الفصل الأول

الشعر وسرد الواقع

المبحث الأول: من التقاليد الأدبيَّة إلى تعيين الأماكن والشُّخوص

(١) من إشكاليات الأدب بعامَّة أنه ظاهرة مراوغة؛ ذلك أن باستطاعته أن يكون متعينًا ومطلَقًا في وقتٍ واحدِ، آنيًّا وسَرْمديًّا في الوقت ذاته. ويبدو هذا الطابع الإشكالي طابعًا محايثًا١ له، وخاصية لا زمنية فيه. ومن هنا نظر بعض الباحثين للشعر القديم في آنيَّته وتعيينه، في حين لم يَعْتدَّ آخرون بالتاريخ أو التعيين أو الوقائع أو ما يحيلنا إليه على الدوام طابعه التداولي والاستعمالي، متجاوزين — أحيانًا — عن قيمته الحيويَّة في التواصل داخل الثقافة العربية. وهنا نُشَدِّد على قيمة التواصل التي تُخَوِّلها الثقافة العربية للشعر، وبخاصة في المجتمع العربي القديم، لغةً وقِيمًا؛ حيث الثقافة العربية تُثَمِّنُ الشعرَ ثمنًا خاصًّا لم تُثَمِّنْه فنًّا آخر من فنونها.
ومن هنا ينطلق الكتاب من نظرة «جان موكاروفسكي»٢ حيث العملُ الفني ذو الموضوع — كالشعر والأدب بعامة — يمثل «علامَةً sign»٣⋆⋆ ذات طابع إشكالي؛ إذ يعمل على الدوام بوصفه علامة مستقلة، وكذا بوصفه علامة توصيليَّة. ومن ثَم فالعمل الأدبي يجمع بين كونه عملًا فنيًّا من جانبٍ، وكونه — في الوقت نفسه — كلامًا يعبر عن موقفٍ عقلي أو فكرة أو شعور … ويمثل هذا الطابع تناقضًا جدليًّا جوهريًّا يشكل تطوره علامات فارقة في تطور الأدب والفنون بعامَّة، وكذا يمايز بين أشكال الفنون في ذاتها.
وتشتمل العلامة حينئذٍ على عناصر ثلاثة:
  • (أ)

    «عمل - شيء» وهو رمز محسوس خلقه الفنان.

  • (ب)

    «موضوع جمالي» وهو المعنى الذي يقابله الرمز المحسوس في الوعي الجماعي، والذي يتكون من القاسم المشترك بجميع الحالات التي يثيرها هذا «العمل - الشيء» عند أعضاء الجماعة. ويحمل المعنى هنا البنية الخاصة بالعمل الأدبي.

  • (جـ)

    «علاقة» تربط العلامة بالشيء المشار إليه، ولكنها علاقة لا تحيل إلى وجود مُحَدَّد — فالعلامة هنا مستقلة بذاتها — بل تحيل إلى السياق الكلي للظاهرة الاجتماعيَّة الخاصَّة بوَسَطٍ مُعْطى (العلم، الفلسفة، الدين، السياسة، الاقتصاد …)

ولا يمكن في مثل هذا التصور اختزالُ العمل الفني إلى مجرد «العمل - الشيء»؛ إذ يختلف «الموضوع الجمالي» ﻟ «العمل - الشيء» — الذي يعمل باعتباره «دلالة» — باختلاف الزمان أو المكان أو جماعة التلقي.

ينضاف إلى ذلك أنه يوجد في كل فعل إدراكي لعمل ما — بالإضافة إلى النواة المحوريَّة التي تنتمي إلى الوعي الجماعي — عناصر ذاتيَّةٌ نفسيَّة تشبه إلى حَدٍّ بعيد ما يُسمى ﺑ «عوامل التداعي» في الإدراك الجمالي. ويمكن لهذه العناصر الذاتيَّة في حال خضوعها للنواة الجوهريَّة في الوعي الجماعي أن تتحول إلى عناصر موضوعيَّة.

وإذا كانت «العلامة» طبقًا للتعريف الشائع — فيما يرى موكاروفسكي — حقيقة سيميائية٤ ترتبط بحقيقة أخرى يُفْتَرَض أنها توحي بها، فإن الحقيقة التي يقوم النص مقامها حال كونه علامة مستقلة هي قدرته على أن يُسْتَخدَم وسيطًا بين أعضاء الجماعة نفسها. هذا إضافةً إلى قدرته التداوليَّة من خلال ما يكتسبه النص من وظيفة توصيلية.

وعندما يحيل العمل الفني — أو النص الأدبي هنا — إلى سياق الظواهر الاجتماعية، فإنه لا يطابق بالضرورة — فيما يرى موكاروفسكي — هذا السياق بطريقة تجعلنا نستطيع أن نأخذ هذا العمل مأخذ الشهادة المباشرة أو الانعكاس السلبي دون أي تحفُّظات. والعمل الفني — شأنه في ذلك شأن جميع العلامات — يمكنه أن تربطه بالشيء المعني علاقة غير مباشرة من النوع الاستعاري، أو من غيره من أنواع العلاقات غير المباشرة، دون أن يمنع ذلك أن تخص العلاقة الشيء المعني دون غيره. ويترتب على طبيعة الفن السيميائيَّة أن العمل الفني لا يجب أن يُسْتَغَلَّ وثيقةً تاريخيَّة أو اجتماعيَّة دون أن تُفَسَّر قيمته التسجيليَّة في بادئ الأمر، وهذه القيمة تكمن في نوعيَّة العلاقة التي تربط بين العمل الفني والسياق المُعْطى للظاهرة الاجتماعية.

وليس الموضوع في تلك الأعمال الفنية ذات الموضوع — والفنون تتفاوت في الوجود الفعلي أو الضِّمْني للعنصر التوصيلي؛ إذ تظهر بجلاء في الأدب والرسم والنحت، وتشحب في الرقص، وتتشعب بحيث لا تكاد تظهر في فنون أخرى؛ كالموسيقى والعمارة — نقول ليس الموضوع في هذه الأعمال وَحْدَه هو ما يقوم بالوظيفة التوصيليَّة، وإنما جميع العناصر المكونة للعمل — وحتى أكثرها شكلية — تملك قيمتها التوصيليَّة الخاصَّة؛ فالبنية كلها هي ما يحمل المعنى، ولا يلعب الموضوع سوى دور محور يتبلور حوله هذا المعنى الذي لولاه لظل غامضًا.

وبعض الأعمال ترسي أساسها — ولا يزال الكلام لموكاروفسكي — على الموازاة أو الموازنة بين علاقتين تربطان هذه الأعمال بواقع مُحَدَّد المعالم؛ إحداهما خالية من القيمة الوجوديَّة، والأخرى توصيليَّة محض، كما هو الحال بالنسبة للصورة الشخصية أو (فن البورتريه portroit) سواء أكان ذلك في الرسم أو النحت؛ إذ يجمع البورتريه بين كونه توصيلًا للشخص المُصَوَّر، وكونه عملًا فنيًّا مُجَرَّدًا من أيَّة قيمة وجوديَّة والشعر الجاهلي، فيما نتصور، مَجْلى لهذه العلاقة الجدلية بين ما هو توصيلي وما هو فنيٌّ مُفَرَّغٌ من قيمته الوجودية، بين ما هو واقعي — وربما تسجيلي في بعض الأحيان — وما هو تخييلي.

(٢) والاعتداد هنا في إطار الشعر الجاهلي بالوظيفة التوصيليَّة للعلامة لا يُعَطِّل قيمتها التخييليَّة؛ ففي الوقت الذي لا يمكن إغفال قيمته التوصيليَّة تظل قيمته التخييليَّة حاضرة.

وفي ظل هذا التواشج تصبح الوظيفة المستقلة للعلامة أو قيمتها التخييلية هي الوظيفة المهيمنة سيميائيًّا؛ إذ لا يمتنع أن يشير الشعر بعلاقات مواربة وغير مباشرة في أحيانٍ، ومباشرة في أحايين ليست بالقليلة، لأحداث ومواقف وشخصيات. ولكن مهما كان العمل الفني يُحَدد من أشياء وشخصيات وأحداث فإنها — رغم موازاتها للواقع الخارجي فيما يشبه نقلها — ليست هذه الأشياء تمامًا لخضوعها النهائي لتلك الوظيفة التخييليَّة. فما يتمثل في النص الأدبي ويَمُد صلات متفاوتة مع الواقع المُتَجَسِّد في العالم؛ إنما يتمثل عبر إشارات لغوية، وهنا يتحول مفهوم «الواقع» من «الواقع المادي» العَيني الخارجي إلى «واقع نَصي» محكوم بتقاليد الكتابة النوعيَّة أو تقاليد الجنس الأدبي.

وما يُحَدِّد منزلة الشعر بالأساس من حيث هو «كلام مُخَيَّل»٥ كما كان يقول عنه النقاد والفلاسفة العرب القُدامى؛ هو خروجه عن دائرة البحث في صدقه أو كذبه الواقعي الخارجي المادي؛ إذ الشعر أكاذيب بمعنى التشبيه والتمثيل والتخييل.٦ وكذا ما يحدد منزلته عند ناقد مثل «تزفيتان تودروف» أيضًا هو استعصاؤه على امتحان الصِّدْق؛ إذ لا هو بالحق ولا بالباطل، ولا وجود لجملة في النص الأدبي صحيحة أو باطلة، بما لا يمنع أبدًا من أن تكون للعمل برُمته طاقةٌ وصفيَّة معينة. والنص عند «تودروف» قد يملك من الامتثال للوقائع الخارجية ما يجعله «مُحْتَملًا» في مشاكلته للواقع، وهو ما يتأتى من خلال نمطين أساسيين من المعايير، يؤدي كل منهما للآخر في نهاية المطاف؛ الأول: هو ما يسمى بقواعد الجنس الأدبي، فكَي يكون بوُسع العمل أن يُعْتَبَر «مُحْتَمَلًا» عليه أن يمتثل لتلك القواعد. وتضحي مشاكلتُه الواقع حينئذٍ علاقة العمل بالخطاب الأدبي. وبالتحديد علاقته ببعض تفريعات هذا الخطاب، وهي تُكوِّن جِنْسًا أدبيًّا. والآخر: هو ما يُعَدُّ بمثابة الرأي العام. وهنا لا تدور الاحتماليَّة ليس بين علاقة الخطاب ومَرْجعه؛ فيتأسس ما يدور حول الصدق والكذب، وإنما تدور العلاقة بين الخطاب وما يَعْتقد القُراء أنه صحيح. وعليه تقوم العلاقة بين العمل وخطابٍ مَبْثوث يمتلك كل فرد من أفراد المجتمع بعضًا منه، ولكن لا أحد يستطيع أن يزعم امتلاكه؛ إذ هو خطاب يحوزه الرأي العام، خطابٌ ثالث مستقل عن العمل. وحينئذٍ يقوم هذا الرأي العام، هذا الخطاب الثالث بوظيفة القاعدة في الجنس الأدبي؛ بل يحكم كل الأجناس الأدبية.٧

إن الطلل والرحلة والطيف والسفر والصحراء والمطر والبرق والليل والخمر والرمح والسيف والفرس والناقة … هي بعض موضوعات السرد الشعري وتقاليده. ونعني بالتقاليد فاعليَّة النصوص واللغات التي تسبق وجود الأفراد وتبقى باستخدامهم، قد تتنوع التفاصيل والوظيفة داخل كل موضوع من تلك الموضوعات، ولكنها لا تكاد تخرج على نَسَق تواردها العام.

ولم تكن تقاليد القصيدة — وحدات سَرْدها الشعري — أوائل خطوات الشعراء مع القصيدة، لقد كانت ذروة تجاربهم الفنيَّة وعلامات رسوخ فنهم الشعري، حتى أضحى تكوين القصيدة على هذا النحو هو سَرْدية العرب الكبرى لحياتهم وفلسفتهم وفنهم ومعارفهم؛ حيث أضحى الشعر مَجْلى للثقافة؛ ثقافة الأفراد وثقافة المجتمع.

إن الشاعر العربي وهو يكتب قصيدته أو يرويها يَسْرُدُ عن الحياة والوجود، عن ذاته وداخله، عن المجتمع والكون، وكذا يَسْرُدُ قِيَمًا شكليَّة وبِنية جوهرية وخبرة جماليَّة لبناء القصيدة. فما هو من صُلْب الواقع — إلى جانب الموضوع — تقاليد الكتابة وقواعد النوع، ومن ثم يغدو نظام القصيدة العربية: «أقرب ما يكون إلى قالب ذهني مجرد أو إلى صيغة إدراكيَّة مهيمنة تحيط بكل طارفٍ وتليد في الوعي العربي باللفظ الشعري، بإيقاعه المتآلف المتداعي، وبدراية ضمنيَّة للأشياء والأمور والرموز، وذلك من خلال ترتيبها حسب منطق تنظيمي متوارث أُطُرًا وأشكالًا بنائية، لا يعرف الشاعر العربي لها بداية، كما أنه طوال قرونٍ لم يتساءل متى وإلى أين ستنتهي».٨

والشعراء في وقوفهم على الأطلال أحيانًا ما «يربطون ربطًا قويًّا بين الحياة ووجود المرأة، فالديار عامرة، والأرض مُخصبة، والشمس مشرقة، والمراعي مزدهرة، والماء وفير، والكلأ كثير، والماشية مملوءةٌ حيويَّةً ونشاطًا، يبدو عليها أثر الرِّيِّ والشبَع؛ ما دامت المرأة التي يتحدث عنها الشاعر مقيمة في هذه الديار.

أما الديار التي فارقتها المحبوبة، فهي خرِبة موحِشة، قد سكنتها الوحوش الآبدة، والطيور الجارحة، ونعقت فيها الغربان، وانعدمت فيها وسائل العيش، وعَمها الظلام، وأحاطت بها الرهبة والوحشة، كل ذلك في صور شعرية متلاحقة يقابل فيها الشاعر بين الحياة والموت، والحركة والسكون، والسعادة والشقاء، ولين العيش وشظفه».٩

والشعراء حينئذٍ يَسْرُدون عن الأطلال بما هي سَرْد عن موضوع شعري آخر، قد يكون المرأة أو الحياة أو السعادة أو ما إلى ذلك من موضوعات. قد يَسْرُدون عن الطلل والنسيب والرحيل والسفر وغيرها من تقاليد محدودة، ولكن ليقولوا من خلال هذا السرد «اللامحدود»؛ يَسْرُدون عن الطلل ليتأملوا الوجودَ والتغير، يَسْردون عن الناقة ليقولوا عن الحياة والمواجهة، يَسْردون عن الثور ليقدموا صورة الفَلاة في علاقتها بالثور. ولا يمنع هذا بالطبع سردهم المباشر عن وقائعَ حياتيَّة مباشرة، يتتبعونها كيفما اختلفت ويتأملونها.

(٣) وتفصيلات الحياة ووقائعها البسيطة أو مغامراتها في مقدمة اهتماماتهم، ومهما كانت دلالاتها وأبعادها تمثل قيمة تجريدية فإنها تبقى وقائع الحياة وتفاصيلها اليوميَّة، كأنْ يذكر تأبط شَرًّا ﻣﻔ (١) حادث هربه من بجيلة حين أرصدوا له كمينًا، فأخذوه وكتفوه، ثم ما كان من تدبيره حيلةً هو وأصدقاؤه نجوا بها عَدْوًا على الأقدام. أو ما كان من نفار زوج الجميح، وإصغائها لتحريض عدوه ﻣﻔ (٤). أو مقاضاة جُبَيْهاء الأشجعي للرجل التميمي الذي استمنحه عَنْزًا له وأمسكها دهرًا لا يَرُدها ﻣﻔ (٣٣). أو الاعتذار عن الفشل في الخِطْبَة ﻣﻔ (٣٧). أو ما كان بين حاجب بنِ حبيب الأسَدِي وامرأته في سياسة المال ﻣﻔ (١١٠)؛ إذ تلح عليه أن يبيع فرسه مُحتجَّةً بارتفاع أثمان الخيل وأن الفرصة مواتيه لبيعه، ورَده حجتها بتَعداد مناقب فرسه وغنائه في الحرب وفي السِّلْم.

والقصيدة الجاهلية مُولَعة بتعيين الأماكن والشخوص والوقائع. وهي تعيينات تستنزل النص في حيز الوجود وتجعل له وجودًا تاريخيًّا مرتبطًا بهذه التعيينات. فالمكان مثلًا في قصيدة ربيعة بن مَقرْوم الضَّبي ﻣﻔ (١١٣) يَنْقسم بين الشاعر ومحبوبته المفارِقة بناءً على الفعل «شَطت»:

تذكرتُ والذِّكْرى تَهِيجُكِ زَيْنبا
وأَصْبَح باقي وَصْلِها قد تَقَضَّبا
وحَلَّ بِفَلْجٍ فالأباترِ أهلُنا
وشَطَّتْ فَحَلَّتْ غَمْرَةً فمُثَقَّبَا

فيصبح — حتى ولو لم نكن على عِلْم بالموقع الجغرافي للأماكن المذكورة — يصبح «فلج» و«الأباتر» هنا، بينما يغدو «غَمرة» و«مُثَقَّب» هناك. يدخل في نطاق «هنا» الأهل والأصدقاء، أنا/الشاعر بما يملكه من حنين وشوق ورغبة في التواصل. ويدخل في نطاق «هناك» الأغراب والأباعد، المنقطعون، هي حيث «تقَضَّب الوَصْلُ». ويتحول المكان من قيمة مشتركة للطرفين الشاعر والحبيبة إلى علامة على التباعُد والمواجهة التي تقتضي الاختلاف؛ ففلج والأباتر في مواجهة غمرة ومثقب، وهي مواجهة إيقاعية وتركيبيَّة أيضًا؛ فكل زوج منها في شطر مواجه للآخر، وداخل بناءٍ نحوي يقابله.

ويتخطى التبريزي شرح هذه الأماكن، وكذا مُحقِّقا المفضليات، ولكن محقق شرح التبريزي يحدد هذه الأماكن من معاجم المواضع والبُلْدان، ﻓ «فلج: وادٍ في طريق مكة، بين البصرة وحمى ضريَّة، من منازل عَدِي بن جُندُب العنبر بن عمرو بن تميم … والأباتر: موضع في ديار بني أسد، قبل فلج … وغمرة: منهل من مناهل طريق مكة، ومنزل من منازلها، وهو فصل ما بين تِهامة ونَجد. ومثقب: موضع.»١٠ وهذا التباين في التعامل مع المكان يعكس وجهة نظرٍ ما؛ إذ إنها مواضع واقعيَّة في الحياة العربية أصبحت بالفعل أماكن شعرية عندما دخلت حيز القصيدة، ولكنها تظل في الأذهان مشدودةً إلى رصيدها الواقعي، ويظل لها هذان الجانبان. ويبدو أن هذا الطابع الشعري، الذي يأخذ من المكان مجرد كونه مكانًا، هو ما أعرض بالتبريزي ومحققي المفضليات عن التحديد المادي لهذه الأماكن، اكتفاءً بتلك القيم الجمالية التي يؤسسها النص الشعري، في حين كان الطابع الوثائقي للشعر هو ما حدا بمحقق الشرح إلى تعيينها.

(٤) ويحدد راشد بن شهاب اليشكُري خطابه في ﻣﻔ (٨٦) بأنه إلى قيس بن مسعود، ويُعيِّنه في ب (١١) رغم أنه هو المعني على طول الأبيات ومن بداية النص:

أقيسَ بنَ مسعودِ بنِ قَيْسِ بنِ خالدٍ
أمُوفٍ بأدْراع ابنِ طَيْبَةَ أم تُذَمّْ

ويتوعده أشد الوعيد ويطلب منه أن يكف عن الهَجو وإلَّا نَدِمَ، ويتهدده بالسلاح، فينعت حينئذٍ سيفه وقوسه ورمحه ويذكر كرمه وعزَّه، وهنا يحكي عن قَصره:

بَنَيْتُ بِثَاجٍ مِجْدَلًا من حجارَةٍ
لأَجْعلَهُ عِزًّا على رَغْمِ منْ رَغَمْ
أَشَمَّ طُوَالًا يَدْحَضُ الطَّيْرُ دونَهُ
له جَنْدَلٌ ممَّا أعَدَّتْ لَهْ إِرَمْ
ويأْوِي إليهِ المُسْتجيرُ من الرَّدى
ويأوي إليه المُسْتعيضُ من العَدَم

إن هذا المِجْدَل، أو القصر، رمز للعِزَّة والنُّصْرَة، وعلامة شِعرية دالَّة بقوة داخل بناء القصيدة، بما يوفره النص له من أوصاف وعلاقات، وفوق ذلك يُثَبِّتُ القيمة الخُلُقية والسلوكيَّة في المكان الذي يتعيَّن ﺑ «ثاج». والمكان هنا ليس مراوغة؛ إذ إن مصداقيته طبقًا للواقع الخارجي ركنٌ أصيل في مصداقية النص الشعري.

وربيعةُ بنُ مَقْروم الضَّبِّي بعد أن أفاض في سرد نُعوته الشخصيَّة في مُفَضَّلِيَّته السابقة ما إن بدأ في السرد عن قومه حتى طالعنا في أبيات خمسة بحَشدٍ من الأعلام ب (٢١–٢٥):

ونحن سَقَيْنا من فَرير وبُحْتُر
بكُلِّ يدٍ مِنَّا سِنَانًا وثَعْلَبَا
ومَعْنٍ ومن حَيَّيْ جَدِيلَةَ غادَرتْ
عَمِيرَةَ والصِّلَّخْمَ يكْبو مُلَحَّبَا
ويومَ جُرادَ اسْتَلْحَمَتْ أَسَلَاتُنا
يَزيدَ ولم يَمْرُرْ لنا قَرْنُ أعْضَبا
وقاظَ ابنُ حِصْنٍ عانيًا في بُيوتِنا
يُعالِجُ قِدًّا في ذِراعَيْهِ مُصْحَبَا
وفارسَ مَرْدُودٍ أشاطَتْ رماحُنا
وأجْزَرْنَ مَسْعودًا ضِبَاعًا وأَذْؤُبَا

فالأبيات تُعَدِّد بطونًا كلها من طيِّئ، وفرسانًا بواسل دارت عليهم الدائرة على يد القبيلة، وتذكر يومَ جُراد، وهو يوم من أيامهم. فأضحت الأبياتُ وثيقةً تجمع البطون التي ينتمي إليها الخصوم (فرير - بُحْتُر - مَعْن - جَدِيلة، ومنها عَمِيرة والصِّلَّخْم)، وكذا غدت مُحَمَّلَةً بالأخبار المشينة لهؤلاء الفرسان (يزيد - ابن حِصْن - فارس مَرْدود - مَسْعُود) أولئك الذين تَجَرءُوا على محاربتهم، بل إنها تُنَكِّلُ بسيرتهم. إن الأبيات لم تُكْتَبْ هنا إلا لِتَذيعَ وتُحْفَظ، تُدَوِّن الهزيمة وتَسْرُدها للآخرين المعاصرين، وللأجيال اللاحقة.

ويبكي مُتَمِّم بن نُوَيْرَة في ﻣﻔ (٦٧) أخاه مالِكًا، وهو كما يقول: لا يؤبِّن أو يَجْزَع، وإنما يُنَوِّه بمآثر أخيه ويَسْرُد عن أفعاله وأخلاقه ومروءته. ومالك هو موضوع القصيدة الذي ينتظم حوله الخطاب ويجعل من القصيدة خطابًا منسجمًا، والنص يدور حوله بذكر اسمه وإعادته والإشارة إليه بالضمائر وبغير ذلك من أوصاف.

والقصيدة تبدأ لا بذكر اسمه وإنما بتعيينه من خلال مجموعة من الأوصاف: «فتًى غير مِبطانِ العَشِيَّات» ب (٢)، «فتى … أرْوَعا» ب (٢)، «لبيب» ب (٤)، «خصيب» ب (٤). أو الإحالة إليه بالضمير: «تراه كصَدر السيف» ب (٥)، «وإن تَلْقَه في الشَّرْب لا تَلْقَ فاحشًا» ب (٧). ومن حين لآخر يُذكر اسمه في مواضع متعددة على نحو ما نجد في الأبيات: (١١، ١٢، ١٦، ٢٠، ٢٤، ٣٣، ٤٤، ٤٩، ٥١).

وقد يقتضي ظاهر السرد عنه ذكره ثم الإحالة إليه. ولكن ما يحدث هو أن النص يعيد ذكر الاسم في مواضع عِدَّة من القصيدة على الرغم من تعيين المرجع، بدلًا من الإحالة إليه، وكأن الكلام ينقطع لِيُسْتأنَف عنه مَرَّةً أخرى.١١ وربما كان هذا الإضمار عَوْدًا إلى الأصل في بناء اللغة؛ إذ «الضمير كناية عن الاسم الظاهر كما يقول الكوفيون».١٢ ولكن مع اطراد النص واتحاد المرجع يبدو أن قطع الإحالة وظهور الاسم على هذا النحو هو العدول عن الشائع في بناء النصوص؛ إذ إن هذا الظهور يؤدي إلى شبه استقلال لهذه المقاطع التي يظهر فيها الاسم. يقول الرضي: «وإنما احتاجت إلى الضمير؛ لأن الجملة في الأصل كلام مستقل، فإذا قصدتَ جعلها جُزءَ الكلام، فلا بُد من واسطة تربطها بالجزء الآخر، وتلك الواسطة هي الضمير؛ إذ هو الموضوع لمثل هذا الغرض».١٣

والاسم هنا لا يمكن أن يكون إلا إشارة لهذا المتعين (مالك بن نويرة)، وسيظل النص مشدودًا إليه ما دامت الإحالة تتوجه نحوه، وظلت الأخبار تحوط النصَّ وتتحرك به، ويتناقلها الرواة ما تناقلوا النَّص ذاته. إن الاسم «مالك» لا يظهرُ إلا مقرونًا بقيمة سلبية إزاء الحياة، وتُترك الإحالة غالبًا للقيم الإيجابيَّة. فالاسم لا يَظْهَرُ إلا مقرونًا بالموت ومرادفاته، على الرغم من أن النص يذكر جُوده وشجاعته ومروءته، إن الإحالة إليه حينئذٍ تكون من خلال الإضمار. فالاسم يَرد على هذا النحو:

ب (١١): هَلَّا تبكيان لمالكٍ

ب (١٢): فابكي مالكًا.

ب (١٦): لم يُلْفَ مالِكٌ

ب (٢٠):

فلما تَفرَّقنا كأني ومالِكًا
لطول اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معًا.

ب (٢٤): قَبْرُ مالِكٍ

ب (٣٣): غيَّرَني ما غالَ قَيْسًا ومالِكًا

ب (٤٤): يومَ قامَ بمالِكٍ مُنادٍ

ب (٤٩): صادفَ الحَتْفُ مالِكًا

ب (٥١): مَقْتَلُ مالِكٍ

إن هذا التكرار وإعادة الاسم أثرٌ من آثار ليس فقط واقعيَّة النص، بل أيضًا أثرٌ من آثار واقعيَّة الاتصال وحيويته مع المستمع أو القارئ. وكذا أثرٌ لارتباط الاسم برصيد انفعالٍ نفسيٍّ لا يُغْني عنه استبدال الضمير به، فالاسم حينئذٍ كأنه ليس بطاقة على هذا المرجع، على هذا الغائب، إنه استحضارٌ له. إن الاسم حينئذٍ يعمل كأنه «مالك» نفسه. وهو ما يعزز فجيعة الفقد.

المبحث الثاني: الشعر وسَرْد التأريخ١٤

(١) على الرغم من أن المسرودات التاريخيَّة والتخييلية تبدو مختلفة كليةً في منشئها — فيما يرى «والاس مارتن» — إذ السرد التخييلي (الروائي عند مارتن) حُرٌّ في البدء من «بذرة» مشهد أو شخصيَّة، يُضاف إليها أي شيء ممكن التخيل. أما السرد التأريخي فيبدأ من سلسلة زمانية مُشَبَّعة تمامًا بالأحداث، تحتوي كل لحظة أحداثًا قد تكون أكثر مما يمكن استخدامه، ولا يمكن تغيير أحدها. أما تلك اللحظات التي تفتقر إلى سجلات أحداثٍ كافية فيمتنع ملؤها بالحدس.

ولكن على الرغم من هذه الاختلافات فإن السارد التاريخي والسارد التخييلي يواجهان المشكلة ذاتها؛ مشكلة إظهار أن وضعيَّةً في بداية سلسلة زمانيَّة تؤدي إلى وضعيَّة مختلفة في نهايتها. وإمكانية تعيين سلسلة كهذه يعتمد على الافتراضات التالية:
  • (١)

    افتراض الموضوع الواحد: إذ يجب أن تكون الحوادث المُضَمَّنة جميعها ذات صلة وثيقة بموضوع واحدٍ، مثل شخص أو منطقة أو أُمَّة.

  • (٢)

    افتراض الاهتمام الإنساني: إذ يجب أن تكون الحوادث المُضَمَّنة جميعها مُوَحَّدة فيما يتعلق بقضيَّةٍ ذات اهتمام إنساني يشرح العِلِّيَّة.

  • (٣)

    افتراض علاقات السبب والنتيجة في إطار زمنيٍّ.

ومثل هذه الافتراضات لا تمثل تقييدات بالنسبة للسرد التخييلي أو التأريخي؛ إذ هي بالنسبة للأول تخلق (إمكانيَّة السرد)، وبالنسبة للأخير توفر له — وهو يواجه كُتلةً من الحقائق — نقطةً يبدأ منها.١٥ ولكن مثل هذا التحول في الوضعيات الذي هو سمة كل ما هو تاريخي، كل ما هو تحولي نجده في السرد التاريخي وبعض السرود التخييلية النثرية المعاصرة، كالرواية، ولا يمتنع أيضًا أن يوجد في السرد الشعري الذي يترصَّد مثل هذه التحولات، أو يُمعِن في كتابة التاريخ شأن الملاحم، ولكن القصيدة الجاهلية تَتَماسُّ بجوهريَّة مع ما هو تاريخي من حيثُ الحادثةُ وتناثُر الجزئيات بما لا يعبِّر بالضرورة عن (استراتيجيات) تحولٍ زمني، فالسَّرد أبدًا مُنشغل بالحوادث لا في تعاقُب لحظاتها التاريخية، وإنما بالحادثة في لحظة ما. ومدار اهتمامه على «تدوين الواقعة» التي يأخذ الشاعر فيها موقع المؤرخ والشاهد والمرجع. فالشعر «يسجل» الحوادث كما يسجل النَّزَعات والآمال والقيم.

والسرد الشعري لا يسلسل الحوادث، وقد لا يترصَّدها هي في ذاتها، وإنما تَتْأَرُ عينه «القيمة» التي وراءها. وعندما يسجل الشاعر انتصار قبيلة على أخرى، فهو يهدف إلى قيمة النصر أو ما يستَتبِعها من نحو البطولة أو الكرامة أو الشرف وما إلى ذلك. ولا يبحث في أسباب النصر أو الهزيمة ليأخذ دوافع الأحداث أو خلفياتها، وإنما ليُوبخ على قيمةٍ كالتخاذل أو الغدر أو الضعف أو العصيان أو العداوة، أو يمجد التماسك أو الشجاعة أو الحزم، وما إليه من قيم تدخل فيما هو إنساني في فلسفة النظرة التاريخيَّة.

وهنا يذكر والاس مارتن أن أرسطو كان يرى أن السرد التخييلي أكثر فلسفية وعلميَّة من التاريخ؛ لأنه يتعلق بالحقائق العامة، فهو يعالج ما يحدث عادةً لا ما حدث فعلًا مما لا يمكن شرحه بالإشارة إلى قوانين عامَّة.١٦
ومثل هذه «الذاتية» التي يمكن أن توصَف بها السُّرود التخييلية، بما يجعلها أحيانًا خصيمًا للموضوعية أو الحقيقة، ليست مثلبًا لهذه السرود. فإذا كانت جهود التاريخيين — فيما يرى «جُوزِف هورس» — قد دارت على «حقائق» كائنة بذاتها، تقع خارج ذوات المؤرخين، وظل يُنظَر إلى ذاتية المؤرخ بأسفٍ شديد، فقد أضحت هذه «الذاتية» نفسها هي ما يُطالب به اليوم باسم «الحقيقة التاريخيَّة» نفسها، فالمؤرخ لا يستطيع الحكم على شخصيَّة تاريخيَّة أو فِعْلٍ ما إلا إذا أحْسَن الانتباه إلى ذاته؛ ذلك أن المؤرخ يُحيي ذكرى هذه الشخصيَّة أو ذلك الفعل، أو على الأصح يعيد فعله ويَرُد إليه الحياة، ومن ثم فمعرفة العالم تستحيل بعيدًا عن اعتبار هذا «الداخل»، بعيدًا عن أن يتهيأ لها الخيال والإحساس.١٧ وهنا تتقارب المسافة أكثر بين السرد التاريخي والسرد التخييلي.
(٢) وأبيات بشر بن أبي خازم ﻣﻔ (٩٦) ب (٨–٢٢) على سبيل المثال تقدم معلومات هامة ومباشرة عن يوم النِّسار، قد يكون مدارها على تمثيل القوة والشجاعة والعِزَّة، ولكنها أيضًا تُوثِّق لبعض تفاصيل هذا النصر. وفي مقدمة هذه المعلومات:
  • إجابة بني أسد دعوة بني سعد بن ضَبَّة.

  • شطط هوازن وفشل محاولات ردهم.

  • محاربة هوازن وإلحاق الهزيمة بهم، وتبديد شملهم.

  • قصدهم قُشَيرًا (بطن من هوازن)؛ إذ كانت الحرب من أجلهم، وهزيمتهم.

وهنا سوف نطالع كيف تتآلف مفاهيم عالم النص الأوَّلية عند «روبرت دي بوجراند»؛ الأشياء، والأوضاع، والأحداث، والأعمال، لإنتاج معلومات وتفاصيل أكثر حول هذه المعلومات، أو بالأحرى تنبني من خلالها، حيث:
  • الأشياء Objects هي العناصر المفهوميَّة ذات التكوين الدائم، أو الهويَّة الدائمة.
  • والموقف Situations هي أوضاع الأشياء الموجودة، وحالاتها الحاضرة.
  • والأحداث Events هي الوقائع التي تُغير الموقف أو تغير حالة في إطار الموقف.
  • الأعمال Actions وهي الأحداث المتَعَمَّدةُ الوقوع من فاعلها.١٨
وهنا، حيث المقامُ مقامَ بحث سرْديات، سوف نشير ﺑ objects إلى الأشياء والأشخاص في الموضع الحكائي.

إن أبيات بشر حافلةٌ بالأشياء والأشخاص والكائنات، حيث «بنو سعد بن ضَبَّة» – قوم الشاعر (نا) – «هوزان» – الضروس – الملا (الصحراء) – شهباء – الضراء – الرقيب – نشاص الثريا – الجَنوب – ذات القِدْر – قِدْر المرأة وما به من سمن – الكلاب – جراؤها – «اليمامة» – «أوطاس» – المعلوب (الطريق الموطوء المعَبَّد) – العِصِي – غُدْوة – الليل – الخيل – الدلاء – القَلِيب – كتيبة – «بنو عامر» – نساؤهم – عجوب النساء – العضاريط (التُّباع والأُجَراء) – الدُّمَى – الزعفران – الجيوب – رهوة – القلوب – مَنْبِت السِّيفَيْن – مُضَرُ الحمراء.

أما المواقف والأحداث والأعمال فتُبين من الأبيات، يقول بِشْر:

(٨) أجبنا بني سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ إذْ دَعَوْا
وللهِ مَوْلى دَعْوَةٍ لا يُجيْبُها
(٩) وكُنا إذا قُلنا: هوازِنُ أقْبِلِي
إلى الرُّشْدِ، لم يأتِ السَّدادُ خطيْبُها

البيتان معًا يقدمان «الموقف» المشكل بعَدِّه حالةً أقرب إلى الثبات، وتمام التحقق في الماضي. حتى هذا الفعل الذي أصبح يدور في فلك «إذا» بما فيها من شرطٍ وظرفيَّة (إذا قلنا هوازنُ أقبلي)؛ يُلاقى دومًا بهذا الجواب الذي لا يُخْلَف؛ إذ لا جديد في معالم الوضع.

والموقف ذاته مبنيٌّ من أعمال وأحداث ومواقف داخليَّة. فدعوة بني سعد بن ضَبَّة «عمل action»، وإجابتهم «عمل»، وأمر هوازن بالارتداع «عمل»، وإباؤهم «عمل» كذلك. ولكن إجمالًا هذه الأوضاع المشكَّلة من الأفعال وردود الأفعال، أو الأفعال واستجاباتها تشكل بالنسبة للموضوع — محل النظر — عنصر الموقف.

أما البيت العاشر فهو أول «الأعمال» إزاء هذا الموقف، وهو فعل الردع الحاسم، هو «العمل» الذي سوف تصبح معظم الأعمال التالية له غير خارجة عن حيِّزه الدلالي، حيز «الحرب»:

(١٠) عطفنا لَهْم عَطْفَ الضَّروسِ من الملا
بِشَهْباءَ لا يَمْشي الضَّراءَ رقيبُها
لقد مالوا إليهم ميل الناقة الضروس (الناقة السيئة الخُلُق على من يدنو منها في وِلادِها)، بكتيبةٍ لا يَستخفي رئيسُها لِعِزِّها وكثرتها. ولعلنا نلحظ داخل هذا «العمل action» أن ثمة «مواقف situations» داخليَّة، كوضع هذه الكتيبة، حيث تجاهر بقوتها وقوادِها. وفي البيتين التاليين يقول:
(١١) فلما رَأوْنا بالنِّسارِ كأننا
نَشاصُ الثُّرَيَّا هَيَّجَتْها جَنُوبُها
(١٢) فكانوا كذاتِ القِدْر لم تَدْرِ إذ غَلَتْ
أتُنْزِلُها مَذْمُومَةً أم تُذيبُها
فما يقدمه في ب (١١) من تصوير للعمل السابق (عطفنا عليهم) يندرج في قائمة «الأحداث events»؛ إذ هو نِتاج تَبَصُّر هوازن بتلك الكتيبة الشهباء، ورؤيتها رؤيةً نفسيَّةً قوامها الخوف والرهبة، وهو ما كان عنه البيت (١٢) لقد تَحَيروا فكانوا كتلك المرأة السائلة، فاجأها مَنْ يُداخلها منه الذُّعر، فَتَحَيَّرت، فهي بين انقباضها عن القصد وضَنِّها بالسَّمن المُذاب. وكل هذا يتضمَّنه الموقف الجديد الذي آلت إليه هوازن بعد موقفها السابق في ب (٩)، بعد أن رفضت كل مساعي الصلح، ودعوات التراجع، وأبت إلا اللِّجاج.

والأبيات التالية جُلُّها يُبيِّنُ هيئةَ قتلهم لهم إجمالًا ب (١٣–١٦). ولقُشَيْرٍ ب (١٧، ١٨). ولبني عامر ب (١٩–٢٢). وتبدأ الأبيات (١٣–١٥) بأعمالٍ كلها يُبَيِّن هذا القتل: قطعناهم – نقلناهم – لحوناهم. وتعود هذه الأفعال ليبيِّن هيئتها أيضًا فيما يليها في صدر كل بيت:

(١٣) قطعناهُمُ فباليمامةِ فِرْقَةٌ
وأُخْرى بأوْطاسٍ تَهِرُّ كليبُها
(١٤) نقلناهُمُ نَقلَ الكلابِ جراءَها
على كلِّ مَعْلُوبٍ يَثُورُ عَكُوبُها
(١٥) لَحَوْناهُمُ لَحْوَ العِصِيِّ فأصبحوا
على آلةٍ يشكو الهوانَ حَريبُها
(١٦) لَدُن غُدْوَةً حتى أتى اللَّيْلُ دونَهُمْ
وأدْرَك جَرْيَ المُبْقِيات لُغُوبُها

وتعود هذه الأعمال لتؤَطَّر زمنيًّا بالبيت الأخير.

وتُقَدَّم فِعالُهم ﺑ «قُشَير» من خلال أوصاف حالة:

(١٧) جَعَلْنَ قُشَيْرًا غايةً يُهْتَدى بها
كما مَدَّ أشْطانَ الدِّلاءِ قَلِيبُها
(١٨) إذا ما لَحِقْنا منهُمُ بكتيبَةٍ
تُذُكِّرَ مِنها ذَحْلُها وذُنوبُها

فالشطر الأول يقتضي إحراز الهدف وإمعان القتل في قَصْدٍ لا يتلوَّى يمينًا أو يسْرَةً، والعبارة في ظاهرها قد تحمل معنى التبجيل والتقدير؛ أن يجعلوهم غايةً يُهْتَدى بهم، ولكن السياق والبيت التالي يهدِمان هذا التوقع المبني على مجاراة ظاهر الكلام، فيُضحي الأمر في النهاية سخريةً بهم واستهزاءً بأقدارهم.

فالشطر الثاني من البيت الأول يفيد ملازمة التتبُّع واقتناص الهدف. وكذا لا تُتْرَك «قشير» في ب (١٨) لنيَّة القتل والعزم عليه، وإنما تدخل وقائع التَّذكر بوصفها «أحداثًا events» لتحمي وطيس الحرب؛ إذ يتذكر المقاتلون ثاراتهم فتشتد عزيمتهم ويصبح قتالُهم أنْكى لأعدائهم.

ولكي يكون التشهير بالهزيمة أبعدَ انحنى على ذكر النساء:

(١٩) بني عامِر إنا تركنا نِساءَكم
مِنَ الشَّلِّ والإيجافِ تَدْمَى عُجُوبُها
(٢٠) عَضَاريطُنا مُسْتبطِنو البيْضِ كالدُّمَى
مُضَرَّجَةً بالزَّعْفَران جُيُوبُها
(٢١) تَبيتُ النساءُ المُرْضِعَاتُ برَهْوَةٍ
تَفَزَّعُ من خَوْفِ الجَنانِ قُلوبُها
(٢٢) دَعُوا مَنْبِتَ السِّيفَيْن إنَّهُما لنا
إذا مُضَرُ الحَمْراءُ شُبَّتْ حُروبها

وأيضًا لا يُقَدِّم الشاعرُ أفعاله بوصفها أعمالًا، وإنما يُقَدِّمُ نواتجها من خلال مواقفَ، من خلال تلك الوضعيات التي صار عليها النساء:

فهن أبدًا لا يَقُمْنَ بأحداث مُتَعَمدة في اتجاه مضاد للحدث الرئيس الواقع عليهن وعلى أهلهن (القتل للمحاربين والسبي والترويع للنساء)، وإنما تُقَدَّم أعمالهن على أنها مآل الوضع والمناوشة، ونواتج أعمال بني أسد.

المبحث الثالث: الخطاب وإقحام الوسيط؛ السرد عبر الرسالة

(١) وفرةٌ من نصوص المُفَضَّلِيات تحتوي صيغة مشتقة من الجذر «ب. ل. غ» بقصد الإبلاغ والمراسلة من نحو «أبْلِغْ – فَبَلِّغَن – مَنْ مُبْلِغٌ – أبْلِغا …» وقِلَّةٌ منها كانت على «قُلْ».١٩
وهكذا يتكرر البلاغ في قوالب صياغيَّة٢٠⋆⋆ من مثل:
  • أبْلِغْ

  • مَنْ مُبْلِغٌ

  • ألا أبْلِغْ

  • ألا مَنْ مُبْلغٌ

  • ﻓ أبْلِغْ

  • ﻓ بَلِّغَن

  • ﻓ مَنْ مُبْلِغٌ

  • قُلْ

وفي هذا الشكل الإبلاغي أو الرسائلي تتحدد بدقة أطراف المراسلة والإبلاغ:
  • الشاعر الذي هو دومًا حاضرٌ باسمه وبشخصيته الشعرية.

  • المرسل إليه أو المراد إبلاغُهم؛ شخصًا كان أو قبيلةً أو جماعةً ما …

  • موضوع الإبلاغ الذي يوجِز فيه الشاعر أو يُطنِب.

فالإبلاغ مثلًا في ﻣﻔ (١٠) من بَشَامةَ بن الغدير إلى «أماثل سهم». فسهم قبيلته، وأماثلهم خيارهم. وفي ﻣﻔ (١٢) من الحُصين بن الحُمام المُرِّي إلى أَنَس بن يزيد بن عامر المُرِّي، يُصَغِّره باسم «أُنَيْسًا». وفي ﻣﻔ (٤٥) من المُرَقِّش الأكبر إلى أخويه أنس بن سعد وحَرْمَلة بن سعد. ﻣﻔ (٦٤) المراسلة فيها من عَمِيرَة بن جُعَل إلى إياس وجَنْدل. وهما رجلان يتوعدهما بالسلاح. وﻣﻔ (٧٠) من بِشْر بن عمرو بن مَرْثَد إلى عمرو بن كلثوم وصاحبَيه. ﻣﻔ (٨١) من المُمَزِّق العَبْدي إلى النعمان بن المنذِر. وهكذا.

ومما نلحظه أيضًا ارتباط هذه الإبلاغات بنهايات القصائد في الغالب، وكأن الإبلاغ يأبى على القصيدة أن تعود لموضوعٍ آخر.٢١ أما عندما تبدأ بها القصائد فإنها غالبًا ما تكون مُقَطَّعات، وتَخْلُصُ في جُل الأحوال لهذا البلاغ.٢٢⋆⋆

لقد أخذ الشعر في أحايِين ليست بالقليلة، كما في النماذج السابقة، شكلَ الإبلاغ والترسُّل نمطًا من أنماط الحَكْي. وحيازةُ الشعر مقامَ التَّرسُّلِ حفِظ على الرسالة تقلُّبَها — أدبيًّا — في حيز المشافهة كما أخذت تتقلب في حيز المكتوب، حتى صارت ملازمةً للأخير. وهي حينئذٍ — في مقام الشعر — رسائلُ لا تقع حقيقتُها فقط في حيز ملاءمة الواقع الخارجي أو عدم ملاءمته، وإنما تحتكم إلى معايير الحقائق الفنية، فحقيقتها الكبرى في النهاية حقيقة شعرية.

ولا تعني الرسالة في الشعر، مُجَرَّد إبلاغ الطَّرَف الآخر، وإنما يُقْصَدُ بها أيضًا «إشاعة الخبر»، فالقول «ذو نَفَيانِ»٢٣ أي: يتفَرَّق ها هنا وها هنا، كما يقول عَميرة بن جُعَل. فمِما هو مقصود بالدلالة بين متكلمٍ ومخاطبٍ مُتَعَيَّنٍ مقصودٍ بالدلالة المباشرة؛ «ضمانُ الوسيط» الذي يمثله جمهور المراقبين أو المستمعين، هؤلاء الشهود على هذا المضمون بعلاقة الاستلزام. فالرسالة أو الإبلاغ محاولة للمجاوزة بالقصيدة حدودَ المجلسِ أو المقام المتعين للقول، لإطلاقه في المكان والزمان، بعيدًا عن مقام المشافهة ومَبْلَغ الصوت.

إن شكل الرسالة أو الإبلاغ نمطٌ فَنِّي يستخدمه الشعر لإقصاء هذا المخاطَب الذي هو حاضرٌ بالضرورة في الخطاب الذي تتبناه القصيدة. إنها نمطٌ استخدمه الشعراء لإبراز عمق التباعد يتجاوزون به الالتفات الشائع على مستوى ضمائر الخطاب والغَيبة، الذي هو مستوًى جُمَلي إلى هذا الشكل الرسائلي حيث المستوى النَّصِّي.

إن هذا الوسيط المَعْنِي بالإبلاغ أو إيصال الرسالة قد يؤشر على علاقة تراتُبيَّة بين المتراسِلين، قد يكون مدارها على الإكبار أو الخوف أو التحقير وتنزيه المتكلم عن مباشرة خطاب المرسَل إليه أو المُبَلَّغ، أو خلاف ذلك مما يفترضه الوضع والسياق.

وإذا كانت القصائد غير متعيِّنة الإحالة في كثيرٍ فإنها في مثل تلك المواضع الإبلاغيَّة تمتلك حَدًّا أدني من التعيين التاريخي، فغالبًا ما كان الخطاب يعود لشخصٍ بعينه أو قبيلة بعينها. إن كل بلاغ يحمل في باطنه واقعًا ماديًّا ملموسًا يؤقت النص ويُصَرِّح بتاريخيَّته. واحتواء النصوص على أبيات إبلاغ أو نقلٍ لرسالةٍ، وبخاصةٍ إذا كانت الرسالة تهديدًا أو وعيدًا مثلًا؛ يحملنا على التساؤل عن أصلية هذا الركن في النص أو فرعيَّته. فهل هذا الركن الإبلاغي — بطابعه التعييني التاريخي — هو مركز القصيدة وقوتها الجاذبة، لحيوية إشاراتها وتعيينها، بما يجعل بقية أجزاء القصيدة سوابق مُمَهِّدة للسرد عن الموضوع، أو يجعل من مكوناتها التالية لواحق مكمِّلة له، أم إن هذا الركن فرعٌ لاحقٌ لكتابة عن «موتيفات»٢٤ كالطلل أو الغزل، أم أن مدار الأمر على تجاور لوحات شعرية بعضها ذو أبعاد تَتَغيَّا أول ما تتغيَّا الجانب الجمالي «الإستطيقي»، وتبتغي الأخرى أول ما تبتغي الجانب التداوُلي للمقول. ويصبح الشعر هو ما يحمل تمزُّق الشاعر بين تجربتين؛ تجربة ذاتية وأخرى مجتمعية، أو أنه فيما نرى مَجْلى اشتغال الوعيين معًا — فيما لا ينفصم أحدهما عن الآخر — وعيه الفردي ووعيه الجماعي. هذا أم أن ثمة طوابع مشتركة بين أركان النص ووحداته الموضوعيَّة، ويصبح الحكي عن أي الأركان لاحقًا بالآخر.

(٢) يقول سنانُ بنُ أبي حارثة المُرِّي ﻣﻔ (١٠٠):

(١) قل لِلْمُثَلِّم وابْنِ هِنْدٍ مالِكٍ:
إن كُنْتَ رائِمَ عِزِّنا فاسْتَقْدِمِ
(٢) تَلْقَ الذي لاقى العَدُوُّ وتصْطَبِحْ
كأسًا صُبَابَتُها كَطَعْم العَلْقَمِ
(٣) نَحْبو الكتيبَةَ حيْن يَقْتَرِشُ القَنَا
طَعْنًا كإلْهابِ الحَريقِ المُضْرَمِ
(٤) مِنَّا بشَجْنَةَ والذِّنابِ فَوَارِسٌ
وعُتائِدٍ مثلُ السَّوَادِ المُظْلِم
(٥) وبِضَرْغَدٍ وعلى السُّديْرَةِ حَاضِرٌ
وبذي أمَرَّ حرِيمُهُمْ لم يُقْسَمِ

المقول البادئ من الشطر الثاني للبيت الأول إلى نهاية المقطَّعة ب (٥) يمثل الرسالة المنقولة أو المراد تبليغها. وتحتفظ الرسالة بوضعيَّة التحاور المباشر بين متكلمٍ ومخاطَبٍ، وكلا الطرفين حاضر على الدوام على تلك الوضعيَّة. وتَحفظ الرسالة — ما لم يطلب صاحِبُها المتكلم بالنص من مُبَلِّغِها صياغة مضمون ما يُقدمه المتكلم ويُرادُ منه توصيله، ولا يشترطُ صياغةً بعينها له — تَحفظ الرسالةُ حينئذٍ حيوية اللقاء واستمرارية المواجهة بين الطرفين.

والرسالة موجهة من سنان بن أبي حارثة المُرِّي يتهدد بها المثَلِّم بن رياح المُرِّي ومالك بن هندٍ ويتوعدهما. وقد جمعهما «سنانُ» في الرسالة وأفْرَدهما في الخطاب، فكان فعل القول لهما معًا، ولكن داخل الرسالة، داخلَ المقول، تَحَدثَ إلى المفرد: «إن كُنْتَ … تَلْقَ» ومن هنا فالرسالة إن كانت تقصد كِلا الرجلين في خطابها فقد أصبحت بمثابة التهديد المفرد لكلٍّ منهما، إنها تُفَرِّق بين أعدائها وتجعل تهديدها خاصًّا بكلٍّ منهما على حدةٍ لتُفرِّق بين قلوبهم وتغدو أنكى وأنفذ. ولكن في نَصٍّ آخر يتوعدُ عَمِيرةُ بْنُ جُعَل رَجُلَين يُدعَيان «إياس» و«جَنْدَل» يتهددهما معًا ويقصدهما برسالته، ويجعل الإحالة داخل المقول كله إليهما معًا:

فمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي إياسًا وجَنْدَلًا
أخا طارِقٍ، والقول ذُو نَفَيانِ
فلا تواعِداني بالسِّلاح فإنما
جَمَعْتُ سِلاحي رَهْبَةَ الحَدَثانِ
جَمَعْتُ رُدَيْنِيًّا كأن سِنانَه
سَنا لَهَبٍ لَمْ يَسْتَعنْ بِدُخانِ
لَيالِيَ إذْ أنْتُم لِرَهْطِيَ أعْبُدٌ
بِرَمَّانَ لمَّا أجْدَبَ الحَرَمانِ
وإذْ لَهُمُ ذَوْدٌ عِجافٌ وصِبْيَةٌ
وإذْ أنْتُمُ لَيْسَتْ لَكُمْ غَنَمانِ
وجَدَّاكُما عَبْدا عُمَيْرِ بنِ عامِرٍ
وأُمَّاكُما مِن قَيْنَةٍ أمَتَانِ
ﻣﻔ (٦٤)، ب (٧–١٢)

وفي نَصٍّ آخر يقول مَقاسٌ العائِذِيُّ ﻣﻔ (٨٤):

(١) ألا أَبْلِغْ بَنِي شَيْبَانَ عَنِّي
فلا يَكُ منْ لِقائِكُمُ الوَدَاعا
(٢) بعيشٍ صالحٍ ما دُمْتُ فِيكُم
وعَيشُ المَرْءِ يَهْبُطُهُ لِمَاعا
(٣) إذا وَضَعَ الهَزاهِزُ آلَ قَوْمٍ
فزاد اللهُ آلَكمُ ارتفاعًا
(٤) فقدْ جَاوَرْتُ أقْوامًا كَثِيرًا
فلَمْ أرَ مِثْلَكمْ حَزْمًا وبَاعا

تُمَجِّد الأبيات قيمة حُسْن الجوار في مجتمع تتعاظم فيه قيمة الأمن والطمأنينة، ولكنها لا تُمَجد سادرةً في إطلاقها، وإنما كما تتمَثل لدى «بني شيبان». وهنا تحيل المُقَطَّعة على علاقة خاصَّة واقعيَّة تتمثلُ القيمَةُ السابقةُ من خلالها. علاقةٌ تقوم بين بَني شيبان وصاحب هذا الضمير المتكلم في النص، والذي يحيل إلى «مَقاس العائِذي» بدلالة تعيين «بني شيبان». يختزن النص على هذا النحو تلك العلاقة الاجتماعيَّة بين «مَقاس» و«بني شيبان»، بل إنه يدخل في دورة السلوك الاجتماعي لمجتمع القبيلة العربية؛ حيث يرى بنو شيبان أن حُسْن الجوار شيمةٌ من شِيَم الكرام، فيحسنون جوار «مَقاس» ويكرمونه ويؤمنونه، وهنا يجد مَقاس — الشاعر — من باب الوفاء وحفظ الجميل أن يُذيع المَكْرُمة ويخلِّدُ الفعلَ الحَسَن.

ويقول راشد بن شهاب اليشكُري ﻣﻔ (٨٧):

(١) مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيانَ يَشْكُرَ أنَّني
أرى حِقْبَةً تُبْدِي أماكنَ للصَّبْرِ
(٢) فأوصِيكمُ بالحَي شَيْبانَ إنَّهُمْ
هُمُ أهلُ أبناءِ العَظائمِ والفَخْرِ
(٣) على أن قَيْسًا قال قَيْسُ بنُ خَالدٍ:
لَيَشْكُرُ أحْلَى إنْ لَقِينا منَ التَّمْرِ
(٤) رَأَيْتُكَ لمَّا أنْ عرفْتَ وُجُوهَنا
صَدَدْتَ وَطِبْتَ النَّفْسَ يا قيْسُ عَنْ عَمْرِو
(٥) رأيتَ دماءً أسْهَلَتْها رِماحُنا
شآبيبَ مِثْلَ الأُرْجُوانِ على النَّحْرِ
(٦) ونَحْنُ حَمَلْنَاكَ المَصِيفَةَ كُلَّها
على حَرَجٍ تُؤْسَى كُلُومُك في الخِدْرِ
(٧) فلا تَحْسَبَنَّا كالعُمُورِ وجَمْعَنا
فَنَحْنُ وبَيْتِ اللهِ أدْنَى إلى عَمْرِو
(٨) جميعًا، ولَسْنا — قد عَلمْتَ — أُشَابةً
بَعِيدينَ، مِن نَقْصِ الخلائقِ والغَدْرِ

الخطاب في الأبيات (١: ٣) لفتيان «يَشْكُر»، وهو في البيت الأوَّل خطابُ غيابٍ بدليل الاسم المتعيَّن ودلالة الإبلاغ. وهي صيغة تبتغي نصيحة تدور في حَيز تحذيرِ فتيان قبيلتهِ إقبالَ الحياة وإدْبارَها؛ إذ تأتي الأيام بشدائد تستدعي الهِمَّة والصبر. أما الخطاب في البيت الثاني فخطاب حضور، وترشِّحُ الدلالة تضمينه في البيت الأَوَّل. فالإبْلاغُ إبْلاغٌ بوصيَّةٍ تَتطلَّبُ المواجهة والحضور، ومن ثَمَّ تَحَوُّل الخطاب من الغياب للحضور.

كان الإبلاغ في النص إبلاغًا عن نفسه: «أرى …»، وكانت الوصيَّة وصيةً «ببني شيبان» وهي وصيَّة على سبيل التهكُّم، فهي لا تبتغي الرفق، وإنما تروم الإيلامَ في الحرب. ويُقَدِّمُ البيتُ الثالثُ نَص كلام قيس بن خالد (من بني شيبان): «لَيَشْكُرُ أحْلى إن لقِينا من التَّمْرِ». ثم يتحول الخطاب من إبلاغ فتيان «يَشْكُر» إلى مخاطبة «قيس بن خالد» نفسه وتعييره بما كان من فراره، وهربه من الأخذ بثأر عمرو حميمِه.

وهنا تتموضع القصيدة في قلب الواقعي، في قلب الحدث الاجتماعي فلا تنفصل عن علاقة واقعيَّة تتصل بالخارج المعيش، حيث نزاع «يَشْكر» و«بني شيبان» وما تأسس بينهما من نزاع. وكذا اختزان حادثة فرار «قيس». وفوق ذلك تُسَجِّل نَصْرًا مؤزرًا لهم، ولقيس وقومه هزيمةً مشفوعةً بمهانة الضعف؛ إذ لم يُطِق من ألم الحرب ما يطيقه الرجال الشجعان.

وأيضًا يقول بَشَامةُ بن الغدير في ﻣﻔ (١٠):

(٢٨) وخُبِّرْتُ قَومي — ولم أَلْقَهُمْ —
أَجَدُّوا على ذي شُوَيْسٍ حُلُولَا
(٢٩) فإما هلكْتُ ولم آتِهِمْ
فأَبْلِغْ أَماثِلَ سَهْمٍ رَسُولَا
(٣٠) بأَنْ قَوْمُكُمْ خُيِّرُوا خَصلتَيْـ
ـنِ كلْتاهما جَعلُوها عُدُولَا
(٣١) خِزْيُ الحياةِ وحَرْبُ الصَّدِيقِ
وكلٌّ أَرَاهُ طَعَامًا وَبِيلَا
(٣٢) فإن لم يكنْ غَيرُ إحداهما
فَسِيرُوا إلى الموتِ سَيْرًا جميلَا
(٣٣) ولا تَقعدُوا وبِكُمْ مُنَّةٌ
كَفَى بالحوادثِ للمرءِ غُولَا
(٣٤) وحُشُّوا الحُروبَ إذَا أوقِدَتْ
رِماحًا طِوَالًا وخيلًا فُحُولَا
(٣٥) ومِن نَسْجِ داؤُودَ مَوْضُونَةً
تَرى لِلْقَواضِبِ فيها صَلِيلَا
(٣٦) فإنكُمُ وعَطَاءَ الرَّهانِ
إذا جَرَّتِ الحربُ جُلًّا جَليلَا
(٣٧) كثَوْب ابْنِ بَيْضٍ وَقَاهُمْ بهِ
فَسَدَّ على السالكينَ السَّبيلَا
النص هنا وثيقة من وثائق الواقع، فهو يُسَجِّل حادثةَ توكيد حِلْفٍ أراد أن يُنْتَقَض، فالبيت (٢٨) يتضمن المعلومة الرئيسة؛ إذ قومه قد: «أَجَدُّوا على ذِي شُوَيس حلولا» و«ذو شويس» جبل في ديار بني مُرَّة قومِ بَشَامة بن الغدير. يقول التبريزي: «يُريد ما كان من رد حُصَيْن لهم بعد انصرافهم وتجديد الاختلاف» بينهم.٢٥ والشعر هنا لا يذكر الوقائع ذِكْرَ النثر لها، هو فقط يومئ إليها ليقتنص دلالةً ما أو قيمة بعينها. فقط هو يشير لذي شُوَيس ولمسألة الرَّد، وخلاف ذلك معلوم من سياق النص وحكاياته المرافقة التي تَتَنَقل معه، ويعين التاريخ هنا هؤلاء القوم بأنهم «الحُرْقة»: «بنو خميس بن عامر بن جهينة، وكانوا حلفاء لبني سَهم، فلما همت بنو صرمة من غَطَفان خافوا ألَّا ينصرهم بنو سهم فانصرفوا، فلحِقَهم الحُصَين بن حُمام المُرِّي فردهم وشد الحلف».٢٦ ويشير البيت إلى أن «بَشَامَة» لم يكن حاضرًا ذلك الرَّدَّ. وإذا كان الحصين قد شد الحلف ورَدهم فإن بَشامة هنا قد أكده رغم أنه لم يرتب لذلك مع قومه، ولكنها المبادئ المشتركة والشِّيَم اللازمة. وهذا البُعْد نفسه يؤكده في البيت التالي بقوله: «فإما هلكتُ ولم آتِهِم، فأبْلِغْ …»

والشاعر في الأبيات يَدْفَع بمتغيرَينِ هُما ما يُوْجِد الأزمة، فهم بين تَرك نُصرة مَن حالفهم، وحَرب مَنْ صادَقهم. وأمام هذه الأزمة ب (٣٠، ٣١) يتخير الحَل على الوجه الذي أراد: «الحرب». وهنا يتحول الضمير من الغياب إلى الخطاب: «فسيروا إلى الموت سيرًا جميلًا»، ويُمَجَّد الموت بالفعل بوصفه «عملًا جميلًا»؛ فإذا كان الخوف يَقْعُد بكم، يُلْحِقُكُم الضَّيم، وترْضَون به الدَّنيَّة، فإن حوادث الدهر غير مأمونة. والموت لا بد لاحقٌ بكم، على ما ستكونون فيه من خِزْيٍ وعار. إنه يدعو إلى تمني لقاء الموت لا لقلَّة شأنه أو هوانه، وإنما لِشِدَّة إيمانه بضربته القاضية، التي لا محالةَ مصيبة، يُسَفِّه كُلَّ ما يُتَّخذ دريئةً منه.

ومن هنا نرى صورة الحرب في الأبيات صورة تتضح بالامتلاء والجلال، لا القتل أو الجثث والأشلاء، صورة لا تذكر من الحرب إلا السلاح، رمز المهابة والقوة والمَنعة التي هي أمور تئول في النهاية إلى الكرامة والحمى الذي لا يُسْتباح. ذلك أن الحرب هنا ملازمة للشَّرَف والعِزَّة؛ فالرماح طوال كمجدهم المؤثَّل، والخيل فُحولٌ عِتاقٌ كريمةٌ، والدروع داووديَّة، والسيوف قواضبُ قاطعة.

وتُصَوَّر الحرب كلها من خلال قيم تصويريَّة بصرية في الأساس؛ فإذا ما أوْقَدَ القومُ الحَرْبَ لكم فأوقدوها لهم بالرماح والخيل والدروع — على ما وصف. والحَشُّ: ضَم ما تَفَرق من الحطب إلى الناس. والبيت قد يجعل الخيل والرماح والدروع بمثابة الحطب، غير أنها لا تَبْلى أو تأكلها النار، ولكن التعبير الشعري أبعد من ذلك؛ إذ الحربُ نفسها تُحَشُّ رماحًا وخيلًا ودروعًا، إن الحرب تَتَلهَّب لا بالنار؛ وإنما بهذه الأشياء عينها.

وكذا يُعَبَّر في البيت (٣٥) عن السماع بالرؤية: «ترى للقواضب فيها صليلا». وهي صورة تبدو بعيدة على الخيال المتعقِّل الأقل جُموحًا؛ إذ يُرَى صليل السيوف. والصليل صوت وَقْع الشيء اليابس على مِثْله.

ومن هذا الخيال الوَثاب إلى التنديد بما يؤدي إلى إخماد النيران التي اتَّقَدت. حيث يقدم البيتان (٣٦، ٣٧) معلومةً تاريخيَّةً أخرى إذ أعطى «بنو سهم» رهانًا إطفاء للشر. وما لم يذكره الشعر هو أن الحُصين بن حُمام قد أعطى ابنه رهانًا، وهو ما يراه «بشامة» طلبًا للذل ومَفْسَدةً للقوم. وإذا كان الحصين وبعض القوم هم صوت السِّلْم، فإن «بشامة» صوت الحرب التي تحفظ الكرامة وتبعد الذلَّة. وقد قطع هذا الرِّهان الطريق على صوت الحرب، وسد على المنادين به السبيل.

المبحث الرابع: القصيدة فِعْلُ إنجازٍ: الصياغة الخِطابيَّة للسرد

(١) يُغْفِل التعاملُ المعاصر مع الشعر الجاهلي — في بعض وجوهه — الاعتبار التداوُلي في تناول القصيدة، ويقف من الشعر عند حدود القصيدة بما هي نص مغلق، هذا التعامل قد يحيط ببعض السرود التي تحاول أن تروي سياقه أو تدَّعي مناسبته، ولكنه يستمد منها تغذيةً ما لفهمه للنص في إشاراته المغلقة. إنه بالأحرى يستعين فقط بهذه السرود المصاحبة على فهم إشارات النص وبناء اتساقها.

وما نود أن نؤكده هو الحاجة إلى تجاوز هذه الرؤية التي تجعل من النص في ذاته على الدوام غاية الفهم ومنتهى الطَّلَب، دون اعتبارٍ لكونه أحيانًا مُكَوِّنًا في حَدَثٍ تواصلي أكبر منه، يتجاوز النص فيه مجرد كونه ذا بُعْدٍ توثيقي إلى أن يغدو فعلًا إنجازيًّا، إذا استعرنا المفهوم من «جين أوستين».

ومفاد هذه السطور أنه ليس من اللازم أن يكون السرد هو غاية النص؛ بل قد يدخل السرد بوصفه «توثيقًا» لخدمة ما هو «إنجازي» — على ما سنُبين — وما هو توثيقي هو ما يُكْسِب ما هو إنجازي بُعْدَه الوجودي وبعضًا مما ينقله من حيز المشروع إلى حيز التحقق، فعلى البحث أن يطمح — في تجارب لاحقة — إلى أن يَمُد بَصَره إلى القصيدة في علاقاتها بمُستعمليها وعلاقة ذلك بانبِنائها وتقاليدها، وبخاصة أن الخطاب الأدبي في الشعر الجاهلي يقف في كثيرٍ في صدارة الخطابات التي تحيل مكوناتها — بصورةٍ أو بأُخرى — على مرجعيات اجتماعية (وهذا لا يمنع بالتأكيد أن يحيل تجريد هذه المواضعات على معانٍ وتجارب لها طابع الإطلاق وقابلية الاستعادة في لحظات أخرى تالية).

وهنا سوف يتجاوز الكتاب القصيدة بوصفها بناءً مغلقًا أو منغلقًا على ذاته إلى انفتاحه على سياقيَّة تداوُلِه، فنعالج استعمال القصيدة؛ بمعنى أن نتجاوز إنتاج النص إنشاءً تَلَقِّيًا إلى النظر في مردوده، فننظر في استعماله بوصفه علامة في سياق تداوله الأول على الأقل.

وفي هذا المدخل لا نُسْلِم النص لموقفه الغائي أو لمقصده، وإلا قَتل المقصد ما فيه من فن، غايتنا أن نُولي الغرض والمقصد حقيقَ اهتمامه حسب ما يلوح، ونتصدى لمحاولة تذويب الموقف الغائي من كل القصائد الجاهلية — على سبيل الخصوص — وإسلامها لانفراد الموقف الجمالي بها. إن الموقف الغائي حقيقٌ بالعناية، ولكن هذا لا يمنع النص أن يورق بعيدًا عن مقصده، عن أن تتفاعل علاماته لتنقلنا إلى عوالم بعيدة من المعنى والتأويل.

لقد كان هناك على الدوام اعتقادٌ يقوم على أن التكلُّم بشيءٍ ما — وعلى الأقل في جميع الحالات التي تستحق النظر — هو دائمًا ليس إلا إثباتَ ذلك الشيء، وتقريره، والإسناد إليه (بالمعنى النحوي والمنطقي لمفهوم الإسناد). ولكن مع نظرية «جين أوستين» في الأفعال الكلامية أصبحنا نلتفت إلى أن التكلُّم بشيء ما قد يعني فعله وإنجازه، وبعبارة أخرى: أن قول شيءٍ ما هو إنجازه. فقد ذكر «أوستين» أن هناك عددًا من العبارات لا «تُخْبِر» أو «تَعْرض» أَيَّ شيء، ومن هنا فهي جمل ليست «صادقة أو كاذبة»، ولكن «النطق» بها نفسه هو حدث أو جزء من حَدَث.٢٧ فقولنا:
  • «نعم. أقبل أن تكون هذه المرأة زوجتي الشرعية» متلفِّظين ﺑ «نعم» هذه في أثناء عقدنا الزواج.

  • أو أسمي هذه الباخرة: «بَلقِيس».

  • أو «أَتْرُكُ هذا المنزل ميراثًا لأخي» كما يحصل عند قراءة الوصية.

  • أو «أراهنك على أن السماء ستُمطر غدًا».

إن تلفظنا بهذه الجُمَل في سياقاتها المخصوصة ليس «وصفًا» لحال قيامنا بالفعل، وليس «إثباتًا» لكوني قائمًا به، بل إن النطق بالجملة هو إنجازها وإنشاؤها. فأن أعقد عقد الزواج من طَرَفي هو أن أنطق بهذه العبارة، وأن أسمي الباخرة هذا الاسم هو أن أنطق بذلك، وكذا توريثي المنزل، وكذا الرهان هو قول شيءٍ ما. ومن هنا يَعُد «أوستين» هذه العبارات عبارات «إنجازية» أو «إنشائية»؛ إذ إنها تُنشئ فعلًا وتعمل على إنجازه. و«الفعل» هنا هو «الحدث» أو «النشاط» الذي ننجزه بتلفُّظنا بهذا النوع من الجُمَل. «ومفاد الفكرة المركزية التي دافع عنها «أوستين»: أن تحديد الفعل اللغوي الذي نستعمل له، بصور معيارية، جملةً معينة هو الذي يعطينا تلك الجملة».٢٨
ينظر «أوستين» للفعل اللغوي كجنسٍ عام من وجهات ثلاث هي:
  • التلفُّظ، وهو ما يختص «بمخارج الحروف المادية».

  • النطق، ويتعلق «بمقاصد العبارة».

  • الخطاب، ويهتم «بمقاصد المتكلم الخارجة عن العبارة والمفهومة من السياق».

ومن هنا نراه يُفَرِّق بين أنواعٍ ثلاثة من الأفعال اللغوية:
  • (١)
    الفعل القولي Locutionary act وهو فعلٌ لقول شيء ما. هو فعل التلفظ بجملة تفيد معنًى انطلاقًا من معاني ألفاظها.
  • (٢)
    الفعل الإنجازي Illocutionary act وهو فعل يُنْجَزُ بقول شيءٍ ما. كأن يكون فعل أمر أو نهي أو استفهام أو نداء … وهو فعل لا يكون متحققًا سطحيًّا في الجملة.
  • (٣)
    فعل جَعْل الإنجاز Perlocutionary act وهو فعل يُنْجَز بقول شيءٍ ما.
والفعل هنا إنجازٌ وأثر، كإقناع شخصٍ بشيء، أو إزعاج شخص، أو حَمْل شخصٍ ما على كلامنا …٢٩
على أن هذه القسمة ليست غاية في النقاء في جميع الحالات؛ ففي الفعل القولي «نقول شيئًا»، لكننا نستخدم التعبير أيضًا في أغراض محددة كالتحذير أو إعلان حكم … وبهذا المفهوم نؤدي أيضًا حَدَثًا إنجازيًّا وهو ما قاد أوستين وآخرين ممن اتبعوه إلى التسليم بأن العبارات الناتجة (التوثيقية) هي مجرد نوع من الحدث الكلامي.٣٠

إن شروطًا كثيرة يجب أن تتحقق حتى يتحقق الإنجاز الذي نأمله، وفي مقدمتها استناد الخطاب إلى النيَّة والمواضعة، في محاولة لملء الهوَّة بين المعطى المحسوس والإدراك الحِسِّي. فالوعد بشيءٍ ما نحو: «أعِدُ بأن …» يجب أن يُتَلَفَّظ به على نَحْوٍ جادٍّ حتى يتحقق المقصد من الجملة.

(٢) وعلى هذا النحو سنستعير إطار نظر «جين أوستين» للأفعال في النظر إلى القصيدة؛ حيث يصبح حدث التلفظ بالقصيدة هو إنجازٌ لفعل وإنشاء لحدث، أو أنه أمر له نتائجه وانعكاساته الملموسة في واقع التواصل. إن الفعل والنتيجة هنا أمورٌ ليست من قبيل المجاز أو النتائج المرجوَّة أو الفعل المؤجل، أو واقع التواصل. وما كان يقوله أوستين حول الجملة: «بإنجاز «س» أكون فاعلًا «ص»: By doing X, I am doing Y».٣١ نحاول أن نقوله على النص، على القصيدة.

ولعل تاريخ الأدب لم يَنْسَ بحالٍ تلك القصائد التي نجَحَت في تحقيق فعلها الإنجازي، كتلك التي أبرمت عَقْدًا أو نقضته أو أعلنت ولاءً أو أبرأت ذِمَّة أو اعتذرت … إن ضمير المتكلم في مثل هذه النصوص ليس مجرد «استعمال» أو «تكوين لغوي» ولكنه إطار يفرض المتكلم خلاله نفسه كذات في مقابل آخر أو آخرين، يستلزم وجودهم وجود هذا الضمير/الذات.

إن اللغة هنا لا يُنْظَر إليها في حدود كونها نظامًا من العلامات التي تعتمد على اختلافات داخلية، ولا كونها تحيل إلى محتويات متعينة، ولكنها في ذاتها — حال النطق بها — فعل يتم إنجازه. إن القصيدة على هذا النحو — مع ما تقدِّمه من سَرْد — ممارسة اجتماعية.

إن الفعل الإنجازي يرتبط بمضمون قَضَوي في الجملة. وإذا كانت التراكيب القضوية تقوم على مفهوم «الحقيقة»، فإن المفهوم المركزي للأفعال الإنجازية هو «الرضا»، أو لنقُل «نجاحه». ويصبح الأمر «مُرْضيًا» أو «ناجحًا» حين يكون متقبل الأمر، الذي هو المستمِع أو المتلقي، قد أنجز الفعل الذي أُمِرَ به أو دُعي إليه أو … إلى آخر صيغ الأفعال الإنجازيَّة. ولعل هذا لن يكون حتى يتحقق لديه «حقيقيَّة» المضمون القضوي.

ومن هنا فعندما يُقَدم السرد في الخطاب التداولي فإنه لا يُقَدَّم من باب التخييل، وإنما يَتَلَبَّس السرد مستوى الخطاب الجاد والحقيقي. وتحاول اللغة أن تعود إلى مرجعيتها الحقيقيَّة التي تحيل إليها، حينئذٍ أيضًا، أنماط التخييل.

وعندما تنحو القصائد والمقطعات إلى أن تهيمن عليها صيغ الخطاب وتتوجه بقوة نحو إنجاز أفعال فإن قُوى تماسك الطابع السردي تأخذ في الانحلال إلا ما يَدْعم أفعال الإنجاز على مستوياتٍ محدودة ومتفاوتة، ويغدو الأمر رهين «تأكيدات أفكار مركزية». إن السرد يتباعد بانفراط العلاقات العِلِّيَّة بين الأحداث، فما يهم في مثل هذه القصائد والمقطعات — على سبيل الخصوص التي تُنْذَر لتحقيق الإنجاز — ليس هو وصف تغيرات الأحوال، وإنما هو تقديم مُسَوغات وتفسيرات وتمهيدات موازية، ومعالم موقف ووجهات جانبيَّة. أمورٌ تصاغ «كأفكار» أَولى من صياغتها كأحداثٍ تقع، (حتى وإن كان مفهوم السرد قارًّا في عمق كل «فكرة» كما نعتقد). والمخاطَب في هذه القصائد الإنجازية حاضرٌ حقيقةً في مستوى تحقيق مقصدها، في سياق إنتاجها الأوَّل، حاضرٌ تقديرًا في السياقات التالية لإعادة إنتاجها اللاحق.

وعندما ننظر للقصيدة بوصفها فعلًا إنجازيًّا لا يعني هذا استهلاكها بوصفها شيئًا نفعيًّا فقط. وإنما هي حينئذٍ تعبر عن دور العلامة/القصيدة في الحياة، وما كان للقصيدة أن تؤدي هذا الدور الذي أدته لو أن تغيُّرًا آخر اعتراها من حيث الإيقاع أو صياغة التراكيب أو التخييل والمجازات وما إلى ذلك من أنساق الانبناء الفني، فالقصيدة لا تحقق وظيفتُها الإنجازية مضمونها أو محتواها فقط، وإنما هي محصلة تضافُر مكوناتها كلها. لقد حققت فعلها على هذا النحو لكونها لها هذا الطابع العلاماتي الخاص.

(٣) لقد هجا بشر بن أبي خازم ﻣﻔ (٩٦) أوس بن حارثة بن لَأمٍ الطائي، وكان قد ذكر أُمه في بعض هجوه. فلما أن أسرته بنو نبهان من طَيِّئ ركب أوس إليهم فاستوهبه منهم، وكأن أوس قد نذر ليُحرقَنَّه إن قدر عليه. فقالت له أُمه سُعدى: قَبَّح اللهُ رأيك؛ أكرم الرجل وخلِّ عنه، فإنه لا يمحو ما قال غيرُ لسانه! ففعل. فجعل بشرٌ مكان كل قصيدة هجاء قصيدة مدح له.٣٢ هنا، لا يمحو الكلامَ غيرُ الكلام، وحتى القتل لا يُزيل مَعَرَّةً ألصقها الكلام. الحياة هنا موازية للكلام ومساوية له في طقس تبادلٍ قائم على: أهبكَ حياتكَ = تهبني لسانك فحياتُك لك، ولسانك لي.

يقول «مَقاس» العائذي في ﻣﻔ (٨٥):

(١) أَوْلَى فأَوْلَى يا امْرَأَ القَيسِ بَعْدَما
خَصَفْنَ بآثارِ المَطِيِّ الحوافِرَا
(٢) فإنْ تكُ قد نُجِّيتَ منْ غَمَراتها
فَلا تأتِيَنَّا بَعْدَها الدَّهْرَ سادرَا
(٣) تَذَكَّرَتِ الخَيْلُ الشَّعِيرَ عَشِيَّةً
وكُنَّا أُنَاسًا يَعْلِفون الأياصِرَا
(٤) فَوَاللهِ لَوْ أنَّ امْرَأ القَيْسِ لمْ يَكُنْ
بفَلْجَ عَلى أن يَسْبِقَ الخَيلَ قادِرَا
(٥) لَقَاظَ أَسِيرًا أو لَعَالجَ طَعْنةً
تَرَى خَلْفَهُ مِنها رَشَاشًا وقاطِرَا
(٦) فِدًى لأُنَاسٍ ذَكَّرُوهُمْ مَعِيشَةً
تَرَى لِلثَّريدِ الوَرْدِ فيها نواخِرَا
(٧) فإنَّ بَنِي عِجْلٍ هُمُ صَبَّحُوكُمُ
صَبُوحًا، يُنَسِّي ذَا اللَّذَاذَةِ سَاعِرَا
(٨) أجِئْتُمْ إِلَينَا في بَقِيَّةِ مَالِنَا
تُزَجُّونَ من جَهْلٍ إلينَا المنَاكِرَا

يَصْرِفُ النَّصُّ الخطابَ من البيت الأول إلى (مُخاطَبٍ) بعينه هو «امرؤ القيس بن بحر بن زهير بن جناب الكَلبي» هذا المخاطَب هو المعني بالتهديد والوعيد والتعيير والتهكُّم. وكلها أفعال ينجزها الشاعر «مَقاس العائذي». ولتتحدد الأسماء هنا؛ إذ نتحدث عن إنجازٍ أَوَّليٍّ يحدد الشاعِرُ نَفْسُه فيه مُخَاطبَهُ بوصفه الآخر بالنسبة له، مُعبِّرًا في ذلك عن صوته الخاص وصوت جماعته.

«أَوْلى فأوْلى يا امرأَ القَيس» بهذه العبارة يفتتح «مَقاسٌ» نَصه ويُنْجِز في اللحظة نفسها فعل «الوعيد»، الذي يُصَدِّر به خطابه «امرأ القيس الكلبي». وبالبيت الثاني المصاغ شَرْطيًّا ينجز فعل «تعييرٍ» لخصمه. هذا التعيير الذي «يَقْدَح» به حياته التي يحياها مع الذلِّ؛ ذل النجاة فرارًا مهينًا من موتٍ مُحَقَّق. وكذا «يمنع به» تكرار الفعل وإعادة الكَرَّة، فالرأس التي تتطامَن بالتعيير لا ترتفع لملاقاة مَنْ سَبكها في موضع الذليل.

وعلى الحقيقة، ربما كانت العبارة تحقق بالفعل (فعل التعيير) وتنجح فيه بوصفه فعلًا إنجازيًّا، ولكن ليس من الضروري أن تنجح في تحقيق «الامتناع المستقبلي» عن تكرار الهجوم من قِبَل الخصم بوصف هذا الامتناع «لازم فعل الكلام». إن فعل «التعيير» يقع، ولكن إنجاز ما يترتب أو يلزم عنه ليس قيد التحقق على سبيل اللزوم. خاصةً وأن هذا الامتناع مستفادٌ من إنجاز فعل التعيير السابق أو العبارة التي تنجزه. وقد يؤسس البيت الثالث لمعاني من نحو:
  • «انهزمت خيلهم، فلم تتلوم، حنينًا إلى معالفها، وإلى ما عُوِّدَت من تعاليقها من الشعير والقَتِّ، ونحن على عادة البدو، فخيلنا تصبر على ما تيسَّر لها من أنواع العلف.»٣٣
  • أو «أنكم تعلفون خيلكم الشعيرَ في الأمن، فإذا صِرْتم إلى الحرب وفارقت خيلكم الشعير ذَبَلَت وقَل عَدْوُها.»٣٤

وقد يكون صِدْق البيت أو العبارة — بالمعنى المنطقي أو التخيِيلي — مُهِمًّا على مستوى النص، على مستوى تسجيل قوة قومه وضعف الآخرين وخورهم ودعتهم. ولكن ما هو قيد النص بوصفه خطابًا، ما هو قيد التواصل هو هذا «التهكُّم» الذي ينجزه الشاعر بقوله هذا الكلام الخبري. إن إنجاز التهكم لصيق هذا الخبر الذي قد يحتمل الصدق أو الكذب.

ويعود النص بعد ذلك لينجز ببَيتَيه الرابع والخامس «تعبيرًا» آخر، وكذا «تهكمًا» بالبيت السادس. إنه على الإجمال ينجز أفعال «الوعيد» و«التعيير» و«التهكم» عبر التلفظ بجمل النص المتوالية. وفي ضوء هذه الأفعال الإنجازية تأتي أفعاله الخبرية. إن النص يحتاج لكُل ما هو «خبري» لمساندة ما هو «إنجازي»، إنه بحاجة لما يحتمل الصدق أو الكذب، لمساندة ما لا يحتمل الصدق أو الكذب، ولكن عبر هذه «النيَّة أو القصد» التي هي مؤسِّسة للأفعال الإنجازية نفسها، عبر هذه النيَّة تُصاغ الجُمَل على نيَّة الصِّدق، حتى في تكذيب الأقوال، فالمتكلم صادقٌ حتى في تكذيبه. وعلى هذا النحو تقدم الصيغُ الخبرية «الحكاية» وتُقَطِّرها بين هذه الأفعال الإنجازيَّة المتعددة؛ فيقدم «الحدث المركزي» في الحكاية وهو «فرار امرئ القيس من المعركة» في البيتَين الثاني والرابع، هذا الحدث تُصاغ حوله أحداث أُخَر أقل مركزية، هي بمثابة الأنوية والوسائط٣٥ من الحدث المركزي الذي هو حدث وظيفي، ومن هذا القبيل: «خَصَفْن بآثار المطِي الحوافرا»، «تذكَّرت الخيلُ الشعير عشيَّةً، وكُنا أناسًا يعلفون الأياصرا».

قلنا: إن عبارةً مثل: «أَولَى فأَولَى يا امْرأ القيس» لم يُقْصَد بها في كلها ولا في جزئها أن تُخْبر عن أمرٍ ما، أو أن تُبَلِّغ معرفةً عن حَدَثٍ مخصوصٍ قد وقع، بل إن الشاعر يُنْجز بها «وعيدًا» لمخاطَبِه. ولكننا نضيف أن هذا الوعيد عندما يَصْدُر عن شَخْصٍ لآخر ولقبيلته فإنه لم يكن ليُنْجَز لو لم يصدُر عن ذي الصفة المؤهلة لإصداره، بمعنى أن يكون المتكلم في وضع يُبيح له أن ينجز الفعل، وإلا عُدَّ الفعل وكأنه لم يكن. فوضعيَّة الشاعر في القبيلة، وطبيعة التعاقد حول ماهية القول الشعري وطبيعته، وسياق القصيدة وموضوعها، مقومات كثيرة تتدخل لتحديد ما إذا كان الفعل إنجازًا حقيقيًّا، أو أنه في المقابل «عديم الأثر»، أو ربما كان مجرد «شروع في الإنجاز»، على ما بين المستويات الثلاث من تفاوت، وعلى ما في كُلٍّ دَرَجات أُخَر.

إن وضعية الشاعر في القبيلة ووضعه المؤسسي (خارج-اللساني) يدخل كمقومٍ رئيس لإنجاز تلك الأفعال الكلامية التي يتبنى فيها الشاعر وجهة نظر القبيلة، ويصبح بهذه الوضعيَّة لسان حالها. وطبقًا لمقاييس «سيرل» لتصنيف الأفعال الإنجازية يتقرر أن هناك عديدًا من الأفعال الإنجازية بحاجة إلى مؤسسة خارج لسانية لإنجازها، وغالبًا ما تكون هذه الأفعال بحاجة إلى وضعيَّة أو موقف خاص بالمتكلم والمستمع في حضن المؤسسة.٣٦

إن الشاعر لكي يقوم بإعلان حَرْب، أو الاعتذار عن جُرْم، أو مباركة فِعْل يتصل بالجماعة، لا يمكنه إنجاز ذلك بعيدًا عن أن يكون صوتًا مُعْتَمدا للمؤسسة أو الجماعة التي يتكلم باسمها. لا يمكنه ذلك بعيدًا عن أن يكون صوتًا مغروسًا في عمق الائتلاف الذي يمثله. حينئذٍ، وربما حينئذٍ فقط، يصبح كلامه نافذًا وفعلُه ناجزًا.

لقد احتل الشاعر الجاهلي — على وجه الخصوص — موضعًا مُحَدَّدًا في بِنية مجتمعه بوصفه لسان حال الجماعة، وكانت وضعية قيمته تعود إلى كفالته استراتيجيات الإعلام والمناوأة اللفظية، وإدراج المآثر حيز التاريخ بصياغةٍ مُنحازة (القصيدة)، تعبر بالطبع عن رأي القبيلة.

إن الشاعر الذي تكفُل له القبيلة حق الرعاية والجزاء والتشريف مُطالَبٌ على الدوام بألا يتخلى عن دوره، وما ينطق به دومًا هو صياغة لأفقٍ غير مصوغ، قارٍّ في وعي الجماعة، والشاعر أكفأ أعضائها على صياغته.

لقد كان الشاعر الجاهلي — على العموم — قَبَليًّا بكل ما في هذا الوصف من امتلاء، وكان هو مؤسسة الدعاية السياسية والاجتماعية الأولى للجماعة، وعندما كان ينجز بكلامه فعلًا فهو إنجاز القبيلة، هو صوتها الذي ينتقل بمآثرها وأمجادها ودعاويها. وعمق صوته الذي ينغرس في قلبها لم يكن إلا لأنه يلبي احتياجاتها، ويحمل رسالتها. ولعلنا لا نجد عمق هذا الصوت في فترات لاحقة من تاريخ الشعر العربي،٣٧ فترات لم يعُد فيها الشاعرُ المعبرَ الرسمي عن صوت القبيلة، أو العشيرة الدينية بعد ذلك في العصر الإسلامي، هذه العشيرة الآخذة في التوسُّع. لقد غدا «مدافعًا» عن عائلة ممسكة بزمام السلطة أو عن حزبٍ معارض يناوئ السلطة الحاكمة، ثم أصبح مدافعًا عن مصلحةٍ شخصية يرومها، دفعت بشعره إلى مجرد ممارسة هي محض تسلية متفاوتة في إبداعيتها، ومن هنا يتفاوت رصيد مصداقية الصوت.

إن ما نؤكده إجمالًا هو أن القصيدة قد تحقِّق فعلًا إنجازيًّا ما، أو تجعل شخصًا ما ينجزه، ولكن هذا الإنجاز أو جعل الإنجاز لا تحققه بالضرورة مقومات لسانية داخل القصيدة، بل قد تحققه شروطٌ خارج لسانيَّة، ربما يكفل إنجازَها التواطؤ على عرفيتها، في مقدمتها وضعية الشاعر الخاصة في القبيلة وصدوره عنها.

تذكُر النصوص أن أهل بيت من «بني ثعلبة بن سعد بن ذُبيان» رَهْط «مُزَرد بن ضِرار الذُّبياني» قد جاوروا في «بني عبد الله بن غطفان»، فذهب رجلٌ من «بني عبد الله» يقال له «زُرعة بن ثوب» إلى غلامٍ من «بني ثعلبة» يقال له «خالد بن عبيد»، وكان للغلام إبلٌ كرام حِسان، وتَسَفَّه «خالدًا زُرعةُ»، ولم يزل به يخدعه حتى اشترى الإبل منه بغنم؛ قِيل أخذ ستة عشر من الإبل وأعطاه ستين عنزًا ونعجة، فرجع «خالد» إلى أبويه فأخبرهما، فقالا: هلكتَ والله وأهلكتنا، وانطلق أبوه إلى «زُرعة» فأبى أن يردها، فأتى «مُزَرِّدًا»، وقَص عليه القصَّة، فقال «مُزَرد»: «أنا ضامِنٌ لك إبلك أن تُرَد عليك بأعيانها». فأنشأ قصيدته ﻣﻔ (١٥) التي مطلعها:

ألا يا لِقَوْم والسَّفاهةُ كاسْمِها
أعائِدَتي من حُبِّ سَلْمَى عوائِدي
وأهْداها إلى بني عبد الله، فَرَدوا على الغلام إبله.٣٨

إن القصيدة على هذا النحو تُنْجِزُ فعلًا على وجه الحقيقة عندما تَضْطَر «زُرعةَ» إلى رد الإبل، أو بالأحرى تضطر القبيلة التي تُلْزِم «زُرعة» بذلك. وهي هنا لا تثبت معنًى كُليًّا يدور بين الإثبات والنفي، وإنما تنجز هذا المعنى. هذا المعنى الذي يَدُلُّ على إنجازه فِعْلٌ آخر لزَم عنه، وهو رَد الإبل. إن القصيدة هنا «تفك عَقْدًا أُبْرِمَ بناءً على خُدْعة»، والقوة التي تُلْزم بنقض هذا البيع هي طاقة التشهير التي تكتنزها.

وعلى نَحْو آخر يكتب «المثَقِّب العَبْدي» قصيدته التي مطلعها: «ألا إن هندًا أمْسِ رَثَّ جديدُها» ﻣﻔ (٢٨)، يطلب بها من «النُّعمان بن المنذِر» أن يطلق سراح قبيلته «بني لُكيز العبديين» وتتكاتف المكونات السردية للقصيدة معًا لتكوين أرضية صالحة لإنجاز الفعل، الذي هو «رجاء» أو بالأحرى «أَمْرٌ» قَدم فيه «المُثَقِّب» فروض الولاء ومَدَح «النعمان» وذكر له من الصفات ما به يستحيل عليه العدول عن الاستجابة لطلبه، فطقس الهدية٣٩ يحكم إطار التبادل فيما بين المثقِّب والنعمان، بما يستوجب من المُهْدَى أن يرد الهدية بأحسن منها، هذا فضلًا عن الإلزام الأدبي بما يعقبها من مطالب، ومن هنا يتوجب على النعمان تلبية مطالب «المثقب». وطقس الهدية جزء من إطار التبادل الطقوسي الأوسع الذي يصبح فيه قول «المثقب» قصيدتَه طقسًا تبادليًّا تصبح فيه القصيدة مساوية لحياةٍ بشرية أو لحياة بشر؛ يملك «النعمان» أسرى هم أهل «المثقب»، والمثقب بما لديه من طاقة شعرية يملك «القصيدة»؛ كلماته النافذات المثمنة تمامًا في المجتمع العربي القديم.

ما ينتجه الشاعر من سَرْد يُدْرَج كُله في سياق إنجاح إنجاز فعله «الطلبي» الذي يؤخره لآخر النَّصِّ:

فأنْعِمْ أبَيْتَ اللَّعْنَ إنَّك أصْبَحَتْ
لَدَيْكَ «لُكَيْزٌ» كَهلُها ووَليدُها
وأَطْلِقْهُمُ تمشِي النساءُ خِلالهمْ
مُفَكَّكةً وَسْط الرِّحالِ قُيودُها
ب (٢٧، ٢٨)
وهذا الطلب يظل هو «المقصد» الأكبر الذي يقود القصيدة نحو تماسكها. ويُقَدَّم قبل هذا الطلب وعبر النَّص كُله:
  • تنصُّلًا واعتذارًا ب (١٧–١٩).

  • مَدْحًا وثناءً ب (١٤–٢٦).

  • إدلالًا بالحُرْمة وتذكيرًا بسوابق الخدمة ب (١٤).

هذا فضلًا عن وحدة الوصل والهجر والسفر ب (١–١٣) التي يجعل فيها السفر صالحًا لأن يكون وصولًا إلى الممدوح المخاطَب بالنص.

وهذا البناء الذي بناه عبر «موتيفات» الوصف والهجر والسفر كثيرًا ما كان يعطي علاقات توازٍ مع مناط النص الأكبر، فلا تبدو هذه الأجزاء بعيدة عن مطلب الشاعر وعلاقته ﺑ «النعمان» كما يصورها النص بعد ذلك.

إن الأبيات الثلاثة الأُوَل من النص تثبت الانبتات فيما بين «هند» والشاعر، فقد أخلَقَ جديد وصلِها، وضَنَّت بما كانت تمتعه به من سلامٍ ونحوه، إنها أبدًا لم تكن ممنوعة، فقد آثرت القطيعة مع إمكانية مَدها الوصل. ولعل الموقف هنا يتوازى مع «النعمان» الذي يُمْسك الأسرى مع إمكانية إطلاقهم، هذه «القدرة» التي يثبتها المدح صراحةً بعد ذلك ب (١٦، ١٩، ٢٠–٢٦).

وتثبت الأبيات كذلك علاقة حميمية فيما بين الشاعر و«هند»، يتمنى عودتها، هذه العلاقة غَيَّرها تَقَلبُ «هند» وانخداعها عن صديقها بمستحدثات الصداقة. هذه العلاقة الحميمية لعلها هي العلاقة المضمَّنة في قول الشاعر:

فإنَّ «أبا قابوسَ» عِندي بَلاؤه٤٠
جَزَاءً بِنُعْمَى لا يَحِلُّ كُنُودُها
ب (١٤)

إذ يستلزم الإدلالُ بالخِدْمة وجليل الأعمال معرفةً عميقة تُوجب تحقيق هذه الفِعال. نقول: هذه العلاقة الحميمة تتغير أيضًا لأسباب قد يتجاوزها النص في كُلٍّ؛ يتجاوزها حال «هند» وكذا في حال «النعمان» وقبيلة «لُكَيز». ولكن ما لا يفوت الشاعر تقريره تواصي القبيلة بالإجناب وطول عنودها.

ويحذف الشاعر من «موتيف» الرحلة ضمير المقصود في هذه الرحلة التي يقطعها على ناقته:

فأيقَنتُ إن شَاءَ الإلهُ بأنَّه
سَيُبْلِغُني أجْلادُها وقصِيدُها
ب (١٣)
يقول التبريزي: «ويُبْلِغُني، يقتضي مفعولين، فحذف أحدهما وهو ضمير المقصود، وكأنه قال: يُبْلِغُني الملك.»٤١ هذا صحيح. وربما كان صحيحًا أيضًا أن يكون المقصود بهذا الضمير المحذوف هو الوصل المعنوي إلى هدفه (إطلاق سراح القبيلة).

وسواء أكان المقصود في الرحلة الملك — على ظاهر المنطق والأفعال — أو كان إطلاق سراح القبيلة، على سبيل المجاز، بما يجعل الرحلة رحلةً رمزية — فإن الوحدة كلها تتحرك نحو التلهُّف على الوصول في سباقٍ محموم بين الشاعر وناقته نحو الهدف ب (٦: ١٣)، ولا يكاد أي وصفٍ يخرج عن هذا الإطار الذي يؤسس للوصول بدءًا من قُوتها إلى سرعتها، إلى مجرد إغضائها وتهويمها عند الراحة، إلى الهِرِّ الذي ينهشها عند مَعْقِد غرزها، فتندفع في جري محموم، تتكلف فيه ما يؤديها إلى الهُلْك من الإسراع.

(٤) إن نصوصًا عديدة في المفضليات تكاد تنبني على هذه الطبيعة الإنجازية، أو بعبارة أخرى يفوتنا الكثير لو أننا لم نلتفت إلى طابعها الإنجازي في النظر النقدي لبنائها وتشكلها وقيمتها على الإجمال. ومن هذا القبيل: ﻣﻔ (٢، ٣، ٧، ١٠، ١٢، ١٥، ٢٦، ٣١، ٣٣، ٣٧، ٨٠، ٨١، ٨٢، ١٣٠) هذا فضلًا عن احتواء نصوص أخرى على أجزاء بعينها ذات طابع إنجازي على نحو ما نجد في ﻣﻔ (٨٣، ٨٩) وغيرها.

في ﻣﻔ (٢) يُغِيرُ «حزيمة بن طارق التغلبي» على رهط «الكلحبة العُرَني»، ويستاق إبلهم، فيأتيهم الصريخ، ويركبوا في إثره، فَيُهْزَم «حزيمة»، ويُستنقذ منه ما كان قد أخذه، ويفلت «حزيمة» من «الكلحبة» ويأسره غيرُه. وهنا يتوقف الشعر ليقول كلمته. و«حزيمة» الذي يفلت فعليًّا من «الكلحبة» يعود «الكلحبة» ليأسره فعليًّا بهذا النصِّ. إن اعتذار «الكلحبة» مما أفلت منه «حزيمة» بهذه الأبيات يُعيدُ أَسرَه مَرَّة أخرى. فلا فارق بين أن يؤسَر فعليًّا أو يُهْزَم حتى يوشك على الأسر؛ إذ الهزيمة لاحقة به في كلا الحالين، ومشارفة الفعل كفيلة بإلحاقه موطن العار:

فإن تَنْجُ منها يا «حَزِيمَ» بنَ طَارِقٍ
فقد تَرَكَتْ ما خَلْفَ ظَهْرِكَ بَلْقَعَا
ب (١)

إن المُقَطَّعة إعادةُ أَسْرٍ لفارِسٍ هَرَب.

وعندما تندد قصيدة الجُمَيْح ﻣﻔ (٧) التي مطلعها:

سائِلْ مَعَدًّا: مَنِ الفوارِسُ لا
أَوْفَوْا بجيرانهمْ ولا غَنِمُوا

عندما تندد بغدر «بني عامر»، بغدر «خالد بن نِضلة» وإخلاف عهد الجوار فإنها تنجز فعلًا «تعزيريًّا»، فالتفوُّه بها فِعْلُ تعذيرٍ وإحراقٍ وعقابٍ لازم. إنها توقع بهم فعلًا «تعييريًّا»، لا تريم معيرته عنهم ولا تتحول.

والمفضلية (٨٦) ﻟ «راشد بن شِهاب اليَشْكُريِّ»، التي يخاطب فيها «قيس بن مسعود الشيباني»؛ تندرج في إطار ما تُنْجِزه من توعد وتهديد خاصةً من خلال ما تأتيه في البيتين الرابع والخامس:

فمَهلًا أبا الخنساءِ لا تَشْتُمَنَّني
فَتَقْرَعَ بعدَ اليَوْم سِنَّكَ من نَدَمْ
ولا تُوعِدَنِّي إنَّني إن تُلاقِني
مَعِي مَشْرَفيٌّ في مَضارِبِهِ قَضَمْ

هذه المعاني التي تحققها الأفعال الإنجازية تَغدو هي المركز الذي يضم حوله الشبكة الدلالية لمكونات النص، فما في النص من نَعْتٍ للسيف والقوس والسهم والرمح، وذكره ما كان بينه وبين خصمه من كرم جوارٍ وصُحْبة كلها أمور سردية، لكنها دعامات يتحامل عليها الفعل الإنجازي في اكتساب «مصداقيته».

١  المحايثة Immanence: مصطلح يدل على الاهتمام بالشيء «من حيث» هو ذاته، وفي ذاته، فالنظرة المحايثة نظرة تُفَسِّرُ الأشياء في ذاتها، ومن حيث هي موضوعات تحكمها قوانين تنبع من داخلها، وليس من خارجها.
(انظر: مسرد المصطلحات الذي أعده د. جابر عصفور ملحقًا بترجمته لكتاب إديث كريزويل، عصر البنيويَّة، دار سعاد الصباح، الكويت، ١٩٩٣م، ص٣٩١).
٢  جان موكاروفسكي، الفن باعتباره حقيقة سيميوطيقيَّة، ترجمة: سيزا قاسم، ضمن كتاب: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السيميوطيقا، إشراف: سيزا قاسم، ونصر حامد أبو زيد، دار إلياس العصريَّة، القاهرة، ط١، ١٩٨٦م، ص٢٨٦–٢٩١.
٣  ⋆⋆ العلامة sign هي أيَّة وحدة ذات معنى، يتم تفسيرها باعتبارها تحل محل شيء آخر غيرها، أو تنوب هي نفسها عنه. وتوجد العلامات في شكل مادي (فيزيقي)؛ مثل الكلمات والصور والأصوات والأفعال والأشياء.
وليس للعلامات معنى أصلي ملازم لها، أو كامن بداخلها؛ فالعلامات تصبح علامات فقط، عندما يقوم مستخدموها بإكسابها معناها، من خلال إحالتها إلى شفرة معينة معروفة.
انظر: دانيال تشاندلر، معجم المصطلحات الأساسيَّة في علم العلامات (السيميوطيقا)، ترجمة وتقديم: أ. د. شاكر عبد الحميد، مراجعة: أ. د. نهاد صليحة، أكاديميَّة الفنون، وحدة الإصدارات.
٤  في الترجمة «حقيقة سيميوطيقية» واستبدلنا «سيميائية» ﺑ «سيميوطيقية» لتوحيد المصطلحات على طول الكتاب.
والسيميائيَّة: هي العلم الذي يَدْرُسُ ظواهر الثقافة بوصفها أنظمةً من العلامات. وهي المقابل العربي للمصطلح «السيميولوجيا Semiology» الشائع في الكتابات الفَرنسيَّة منذ أن أرسى فرديناند دي سوسير مفهوم هذا العلم، والذي نجده عند رولان بارت، وليفي شتراوس، وجوليا كريستيفا، وبودريار. وهي المقابل أيضًا لما يشيع في التيار المعرفي الأنجلو-سكسوني تحت مصطلح سيميوطيقا Semiotics، كما عند تشارلز سوندرزبيرس، ومن جاء بَعْده من أمثال موريس، وريتشاردز، وأوجدن، وسيبويك.
فهما مترادفان، وإن كان «جريماس Greimas» يُفَرِّقُ بين المصطلحين في الفرنسيَّة بأن:
سيميوطيقيا: مصطلح يحيل إلى الفروع، أي إلى دراسة أنظمة العلامات المختلفة. أما سيميولوجيا: فمصطلح ينطبق على الهيكل النظري للعلم.
انظر:
مَسْرَد المصطلحات الملحق بكتاب: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السيميوطيقا، ص٣٥١، ٣٥٢.
معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات (السيميوطيقا)، ص١٩١.
هذا البحث الضافي حول المصطلح وصياغته بكتاب: المصطلح النقدي، د. عبد السلام المسدي، ص٩٧–١١٢).
٥  حازم القرطاجَنِّي، منهاج البُلَغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط٣، ١٩٨٦م، ص٨٩.
٦  لا يدخل الشعر عند الفارابي مثلًا في باب الألفاظ الصادقة؛ وإنما هو عنده ألفاظ كاذبة. وليس الكذب هنا صفة لما «يوقع في ذهن السامعين الشيء المعبَّر عنه بدلَ القول»، وإنما صفة لما «يوقع في ذهن السامعين «المحاكي للشيء». إنه يقول: «ولا يَظُنَّنَّ ظانٌّ أن المغلِّط والمحاكي قولٌ واحدٌ؛ وذلك أنهما مختلفان بوجوه: منها أن غرض المغلِّط غير غرض المحاكي؛ إذ المغلِّط هو الذي يُغَلِّطُ السامع إلى نقيض الشيء حتى يوهمه أن الموجود غير موجود، وأن غير الموجود موجود. فأما المحاكي للشيء فليس يوهم النقيض، لكنِ الشبيه.» فالمحاكاة إيهام بشبيه الشيء حيث الشعر والتخييل، أما المغالطة فهي إيهام بنقيض الشيء».
انظر: الفارابي، رسالة في قوانين صناعة الشعراء، ضمن كتاب: فن الشعر لأرسطوطاليس، ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، ص١٥٠-١٥١.
٧  تزفيتان تودروف، الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت، رجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، المغرب، ط٢، ١٩٩٠م، ص٣٥، ٣٦.
٨  ياروسلاف ستيتكيفيتش، سينيَّة أحمد شوقي وعيار الشعر العربي الكلاسيكي، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد السابع العددان ١، ٢؛ أكتوبر ١٩٨٦م، مارس ١٩٨٧م، ص١٣.
٩  د. أبو القاسم أحمد رشوان، مُعلَّقات العرب؛ مكانتها الاجتماعية والفنيَّة، مطابع الدار الهندسيَّة، القاهرة، ص١٩.
١٠  د. فخر الدين قباوة، هامش تحقيق شرح اختيارات المفضل للتبريزي، ٣: ١٥٣٠.
١١  يُنْظر أحيانًا للنصوص بوصفها سلاسل من الإضمار — كما عند «هارفنج» — بحيث أن سلاسل الإضمار حسب نظريته هي الوسيلة الحاسمة في بناء النصوص. فبعض الوحدات اللغوية، كالأسماء والأفعال (التي تصلح أن تُكَوِّن ما يُسمى بالمرجع) يُحال إليها برموز لغوية أخرى مطابقة لما تعود إليه، كالضمائر (التي تكوِّن حينئذٍ ما يُسمى بالراجعة)، وهذا الاستبدال الإضماري يضمن عند هارفنج بعد تحقُّقه وحدةَ سياق النص. ولذلك يُعَرَّف النص عنده بأنه «وحدات لغوية متتابعة مبنيَّة بسلاسل إضمار متصلة».
وتتحدد بداية نَصٍّ ما في نموذج هارفنج بظهور «المرجع التركيبي» وغياب الراجع. فكل الجُمل التي يرتبط بعضُها ببعض بسلاسل إضمار بَدئيَّة تُكوِّن نَصًّا. وعندما تتوقف سلاسل الإضمار هذه أو يُسْتَبْدل بها أخرى يبدأ بذلك نَصٌّ جديد. وعلى هذا النحو فكل الجمل التي يرتبط بعضُها ببعض بغير الإضمار — عند هارفنج — تنتمي إلى نصوص مختلفة.
انظر: فولفجانج هايته من، ديتر فيهفيجر، مدخل إلى علم اللغة النَّصِّي، ترجمة: د. فالح بن شبيب العجمي، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعوديَّة، ١٤١٩ﻫ/١٩٩٩م، ص٢٧، ٢٨.
١٢  د. تمام حَسَّان، الخُلاصة النحويَّة، عالم الكتب، القاهرة، ط١، ١٤٢٠ﻫ/٢٠٠٠م، ص٩٢.
١٣  الرضي، شرح الرضي على الكافية، تصحيح وتعليق: يوسف حسن عمر، جامعة قاريونس، ١٩٧٨ﻫ/١٣٩٨م، ص١: ٩١.
١٤  ثمة فارقٌ بين التأريخ والتاريخ؛ إذ التاريخ History: هو جملة الأحوال والأحداث التي يَمُرُّ بها كائنٌ ما، وتَصْدُق على الفرد والمجتمع، كما تصدق على المظاهر الطبيعيَّة والإنسانية. وعَدَّ هيجل التاريخ جزءًا من الفلسفة؛ لأنه ليس مُجَرَّد دراسة وصفيَّة، بل هو أقرب إلى التحليل وبيان الأسباب.
أما التأريخ Historiography: فهو تسجيل هذه الأحوال والأحداث أو أي عرض نسقي لها. إنَّ صاحب التأريخ مَعنيٌّ بجمع الحقائق التاريخيَّة ووثائقها مع تسجيلها تباعًا، في حين أن المؤرخ أو صاحب التاريخ يرتبها ترتيبًا يتلاءم مع ميوله الفكرية والذوقية، وقد يتناولها بالمناقشة والشرح.
انظر:
د. علية عزت عياد: معجم المصطلحات اللغوية والأدبيَّة، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ١٩٩٤م، ص٥٧، ٦٥.
إبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبيَّة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط١، ٢٠٠٠م، ص٦٤.
١٥  والاس مارتن، نظريات السرد الحديثة، ترجمة: حياة جاسم محمد، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ١٩٩٨م، ص٩٢.
١٦  والاس مارتن: السابق، نفسه، وانظر أيضًا، مقال بول ريكور: الحياة بحثًا عن السرد، ص٤٢. وفي هذا يقول أرسطو: «إن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرُّجحان أو الضرورة، فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور … بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع، على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه. ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ؛ لأن الشعر أمْيَل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات … إن الشاعر … ينبغي أن يكون أولًا صانع القصص قبل أن يكون صانع الأوزان، لأنه يكون شاعرًا بسبب ما يُحدِثه من المحاكاة، وهو إنما يحاكي الأفعال. وإذا اتفق أن صَنَع شعرًا في أمرٍ من الأمور التي وقعت فإن ذلك لا يؤثر في كونه شاعرًا، إذ لا شيء يمنع أن بعض الأمور التي وقعت قد جاء متفِقًا مع قانون الرجحان وقانون الإمكان، فعلى هذا الاعتبار يكون هو صانعها.»
انظر: أرسطوطاليس، في الشعر، حققه مع ترجمة حديثه ودراسة لتأثيره في البلاغة العربيَّة: شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٣م، ص٦٤، ١٦٥.
١٧  راجع: جوزف هورس، قيمة التاريخ، ترجمة: نسيم نصر، سلسلة زدني علمًا، منشورات عويدات، بيروت/باريس، ط٣، ١٩٨٦م، ص٧٨–٩٤.
١٨  روبرت دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، ترجمة: د. تمام حَسَّان، عالم الكتب، القاهرة، ط١، ١٤١٨ﻫ/١٩٩٨م، ص٢٠٣.
١٩  من هذه القصائد التي تتضمن فعل الإبلاغ المشتق من الجذر «بلغ»:
ﻣﻔ (١٠)، ب (٢٩)
ﻣﻔ (١٢)، ب (٢٧)، ب (٢٩)
ﻣﻔ (٤٥)، ب (٣)، ب (٥)
ﻣﻔ (٤٨)، ب (٦)
ﻣﻔ (٦٤)، ب (٧)
ﻣﻔ (٦٦)، ب (١)
ﻣﻔ (٨١)، ب (٣)
ﻣﻔ (٩٧)، ب (١٥)
ﻣﻔ (٩٨)، ب (٤١)
ﻣﻔ (١١٨)، ب (١٩)
ﻣﻔ (١٢٤)، ب (١٨)، ب (١٩)
ومن تلك التي تتضمن فعل القول «قُلْ»:
ﻣﻔ (٧٠)، ب (١)
ﻣﻔ (١٠٠)، ب (١)
ﻣﻔ (١٢٩)، ب (١)
٢٠  ⋆⋆ القوالب الصياغيَّة: صورة من صور التكرار التي يقوم عليها الشِّعر الشفوي، تشتمل على التكرارات الحرفيَّة، أو القريبة من الحَرْفيَّة.
انظر: جيمز مونرو، النَّظم الشفوي في الشعر الجاهلي، ترجمة: د. فضل بن عمَّار العماري، دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام، الرياض، ط١، ١٤٠٧ﻫ/١٩٨٧م، ص٣٦–٣٨.
٢١  ومن هذا القبيل:
ﻣﻔ (٤٥)، ب (٥–٧)
ﻣﻔ (٦٤)، ب (٧–١٢)
ﻣﻔ (٨١)، ب (٣–٩)
ﻣﻔ (٩٧)، ب (١٥–٣٨)
ﻣﻔ (١١٨)، ب (٤١–٥٦)
ﻣﻔ (١٢٤)، ب (١٨–٢٤)
٢٢  ⋆⋆ ومنه مثلًا:
ﻣﻔ (٧١)، ب (١–١٥)
ﻣﻔ (٨٤)، ب (١–٤)
ﻣﻔ (١٢٩)، ب (١–٨)
٢٣  يقول عَميرة:
فمَن مُبْلِغٌ عَنِّي إياسًا وجَنْدلًا
أخا طارقٍ، والقولُ ذو نَفَيانِ
ﻣﻔ (٦٤)، ب (٧)
٢٤  والموتيف Motif: هو وحدة موضوعاتيَّة صغرى متكررة في العمل الفني.
أما التيمة Theme (موضوعة): فهي وحدة موضوعاتية أكثر تجريدًا، أو وحدة دلاليَّة أكثر عموميَّة تتمظهر بواسطة مجموعة من الموتيفات، فالسفر في القصيدة الجاهلية تيمة أو موضوعة تتشكل من عدد من الموتيفات كالناقة والصحراء والهجير والذات المسافرة والعوائق …
انظر: قاموس السرديات، ص١١٦، ١٩٩.
٢٥  التبريزي، شرح اختيارات المُفَضَّل، ١: ٢٩٥.
٢٦  هامش تحقيق المفضليات، ص٥٥.
٢٧  انظر في ذلك: أوستين، نظرية أفعال الكلام العامة؛ كيف ننجز الأشياء بالكلام، ص١٥–٢١.
٢٨  عبد الحميد جحفة، مدخل إلى الدلالة الحديثة، دار توبقال للنشر، المغرب، ط١، ٢٠٠٠م، ص٢٩.
٢٩  انظر: أوستين، السابق، ص١١٣–١٢٨.
٣٠  راجع: ف. ر. بالمر، علم الدلالة؛ إطار جديد، ترجمة: د. صبري إبراهيم السيد، دار قطري بن الفجاءة، الدوحة، قطر، ١٤٠٧ﻫ/١٩٨٦م، ص٢١٢. هذا مع شيء من الاختلاف في ترجمة بعض المصطلحات.
٣١  أوستين، نظرية أفعال الكلام العامة، ص١٢٨.
٣٢  انظر: هامش تحقيق المفضليات، ص٣٢٩.
٣٣  شرح اختيارات المفضل، التبريزي، ٣: ١٣١٦.
٣٤  شرح اختيارات المفضل: التبريزي، ٣: ١٣١٦.
٣٥  الوظيفة function عند رولان بارت هي وحْدة السرد الأولى، ويمثلها كل مقطع من السرد يُقَدِّمُ نفسه كتعبير عن تعالُقٍ ما. والوحدات السردية مستقلة جوهريًّا عن الوحدات اللسانية، ويمكنها مع ذلك أن تتوافق، لكن عن طريق الصدفة لا عن طريق القصد. ومن ثم تُمَثَّل الوظائفُ تارةً بوحدات أكبر من الجملة، وتارةً بوحدات أصغر من الجملة.
وتنقسم الوظائف عند بارت إلى وظائف توزيعيَّة (الوظيفة)، ووظائف إدماجيَّة (القرينة index) وتنقسم الوظائف التوزيعية بدورها إلى وظائف رئيسيَّة (أنوية cardimal functions) وإلى (وسائط catalyses) وتنقسم الوظائف الإدماجيَّة إلى قرائن أو مؤشرات ومُخْبرات أو مُعْلِمات informans. ولكي تكون الوظيفة رئيسيَّة يجب أن يكون الفعل الحكائي الذي ترجع إليه يفتح (ويُبْقي أو يُغْلِق) خيارًا منطقيًّا بالنسبة لباقي القصَّة. ومن ثم فالوظائف الرئيسيَّة هي لحظات مجازفة في السرد، بينما تمثل «الوسائط» تلك الوقائع العارضة أو الأوصاف التي يمكن أن توضع بين وظيفتين سرديتَين متجمعةً حول هذه النواة أو تلك، دون أن تغير طبيعة الاختيار. وتظل الوسائط وظيفيَّة باعتبار كونها تدخل في تعالُقٍ مع نواةٍ ما. غير أن وظيفتها مُخَفَّفَة؛ أُحاديَّة الجانب وطُفيليَّة.
انظر: رولان بارت: التحليل البنيوي للسرد، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، ص١٤–١٩.
والوظيفة مفهوم يأخذ معاني ودلالات متعددة ومتباينة على نحو ما نجد عند فلاديمير بروب ورولان بارت وسوريو وغريماس على سبيل المثال.
القرينة index القرائن عند بارت لا تحيل على فعل، وإنما على تصور سائد، هذا التصور ضروري لفهم السرد أو القصَّة كأن تحيل القرائن على طبع أو شعور أو معلومات متصلة بهويَّة الشخصيات … والقرائن تحيل على مدلول ومن ثم فهي وحدات دلالية بكامل المعنى. أما المخبرات فهي الوحدات التي تُستخدم لتحديد وتعيين الوحدات السردية في الزمن والمكان.
٣٦  فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداوليَّة، ترجمة: د. سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، بيروت، ص٦٥. ويصنف سيرل الأفعال إلى خمسة أبواب: التأكيدات، الأوامر، الالتزامات، التصريحات، الإدلاءات.
٣٧  هناك مناقشة جادة حول تطور حماية الأدب ووظيفة الشعر ووضع الشاعر في المجتمع وعلاقته بالسلطة، بخاصة في العصر العباسي في كتاب د. جمال الدين بن الشيخ: الشعرية العربية، ترجمة: مبارك حنون، محمد الولي، محمد أوراغ، دار توبقال للنشر، المغرب، ط١، ١٩٩٦م. ص٧٠–٧٨.
٣٨  شرح اختيارات المفضل التبريزي، ١/ ٣٧١.
٣٩  يقوم طقس الهدية في المجتمعات التقليديَّة — كما يقول مارسيل موس Marcel Mouss — على أن الهدايا «من الناحية النظرية هي هبات طوعيَّة وعفويَّة، لا مصلحة فيها للمعطي، ولكنها في الحقيقة إجباريَّة، ولصالح المعطي نفسه. وتتخذ هذه الهبات عمومًا شكل الهديَّة المتفضَّل بها عن طيب خاطر، ولكن السلوك الملازم لإعطائها ليس إلا تظاهرًا وخدعة اجتماعيَّة في حين أن الإجراء نفسه مبني على الواجب والمصلحة الخاصَّة.» وقصيدة المدح هنا قيض في تبادل طقوسي للهدايا. ويشمل هذا التبادل الطقوسي ثلاثة واجبات هي: (١) إعطاء الهدية (٢) قبول الهديَّة (٣) إعطاء هبة مقابلًا لها.
وقبول الهديَّة يتضَمَّن قبول التحدي بإعطاء هدية مقابلة لها، تفوقها قيمة، وعدم إعطاء هذا المقابل يؤدي إلى الحطِّ من المكانة، أو إلى بذل ماء الوجه.
انظر: د. سوزان بينكني ستيتكيفيتش، أدب السياسة وسياسة الأدب، ترجمة وتقديم: د. حسن البنا عز الدين (بالاشتراك مع المؤلفة)، سلسلة دراسات أدبيَّة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٨م، ص٥٥–٦٠.
٤٠  في نسخة الشرح «بلاؤه»، وفي نسخة دار المعارف «بلاؤها».
٤١  شرح اختيارات المفضل، التبريزي، ٢: ٧١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤