكل على علاقة تراتُبيَّة بين المتراسلين قد يحددها السياق والمقام. أما إذا كانت القصائد غير متعينة الإحالة، فإنها في كثير تمتلك حَدًّا أدنى من التعيين التاريخي، حيث كل إبلاغٍ يحمل في باطنه واقعًا ماديًّا ما ملموسًا يؤقِّت النصَّ ويُصَرِّحُ بتاريخيته.

    – وكذلك يأتي الشكل الرسائلي في الشعر ليكون مَجْلًى لهذا التفاعل الحَيِّ بين ما هو تعييني تاريخي، وما هو جمالي فنيٌّ.

  • إذا كان للقصيدة أن يُنْظَر إليها على أنها سَرْدٌ «يقرر» أو «يخبِر» بمواقف وأحداث معينة، فإمكانها في بعض الأحيان أن يُنْظر إليها بوصفها سردًا «ينجز» حال إنتاجه فعلًا معينًا. هذا بالطبع فضلًا عن عَد الملفوظات التقريريَّة نفسها ملفوظات «إنجازيَّة» استنادًا إلى أن القول بأن شيئًا ما حقيقيًّا أو زائفًا يشكل نوعًا من أنواع «الفعل»، وتصبح الملفوظات التقريريَّة نفسها هنا تنجز فعلًا هو فعل «التقرير» أو «الإبلاغ» أو «التأكيد». على هذا النحو يُعَدُّ كل سردٍ — مهما كان يقرر أو يخبر — فعلًا إنجازيًّا؛ إذ ينجز السردُ حينئذٍ — على أدنى تقدير — فعل الإخبار ذاته.

  • في القصائد التي تمتلك صفة «الإنجازيَّة»، وعندما يتبنى الشاعر وجهة نظر القبيلة فإن وضع الشاعر المؤسسي — هذا الوضع اﻟ «خارج-لساني» — يدخل بوصفه مقومًا رئيسًا لإنجاز أفعاله الكلامية.

  • وعندما تنحو القصائد والمقطَّعات إلى أن تهيمن عليها صيغ الخطاب، وتتوجه بقوةٍ نحو إنجاز أفعالٍ؛ فإن قُوى تماسك الطابع السردي تأخذ في الانحلال إلا ما يَدْعم أفعال الإنجاز على مستويات محدودة ومتفاوتة. ويغدو الأمر رهين «تأكيدات أفكار مركزية». إن السرد يتباعد بانفراط العلاقات العِلِّيَّة بين الأحداث، فما يهم حينئذٍ ليس تغيُّرات الأحوال، وإنما تقديم مُسَوِّغات وتفسيرات وتمهيدات موازية، ومعالم موقف ووجهات جانبيَّة. أمورٌ تصاغ «أفكارًا» أولى من صياغتها «أحداثًا» تقع.

  • وكما يُعَوِّلُ السرد الشعري على الواقع يُعَوِّل على الأسطورة، سواء في بُعْدها الشعائري المقدس أو في بُعْدها الحياتي اليومي، ومن ثم قَدَّم لنا الشعرُ سرودًا تعود لطوابع أسطوريَّة، تعاور عليها الشعراء في قصائدهم بهيكل شبه ثابت المعالم، ومفردات متواترة في الغالب، وغدت مع كل استعمال شكلًا سَرْديًّا من أشكال معرفة الحياة وقراءة الكون وصراعاته ورموزه.

  • كذلك لم تتوقف الأسطورة عند حدود الطقوسي أو الشعائري أو المقدس. فليست الأسطورة فقط ما يصنعه التاريخ، بل منها أيضًا ما نصنعه بأنفسنا، ومن كلامنا ما يفترسه الاستخدام الأسطوري، أردنا أم لم نُرِد، فقد تتخلق الأسطورة في الحياة اليوميَّة ويُكسِبها الاستعمال الاجتماعي الرمزي استعمالًا جديدًا ينضاف إلى دلالتها اللغوية.

  • بدا السرد عن الثور الوحشي وكذا الحمار الوحشي سَرْدًا أسطوريًّا أنتجه الشعراء؛ إذ لم يحفظ لنا النثر على اتساعه نَصًّا يسجل هذه المشاهد، إذا كُنَّا نتوقف بها فقط عند حدود المشاهد الحياتية الواقعيَّة، ولكننا نجدها صنيعة الشعراء فقط وسردهم.

  • قَدَّم مفهوم السيناريو بمفهومه في السيميائيات والتأويل وعلم النص للبحث إجراءً مناسبًا لالتقاط الجُمل الهَدَف في النص، التي تؤدي إلى التقاط الحكاية، بما فيه من قدرة على ملاحظة «ثبات العناصر واطِّرادها»، وكذلك القبض على «نظام تتابع الأحداث»، وكان مدخلًا صالحًا لإدراج نَصٍّ ما ضمن حيز فَهْمه وتفسيره، وكان مِعوانًا في قراءة الغائب في النص من خلال الحاضر.

  • وجدنا أن الخبر الذي ينشأ على هامش القصيدة — فيبدو مؤرِّخًا لها، أو شارحًا، أو معلقًا عليها — قد ابتلع، في بعض الأحيان، شيئًا فشيئًا القصيدةَ في إطاره، على الرغم من أنه في أحيان كثيرة لم يقدم «إعلامًا» سرديًّا جديدًا ينضاف إلى «الإعلام» الذي تُحقِّقه القصيدة.

    لقد كانت الأخبار في أحسن الأحوال توسيعات محدودة للسرود الشعرية، وفي جل الأحوال كانت مجرد صياغة نثرية لما سَرَده الشعر. ولم نَعُد أمام حادثةٍ ما صاغتها الفاعلية السردية النثرية في الخبر، وصاغتها الفاعليَّة السردية الشعرية في القصيدة، وإنما سرد الخبر عالة على سَرْد القصيدة بما يجعل من القصيدة، بما تقدمه أو تتضمنه، هي النموذج المُخْتَزَل لمجموع الحكايات التي يقدمها الخبر ولاستراتيجيتها العميقة.

  • بَيَّنَّا كذلك أنَّ الشعر ينبَني سَرْديًّا في غير الاتجاه المباشر لسيرورة «المنطق» و«الزمان»، فهو لغة تقوم أيضًا على المغالطة في منطق التعاقُب، فتشعث الفاعليَّة الشعرية من التراتُبيَّة المنطقيَّة والزمانيَّة للوحدات السرديَّة، فَيُفْصَلُ بين وحدات مقطع ما من المقاطع بوحدات من مقاطع أخرى، وتقطع لحظاتٌ زمنيةٌ من أحداث ووقائع معينةٍ تَسَلْسُل لحظاتٍ زمنيَّة لأحداثٍ ووقائع أخرى. ويقوم الزمن على التداخُل والإخفاء والتأجيل والقطع.

  • كذلك يُعِين تتبعُ مقولتَي «السببيَّة» و«التتابُع الخطِّي» للأحداث الناقدَ أو القارئ على محاصرة التبعثُر الظاهري في النص الشعري، الذي هو أيضًا خَصِيصة سردية فيه، فالقارئ على الدوام يعيد ترتيب وتنسيق ما يقرأ، ويقيم علاقاته الخاصة بين وحدات العمل مستكشفًا بنية النص الخاصَّة به، التي يُنتج من خلالها المعنى الذي هو إنجازه الخاص.

  • عادة ما لا تكون السببيَّة في القصيدة من نمط السببيَّة الصريحة أو الضِّمنيَّة، وإنما تقوم في الغالب على أُسسٍ «احتماليَّة»؛ كأن يتبع حدثٌ آخرَ في الزمن، ويكون له به علاقة «معقولة»، وهنا ينتج «التعاقُب» إلى جوار هذه العلاقة منطقًا سببيًّا.

  • لم يكن استخدام الشعر للاسم — على الأقل في إطار النسيب — استخدامًا مجانيًّا حياديًّا مُفَرَّغًا من الوعي والخبرة، وإنما أخذ الاسم بما هو إشارة وعَلَم على شخصية يترصدها السردُ، أخذَ طابع الأمثولة الرمزية بتحقيقه لمغزًى دلالي معين.

  • أخذ الاسم بما هو إشارة لشخصية يُسْرَد عنها — خصائص دلاليَّة ورمزية متفاوتة وسمت بها، وأضحى محورًا لانتظام السرد حوله بهيئة معينة ومظاهر مخصوصة، كأن تغدو الأسماء علامات على حالات مخصوصة، وجوانب وصفيَّة بعينها، وتتغير الأسماء بتغير الحالات وتعدُّد الملامح. فالاسم ليس «عَلَمًا» قدر ما هو علامة على «أوصاف» و«وظائف» يجسدها السرد.

  • ويصبح الاسم، الذي يتواتر ويتكرر بنظامٍ ما، يصبح استخدامه رمزيًّا لما يتواتر فيه، وتصبح العلاقة مع دلالته علاقة استدعاء حالات وأمثولات. فإعادة كتابة الحالة، ومنها إعادة كتابة شخصيَّة المحبوبة وإعطاؤها اسمًا — وغالبًا ما هو مُتَلقًّى عن الآباء الشعريين — هو نوعٌ من إعادة تجسيد هذه الحالات السابقة.

  • ونجد كذلك أن بعض الظواهر الفنية في القصيدة الجاهلية عندما تؤسس لسلوكها الرمزي الدلالي فإنها تؤسس أيضًا لقِيمٍ سرديَّة خاصَّة تتبدى من خلالها. فكل ما يحيل على شخصية فنيةٍ ما، مثل «سلمى»، يحيل على «أفعال» و«عمليات»، في حين أحال أكثر السرد مع «رابعة» على «تصورات» و«أوصاف». حول «سلمى» أفعال وعمليات تحيل على «وظائف»، في حين كانت تصوراتٌ وأوصاف حول «رابعة» تحيل إلى «قرائن».

  • بعبارة أخرى وجدنا أن «امرأة الوصال» في السرد الشعري في القصيدة الجاهلية غالبًا ما يتم بناؤها من خلال النعوت، أما «امرأة الانفصال» فغالبًا ما يتم بناؤها من خلال الأفعال والأحداث.

  • وإذا كان «بارت» قد صَنَّف السرود إلى سرود شديدة «الوظيفيَّة»، كالخرافات، وأخرى سرود شديدة «القرينيَّة»، كالروايات السيكولوجيَّة، وبين هذين الصنفين سلسلة كاملة من الأشكال الوسيطة، خاضعة من حيث أساس تصنيفها لاعتبارات القصة، والمجتمع، والجنس التعبيري، فإن الشعر الجاهلي، في ضوء هذا التصنيف شعر في مجملة شديد القرينيَّة.

  • القصيدة الجاهليَّة قصيدة ذاتيَّة بامتياز باعتمادها على «الخطاب» أو السرد «الشخصي»، يتخلله أحيانًا سَرْد «لا شخصي» عن العالم والأشياء. وما هو ذاتي، ما هو شخصي يغدو هو لُب القصيدة الحكائي بوصفه مقولة الشخص المتكلم بالنص وما هو «لا شخصي» هو لغة ملء الهوامش، لغة التفاصيل والاستطرادات. ويغدو البحث عن ما هو «شخصي» تَحَسُّسًا لمركز النص وبؤرته المرجعيَّة.

  • ولعل أقصى ما يُحَمِّلُ القصيدة الجاهلية صيغتها الشخصيَّة طابَعُها «الخِطابي» الأصيل، من حيث لغتُها وأسلوبها؛ إذ تبدو كثرة كاثرة من القصائد وقد توجهت مباشرة لمخاطبٍ آخر، هذا الآخر قد يكون فعليًّا خلاف الصوت الذي يتكلم بالنص، وقد يعود ليُضحي هو المؤلف نفسه، وقد جَرَّدَ من نفسه — كما يقول القدماء — شخصًا آخر يخاطبه.

    إن الخطاب هو ما يؤطر القصيدة، ويَدْمج السرد أو الموضوعيَّة في إطاره، ليتحول السرد في النهاية إلى أحد عناصر الخطاب الشعري. إنه يظل مشدودًا إلى عُرى الخطاب ليصبح مكونًا من مكوناته.

  • وعلى الرغم من هذه الطبيعة الذاتية الأصيلة في الشعر الجاهلي إلا إنه يَصْعُب على الكلام أن يكون شخصيًّا على الدوام، حيث الذات تبادر العالمَ عاريةً إلا من صِدامِها مع الأشياء، والكون، وربما صدامها مع نفسها أيضًا. فمن حين لآخر يهرب الشاعر من ذاتيَّة لغته إلى لغة موضوعيَّة أخرى لتتحدث بها القصيدة. إنه يتحول إلى الأشياء وإلى لغة مصوغة حولها، لا تقدمه هو أو تعود إليه، بل إنها لا تقدم أحدًا إلا الأشياء نفسها، وقد صاغتها لغة لا تعود إلى متكلم بعينه.

  • على الرغم من هيمنة صوت شعري وحيد على القصيدة الجاهلية، هو صوت الشاعر إلا أن القصيدة لا تظل على الدوام على هذا النحو حيث لا صوت آخر إزاء صوت المؤلف أو بجانبه. ولكن من حينٍ لآخر يتكشَّف هذا الصوت داخليًّا عن تعدديَّة صوتيَّة، ويبين الصوت الوحيد عن لاتجانسه.

  • وعلى الرغم من أن القصيدة بما هي سَرْد تئول إلى وعيٍ وحيد ومرجعية واحدة نهائيَّة هي وعي السارد أو الشخصية؛ إلا أن ثمة مناطق في القصيدة يتنافذ فيها أكثر من وعي، وتكشف عن تباين وجهات نظرٍ يتم تضمينها أو اقتباسها أو الإيماء إليها لإنتاج حوارٍ يُخَلِّقُ رؤًى أكثر وعيًا ونفاذًا عبر استحواذ كلام الآخرين. ووجهات نظرهم وإعادة تمثيل كلامهم.

  • احتفى الكتاب ببعض المقولات السردية التي تعود إلى البنيويين أمثال «بارت» في كتاباته الأولى و«تودروف» و«جيرار جينت»، ولا يزال الطريق واسعًا لتطبيق أوسع لمقولاتهم على الشعر، هذا فضلًا عن إمكانية الإفادة من السرديات السيميائية التي طورها «غريماس» بشكل واسع.

  • وأخيرًا لا تزال دراسة الأشكال المتنوِّعة للسرد العربي — القديم بخاصة — محدودة، ولم تفارق خطواتها الأولى سواء أكان ذلك في دراسة الأشكال النثرية كالمقامات أو الحكايات أو المؤلفات التاريخية أو كتب المجالس وكتب الأدب العامة أم كانت في دراسة الشعر وما يكتنفه من طوابع سرديَّة. ولكن لا سبيل إلى تراكم معرفي إلا بالعمل الجاد وممارساتٍ متعددة تُقْدِم على مادتها بشيء من الجرأة والمغامرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤