الفصل الثالث

الخبر هامشًا على القصيدة: من سَرْد القصيدة إلى سرد الخبر

(١) الفكرة التي يدور عليها هذا الفصل هي أننا كثيرًا ما نقرأ القصيدة القديمة والجاهلية على سبيل الخصوص، وكثيرًا ما نقرأ الخبر المرافق لها، الذي يقدم في رؤية القُدَماء سَرْدًا لدواعي إنشاء القصيدة أو بَسْطًا للحادثة التي يتمثلها الشعر، فتبسط القول فيما أوجزت فيه القصيدة. ولكن البحث يرى في كثير من هذه الأخبار، أو — لنقل — جُلِّها، أنها أخبار منحولة على النص، لا تتمتع بحالٍ من الأحوال بموثوقيَّة الرواية قدر ما يتمتع بها الشعر. وأنها في سائر الأحوال نتاج عملِ مُفَسِّري الشعر ورواته وصانعي الأخبار؛ ذلك أنها — وهذا بيت القصيد — غالبًا ما لا تُقدِّم لنا إخبارًا يكاد يختلف عن إخبار الشعر؛ بل إننا نُحِسُّ أنها في أحسن الأحوال توسيعات محدودة للسرود الشعرية، وفي جُل الأحوال هي صياغة نثرية لما سَرَده الشعر. ولا نُصْبِح أمام حادثة ما صاغتها الفاعلية السَّرْدية النثرية في الخبر، وصاغتها الفاعلية السردية الشعرية في القصيدة، وإنما سَرْد الخبر عالة على سَرد القصيدة، بما يجعل من القصيدة، بما تقِّدمه أو تَتَضمَّنُه من سَرد، النموذج المُخْتَزَل لمجموع الحكاية التي يُقدِّمها الخبر ولاستراتيجيته العميقة.

إن آفة مثل هذه الأخبار أنها تصوغ ما يُسمى بغرض القصيدة أو سياقها أو مناسبتها الأمر الذي يؤدي لزوم ارتباطه بالنص إلى الجَوْر على معانيه المُحْتَمَلة والحَد من إيراق المعنى، إن الغرض والمناسبة كثيرًا ما يحجران على القصيدة أن تتنقَّل بين مستويات عِدَّة للفهم، كما تَصْرف النظر — ونحن في داخل المستوى الذي نتعلق به من المعنى — عن بذور هَدْمه وإمكانيَّة التقليل من شأنه، الأمر الذي يُفوِّتُ على القارئ فُرَصًا أخْرى ربما تسمحُ له بمشارفة بعض وجوه حقائق القصيدة.

نعم، قد تستجيب القصيدة لفكرة الغرض الواحد، وربما المناسبة، ولكن غالبًا ما يكون هذا الغرض عنصرًا واحدًا من عناصر أخرى كثيرة ينبغي أن تُقرأ. ونحن نوافق الكثيرين في أن يكون الشعرُ الجاهليُّ في بعض الأحيان مُخَلِّدًا للمآثر، ليس فقط باعتباره كتابهم الفَنِّي الأول بل بوصفه أيضًا كتابهم الثقافي الوحيد، ولكنه مع ذلك ليس سِجلًّا وصفيًّا شأنه شأن النثر، شأن الكتابة التسجيليَّة في محاولة رصد الواقعة، إذا كان يومًا لكتابةٍ ما أن تكون تسجيليَّة. إنه لا يكتب الواقعة وإنما يكتب حولها، أبدًا لا يواقعها، ولكن يحوم حَوْلها.

فالشاعر ليس واعيًا على الدوام بمقصدٍ يكتبه، فليس هناك ذلك المخطط الذي يشتغل عليه، أو تلك الفروض التي يختبرها، الشاعر لا يقصد إلى شيءٍ في التحليل الأخير خلا القصيدة.١ وربما قَصَد بعض الشعراء إلى هدفٍ مُحَدَّد، لهم كُلُّ الحق في ذلك، ولكن من حَقِّنا أيضًا، تمامًا مثلهم، ألَّا يستبد الغَرَضُ بالقصيدة.
تقول سوزان ستيتكيفيتش عن الأخبار المرافقة للقصيدة: «إن قيمة الأخبار بالنسبة إلى الناقد الأدبي الحديث ليست قيمةَ تاريخيتها، لأن تاريخيتها غالبًا ما تكون مشكوكًا فيها، ويتعذر إثباتها على أيَّة حال. وإنما هي تفسيريَّة، بمعنى أنها تشرح لنا كيف استقبلت القصيدة في بيئتها التقليديَّة وكيف فُسِّرَت».٢ وهذا الرأي مع تأكيده على القيمة التفسيرية للخبر، يجعله لاحقًا للشعر لا موازيًا له، وبحالٍ لا يتقدَّم عليه أو يصادر تمامًا على أشكال الفهم المختلفة للنَّصِّ. فقط، ربما يُزكي فهمًا دون آخر، أما القيمة التاريخيَّة للخبر فيلزم لصحتها توافر شروط الصِّحَّة التاريخيَّة من حيث السند والنقل، وربما تعضده أدلة تاريخيَّة من داخل النص. غير أن داخل النَّص لا يصلح على الدوام لإعطاء أدلَّة تاريخية؛ إذ هو خاضعٌ بالضرورة لتقاليد كتابيَّة لا تستخدم القول دائمًا على ظاهره أو عادة استخدامه.

وهذا الكتاب غير مشغول بتوثيق الأخبار في ذاتها أو عدمه، ولكنه مشغول بزحزحة هذه الأخبار عن أن تكون عوامل مهيمنة في تأويل النصوص الشعرية. وكذا البرهنة على ثراء النصوص الشعرية سَرْديًّا بما يجعلها مَعينًا للرواة والشراح لإنتاج صياغات سَرْدية نثرية ترافق الشعر وتلازمه.

والأخبار المرافقة للشعر متنوعة بحسب هدفها إلى أخبار تشرح لغة أو تُعرِّف بشخص أو مكان أو يوم من أيام العرب أو واقعة ما، ولكن الأخبار محل عنايتنا هي تلك التي تسرُد حادثة النص أو ظروف إنشائه أو توهم بذلك. فقد يعترض الخبرُ الأبياتَ عند شَرْحها أو يُقَدم تمهيدًا لها. وهنا نبحث سَرْديَّة الأخبار المرافقة للشعر في ضوء سَرْديَّة الشعر نفسها.

لقد نشأ على هامش صناعة رواية الشعر وشرحه صناعة أخرى هي صناعة الخبر. لقد وجد الرواة والمفسرون والشراح في روايتهم للشعر مادة خصبة لتكوين سُرودهم المرافقة للقصائد، وبمرور الوقت تكونت سرود وأخبار وقصص كان الشعر أحد مكوناتها. بالفعل ثمة سرود نثرية كثيرة تُدُوِلَت، نقلت إلينا أيام العرب ووقائعهم وحوادث مختلفة نقلت إلينا أخبارًا لم نكن لِنعلمها من طريق آخر، ولكننا نتردد كثيرًا أمام تلك الأخبار المرافقة للشعر التي لا تقدم إعلامًا آخر مضافًا لإعلام القصيدة. إن شيوع النص الشعري على الألسنة وتلك الهالة الشعبية التي تحيط ببعض فئات الشعراء الفرسان من أمثال عنترة، أو المحبين من أمثال المُرَقِّش أو الصعاليك ومغامراتهم وخروجهم على مجتمع القبيلة وقيمها؛ مثل تلك الهالة تغري باختراع الأخبار وتأليف الحوادث حول الأشعار. وإذا كان الشعر يقوم على النِّسبة والتحقيق فإن الخبر مُتخففٌ إلى حَدٍّ ما من مِثل هذه النسبة خاصةً؛ لتداوله وذيوعه مع غياب شكل مُحَدَّدٍ للصياغة يُعابُ تجاوزه أو التخلي عنه، وهذا واقع أكثر مع تلك الحوادث العامة والحكايات المشهورة، والأمر فيها إلى تجهيل المصادر أقرب، اعتمادًا على الشيوع.

ومما هو مثار عَجَبٍ أن الخبر — الذي يبدو كثيرًا منبثقًا عن الشعر مكرِّرًا له، أو إعادةً نثريةً لما يُستفاد من مضمونه الحكائي، أو هو كما يقول القدماء: حَلًّا للمنظوم — يغدو حَكَمًا على الشِّعر مُسَوِّغًا لوجوده. وفي وجوه أخرى أخذ الخبر — الذي كان إلى الشعر بمثابة التعليق أو الهامش — أخذ يبتلع الشعر نفسه ليضحي الخبرُ هو المركزَ والشعرُ هامشًا له ومكوِّنًا من مكوناته الحَدَثية، وتحديدًا في كتب الأخبار والتراجم، خاصة وأن صناعة الخبر لم تكن لتروق بقوةٍ للذوق العام ما لم تكن مُتضمِّنةً شعرًا، فما بالنا بهذه الأخبار التي تجعل من الشعر والشعراء موضوعًا لها، بل إن تَضَمُّن الخبر شعرًا كان من عوامل تصديقه وموثوقيته لدى متلقيه. وفي فترات معينة وجدنا أن بعض مؤلفي كُتب الأخبار «يُقِرُّون بأن الخبر لا قُدْرَةَ له على الدخول في مضمار الأدب إن لم يستظل بالشعر».٣ إن الخبر على هذا النحو لم يكن ليكتسب شرعية نوعيَّة بوصفه أدبًا ما لم يَمُد نَسَبًا مع الشعر.
إن الخبر المصاغ من سَرْد القصيدة خَبَرٌ ينظر «للمفردة» في القصيدة كما لو كانت تقريرًا assertion أَوَّليًّا، وإلى «الجملة» كما لو كانت استدلالًا أو حُجَّة argument، إنه يقوم بتفعيل ما بإمكانه أن يُؤدَّى إلى فِعلٍ سَرْدي يُصاغ نثرًا موازيًا للشعر، ولعلنا نصبح في ضوء هذا السلوك بحاجة ماسَّة إلى صياغة قواعد توليدٍ سَرْدي تنظم عملَ استيلادِ الأخبارِ مكوناتِها السرديةَ الأساسيَّة من النصوص الشعرية، وكذا إحاطة أوسع بقواعد تداوليَّة السرد، بتلك المُحَدِّدات التي تُسَوِّغُ للقارئ أن يعيد إنتاج المسموع أو المقروء الشعري في هيئة أخبار نثرية، تزداد ثراءً بتداولها الذاتي، أو بتداولها متجاورةً مع النص الشعري.

(٢) وفيما يأتي سوف ننظر لبعض النصوص الشعرية وما رافقها من أخبار نثرية تقدم القصيدة أو مناسبتها، وسوف نبحث ما يقدمه الخبر من إعلامٍ سَرْدي في ضوء الإعلام السردي للقصيدة نفسها، بما يبرهن على حيويَّة المخيلة السرديَّة تلك التي تُوَلِّدُ سُرودًا شعرية، وكذا تُوَلِّدُ منها سرودًا نثرية مرافقة لا تخلو من حبكة جيدة.

في المفضلية (٧٥) لأبي قيس بن الأَسْلَتِ الأَنْصاري، يقول:

(١) قالَتْ، ولم تَقْصِدْ لِقِيل الخَنَا
مَهلًا فقد أَبْلَغْتَ أَسْماعي
(٢) أنْكَرْتِهِ حين تَوَسَّمْتِهِ
والحَرْبُ غُولٌ ذاتٌ أوْجاعِ
(٣) مَنْ يَذُقِ الحَرْبَ يَجِدْ طَعْمَها
مُرًّا، وتَحْبِسْهُ بِجَعْجاعِ
(٤) قد حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا
أَطْعَمُ غُمْضًا غَيْر تَهْجَاعِ
(٥) أَسْعى على جُلِّ بَني مالِكٍ
كُلُّ امْرئٍ في شأنِهِ سَاعِ
(٦) أعْدَدتُ للأعْداءِ مَوْضُونَةً
فَضْفاضَةً كالنَّهْي بِالقاعَ

وهكذا إلى أربعة وعشرين بيتًا يُمَجِّد القوة والحزم، ويفخر ببأس قومه وسَطوتهم، ويفخر بشجاعته وبذله ونَجدته وجرأته في اقتحام المَفَاوز على ناقته التي يأخذ في نعتها ونعت رَحْلها. وإزاء البيت الأول يسوق التبريزي هذا الخبر منقولًا عن شَرْح الأنباري.

يقول الخبر: «كانت الأوس حين وقع بينهم وبين الخزرج حربُ حاطبِ بن قَيس بن هَيْشَةَ المُعاوي، وكانت هذه الحرب بين بطون الأوس والخزرج كلها، وهي آخر حَرْب كانت بينهم إلا بُعاث،٤ حتى جاء الله — عز وجل — بالإسلام. وكانت الأوس قد أسْنَدَت أمرها في هذه الحرب إلى أبي قيس بن الأَسْلَت الوائلي، فقام في حربهم وآثرها على كُلِّ ضيعة، حتى شَحَبَ وتَغَيَّر. ولبث أشْهُرًا لا يَقْرَب امرأةً. ثم إنه جاء ليلةً، فَدَق على امرأته — وهي كبشة بنت ضَمَرةِ بن مالك بن عمرو بن عزيز، من بني عمرو بن عوف — فَفَتحتْ له، فأهْوَى إليها، فَدَفَعَتْه وأنْكرَتْه. فقال: أنا أبو قَيْس. فقالت: والله ما عَرَفْتُك حتى تكلمْتَ، فقال أبو قيس في ذلك هذه القصيدة».٥
الحكاية التي يُقَدِّمها الخبر لا تكاد تفارق بحالٍ حدود الحكاية التي يقدمها الشعر، وهي لا تزيد عليه إلا بتفصيلةٍ وَثائقيَّة عن حَرْب الأوس والخزرج، وخلاف ذلك فما يقدِّمه الخبر مستفادٌ من الشعر، غير أن الشُّراح يأخذون الخبر من بطون كتب الأخبار والتراجم ويقررون ذلك ليكون أدعى لصحته: «قال هشام بن محمد في أخبار الأنصار، قال: كانت الأوس …»٦ إلى آخر الخبر السابق. وهنا يرجع الخبر إلى هشام بن محمد وإلى رواته الذين أخذ عنهم، ويعود إلى الشراح وظيفة النقل.

ولكن يبدو أن إنكار المرأة زوجها لتَغَيُّره هو صيغة أدبية شائعة في الشعر العربي أصلًا في مثل هذا الموضع وفي غيره من المواضع، حيث يتقدم السن بالشاعر ويعلوه الشيب وتُنكره المرأة (المحبوبة غالبًا في هذا السياق)، الأمر الذي يغدو مجالًا لتذكُّر الأيام السالفة، حيث الفتوَّة والشباب والوَصل. والأمر أيضًا في هذا النص على هذا النحو، فصيغة إنكار المرأة صيغة مُسَوِّغة فنيًّا لهذا الفخر الشخصي التالي له، حيث الشجاعة والنجدة واقتحام المفاوز، وكذلك حيث بأسُ قومه وسطوتهم.

لقد كانت شراهة صناعة الخبر في التراث العربي وراء مثل هذه المحاولات الدءوبة لإنتاج الأخبار من الشعر وإلحاقها به. ولعلنا نُجَمِّعُ هنا أبعادَ الحكاية التي يقدمها الخبر من العلائق التي يمنحنا السرد إياها؛ إذ الأبيات تفترض:
  • هذا التقابل القائم بين «الشاعر الفارس» وامرأة يُقْبل عليها مُنْتَظرًا منها أن تتقبله بالوُدِّ ذاته.

  • وكذا تقدم أمر الحرب وإسناد القوم أمرهم إلى الشاعر/الذات المتكلمة بالنص.

  • وتَفَرُّغَه التام للحرب، فقد أذهبت خوذة الحرب شعر رأسه ونثرته، لطول مكثها على رأسه، كما قَلَّ نومه، وهنا يجهد ويتغيَّر.

  • اندفاعَ الشاعر الفارس نحو هذه المرأة.

  • وتقريرَه أن الحرب هي التي غَيرته.

  • وأيضًا شروعه في بيان أثر الحرب في فُرسانها، وما يذوقونه من مرارتها، وأنه إنما خاض غَمَراتها وفاءً بما التزمه، ثم نَعْته الدرعَ والسيفَ والتُّرسَ، وفخره بقومه وبشخصه.

إن الحوار شكلٌ فنيٌّ، مطيَّةٌ للشاعر لأن يَسْرُد عن نفسه ويَتَغنَّى، ومن هنا، عندما يطول أمر السرد والتَّغَنِّي يعود فَيُنَبِّه على أننا نقع ضمن هذه الحواريَّة، معيدًا الخطاب إليها:

هَلَّا سألْتِ الخَيْلَ إذْ قَلَّصَتْ
ما كان إبْطائي وإسْراعي
ب (١٦)

والسَّرْدُ الشعري هنا قد يفترق في أشياء عن السَّرْد النثري؛ إذ يسعى الأول إلى التجريد والإطلاق وتجاوز الزمن، في حين يسعى الثاني إلى التعيين وتشخيص الذوات كما لو كان يزيل اشتباهًا أو إبهامًا.

إن السرد الشعري لا يعنيه أن يحدد صاحبه إلا بضمير المتكلم، ربما لأن القصيدة هي بعض الشاعر وملازمة النِّسبة إليه، ولكن لنا أن نتصور أن هوية هذه الأنا المتكلمة لا تتحَدد إلا بما تخطه عن نفسها، بما ترسمه بيدها من ملامح وما تثبته من أوصاف وأفعال، أما ما عدا ذلك فمنقطعٌ عَنا. فليست الأنا في الشعر إلا منطوقاتها. الذات هنا ذات فنيَّة جماليَّة لا يهمها أن تُقَدَّم بملامح خلا ما يرسمه الفن ويتأسس داخله من قيم وأبعاد خُلُقيَّة واجتماعيَّة. يقول أبو قيس بن الأسلت هذا النص، فلا يَبْقى فيه من نفسه إلا ما يقوله، أو ما نقرأه فيما يقوله، قد يُسْقِط ما يُسقِط، وربما ينسب لنفسه ما ينسب، ولا يُبقي أخيرًا إلا الأوصاف التي يرتضيها للذات أن تبدو عليها.

ولكن الخبر أو السرد النثري حول هذا الشعر لا يكفيه هذا التجريد، ولذا ينحو إلى التعيين التاريخي للموقف وسياقه، وهو ما يحدث في مقدمة الخبر، ويأخذ من الأسطر حيزًا يَعْدِلُ ثلث الخبر، يتم فيه تعيين:
  • أطراف النزاع في الحرب: بطون الأوس والخزرج كلها، تلك التي يتجاوز الشعر عن تحديدها ولا يذكر إلا «بني مالك» في مَعْرِض اضطلاع الشاعر بأمر قومه.

  • وتعيين الحرب نفسها وميقاتها: آخر حرب كانت بينهم إلا بعاث حتى جاء الله — عز وجل — بالإسلام.

  • وكذا تعيين المخاطَبَة على أنها زوجته وتسميتها: كَبْشة بنت ضَمَرة بن مالك …

إن ما يثبته السرد المرافق قد يُقَدِّم ما لا يحتاجه الشعر، فالسرد في الشعر مستغنٍ بنفسه هنا عن تفاصيل هذا السرد النثري، بل هي ليست مدار اهتمامه بالأساس، ولكن هذه التفاصيل ربما كانت ذات أهمية فائقة في الخبر — هذا الشكل النثري السردي — لاختلاف الحاجة والوظيفة. فالسرد الشعري مكتفٍ بتماسك الحادثة، أما السرد النثري فيلتجئ إلى هذه التفاصيل إلى جانب تماسك أحداثه ليكتسب مصداقيته.

إن الحكاية التي يدور عليها الخبر هي مداره وحدوده، أما السرد الشعري فهو لا يتوقف عند هذه الحكاية، فمداره على ما يقدمه حول الذات. وهذه الحادثة لا تقع في الشعر موقع التصديق أو التكذيب، وإنما تقع موقع التقليد الأدبي والشكل الفني المُسَوِّغ داخل النص لتداعي السرد.

(٣) يقول أُفْنُون التَّغْلِبي في ﻣﻔ (٦٥):

(١) ألا لَسْتُ في شيءٍ فَرُوحًا مُعاوِيَا
ولا المُشْفِقاتُ إذْ تَبِعْنَ الحَوازيَا
(٢) فلا خَيْرَ فيما يَكْذِبُ المَرْءُ نَفْسَهُ
وتَقْوالِهِ للشَّيءِ: يا لَيْتَ ذا لِيَا
(٣) فَطَأْ مُعْرِضًا، إنَّ الحُتُوفَ كَثيرةٌ
وإنَّكَ لا تُبْقِي بمالِكَ باقِيَا
(٤) لَعَمْرُكَ ما يَدْرِي امْرُؤٌ كَيْفَ يَتَّقي
إذا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ له اللهُ واقِيَا
(٥) كفي حَزَنًا أنْ يَرْحَلَ الحَيُّ غُدْوَةً
وأُصبِحَ في أَعْلَى إلاهَةَ ثاوِيَا
ويصوغ محقِّقا المفضليات ما وَجَداه من سَرْدٍ حول القصيدة على النحو التالي:
  • يروُون أن أُفْنُونًا لقي كاهنًا في الجاهليَّة، فسأله عن موته، فقال له: أما إنَّكَ تموتُ بمكانٍ يُقالُ له «إلاهة»، فمكث ما شاء الله.

  • ثم إنه سافر في رَكْب من قومه إلى الشام فأتوها، ثم انصرفوا عنها.

  • فَضَلوا الطريق، فقال الرجل: كيف نأخُذُ؟ قال: سيروا فإذا أتيتم مكان كذا وكذا حيِيَ لكم الطريق ورأيتم الإلاهة، والإلاهة قارَّة بالسماوة، فلما أتوها نزل أصحابُه وأبي أن ينزلَ معهم.

  • فبينا ناقته ترتعي عرفجًا إذ لدغتها أفعى في مشفرها، فاحتكت بساقه والحيَّة متعلقة بمشفرها، فلدغته في ساقه.

  • فقال لأخ معه اسمه «معاويا»: احفر لي قبرًا فإني هالك!

  • ثم رفع صوته يقول هذه القصيدة.٧

تلك صياغة تعتمد على صياغة التبريزي المعتمدة بدورها على صياغة الأنباري دون تلك التي يرويها التبريزي أيضًا عن المرزوقي. ولعل هذا الاختيار خطوة هامة على طريق تناقل السرد المصاحب للقصيدة.

أما نَص التبريزي المعتمد على الأنباري فهو كما يلي:
  • «قال المُفَضَّل: بَلغَنا أن رجلًا من بني تَغْلِبَ، يقالُ له أُفْنُون، يُلَقَّبُ بِهِ، واسمه صُرَيم بن مَعْشَر بن ذُهْل بن تَيْم بن عمرو بن مالك بن حَبِيب بن عمرو بن غَنم بن تغلِبَ، لقي كاهنًا في الجاهليَّة، فسأله عن موته، فقال: أما إنك تموت بمكان، يقال له إلاهةُ. فمكث ما شاء الله.

  • ثم إنه سافر في ركب من قومه إلى الشام. فأتَوها، ثم انصرفوا.

  • فَضَلوا الطريقَ، فاستقبلهم رجلُ، فسألوه عن طريقهم، فقال: خُذا كذا وكذا، فإذا عَنت لكم إلاهةُ — وهي قارةٌ بالسَّماوة — وضح لكم الطريق.

  • فلما سمع أفنون ذِكْرَ الموضع تطيرَ. فلما أتوها نزلَ أصحابُه، وأبى أن ينزلَ معهم.

  • فبينا ناقته ترتعي عَرْفجًا لدغتها أفعى في مِشْفَرها، فاحتكت بساقِهِ، والحَيَّةُ متعلِّقَةٌ بِمشْفرِها، فلدغَتْهُ في ساقه، فقالَ لأخٍ معه: احفرْ لي قبرًا، فإنِّي مَيِّتٌ.

  • ثم رفع صوته يقول.»٨
إلى هنا ينتهي كلام التبريزي المنقول عن الأنباري ثم يُكْمِل سردًا آخر منقولًا عن المرزوقي نَصُّهُ:
  • «وقيل إنَّهُ كان راكبًا حمارًا، فلما أبى النزولَ مع أصحابه، وطال وقوفُهُ، رَبَضَ الحمار، فلدغته حَيَّة.

  • وقالوا: نُهِشَ حِمَارُه وسقط.

  • فقال لأصحابِهِ: إني مَيِّتٌ. فقالوا: ما عليك بأسٌ. قال: «فَلِمَ رَبَضَ٩ العَيْرُ إذن؟» فأرسلها مثلًا.
  • ثم قال يرثي نفسه …»١٠

يُسَاق السَّرْد المصاحب للنص في هيئة «الخبر»: «بلغنا أن رجلًا من بني تغلِب يقال له أُفنون — واسمه صُرَيم — لقي كاهنًا — في الجاهلية — فسأله عن …» إلى نهاية الخبر.

والخبر يُحَدِّدُ صاحبه الذي يجهله أولًا: «رجلًا» ثم يبدأ في تعريفه بالقبيلة ثم باللقب ثم باسمه، وهو يبدأ من المعلوم للعامة (القبيلة) إلى ما قد يكون معلومًا للبعض (اللقب) وينتهي إلى الاسم. وكما حَدَّد النَّسَب يحدد الزمان (في الجاهلية)، ولعل التحديد هنا راجع لطبيعة الخبر الذي يحوي ما ينكره الإسلام، والراوي مسلم يروي الخبر لمسلمين في مجتمعٍ إسلامي؛ إذ يتضمن الخبر اللجوء للكُهَّان ومعرفة الغَيب والتَّطيُّر، وهي كلها مما نهى عنه الإسلام. وهذا التفسير ربما يكون راجحًا أكثر لدى من يعرفون تَقَدم أُفنُون وكونه جاهليًّا. والقصة تقوم على نبوءة الكاهن وتصديق القدر لها. أو أنها صِدْق النبوءة فيما يخص أمرًا في غاية الأهمية بالنسبة للإنسان أو أمر الأمور كلها (الموت). وهو يربطه بمكان معين وساعة معينة؛ المكان هو أرض «إلاهة» والزمان هو ساعة حلوله بها. وهي تتلاعب بتصديق النبوءة فتشتغل على الإبهام بالإخلاف؛ فأفنون يأتي الأرض التي وُعِدَها ومع ذلك ينجو من الموت الذي تقول به النبوءة وهنا تَنْفَكُّ النبوءة عن أكذوبة فيما يظن أفنون، ولكن تدور الكَرَّة مَرَّة أخرى، فينجو مَرَّة ليسقط في الأخرى، يصبح المدار على تفسير النبوءة وفهمها، فليس مرادًا إذًا مجرد اللحاق بأرض إلاهة للمرة الأولى، فلربما أصابته في اللاحقة أو غيرها، وهنا تتحين النبوءة في مطلق الزمن بينما تظل مرتبطةً بالمكان.

وهذا الإبهام بإخلاف الوعد يجعل القَدَر مصيبًا سهمه ومحققًا نبوءة الكاهن بفعلٍ يُنْزَعُ عنه سائر تقديرات البشر وتخطيطهم، إنه ينجو عندما يأتي أرض إلاهة مع قومه راضيًا مختارًا: «سافر في ركب من قومه إلى الشام، فأتوها، ثم انصرفوا.» ولكن القدر يُتِيهُهم حتى يذْهَب به هو إليها خانعًا مقهورًا، ليكون موته أمام عينيه. وتصبح النجاة من المتاهة تعني الحياة كما تعني الموت أيضًا: «خذو كذا وكذا، فإذا عَنَتْ لكم «إلاهة» وَضَح لكم الطريق.» إن إدراك «إلاهة» هو النجاة من المتاهة، وهو الحياة ببلوغ المأمَن وارتياد طريق الحياة، ولكن بلوغها أيضًا هو احتمال الموت، والعودة للدوران في فلك النبوءة: «فلما سمع أُفْنون ذِكر الموضوع تطيَّر».

وهنا يَدْخل في معاندة مباشرة مع القدر أو النبوءة، ويأبى أن ينزل مع قومه هذه الأرض، بغية التحايل على النبوءة، بَدَلًا من أن يهبط هو إلى الأرض، إلى قَدَره كما يقال، يَصْعدُ القدر إليه، تصعد إليه أفعى متعلقةً بمِشفَر ناقته، فبلوغ المكان ليس ملامسة أرضه بل الحلول بجوه، وفي سَرْدٍ آخر يأبى النزول إلى الأرض فيربض به حماره فيسقط عَنْوَةً؛ إذ تلدغ الحيةُ الحمارَ فيسقط. وهذا السَّرد الأخير لِيُضْفوا عليه مصداقيةً أكثر يجعلونه مَضْرِبَ مَثَلٍ شائع: «فَلِمَ رَبَضَ العَيْرُ إذن؟» هذا المثل نُسِبَ في مواضع أخرى إلى امرئ القيس.١١
ولا يخفى دخول الحَيَّة تحديدًا لتنقُلَه من الحياة إلى الموت، ولا تخفى أصولها البعيدة لدي البشرية في دلالتها على الشر ورمزيتها الجنائزيَّة.١٢

والحكاية تُختم بالإقرار والتسليم بنفاذ سهم القدر بعد ما رأى من شواهد، وعلى الرغم من أن ليس كل لدغة أفعى بمميتة فإنه يُسَلِّم بالنهاية، وصِدْق مقالة الكاهن. وعِوَضًا عن أفعالٍ في اتجاه مضاد لأفعال القَدَر أخذ يعمل معه، ومع النبوءة: «فقال لأخٍ له معه: احفر لي قبرًا، فإنِّي مَيِّتٌ».

ربما كانت موافقة نهاية «أُفْنون» لنبوءة الكاهن — هذا على افتراض صدق وقوعها — ضَرْبًا من المصادفة، ولكن أن يخرج ذلك إلى توثيق الحالين بشعرٍ يقوله عند الموت، فهذا مما يخرج تمامًا عن حيز المقبول، وإن كان الأمر هنا أخف وطأةً؛ إذ الشعر مقطوعة من خمسة أبيات فقط، وفي غير هذا الموقف يمتد الشعر لعشرات الأبيات.

وفي تصور البحث أن الشعر نفسه هنا هو مصدر هذا السرد ومنبع فيوضات ناسِجي الحكايات والروايات والأخبار؛ ففيه بذور الحكاية. ويبدو البيت الخامس والأخير مصدر هذا السرد المصاحب أساسًا؛ إذ هو يقرر له الموت ورحيل الركب عنه مُحَددًا المكان: اﻟ «إلاهة»، ويأتي هذا التقرير وكأنه صادر عمن ينازع الموت. لقد أخذ السَّرْد المصاحب نبأ «الموت في أعلى «إلاهة»» على حَرْفيته وجعله تقريرًا من الشاعر على سبيل اليقين، ومن ثم سَبَقه بنبوءة الكاهن، والكاهن بؤرة من بؤر النص في البيت الأول «تبِعْنَ الحَوَازيا»، وكانت منازعة القدر والإيهام بالنجاة بناءً على تأملات البيت الثاني. والبيت الأول أيضًا فيه كلام البائس اليائس مما يُرْجَى أو يُحْذَر: «ألا لَسْتُ في شيءٍ»، وهنا التسليم بمطلق الضعف؛ إذ «الشيء» اسمٌ لكل ما يجوز أن يُعْلَم أو يُخْبَر عنه. وهذا التسليم مع الإذعان وتقرير ملاقاة الموت في البيت الأخير مُوطَّآن أساسًا للقول في السرد لأخٍ له: «احفر لي قبرًا فإنِّي مَيِّتٌ». وهذا الأخ المصاحب الذي يَخُصُّه السرد في رواية الأنباري يُجَسِّده الشعر ويمنحه اسمًا «معاويا»، وهو الذي خاطبه الشاعر بقوله: «فَرُوحَنْ معاويا». تقول الشروح: «لَما استسلم لما استشعره من قول الحاذي وحُكْمه، خاطبه بهذا منتظرًا للكائنة.»١٣ لقد خاطب «معاوية» ملتمسًا منه أن يَرْحل، أما هو فباق انتظارًا لأجله المحتوم.

ولعلنا نلحظ أن الشعر حسب رواية الخبر يندرج في إطار الخبر، ولكن في السياق الذي يشرح اختيارات المُفَضَّل، الذي يورد الخبر لشرح دواعي القصيدة؛ يضحى الخبر في المقام الأول هو هذا النثر المرافق للقصيدة والتابع له. وعلى الرغم من أن الشعر بدا أنه كان منطلق الخبر وأساس التأليف السردي حوله، ظل الخبر مَدْخلًا مجاورًا للنص مهيمنًا على الانطباعات التأويلية — الأولى على الأقل — للنص. وعلى الرغم من إمكانية قراءة بيت أُفْنون:

فلا خَيْرَ فيما يَكْذِبُ المرءُ نَفْسَه
وتَقْوالِهِ للشيءِ: يا لَيْتَ ذا لِيَا

قراءة مباشرة له هو بمفرده ودمجه في سائر النص بعيدًا عن مؤشرات نصيَّة خارجية، فإن المرزوقي يقرؤه قراءة تَنَاصيَّة مع بيت لَبِيد بن ربيعة العامري يقول: «هذه إشارة إلى ما سَارَ مثلًا مع قول الشاعر:

واكْذِبِ النَّفْسَ إذا حَدَّثْتَها
إن صِدْقَ النَّفْسِ يُزرِي بالأَمَلْ».١٤

فيجعل المرزوقي «أُفْنون» معيدًا لتأويل تجربة إبداعية سابقة، ولا يجعل من الخبر أو الموقف أو الحكاية فقط هي خلفيَّة الشعر، بل يجعله ينظر أيضًا لصياغة شعرية سابقة (بيت لبيد) بما تتضمنه هذه الصياغة من رؤية وتجربة وصياغة موقف، وما يحتمله من سَرْدٍ آخر أضحى مَضْرِبًا لذلك الشعر الذي سار مثلًا كما يقول المرزوقي.

إن بيت لبيد يخترق حقائق الحياة إلى لُب الحقيقة الوجوديَّة حيث الفناء والتناهي، ولكنه يرى هذه الفاجعة مُزْريةً بالحياة والعمل والتفاؤل، مزريةً بالأمل الدافع لكل ذلك، ومن ثم يدعو إلى تكذيب النفس الحديثَ حتى يكون ذلك دافعًا للحياة على نحوٍ من الأنحاء. «يريد: حَدِّث نَفْسَكَ بالآمالِ المَرْجُوَّة، فقل لها: تعيشين فتُصيبين خيرًا. ولو صدقتها فقلت: تهلكين وتموتين، لأزريتَ بأملك».١٥ ويأتي بيت أفنون لينقض بيت لَبِيد؛ إذ الأماني الطيبة وحيازة ما هو مُبْهج هي مما يُكَذِّبُ المرءُ به نَفْسَه، وهو تسليمٌ ربما لم يكن يرتكن إلى قُوى رحيمة قدر ما كان استسلامًا للقدر والمصائر المُهْلِكة. وهو بهذا ينقض — عند لبيد خاصةً — هذا التَّعامي عن سطوة القَدَرِ المُفْضِية إلى الطمع في الحياة والإقبال عليها، ذلك أن الحقيقة إذا ما حَقَّت، وصَحت كلمة القَدَر كانت فوق كُلِّ أُمنية. وهي ليست دعوة رضًى وخنوع، بل هي شجاعة لا تحفل بالمخاطر، الأمر فقط أن المخاطر من سطوتها لا تستأهل كل هذه المماراة «فَطَأْ مُعْرِضًا إنَّ الحُتُوفَ كَثيرةٌ»: «أقدم على ما يَعْرِضُ لك، واركبْ ما يُعطيك ظَهرَه».١٦

(٤) وحول مفضليَّة الجُمَيح (١٠٩) خَبران:

الأول هو قول أبو عكرمة الضَّبِّي: «كان نَضْلة بن الأَشْتَر بن حَجْوان بن فَقْعَس جارًا لبني عبسٍ، فقتلوه غَدْرًا».١٧
والآخر لا يُنْسَب لأحدٍ، يقول التبريزي: «وقال غيره هو أبو خالد بن نَضْلة، وكان سَيِّدًا ذا مال، فاجتمع من كُلِّ فخذٍ منهم رَجُل، فأخذوا قناةً واحدةً، ثم انتظموا أيديهم فيها، فطعنوه بها كُلهم، طعنة رجلٍ واحدٍ، لئلا يُخَصُّ فَخِذٌ بطلب دمه».١٨

ومدار الخبرين على البيتين الأول والثاني من النص. يقول الجُمَيح:

(١) يا جَارَ نَضْلةَ، قد أنَى لكَ أنْ
تَسعَى بجارِك، في بَني هِدْمِ
(٢) مُتَنَظِّميِنَ، جِوارَ نَضْلَةَ، يا
شاهَ الوْجُوهِ، لِذلكَ النَّظْمِ

الخبر الأول يُقَدِّم الخبر على هذا النحو من الإِجْمال: أن «نَضْلة — كان جارًا لبني عَبْسٍ — فقتلوه — غَدْرًا»، ولكنه يزيد التعريف بِكُلٍّ من «نَضْلة، وبني هِدْم»، فيخصِّص ويُعَمِّم؛ نضلة هو فنضلة بن الأشتر بن جَحوان بن فَقْعس. وبني هِدْم هم من بني عَبْس قبيلتهم الشهيرة، فَعَمَّم النَّسَب المُسْتفاد من الأبيات وذكر القبيلة بدلًا من البطن.

أَما الآخر فيأخذ في تَفْصيل هيأة الغدر به وأنهم اجتمعوا عليه وطعنوه طعنة رجلٍ واحدٍ. وينحرف الخبر تجاه الثأر وإمكانية المطالبة بدمه. وهو يُقَدِّم وصفًا ﻟ «نَضْلة»، يقدمه على أنه من ملامح الرجل الأساسيَّة هذا الوصف، هو أن نضلة كان «سيدًا ذا مالٍ». ويربط الخبر هذا الحدث بالحدث الرئيس بالفاء، وقد تكون الفاء لمطلق عطف الجملتين، ويصبح هذا الوصف مجرد معلومات عن الرجل، ومن الممكن أيضًا، ولعله الأرجح، أن تكون الفاء هنا فيها معنى السببية.١٩ وهنا يصبح الغَدْر ﺑ «نضلة» لم يكن فقط مسألة قتل، بل كان «حادث سَطو». ولكن الشعر لا يتوقف عند هذه التفصيلة، إن ما يهمه هو انهيار المبدأ ذاته (رعاية الحقوق)، وما استدلَّ به من الغَدْر، والسعي بالجار، سواء أكان غَدْرًا بالنفس أم بالمال. إن السرد الشعري عينه على الكليات في حين يتغيَّا السرد في النثر الجزئيات والتفاصيل.

وهذا الخبر على هذا النحو يبدو غير مُسْتفادٍ من الشعر خاصةً، إذا اعتبرنا التَّنَظُّمَ في البيت الثاني تَنَظُّمًا في الجوار والسكن، على نحو ما يُفْصح عنه ظاهر التركيب. حتى هذا البيت التاسع الذي يذكر فيه الرِّمَاح:

(٩) يَبْغُونَ نَضْلةَ، بالرِّمَاح، على
جُرْدٍ، تَكَدَّسُ، مِشْيَةَ العُصْمِ

يُرْوَى «يَبْغُون» وكذا «يَنْعون»، حتى هذا البيت لا يُقدم أساسًا لبناء خبر الانتظام في قناة أو رُمْح عند قتله، فالضمير في الفعل إنما يعود على قوم نضلة الثائرين طَلَبًا للدم. «فينعون نضلة بالرماح»، أي يطعنون أعداءهم طلبًا لثأره ويقولون مثلًا وانضلتاه. أما قوله: «يبغون نضلة بالرماح» فمعناه أنهم يبغون ثأره ومجازاتهم بما فعلوا به.

وفيما سبق على الرغم من أن الخبر يُقَدِّم إعلامًا جديدًا غير مُسْتفادٍ من الشعر، إلا أنه لم يُضِف جديدًا للدلالة الشعرية، كما لم يَسُد ثغرةً في المبنى السردي الذي يقدمه الشعر. فالشعر مع هذه الإضافة الإعلاميَّة السردية التي يقدمها الخبر مُسْتَغْنٍ عنها أيضًا، ذلك أنها هنا، وفي هذا النص خارج منطق السرد الشعري للنص.

(٥) وفي نموذج أخير سوف نقف بالتحليل أمام خبر طويل نسبيًّا يورده التبريزي بعد ﻣﻔ (٤٥) مسبوقًا بقول المُفَضَّل صاحب الرواية: «وكان من حديث المُرقِّش، وسبب قوله هذا الشعر …» ونقف أمام عِدَّة قصائد في المفضليات، لا قصيدة واحدة كما اعتدنا. ذلك لأن الشارح نفسه وَصَل بينها بشكل من الأشكال، ولأن الشعر نفسه يقتضي ذلك. هذه القصائد هي ﻣﻔ (٤٥)، (٤٦)، (١٢٩).

وسنثبت القصائد ثم الخبر رغم طول المجموع، وهذا لمتابعة التحليل.

تقول ﻣﻔ (٤٥):

(١) يَا صَاحِبَيَّ تَلَوَّما لا تَعْجَلا
إنَّ الرَّحِيلَ رَهينُ أَنْ لَا تَعْذُلا
(٢) فَلعَلَّ بُطْأَكُما يُفَرِّطُ سَيِّئًا
أَوْ يَسْبِقُ الإسْرَاعُ سَيْبًا مُقْبِلا
(٣) يَا رَاكِبًا إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ
أَنَسَ بْنَ سَعْدٍ، إنْ لَقِيتَ، وحَرْمَلا
(٤) لِلهِ درُّكُمَا ودَرُّ أَبِيكُمَا
إنْ أَفْلَتَ الغُفَلِيُّ حتَّى يُقْتَلا
(٥) منْ مُبْلِغُ الأَقْوامِ أَنَّ مُرَقِّشًا
أَمْسَى على الأَصْحَابِ عِبْئًا مُثْقَلا
(٦) ذَهَبَ السِّبَاعُ بِأَنْفِهِ فَتَرَكْنَهُ
أَعْثَى عَلَيْهِ بِالجِبَالِ وَجَيْئَلا
(٧) وكَأَنَّما تَرِدُ السِّبَاعُ بِشِلْوِه
إذْ غَابَ جَمْعُ بَنِي ضُبَيْعَةَ، مَنْهَلا

وتقول ﻣﻔ (٤٦):

(١) سَرَى لَيْلًا خَيَالٌ مِن سُلَيْمَى
فَأَرَّقَنِي وأصْحَابي هُجُودُ
(٢) فَبِتُّ أُدِيرُ أَمْرِي كُلَّ حَالٍ
وأرْقُبُ أَهْلَهَا وهُمُ بَعِيدُ
(٣) عَلَى أَنْ قَدْ سَمَا طَرْفِي لِنَارٍ
يُشَبُّ لهَا بِذِي الأَرْطَى وَقُودُ
(٤) حَوَالَيْهَا مَهًا جُمُّ التَّرَاقِي
وأَرْآمٌ وغِزْلَانٌ رُقُودُ
(٥) نَوَاعِمُ لا تُعَالِجُ بُؤْسَ عَيْشٍ
أَوَانِسُ لا تُرَاحُ وَلا تَرُودُ
(٦) يَرُحْنَ مَعًا بِطَاءَ المَشْيِ بُدًّا
عليهن المَجَاسِدُ والبُرُودُ
(٧) سَكَنَّ بِبَلْدَةٍ وسَكَنْتُ أُخْرَى
وقُطِّعَتِ المَوَاثِقُ والعُهُودُ
(٨) فَمَا بَالي أَفِي ويُخَانُ عَهْدِي
وما بالِي أصَادُ وَلَا أَصِيدُ
(٩) ورُبَّ أسِيلةِ الخَدَّيْنِ بِكْرٍ
مُنَعَّمَةٍ لها فَرْعٌ وجِيدُ
(١٠) وذُو أُشُرٍ شَتِيتُ النَّبْتِ عَذْبٌ
نَقِيُّ اللَّوْنِ بَرَّاقٌ بَرُودُ
(١١) لَهوْتُ بها زَمانًا مِن شَبَابي
وزَارَتْها النَّجَائِبُ والقَصِيدُ
(١٢) أُناسٌ كُلَّما أخْلَقْتُ وَصْلًا
عَنَانِي منهُمُ وَصْلٌ جَدِيدُ

وتقول ﻣﻔ (١٢٩):

(١) قُلْ لأَسماءَ أَنْجزِي الميعادَا
وانْظُرِي أنْ تُزَوِّدِي منكِ زَادَا
(٢) أينَما كنتِ أو حَلَلتِ بأَرَضٍ
أَو بلادٍ أَحْيَيْتِ تِلْكَ البِلادَا
(٣) إن تَكُونِي تَرَكْتِ رَبْعَكِ بالشَّأ
مِ وجاوَزْتِ حِمْيَرًا ومُرَادَا
(٤) فارْتَجِي أنْ أكُونَ مِنكِ قَريبًا
فاسْأَلِي الصَّادِرِين والوُرَّادَا
(٥) وإذا ما رَأَيْتِ رَكْبًا مُخِبِّيـ
ـنَ يَقُودونَ مُقْرَباتٍ جِيَادَا
(٦) فَهُمُ صُحْبتِي على أَرْحُلِ المَيـْ
ـسِ يُزَجُّونَ أَيْنُقًا أَفْرَادَا
(٧) وإذَا ما سَمِعْتِ من نَحوِ أرضٍ
بِمُحِبٍّ قد ماتَ أو قِيلَ كادَا
(٨) فاعْلَمِي غيرَ عِلْمِ شَكٍّ بأَنِّي
ذَاكِ، وابْكِي لِمُصْفَدٍ أنْ يُفادَى

أما الخبر المرافق، فينقُله التبريزي:

«قال المفَضَّل: وكان من حديثِ المرقشِ، وسببِ قوله هذا الشعرَ، أنه خَطب إلى عَمه عوفِ بن مالكٍ ابنتَه، وكان قد رُبيَ معها صغيرًا، فقال له عمه: لن أُزوِّجك حتى ترأسَ — أي: تكون رئيسًا — وتأتي الملوكَ.

وكان عوف يقال له: البُرَكُ. تَسَمَّى بذلك يوم قِضَةَ، وكانت خِطْبةُ مُرقِّشٍ أسماءَ بنت عوف قبل انتقال ربيعةَ من اليمن، فخرج مرقشُ، فأتى ملكًا من ملوك اليمن ممتدحًا له، فأنزله وأكرمه وحباه. ثم إن عوفًا، عمَّ مرقشٍ، أصابته سَنَةٌ فأجدب، فخطب إليه رجل من مراد، فزوَّجه ابنته. ثم إن مُرقِّشًا أقبل، فأشفق عليه إخوته وبنو عمه من أن يُعلِموه بتزويج ابنة عمه، فلما سأل عنها قالوا: ماتت. وذهبوا به إلى قبر، قد أخذوا قبل ذلك كبشًا، فأكلوا لحمه، وجعلوا عظامه في ثوب وقبروه. فكان مرقشُ يعتاد ذلك القبر، فبينا هو نائم عنده ذات يوم إذ اختصم صَبيانِ، من بني أخيه، في كعبٍ معهما، فقال أحدهما لصاحبه: هذا كعبُ الكبش الذي ذُبح ودُفن، وقيل لمرقش إنه قبر أسماء، دفعه إليَّ أبي، فقعد مُرقِّش مذعورًا، وتأتى للصبيان حتى أعلموه الخبر.

وكان قد ضَنِي ضنًى شديدًا، فجاء فَشَدَّ على بعير له، وحمل معه مولاةً له، وزوجًا لها من غُفَيلةَ، كان عسيفًا — وهو الأجير — يرعَى لمرقِّش، ونهض في طلب المُرادِيِّ. فمرض مرضًا شديدًا، حتى انتهى إلى كهفٍ يقال له: كهف خبارٍ، أو كهف جُبارٍ، بأسفل نجران — وهي أرض مراد — فألقَيَاه في الكهف. وقد كان سعدُ بنُ مالك وَضَع مرقشًا وأخاه حَرْملةَ — أحبَّ بَنِيه إليه — عند رجل من أهل الحيرة، فعلَّمَهما الكتابة. فسمع مرقِّشٌ الغُفَليَّ يقول لامرأته: هذا في الموت، ولا يمكنني المُقامُ عليه. فجزِعَت من ذلك وصاحت. فلم يزل بها حتى نهضت معه، وتعمَّد مرقشٌ غفلتهما، فكتب هذه الأبيات على رحل الغُفَليِّ. وجاءته السباع فأكلت أنفه، وبعض لحمه. فلما قَدِمَ الغُفَلي وامرأته سألوه عنه فقال: قد مات.

ثم إنَّ حرملةَ نظر ذات يوم إلى رحل الغُفَلي، ففهم الأبيات، فشدَّد عليه وعلى امرأته، فأقرَّا أنهما تركاه على حال ضَيعَةٍ، لمِا نالهما من الجُوع والجَهْدِ. فوثب حرملة على الغُفَلي فقتله.

وقد كان راعٍ يعتاد ذلك الكهف، فسأله مرقِّشُ: ممن هو؟ فقال: رجلٌ من مُراد، أرعَى على زوج أسماء. فقال: هل تراها؟ فقال: هيهات، لا أراها أنا ولا غيري. فقال: أما لك سَبَبٌ تَتصل به؟ قال: بلى! تأتيني خادِمُها كل ليلة، إذا رُحتُ، بقعبٍ، فأحلب لها فيه عَنزًا. فدفع إليه خاتَمَه وقال: إذا حلبتَ فارمِ بالخاتم في القَعبِ. فإنك مصيبٌ ما أصاب راعٍ من خيرٍ. ففعل ذلك الراعي.

فلما أخذتِ القعبَ لتشربَ ضربَ الخاتم ثناياها، فدعت بنار، لتنظر إليه، فعرفته. فدعت الخادم فسألتها فقالت: لا عِلمَ لي به. فأرسلت إلى زوجها، وهو في شَرْبٍ بنَجْرانَ، فجاء مذعورًا فقالت: ادعُ راعيَكَ، فاسأله عن هذا الخاتم وعن قصته. فسأله فقال: دَفعَه إلي فتًى في كهف جُبارٍ، أو خُبارٍ، وهو دَنِفٌ في آخر رَمَقٍ. فقالت: هذا مُرقِّش، العَجَلَ العَجَلَ. فركبَ فرسه، وحملها على بعيرٍ. فانتهيا إليه بعد يوم وليلة. فاحتملته إلى منزلها.

ثم إنَّ حرملةَ لما قتَل الغُفَلي ركب في طلب مُرقِّشٍ، حتى أتى موضع أسماء. فَخُبِّرَ أنه مات عندها. فانصرف ولم يرَها.»٢٠
وهذا الخبر الذي نجده في شرح التبريزي نجده في مواضع عِدَّة منها: الأغاني، ومصارع العشاق، والشعر والشعراء، ورسالة الغُفران، وسمط الآلي.٢١ والأغاني من الكتب التي أفاضت في تناول الحكاية، والخبر فيها لا يكاد يختلف عنه في شرح اختيارات المُفَضل، وبخاصة أن صاحب الأغاني يعتمد أيضًا رواية المُفَضل، التي يقول التبريزي أنه يعتمدها وينقل نَصَّها. وربما جاء الاختلاف في تفاصيل صغيرة جدًّا بالنسبة للحكاية ككل، كأن يُحَدِّد المُفَضل الملك الذي امتدحه المرقِّش بأنه «ملك من ملوك اليمن»، في حين يطلقه صاحب الأغاني «ملك من الملوك»،٢٢ أو يحدد البطن التي يعود إليها زوج أسماء: «رجل من مُراد أحد بني غُطيف».٢٣ غير أن أسلوب الأغاني يبدو أكثر تَمَرُّسًا بالحكاية وأكثر وَعْيًا بكيفيَّة تقديم حَدَثٍ يُشارِف حدود الإقناع.
ولننظر لصياغة صاحب الأغاني لهذا الجزء الذي يَتَعَرَّف فيه المرقِّش على راعي زوج أسماء. وسواء أكانت هذه صياغة صاحب الأغاني أم كانت اعتمادًا منه لرواية ما، فهو في النهاية لم يَخْتر صياغة المُفَضل التي نقلها التبريزي أو ربما عَدَّل في صياغتها. يقول صاحب الأغاني: «ولم يَزَل فيه [الكهف] حتى إذا هو بِغَنَم تنزو على الغار الذي هو فيه، وأقبل راعيها إليها، فلما بَصُرَ به قال له: من أنت وما شأنُكَ؟ فقال له مُرَقِّش: أنا رجلٌ من مُراد، وقال للراعي: من أنت؟ قال راعي فلان، وإذا هو راعي زوج أسماءَ. فقال له مُرَقش: أتستطيع أن تُكَلِّم أسماء امرأة صاحبك؟ فقال: لا، ولا أدنو منها، ولكن تأتيني جاريتها كُلَّ ليلة فأحلب لها عَنْزًا فتأتيها بِلَبَنِها».٢٤ الخبر كما ينقل التبريزي يجعل الراعي نفسه يعتاد المكان الذي أقام فيه المرقش، ولكن صاحب الأغاني يبني الأمر على المصادفة، نعم يبدو الأمر إجمالًا في كليهما مُدَبَّرًا على نحوٍ ما، ولكن صاحب الأغاني يُقلِّل من حِدَّة ذلك بمثل هذه المصادفة، وفضلًا عن ذلك يجعل المُفَضل — كما ينقل التبريزي — كما لو كان ملفِّقًا، أو أن المرقش كان قد حكى للراعي حكايته مع أسماء، فالراعي يُعَرِّف نفسه بأنه «رجل من مراد، أرعى على زوج أسماء» فمتى يُعْرَفُ الرجالُ بزوجاتهم، ومتى كان اسم أسماء عندما يُطْلَق يراد به محبوبة المرقش. ثم إنه يعود فيبالغ بشدَّة في تحجبها عن النظار: «هيهات، لا أراها، أنا ولا غيري.» ولكن خلافًا لذلك يُدَبِّرُ صاحب الأغاني للأمر بأن ينتسب المرقش إلى مراد فيأمَن الراعي اعتقادًا بأنه من أهل البلاد، ويَفْهم المرقش بنفسه من سماع اسم صاحب الراعي أنه زوج أسماء، وهنا يُحَدِّثه في أمر زوج سيِّده.

ولا نَعْدَم صياغة ثالثة للخبر عن ابن قتيبة، تبدو هي نفسها ما ينقله التبريزي وصاحب الأغاني، ولكنها تبدو شديدة التكثيف؛ إذ لا تتجاوز بضعة أسطر. ومع هذا توجِزُ الحادثةَ تمامًا، يقول ابن قتيبة:

«وهو أحد عُشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته أسماءُ بنت عوف بن مالك بن ضُبَيْعَة بن قيس بن ثعلبة. وكان أبوها زَوَّجها رجلًا من مُراد، والمرقش غائب، فلما رجع أُخْبِرَ بذلك، فخرج يريدها، ومعه عسيف له من غُفَيْلة، فلما صار في بعض الطريقِ مرِض، حتى ما يُحمَل إلا مَعْروضًا، فتركه الغُفَيْليُّ هناك في غارٍ وانصرف إلى أهْله، فَخَبرهم أنه مات، فأخذوه وضربوه، حتى أقر، فقتلوه، ويقال إن أسماء وقفتْ على أمره فبعثتْ إليه فَحُمِل إليها، وقد أكلت السِّباعُ أنفه، فقال الأبيات (٣–٧) من ﻣﻔ (٤٥)، ويقال: بل كتب هذه الأبيات على خَشب الرَّحْل، وكان يكتب بالحِمْيَرِيَّة، فقرأها قومه، فلذلك ضَربوا الغُفَيلي حتى أَقَرَّ.»٢٥

إننا أمام قصَّة تتقلب بين الرواة وكُتب الأخبار، تحافظ في حركتها على تفاصيلها الرئيسة ويتغير سَرْدها، استفاضةً وإيجازًا، ربما تبعًا لوظيفة السرد وسياق الحكاية، فالأغاني يُفْسِحُ المجال للحكي والتفصيل والإمتاع بالحكاية، في حين ينشغل ابن قتيبة بِلُب الأحداث وأبعاد الخبر الرئيسية والمؤثرة، فهو — على سبيل المثال — يوجز أمر الراعي والكهف والعنز وحلب اللبن والخادمة وتَعرُّف أسماء. يوجز كُلَّ ذلك بقوله: «ويقال إن أسماء وقفت على أمْره».

وكذا تتفاوت عنده صحَّة بعض أجزاء الخبر، فَيسْبِقُها بقوله: «ويقال إن»، إنه يروي بثقةٍ من الخبر تلك الأحداث التي يرويها الشعر (أمر الغُفَلي) وما أدى إليها (تزويج أسماء والمرقش غائب). وكأن الشعر ذاته دليلٌ تاريخيٌّ على صِدْق ما يُفْهم منه من أحداث صِدْقًا واقعِيًّا، فدليل الشعر فوق كل دليل.

يبدأ الخبر، محل النظر، خبر المفضل الضبي، بمشكل مبدئي، حيث يتقدم حَدثٌ من أحداثه النصَّ، ويتم تعريف الشخصيات بمتابعة تقديم الحدث، ولا تلبَث أحداث هذا المشكل أن تترابط لتصبح عارضًا أوَّليًّا يهيئ الظروف لوقوع المشكل الرئيسي للسرد. وسريعًا تتحدد الشخوص: المرقش، عمه عوف بن مالك، ابنته أسماء بنت عوف.

وتبدأ الأحداث بَعْرضٍ من قِبَل المرقش — تزويجه أسماء — وقبول مشروطٍ من أبيها. ويبدو الشرط — أن يترأس/يأتي الملوك — بمثابة «اختبار»٢٦ يُمْتَحن به البطل، ليكون اجتيازه دليلًا على جدارة الشاعر ﺑ «الحصول» على حبيبته أسماء، هذا «الحصول» الذي يمثل موضوع الصراع. والصراع هنا هو ما تحاول الشخصيَّة تجاوزه من عراقيل بلوغًا للهدف.

ويبدو اختراع شكل الاختبار هنا مبنيًّا على اختيار الصفة المائزة له بكونه شاعرًا، وهو اختيار نابعٌ من تلك القيم الاجتماعيَّة المرتبطة بوظيفة الشعر والشاعر في المجتمع، فأن ينبغ شاعر كفيل بأن يحظى حينئذٍ بما لم يحظَ به غيره من الرِّفعة والمكانة الأدبية، ليصبح رئيسًا في القوم، أو على الأقل مسموع الكلمة. وكذلك لا يتحقق النبوغ — كما في الخبر — إلا بما به يحتل موضع السيادة في القوم، إلا بتردده على وجوه الناس، وهم هنا الملوك، معنى ذلك أن يصبح الشاعرُ شاعرًا «رسميًّا»، فالمكانة الأدبيَّة هنا لا تتحقق بمجرد الإبداع؛ بل بذيوع اسمه وشهرته، وتحقيق القصيدة لشروط الشكل الرسمي.

ولا يَخْفى أيضًا هذا البُعْد المادي الاقتصادي في مواصلة الملوك ومَدْحهم. إنه على الإجمال «تغريب» يُبْتَغى منه اختبار الذات سعيًا لتحقيق وضعٍ متميزٍ أدبيٍّ ومادي، وهو في الوقت ذاته «مغادرة» تَسْمح بوقوع الأحداث، أو تسنح للشَّرِّ أن يتحقق:
  • يحبك السرد علاقاته، فيعمل على إفساد إنجاز الفعل بالوعد رغم إنجاز الشروط. إن المرقش «يجتاز الاختبار»: «أتي ملكًا من ملوك اليمن، ممتدحًا له، فأنزله وأكرمه وحباه». ومع هذا يُجازى ﺑ «إخلاف الوعد»، ويقع المحذور، وتتزوج أسماء.

  • وزواج أسماء الذي هو «العائق الأكبر» الذي يقوم في وجه المرقش (البطل)، وهو حائل اجتماعي وأخلاقي ونفسي، ربما ظُنَّ معه نهاية الصراع أو توقف رحلته. ولكن المسألة هنا مسألة حُبٍّ يتجاوز «الزواج»، تلك العلاقة الاجتماعية الحادثة التي تعترض صراع البطل نحو غايته (امتلاك أسماء أو القُرْب منها).

  • وأثناء غياب المرقِّش تدخل إلى الحكاية شخصيَّة جديدة تؤدي دور «الشرير» في الحكاية، وشَرُّها هنا لا يكون بقصد إيذاء المرقش ذاته، وإنما هو قَدَر المرقش أن نازعه في أسماء، بل فاز بها. وشَره آتٍ من زعزعته سلام تآلُفٍ سعيد، والتسبب في شكل من المصيبة بالنسبة للمرقِّش.

    وتتهيأ الظروف للشرير لأن يؤدي دوره بهدوء ونجاح؛ فقد أصابت عوفًا «سَنَةٌ فأجْدَب»، وأصبح زواج أسماء من هذا الرجل تخفيفًا من أعباء عوف، وربما إنقاذًا لوضعه المالي. وبهذا تُسَوِّغُ الأحداثُ لفعل عوف بتزويجه أسماء من المُرادي وإخلافه وعد المرقش. إن الإجداب يَحْدُث لِتَسْهُل وظيفة الشَّرِّ.

    ولعل الشرير/المرادي «استطلع» خبر عوف قَبْل مجيئه فعلم بأمر الإجداب فزاد أمله في موافقة عوف والزواج من أسماء. فالظروف التي تُسَهِّل للشر وظيفته ليست ناتجة عن تدبير الشرير، أو شكلًا من أشكال الخداع، وإنما هي بالنسبة للبطل «سوء حظ أوَّلي»؛ إذ لم يكن اتفاق عوف والمرقش المبدئي «اتفاقَ خداع». ومما يتيح نجاحَ دور الشرير هنا أو أداءه لوظيفته غيابُ الطرف الآخر من الصراع — المرقش — إذ تتم كل هذه الأحداث في غيبته.

  • ويمثل زواج المراديِّ من أسماء ورحيله بها وظيفة «الإيذاء» في الحكاية، وهي هنا من الأهمية بحيث تُفَجِّر نشاط الحكاية، وعنها ينشأ مأزقها الرئيس وحركتها الفعليَّة.

  • يرحل المرادي بزوجته أسماء، فيرحل المرقش في أثرها، كما لو كان المرادي قد «اختطفها».٢٧ إن المرقش يجعل علاقة الزواج في مواجهة علاقة الحب، ويصادر بمتطلبات العلاقة الأخيرة على أولويات الأُولى.
  • ويقوم إخوته وبنو عَمه باختراع «حيلة» تعيق البطل عن مواصلة مسعاه وراءها، تقوم الحكاية ﺑ «تعمية» البطل عن طريقه والإيهام بَحِدٍّ نهائي للصراع «قالوا: ماتت».

    ويبدو أن وحدة «الرحيل» وراء أسماء، أو التزامَها، وحدة ركينة لازمة؛ إذ صنعوا لها قبرًا، ودفنوا فيه كبشًا أكلوا لحمه وجعلوا عظامه في ثوبٍ وقبروه، وهنا يعتاد المرقش القبر، و«يحجُّ» إليه كلما هاجه الشوقُ إليها، وتصبح رحلته طقسًا من طقوس القُرْب والالتزام، وهذا الاعتياد شكل من الرحيل والتتبُّع.

  • ربما تصْطَنِعُ هنا مسألةُ «الاستعاضة» عن رحيل أسماء بكبشٍ يُدْفَن طقسًا من طقوس «الفداء». والكبش في مكان أسماء، ربما لا يكون حينئذٍ فداءً لها قدر ما هو فداء للمرقش نفسه، لئلا تهلك نفسه على رحيلها أو على موتها المفترض. فالكبش هنا راجح بين «الفداء» و«الخديعة». ويدخل الكبش ذاته بشكلٍ من الأشكال في كشف الخديعة؛ إذ يتنازع صبيان من بني أخي المرقِّش في كعبٍ من أكعُبِه — والكعب: كُل مَفْصِلٍ من العظام — فيكون سببًا في كشف الخديعة، وكذا يتجدد الأمل في الوصال. وهنا يمثل هذا الكعب «إعلانًا للفقدان» ويفتح الطريق من جديد للحكاية لأن تتمدد وتتعدد فُصُولُها.

  • وتتسبَّبُ مسألة «الإيذاء» — مُمَثَّلةً في زواج أسماء من المُرادِي ورحيلها — في وظيفة «البحث»، تلك التي يخرج فيها المرقش مُسْتَهْدِفًا أسماءَ في ديار بني مُراد ويتحول المرقش بهذه الوظيفة من مقعد «البطل الضحيَّة» إلى «البطل الباحث»، مع ملاحظة أن أسماء تظل ضحيةً على الدوام في معظم الأحداث، ولا تأخذ دور «البطل الباحث» إلا في النهاية، بعد أن يكون المرقش قد أشرف تمامًا على الموت وهي إيجابيَّة في الفعل تغيب عنها على طول الأحداث، وربما يكون تَصَرفها شجاعًا وجريئًا إلى حد عدم الإقناع، أو على الأقل التناقض في سلبيتها على طول الخبر، فهي دومًا شيءٌ يُتَصَرَّفُ فيه من قِبَل الأب؛ سواءً في شرط الزواج من المرقش، أو في خطبتها للمُرادي وتزويجها إياه. ولا يُسْنَدُ إليها أي شيء على الإطلاق.

  • وتجمع وحدة «المغادرة» كُلًّا من المرقش وأسماء؛ إذ «يغادر» كُلٌّ منهما بلادهما إلى مكانٍ آخرَ بعيدٍ، ويختلف موقعهما من هذه الوظيفة؛ ﻓ «مغادرة» أسماء/البطل-الضحيَّة هي إقصاء خارج الوطن أو البلاد، وهي رحلة تبتغي الاستقرار في حياة جديدة منقطعة عن الحياة الأولى، أما «مغادرة» المرقش/البطل-الباحث، فهي تَتَبُّعٌ لأثر الضحيَّة بُغية استعادتها ماديًّا ومعنويًّا. هي رحلة بحثٍ في مقابل رحلة الاستقرار.

  • والنص يلتفت كذلك إلى التحول المكاني بين مكانين؛ مكان «البطل-الباحث» ومكان «الشرير» الذي أصبح مكان «البطل-الضحيَّة».

  • ورحلة المرقش/البطل الباحث على هذا النحو رحلة تنتظر العوائق والمغامرات التي يُفْترَض أن تعيق استمرارها أو نجاحها، وهنا تُقَدِّم الأحداثُ للبطل-الباحث «عائقًا» كما تمنحه «مُعينًا» أو «مساعدًا» على تجاوز «الاختبار» أو رحلة «البحث» بعامة. وينحصر العائق هنا في المرض الشديد الذي يلحق المرقش، ويكاد يمنعه من مواصلة الرحلة؛ إذ مَرِضَ «حتى ما يُحْمَل إلا مَعْروضًا» بتعبير رواية الأغاني.

  • أما المساعد فيتمثل أولًا في الغُفَلي وزوجه التي كانت مولاةً للمرقش، ومن هنا كان يُنتَظَر منها الإعانة والمساعدة، ولكنها هنا «مساعد» سلبي أو متخاذل؛ إذ يتخلى الغُفَلي عن دوره ويُرْغِم زوجه على ذلك التخلي أيضًا، الأمر الذي قد يؤدي بمهمة البطل-الباحث إلى «الفشل». وهو ما أدى بالفعل إلى «توقف البحث».

  • وهنا تسير القصَّة في اتجاهين: الأول اتجاه «الانتقام من المساعد المتخاذل»، والآخر هو ظهور «مساعد ثانٍ»: الراعي، الذي يقود بفاعليَّة إلى «الهدف»، ربما بكفاءة لم تكن لتتيسَّر للمساعد الأول، أو تحديدًا دون وجود هذا المساعد. «فقال: هل تراها؟ فقال: هيهاتَ، لا أنا ولا غيري». هكذا قال الراعي للمرقش.

    ويقود هذا «المساعد الثاني» إلى «مساعدٍ ثالث» يكون حلقةً بين المرقش والراعي وبين الهدف/أسماء. وتتمثل مهمة المساعد حينئذٍ في «التسلل إلى مملكة الخصم» حتى لو كان هذا التسلل بتسريب الأخبار، يحمل هذا المساعد الأخير، وهو هنا الخادمة، يحمل «شارة» البطل-الباحث؛ «خاتمه» إلى أسماء من خلال «حيلةٍ»: إلقاء الخاتم في قَعْب اللبن.

  • وعندما تعرف أسماء/البطل-الضحية بخبر المرقش تخرج هي إليه بمساعدة زوجها، وهنا يأخذ الزوج الذي، أخذ من قَبل وظيفة «الشرير» في محور أفعال المرقش، يأخذ هنا في محور أفعال أسماء وظيفة «المساعد»؛ فهو الذي يأتيها بالراعي ويستجوبه، وهو الذي يحملها إلى الغار حيث المرقش. ولعله ساغَ للشرير هنا أن يلعب دور المساعد على الرغم من أن خط الأحداث لم ينقلب أو ينعكس أن المرقش أضحى «دَنِفًا في آخر رَمَقٍ» كما يقول الخبر. ولا يصبح خروج أسماء حينئذٍ لملاقاته خروجًا للبحث عنه قدر ما هو خروج «نجدة وإنقاذ»، خروج «توديع».

  • ويصل «البطل-الباحث» بالفعل إلى أسماء (غايته وهدفه) ولكن بعد أن يكون على شفا الموت. إنه يصلها ليموت عندها. وهنا لا يُمْنَح البطل-الباحث في الحكاية «رحلة عودة»؛ إذ الوصول لمكان المحبوبة قرين النهاية، نهاية الحياة ونهاية القدرة على الفعل.

  • وتتطور الأحداث أيضًا في الاتجاه الآخر؛ اتجاه «الانتقام من المساعد المتخاذل»، فلأن البطل/المرقش غير قادر على إيقاع الأذى، يوصي آخرين بالانتقام من المساعد المتخاذل شارحًا لأصحابه حاله ومطالبًا بإنقاذه.

  • يتحين البطل غَفْلة «المساعد» ويشي به عن طريق «مكتوب» يراسل به أخاه، يفصح فيه عن فعلة «المساعد». وهنا يوقع هذا الأخ (حَرْملة) «العقابَ» الموصى به، الذي يليق في عُرْفهم بمن يتخلى عن حَمْل أمانةٍ يتحملها، وليكون درسًا لكل من يضطلع بهذه الوظيفة.

  • يُقْتل هذا «المساعد» الغُفَلي ليأخذ «حَرْملة» هذا الدور منه، ويركب في طلبه، حتى يأتي موضعه، فيجده قد مات، ويعود دون أن تُمهِله الأقدار لإنقاذه أو أداء دور المساعد، وهنا ينصرف راجعًا مَرَّةً أخرى.

أما عن السرد الذي يتضمنه الشعر فالنص — ﻣﻔ (٤٥) — يوفر علاقة «التعارض» بين المرقِّش من جانب والغُفَلي وزوجه من جانبٍ آخر. وكذلك ذات العلاقة بين الأخيرين من جانب وأَنَس بن سعد وحَرْملة من جانبٍ آخر، وكذا علاقة «التسانُد» بين المرقش من جهة وأنَس بن سعد وحرملة من جهةٍ أخرى. وتبدو الأبيات (٣–٧) وقد تَضَمَّنت رسالة من الشاعر إلى قومه تَعْرِض لحال المرقش وتخلي أصحابه عنه، وكذا تحمل استحلافه قومَه بأن ينتقموا له ممن تخلَّوا عنه (الغُفَلي وزوجه). أما الأبيات (١، ٢) فقد بُنيت على خطاب الصاحبين، وهي تدعوهما للتلبث والإقامة. وهي تُقَدِّم تأمُّلًا في علاقة الإنسان بالقدر والزمان مدارُه أن العَجَلة لن تُقَدِّم خيرًا ولن تمنع شَرًّا، ولعل الإسراع يُفَوِّتُ نَيْلَ خيرٍ. وهي دعوة إلى تقدير الواقع والوفاء بالتزامات الموقف الإنساني، وهو بحسب بقية الأبيات نجدة الدَّانِق: المريض المشرف على الموت. والبيت في فهم القدماء أيضًا دعوة للتلبث والإقامة. يقول التبريزي: «لعل انتظاركما يُقَدِّمُ عنكما مكروهًا، ولعل سَيْبًا مُقْبلًا يكون بعدَ عَجَلَتِكُما. فانتظاركما أوفق».٢٨ وكذا قيل: «إن أبْطأتُما فَعَرَض لكما شَرٌّ فلعله أن يخطئكما، وإن تَقَدمتما فَعَرضَ خيرٌ بعدكما فَلَعله لا يصادفكما».٢٩ وعلى هذا النحو يُلمع البيت للجزاء على الخير كما يُلْمح إلى العقاب على الشرِّ؛ إذ يقيم هذا التقابل بين «التلبث-الرحيل» و«الخير-الشر». ومن هنا يُصَدِّق الشعرُ الخبرَ في إنفاذ حَرْملة وصية المرقش، ويصبح القتل بالنسبة للغُفَلي وزوجه هو هذا الشرِّ الذي لم يخطئهما لعجلتهما.

ويختلف خبر المُفَضل عن خبر صاحب الأغاني في مقتل الغُفَلي، ففي حين يثب حرملة على الغفلي في خبر المُفَضل ويقتله، يُقْتَل كلٌّ من الغُفَلي وزوجه في خبر الأغاني، والفعل في الشطر الثاني ب (٤) يسمح بكلا الروايتين؛ إذ يقول الشعر: «حتى يُقتلا». فالفعل بين أن يكون مُسْنَدًا إلى المفرد الغائب (الغُفَلي) والمد بالألف (الوصل) نتاج مطل حركة حرف الرَّوِي، وبين أن يكون مُسنَدًا إلى ألف الأثنين، والمراد هنا الغُفَلي وزوجه. ورواية الأغاني تبدو مُستفادة من الفهم الأخير.

ولعل مسألة الكتابة في الرَّحْل التي يذكرها الخبر تبدو مُصَدِّقة لهذا التقليد الأدبي الشائع في الشعر القديم: «مَنْ مُبْلِغٌ …» فما يصوغه الشعر من تقاليد يحققه النثر في أخباره. والعجب أيضًا أن يتابع الخبرُ الشعرَ في مبالغته في تصوير ضعفه وشِدَّة مَرَضه، حتى ما يملك من أمر نفسه شيئًا، فَيُعيدُ نثر البيتين (٦، ٧). يقول الخبر: «وجاءته السِّباع فأكلت أنفه، وبعض لحمه».٣٠

ومما تجدر ملاحظته في القصيدة السابقة وفي الخبر — وسوف يتأكد في النصوص الشعرية اللاحقة — اختلاف التركيز على الحوافز الدافعة للأحداث والتصرفات؛ فعلى حين يحتشد لها السرد النثري أو الخبري يتجاوزها السرد الشعري في كثير، تاركًا الأمر للقارئ لاستنتاجه وتوقعه، أو افتراضًا لها أن تكون ضمن خبرات القارئ السابقة.

كانت هذه ﻣﻔ (٤٥) أما ﻣﻔ (٤٦) فَتُقَدِّمُ علاقة الغزل والشوق الآمِن، ربما بما لا يناسب احتضار شاعرٍ «دَنِفٍ في آخر رَمَقٍ» قال عنه الغُفَليُّ: «هذا في الموت»، وقال عنه في رواية الأغاني: «اتركيه فقد هلك سُقْمًا».٣١ وهي أبياتٌ يبدأها بحديثٍ عن الطيف وبُعْد الحبيبة عنه، ثم يصف نار قومها واجتماع أترابها حولها، اللائي راح يُشَبِّب بهن. ثم يعود لبُعْد الحبيبة وقطعها المواثيق والعهود بعد زمان الوصال الذي يعود إليه ويتذكره، ثم يذكر ثباته على العهد ووفاءه.
وﻣﻔ (٤٦) لا تحمل اسم «أسماء» على الإطلاق، وإنما هي أبيات، يتحدث بها الشاعر عمن تُسمَّى «سلمى»، ومع ذلك لا يجد الشراح ورواة الأخبار مانعًا من وَصْلها بأسماء؛ فالتبريزي يُقَدِّم لها بقوله: «وقد كان مُرَقش وهو في ذلك الكهف قال …».٣٢ وبما يسير بالنص في طريق الفهم ذاته، يقول محقِّقا المُفَضَّليات: «وأشار في البيت ٧ إلى رحلة أسماء إلى أرض مُراد»٣٣ ويفسران «العهود والمواثيق» في ب (٧) على أنها «العهود التي كانت بينه وبين عمه عوف».٣٤ والقصيدة على هذا النحو بين فهمين؛ الأول أنها تُماهي بين مَنْ تُسَمى «سلمى» ومن تُسمى «أسماء»، على اعتبار أن الاسم مُجَرَّد حلية وعارية، فكثيرًا ما يستعير الشعراء أسماء وهميَّة! رغم أن هؤلاء الشراح أنفسهم هُمْ من يأخُذُ من الشعر دليلًا على الخبر والواقع، ويجعلون من مثل اسم «أسماء» أو «سلمى» أو غير ذلك عَلَمًا على امرأة بعينها!

أما الفهم الآخر فقوامه أن الشعَراء يتأوَّلون عَوْد ضمير الأنثى في النص، ويقطعونه عن «سلمى» الموجودة في البيت الأول ليعود على أنثى أخرى، أو ربما أُخريات غيرها؛ فتكون امرأة الأبيات (١–٦) خلاف امرأة الأبيات (٧، ٨)، خلاف امرأة الأبيات (٩–١٢).

على أن سياق النص يُرَشِّحُ بقوة لاتحاد مَرْجع الضمير في النص، عائدًا في سائر الأبيات بعد البيت الأول إلى «سلمى» التي يعينُها في أول القصيدة. فسلمى التي يؤرقه خيالها هي بالتأكيد راحلة عنه، يَفْصِلُ بُعد المكان بينهما، فهو «يَرْقُب أهلها وهُم بعيد»، كما يقول في ب (٢). وهو ما يتكرر أيضًا في ب (٧) «سَكَنَّ ببلدةٍ وسكنتُ أُخْرى». أما الأبيات (٩–١٢) فهي عودة زمنيَّة لأيامٍ ماضية كانت بينهما، تذكر فيها وصاله وقطعها العهد وإخلاف الوصل. وهو ما يتجدد في الحاضر ب (٧، ٨).

تفترض ﻣﻔ (٤٥) بعيدًا عن تفصيلاتها سياقًا تُدْرَج فيه، فالسياق هو سياق رحلةٍ بعيدًا عن الديار والأهل. وكذا تُقَدِّم ﻣﻔ (٤٦) علاقة البُعْد المكاني مع أسماء ورحيلها وشوقه للوصال. أما ﻣﻔ (١٢٩) فهي تقدِّم بقوة هذه العلاقة مع أسماء، فهي:
  • تُصَرِّحُ باسمها وتُقَدِّمُ إخلافَ الوَعْد. ب (١).

  • وتقرر مغادرة الديار إلى ديار مراد. ب (٣).

  • وكذلك خروجه وأصحابه في طلبها. ب (٥، ٦).

  • وأيضًا تقرر أن عشقه لها قد أمْرَضه حتى أماته أو شارف به حدوده. ب (٧).

وهنا نجد الخبر المرافق للشعر — وهو حالة غير شائعة — لم يَقُمْ على نثر المنظوم أو إعادة صياغة أحداثه السردية؛ بل أصبح يضم عناصر حكائية لا يتضمنها الشعر. صحيح أن الشعر كاملًا ربما لم يصلنا وصول هذا الخبر الذي هو وحدة واحدة غير قابلة عادةً للاجتزاء على نحو ما نجد في الشعر من تفرق القصائد والمقطعات واستقلالها.

ولكنه — يبدو على الرغم من ذلك — قوة داخلية محركة للسرد المرافق له ومهيمنًا على أركانه رغم حبكته المتقنة.

إننا هنا أمام خبر بعضُ ما يقالُ عنه أنه خبرٌ يبتلع القصيدة، وهو نموذج لمخيِّلة إبداعيَّة صاغت بحرفيَّة ملحمةً ما أو لخَّصتها، هي ملحمة المُرَقِّش أو سيرته التي كانت بلا شك ذائعة يتناقلها الرواة، وتتلقفها الآذان بشغف بالغ، سيرة تَطَّرِدُ فيها أخبار المرقش وشعره في تآلفٍ آسر، يُعَضَّدُ فيها الخبر بالشعر، ويُصَدِّقُ فيها الشعرُ الخبر.

إن حكاية المرقش لم تكن — رغم هذا السرد المتقن — بهذا الضمور، فما سبق في الخبر هو حالة من حالات الرواية، هو بعض ما يُنْسَج حوله. وهي أخبار أبدًا لا تتوخى إلا إشباع المخيِّلة السرديَّة لدى جماعة إنتاجها، ولا يمنع هذا من تعارض الأخبار. فَجُلُّ الأخبار مقبولة وتُقَدِّم بشكلٍ ما حكاية المرقِّش. يقول خبرٌ آخر في الأغاني: «وقال غيرُ أبي عمرو والمفضل: أتى رجل من مُراد يُقال له قرنُ الغَزَال، وكان مُوسِرًا، فخطب أسماء، وخطبها المرقش وكان مُمْلِقًا؛ فزوجها أبوها من المرادي سرًّا؛ فَظَهر على ذلك مرقش فقال: لئن ظفرتُ به لأقتلنه. فلما أراد أن يهتديها خاف أهلُها عليها وعلى بعلها من مرقش، فتربصوا بها حتى عَزَب مرقِّش في إبله، وبنى المرادي بأسماء واحتملها إلى بلده. فلما رجع مرقِّش إلى الحي رأى غلامًا يتعرق عظمًا؛ فقال له: يا غلام، ما حدث بعدى في الحيِّ؟ وأوجس في صدره خيفة لِمَا كان؛ فقال الغلام: اهتدى المراديُّ امرأته أسماء بنت عوف. فرجع المرقش إلى حيه فلبِس لَأْمته وركب فرسه الأغر، واتبع آثار القوم يريد قتل المراديِّ. فلما طلع لهم قالوا للمراديِّ: هذا مرقش، وإن لقيَك فنفسُك دون نفسه. وقالوا لأسماء: إنه سيمر عليك، فأطلعي رأسَك إليه وأسْفِري؛ فإنه لا يرميك ولا يضرك، ويلهو بحديثك عن طلب بعلك، حتى يلحقَه إخوته فيردوه. وقالوا للمراديِّ: تقدم فتقدم. وجاءهم مرقش. فلما حاذاهم أطلَعَت أسماءُ من خدرها ونادته، فغض من فرسه، سار بقربها، حتى أدركه أخواه أَنَسٌ وحَرْمَلة فعذلاه ورداه عن القوم. ومضي بها المُرَادي فألحقها بحيه. وضَني مرقش لفراق أسماء. فقال في ذلك:

أمن آلِ أسماءَ الرسومُ الدوارسُ
تُخطِّط فيها الطير قَفْرٌ بَسابسُ».٣٥

إن الخبر متعارضٌ بشكل ما مع الخبر الأول الذي رواه المُفَضل. وصاحب الأغاني ينقله مباشرةً بعد الخبر السابق، دون أن يكون في هذا إحساسٌ بالصِّدام، ذلك أنه غير مَعْنِي بذلك؛ فمطابقة الخبر للحقيقة الماديَّة التاريخيَّة أمرٌ لا يهمه، وإنما ما يهم على الحقيقة هو تقديم هذه السيرة ونقل بعض مشاهدها وشعرها.

والخبر كذلك يُزَيَّل بقصيدة أخرى من قصائد المرقش، يرويها المُفَضل نفسه: ﻣﻔ (٤٧)، ولا نجد لمثل هذا الخبر ذكرًا عند التبريزي (٤٢١–٥٠٢ﻫ) في شرحه، رغم أن صاحب الأغاني متقدمٌ عليه (٢٨٤–٣٥٦ﻫ)، ذلك أنه يتعارض مع الخبر الأول الذي يرويه المفضل نفسه، ومن هنا آثر اختيارًا بعينه دون أن يُجَرِّح خلافه.

وبعامة، فلقد أدنى الشراح الخبرَ من الشعرِ بعد أن أدنى الإخباريون الشعرَ من الخبر، وهو في الحالين محاولة لخلق نَسَق متكاملٍ من الخبر والشعر معًا، فالحكاية عندهم في كليهما واحدة، أو أن حكايةَ كُلٍّ مُصَدِّقةٌ للأخرى.

ويبدو الشعر هنا على ما يسوقه المُفَضل في اختياره، وما يُقَدِّمه من خَبَر حوله مُصَدِّقًا لطرفٍ مما يقوله الخبر، ومؤلفًا لجانب من سيرة المرقش تأليفًا شعريًّا. والتبريزي يصل بينه قدْر الإمكان ليوحي بهذا الاتصال الموضوعي في ضوء خبر المُفَضل،٣٦ وكذلك يفعل صاحب الأغاني ولكن الشعر عنده بعضُ الخبر. إنها المخيلة التي تصوغ سيرة المرقش فتنظم قصائده ومقطَّعاته في خيطٍ واحدٍ، وتحاول أن تستنتج المناسبة من داخل النص. ويبدو أن حياة المرقش ذاتها وشعره أيضًا كانا، لعوامل درامية ما، مثارًا لمساحات واسعة من الخيال الإبداعي السردي حولها، بما يجعل من الخبر والشعر معًا بعضًا من هذا السرد الدائر حوله.
١  انظر: د. مصطفى ناصف، خصام مع النقاد، ص١٩١–٢٣٨.
اللغة بين البلاغة والأسلوبية، ص٢٧٩–٣٦٠.
٢  د. سوزان بينكني ستيتكيفيتش، أدب السياسة وسياسة الأدب، ص٥٧.
٣  د. محمد القاضي، الخبر في الأدب العربي: دراسة في السردية العربية، ص٥٤٥.
٤  كذا في رواية التبريزي، والخبر منقول عن هشام الكلبي في الأغاني ومعاهد التنصيص أن الحرب كانت يومَ بُعاث، بالعين المهملة وبالغين المعجمة، وهو موضع قُرب المدينة وقع فيه يوم مشهور بين الأوس والخزرج.
انظر: أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، ١٨: ٦٤٠٠.
انظر: عبد الرحيم بن أحمد العباسي، معاهد التنصيص، ٢: ٢٦.
٥  التبريزي، شرح اختيارات المُفَضل، ٣: ١٢٣٣ وما بعدها.
٦  السابق، نفسه، ٢: ١٢٣٣.
٧  المفضليات، هامش ١: ٢٦٠.
٨  التبريزي، ج٣ ص١١٥٤ وما بعدها.
٩  رَبَضَتِ الغنمُ وغيرها من الدوابِّ: طوت قوائمها ولصِقت بالأرض وأقامَت. (تاج العروس، مادة «ربض»)
١٠  التبريزي، ٣: ١١٥٥.
١١  جاء في مجمع الأمثال: «فلِمَ رَبَضَ العَيْر إذَنْ؟» قاله امرؤ القيس لما ألْبَسه قيصر الثياب المسمومة وخرج عنه، وتلقاه عَيْرٌ فَرَبَضَ، فتفاءل امرؤ القيس، فقيل: لا بأس عليك، قال فلم رَبَضَ العَيْر إذن؟ أي أنا ميت. يُضْرَب للشيء فيه علامة تدلُّ على غير ما يقال لك. راجع: الميداني، مجمع الأمثال، ٢: ٤٤١ وما بعدها.
١٢  راجع: فيليب سيرنج، الرموز في الفن – الأديان – الحياة، ص١١٦–١٥١.
١٣  التبريزي، ٣: ١١٥٦.
١٤  السابق، ٣: ١١٥٧.
١٥  السابق، هامش المحقق رقم (٤) ص١١٥٧.
١٦  السابق، ٣: ١١٥٨.
١٧  السابق، ٣: ١٥٠٦.
١٨  السابق، ٣: ١٥٠٦.
١٩  انظر: مُغني اللبيب عن كُتُب الأعاريب، ١: ١٨٥.
وأيضًا: علي توفيق الحمد، يوسف جميل الزعبي، المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص٢١٧.
٢٠  التبريزي، ٢: ٩٩١–٩٩٤.
٢١  انظر: الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني، ٥: ٢٢١٠–٢٢١٤.
– السراج: مصارع العشاق، ١: ٢٢٧–٢٣١.
– ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ١: ٢١٠ وما بعدها.
– الأَوْنَبي، سمط الآلي، ١: ٢٨.
٢٢  أبو الفرج الأصفهاني، ٥: ٢٢٠٩.
٢٣  السابق، ٥: ٢٢٠٩.
٢٤  أبو الفرج الأصفهاني، ٥: ٢٢٠٩.
٢٥  ابن قتيبة، ١: ٢١٠ وما بعدها.
٢٦  قد نستعين هنا بمسميات بعض وظائف نموذج فلاديمير بروب، ولا يسعى الكتاب إلى تطبيق منطق النموذج على الخبر النثري، ولا يبتغي أن يثبت علاقةً ما بين السرديات العربية ومادته التي يشتغل عليها: «حكاية الحوريات Skazi أو الحكايات الخرافية»، هذا الشكل السردي الذي يصوغ «بروب» أجروميته، وإنما يستهدي البحث ببعض الوظائف (وحدات نموذجه الوظيفية) في استكشاف الأبعاد السردية للخبر؛ إذ يقدم النموذج إجراءً يراه الباحث صالحًا هنا لقراءة حبكة الخبر وتنظيمه السردي. وحول هذا النموذج يراجع: فلاديمير بروب، مورفولوجيا الحكاية الخرافيَّة.
٢٧  يشير أبو العلاء في رسالة الغفران للحكاية، ولاختزال الإشارة لا يكاد يتحدَّد أي الأجناس يعتمد في حكايته، أهو الشعر أم الأخبار. يقول أبو العلاء: «ويَسْألُ عن المُرَقشِ الأكبر. فإذا هو به في أطباقِ العذابِ، فيقول: خَفَّفَ اللهُ عنك أيُّها الشابُّ المُغْتَصَبُ، فلم أَزَلْ في الدار العاجلةِ حزينًا لما أصابَكَ به الرجُلُ الغُفَليُّ، أحدُ بني غُفَيْلَةَ بنِ قاسِطٍ، فعليه بهلة اللهِ!» (أبو العلاء المعري: رسالة الغُفْران، تحقيق: د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، مصر، ط٩، ص٣٥٥).
وما هو واضحٌ تمامًا في الخبر أمر الغُفَلي، وكذا وصفه له بالمُغْتَصَب. والاغتصاب هنا يُفَسَّرُ باغتصاب أسماء منه وتزويجها المرادي بعد أن وعده أبوها وسافر على هذا الوعد. ولعل هذا يُسَوِّغُ الخروجَ وراءها، أيضًا يُسَوِّغ لنا معاملتنا لخروجه كما لو أنه خروجٌ في أثر مختطَف.
٢٨  التبريزي، ٢: ٩٨٨.
٢٩  انظر: هامش تحقيق الأغاني، ٥: ٢٢١٠.
٣٠  التبريزي، ٢: ٩٩٣.
٣١  أبو الفرج الأصفهاني، ٥: ٢٢١٠.
٣٢  التبريزي، ٢: ٩٩٥.
٣٣  انظر: المفضل الضَّبي، المفضليات، هامش ص٢٢٣.
٣٤  السابق، ص٢٢٤، هامش ٧.
٣٥  أبو الفرج الأصفهاني، ٥: ٢٢١٣ وما بعدها.
٣٦  يشير د. أحمد جمال العُمَري في دراسته: عناصر الشرح عند التبريزي، إلى اعتماده على المعلومات التاريخيَّة والإخبارية، ومحاولته تحديد العلاقة بين القصائد وربطها معًا بسياجٍ من الأحداث بناءً على ما بين يديه من أخبار.
انظر: د. أحمد جمال العُمري، شروح الشعر الجاهلي، ص٣٢٦-٣٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤