الفصل الأول

السرد الشعري بين علاقات السببية والزمانية

(١) إن مصدر حركيَّة السرد — كما هو عند رولان بارت — هو ذلك الخلط والتشويش الحاصلَين بين التتابع أو التعاقب consecutiveness الذي هو قيمة زمنيَّة، والتلازم consequence الذي هو قيمة منطقيَّة، أو باصطلاح آخر بين التتابع الزمني الخطي الكرونولوجي Chronology والسببيَّة Causality.١ فلكي تكشف فاعلية القراءة عن درجةٍ مقنعةٍ من سارديَّة٢ نَصٍّ ما — فإنها تقدم عددًا من إجراءات البناء التأويلي، وفي مقدمتها بناء ترتيبٍ مُقْنِعٍ للأحداث يتوفر على تقديم كليات زمنيَّة مُوَجهة تتضمن صراعًا يتألف من مواقف وأحداث منفصلة ومحددة ومُوحِية، وذات معنًى طبقًا لعالمٍ إنساني أو لمشروع عالمٍ مُؤنْسَن.
إن العناصر الزمانيَّة في كل متوالية سَرْديَّة ترتبط معًا بعلاقات السبب والنتيجة، وما يَحْدُث لاحقًا يُقرأ في السرد بوصفه نتيجة لما سبق. وهذا الترابط بين ما هو سببي وما هو زمني يجعل فهم كل طرف مقترنًا بفهم الآخر، ويجعل كُلًّا بحاجةٍ للآخر لبناء سَرْد متماسكٍ. وإذا ما قُدِّمَت الأحداث في متوالية زمانيَّة فإن قَدْرًا كبيرًا من فاعليتنا القِرائيَّة لبناء سارديَّة النص سوف تنصرف إلى إقامة روابط سببيَّة بين الحدث وما يليه. وإذا ما قُدمَت الأحداث خارج المتوالية الزمانية، فإننا سنبحث عما يوصلنا إلى فهم المتوالية الزمانيَّة لكي نتمكن من الإمساك بالمتوالية السببية نفسها التي تخبرنا بالكيفيَّة التي تُنظم فيها المتوالية الزمانيَّة.٣

ويقوم الاستخدام النظامي لعلاقتَي السببيَّة والزمانيَّة على تقديم علاقة السبب والنتيجة بين مجموعة المواقف و/أو الأحداث بحيث يقع الحدث «ص» مثلًا بعد الحدث «س». وما لم تُحَدَّد العلاقة بينهما على نحوٍ ما فإننا نؤَوِّل العلاقة بينهما أوَّل ما نؤوِّلها بحيث يكون «ص» حينئذٍ قد حدث بسببٍ من «س»، وفي حين تعمل العلاقة السببيَّة على هذا النحو تعمل العلاقة الزمانيَّة على تنظيم المواقف والأحداث منطقيًّا وفقًا لترتيب حدوثها تتابُعيًّا أو خطيًّا على نحو ما نجد في التاريخ التوثيقي.

وعلى غير هذا يأتي السرد الشعرى، كما أن الأعمال الروائية أيضًا تخطَّت هذه المرحلة بمجرد نضجها واستواء جنسها الأدبي، فالسرد في الفن لغةٌ غالبًا تقوم — زمنيًّا — على التداخل والإخفاء والتأجيل والقطع، بعبارة أخرى تعمل في غير الاتجاه المباشر لسيرورة المنطق والزمان. إنها لغة تقوم على المغالطة في منطق التعاقب، فتشعث الفاعليَّة الشعرية من التراتبيَّة المنطقيَّة والزمانية للوحدات السردية، فَيُفْصَلُ بين وَحداتِ مقطعٍ ما من المقاطع بوحدات من مقاطع أخرى، وتَقطعُ لحظات زمنيَةٌ من أحداث ووقائع معينةٍ تَسَلْسُلَ لحظاتٍ زمنيَّةٍ لأحداثٍ ووقائع أخرى. ويظل التبعثُر الظاهري قائمًا باستمرار، ويظل القارئ واقعًا في أُحبولة نَصٍّ غير مُنْبَنٍ بشكل مُتَوَقَّع تمامًا، يجيب عن كل تساؤلٍ إجابةً شافيةً في اللحظة نفسها التي يتوقعها القارئ، فما هكذا الفن. وإنما القارئ على الدوام يعيد بناء ما يقرأ، يعيد ترتيبه وتنسيقه ويقيم علاقاته الخاصة بين ما يقرأ من وحدات، ويستكشف هو بنفسه بنية النص التي يُنتَج من خلالها المعنى. ومن هنا يسعى التحليل إلى الكشف عن منطق السرد، وكذا تقديم محاولة للتعرف على سلوك الزمن في السرد الشعري، الذي قد تقع أحيانًا بعض وحداته داخل بِنية رَحِميَّة لا زمنيَّة.

ولا تتوقف السببيَّة عند تلك الأنماط من السببيَّة الصريحة: «حَدَث كذا بسببٍ من كذا، أو حدث كذا لأن كذا …» أو تلك الأنماط من السببيَّة الضمنيَّة، التي تُستَنبَط على أسس منطقيَّة ضروريَّة، على نحو ما نجد في الخطاب البَدَهي (خطاب المناطقة وأقيستهم)، أو الخطاب الغائي (خطاب الدفاع في القضاء وخطاب السياسي) بل ننظر أيضًا إلى تلك التي تقوم السببيَّة فيها على أُسُس عمليَّة احتماليَّة، كأن يتبع حدثٌ آخر في الزمن، ويكون له به علاقة «معقولة». وهنا ينتج التعاقب إلى جوار هذه العلاقة منطقًا سببيًّا. وكذا لا يقتصر انعقاد السببيَّة على العلاقة المباشرة بين الوحدات السردية على نحو ما نجد في العلاقة بين الأفعال القصصيَّة؛ إذ من الممكن أن يؤدي الفعل إلى حالة مُعَيَّنة أو أن تثيره حالةٌ ما. وكذا يمكن لها أن تنعقد بواسطة قانونٍ عام، فتبدو الوحداتُ تجلياتٍ عديدة لفكرةٍ واحدة وقانون واحد.٤
وفي مقولة الزمن يركز البحث على الصياغة الجماليَّة لتلك العلاقة القائمة بين زمن القصة وزمن الحكاية — بمصطلحات جنيت — وبخاصَّة من زاوية الترتيب فندرُس المفارقات الزمنيَّة، التي تقوم على «مقارنة نظام ترتيب الأحداث أو المقاطع الزمنيَّة في الخطاب السردي بنظام تتابُع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنيَّة نفسها في القصَّة»،٥ وهنا ربما نلاحظ بعض قضايا «المدى» و«السعة»؛ إذ «المدى»: هو تلك المسافة الزمنيَّة التي تذهبها المفارقة الزمنية في الماضي أو في المستقبل بعيدًا أو قليلًا عن اللحظة الحاضرة (عن لحظة القصة التي تتوقف فيها الحكاية لتُخلي المكان للمفارقة الزمنيَّة). و«السعة»: هي المدة القصصيَّة التي تشملها المفارقة الزمنيَّة. وهنا تصبح مسائل المدة والمسافة مسألة نسبيَّة خاصةً بكل مناسبةٍ أو مرتبطة نسبيًّا بكل عمل على حِدَة.٦ هذا مع الأخذ في الحسبان بعض ملامح قضيَّة التواتر، التي تبحث في العلاقة بين قدرات تكرار الحدث وقدرات تكرار حكايته.
والمعيار الذي تُحَدَّدُ بالنسبة إليه أزمنة القصيدة هو ضمير المتكلم، وهو أصل تحديد الأزمنة أصلًا عند النحاة. يقول الزَّجَّاجي: «والفعل على الحقيقة ضَرْبان … ماضٍ ومستقبل؛ فالمستقبل ما لم يقع بعد، ولا أتى عليه زمان، ولا خرج من العدم إلى الوجود. والفعل الماضي ما تقضَّى وأتى عليه زمانان لا أقل من ذلك؛ زمان وُجِدَ فيه، وزمان خُبِرَ فيه عنه، فأما فعل الحال فهو المتكون في حال خطاب المتكلم، ولم يخرج إلى حيِّز المضي والانقطاع.»٧
إن المعيار هو ضمير المتكلم بالنص، هذه الأنا التي تسكن النص، التي تنشئ حولها نظامًا إحاليًّا خاصًّا. حتى لو لم تكن هي موضوعَه الأوسع، فإنها ستكون موضوعه المركزي؛ إذ لا تتحدد هويتها الأساسية إلا في ضوء هذه «الأنا». «فالضمير» «أنا» يُحيل وجوبًا إلى من يقول «أنا». وقوله «أنا» يفرض حتمًا حضورًا آخر يوجه إليه خطابه ويُشار إليه ﺑ «أنت». وهذه العلاقة الوثيقة التي تربط المتكلم بالمخاطب وتفرض حضورهما الضروري والمشترك في عملية القول أو التخاطب تبرز جليًّا من إطلاق تسمية «الغائب» على كل مَنْ ليس حضوره ضروريًّا.٨

(٢) وفيما يلي سوف نستكشف بعض وجوه مقولتَي الزمانيَّة والسببيَّة من خلال بعض نصوص المُفَضليات ونتابع كيف يتشكل النص الشعري سَرديًّا في ضوئهما.

يقول الكَلْحَبة العُرَني في ﻣﻔ (٢):

(١) فإنْ تَنْجُ منها يا حزيمَ بنَ طارقٍ
فقد تَركَتْ ما خَلْفَ ظَهْركَ بَلْقَعَا
(٢) ونادَى منادِي الحَيِّ أن قد أُتِيتُمُ
وقد شَرِبَتْ ماءَ المَزَادَةِ أجْمَعَا
(٣) وقلتُ لكأسٍ: أَلجِمِيها فإنما
نَزَلنَا الكَثِيبَ مِن زَرُودَ لِنَفْزَعَا
(٤) كأنَّ بِلِيتَيْهَا وبَلْدَةِ نَحْرِهَا
من النَّبْلِ كُرَّاثُ الصَّرِيم المُنَزَّعَا
(٥) فأدْرَكَ إبقاءَ العَرَادةِ ظَلْعُها
وقد جَعَلَتْني مِن حَزِيمةَ إصبَعَا
(٦) أمَرْتُكُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
ولا أمرَ للمَعْصِيِّ إلَّا مُضَيَّعَا
(٧) إذا المرءُ لمْ يَغْشَ الكريهَةَ أَوْشَكَتْ
حِبالُ الهُوَيْنَا بِالفَتَى أن تَقَطَّعَا

وإن كانت إعادةُ تشكيل الحكاية مَرَّةً أخرى طبقًا لوقائع القصة، خاصةً في الشعر، أمرًا غير متاحٍ دائمًا، إلا أننا سوف نحاوله هنا، وسنُشِير للحدث أو المقطع الزمني بكلمة أو بعض كلمات تدُلُّ عليه، مع ذكر الأبيات أو البيت أو بعضه مما يمثل هذه الصوى الإشارية. ويمكننا كتابة النص على هذا النحو:

١٠ (أ) نجاته «فإن تَنْجُ منها يا حزيمَ بنَ طارقٍ» ب (١)
٧ (ب) غلبته «فقد تَركَتْ ما خَلْفَ ظَهْركَ بَلْقَعَا» ب (١)
٥ (ج) التحذير «ونادى منادِي الحَيِّ أن قد أُتِيتُمُ» ب (٢)
٤ (د) شربها الماء «وقد شَرِبَتْ ماءَ المَزَادَةِ أجْمَعَا» ب (٢)
٣ (ﻫ) الأمر بمنعها عن الماء «وقَلْتُ لِكَأسٍ: أَلجِمِيهَا» ب (٣)
٢ (و) النزول بذلك الموضع «فإنَّما نَزَلنَا الكَثِيبَ مِن «زَرُودَ» لِنَفْزَعَا» ب (٣)
٦ (ز) إصابتها بسهام كثيرة «كأنَّ بِلِيتَيْهَا وبَلْدَةِ نَحْرِها من النبْلِ كُرَّاث الصَّرِيم المُنَزَّعَا» ب (٤)
٩ (ح) خذلان فرسه له «فأدْرَكَ إبقاءَ العرَادَةِ ظَلْعُها» ب (٥)
٨ (ط) اقترابه من حَزِيمة «وقد جَعَلَتْني مِن حَزِيمةَ إصبَعَا» ب (٥)
١ (ي) دعوتهم لأمر خالفوه فيه: «أمَرتُكُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ولا أَمْرَ للمَعْصِيِّ إلَّا مُضَيَّعَا» ب (٦)
تأمل في الإقدام والشجاعة «إذا المرءُ لم يَغْشَ الكريهةَ أَوْشَكَت حِبالُ الهُوَيْنَا بالفَتَى أن تَقَطَّعَا» ب (٧)
ويشير الترتيب الأبجدي إلى ترتيب ظهور العناصر الزمنيَّة في الحكاية، في حين يشير الترقيم إلى المواقع الزمنيَّة التي تشغلها العناصر في القصة على التوالي. وتشير العلامة () إلى التعليق. ومستبعدين هنا العنصرين ك، ل بوصفهما عناصر تعليقيَّة.

ويمكننا صياغة تعالق نظامَي القصة والحكاية في النص السابق على هذا النحو:

(أ١٠ – ب٧ – ج٥ – د٤ – ﻫ٣ – و٢ – ز٦ – ح٩ – ط٨ – ي١)

وهنا تبدو الأحداث خلال ثلاثة الأبيات الأُوَل متحركةً — قَصَصيًّا — في اتجاه عكسي وإن لم يكن عكسيًّا بانتظام، ثم تعود الأحداث لتتحرك طَرْديًّا مع الحكاية في البيت الرابع والشطر الأول من البيت الخامس، وأيضًا في الشطر الثاني منه. وخلال الشطر الأوَّل من البيت السادس تعود الحركة عكسيةً مَرَّة أخرى.

وليست مجرد المفارقة الزمنيَّة هنا في ترتيب العناصر هي موضع الاهتمام؛ إذ يشغلنا كثيرًا هذا البناء النحوي الأخير الذي سبك هذه الوحدات المعاد ترتيبها حِكائيًّا في بنية نحويَّة متماسكة ذات طبيعة مخصوصة.

إن النص يحيل، على سبيل، المثال إلى فرس «الكلحبة» المسماة ﺑ «العرادة»، ولم يجرِ لها ذكر؛ إذ يكشف النص بعد ذلك عنها. إنه يبدأ بهذا الإبهام في البيت الأوَّل عندما يُسْنِد إلى المخاطب «حزيم بن طارق» نجاته منها، ثم يُثني بفعل آخر، وهو ما ألحقته به من هزيمة. ولا يفصح النصُّ إلى هنا حتى عن «جنس» هذا المُتَحَدَّث عنه، هل هي «الحرب» أم أنها «امرأة» أم «فرس» أم «ناقة»؟ ولا يَتضح أن المتحدث عنه من قبيل الدواب إلا مع الشطر الثاني من البيت الثاني عندما يُسْنَد إليها شربها من «ماء المزادة»، ولا يتعين كونها فرسًا تحديدًا إلا مع البيت الثالث، ومن قوله: «ألجِميها»؛ إذ اللجام: الحديدة في فم الفرس. ولم يتعين أنها «العرادة» إلا في البيت الخامس، أي قبل انتهاء المُقَطعة ببيتين.

والقصيدةُ تبدأ القصةَ من آخِر فِعْلٍ قَصصي حَدَثَ، وهو نجاة «حَزِيمة»، التي يجعلها مضارعًا يبدأ الحكي من عندها، ويعود لسائر الأفعال القصصية الأخرى بصيغة الماضي. لقد ظهرت الأزمة — نجاة «حزيمة» — على سائر الأحداث وتقدمت الحكيَ. ومع هذه البداية تتصدَّرُ الفاءُ البيتَ، وربما عُدَّت هنا استئنافًا لمعنًى جديد بعد كلامٍ تمَّ، وهي على هذا النحو تفترض سياقًا سَرْديًّا سابقًا، وما يأتي بعدها — النص كله — يقع ضمنه ويواصل الفعل داخله، وإن كان بكلام جديد، هو ما يثبته النص. غير أنها أقرب إلى عَدِّها «فاء فصيحة»؛٩ تعطف على مُقَدَّر؛ إذ تَدُلُّ على محذوفٍ وتُفصِحُ عنه، وهو حينئذٍ مستفادٌ من فِعْلٍ لاحقٍ في الترتيب الحكائي سابقٍ في الترتيب القصصي قوامُهُ «ظَلَعُ «العرادة» وتخلفها بعد أن أشرف على الإمساك به». ويصبح البيت الأَول وما يُقَدَّر قبله هو المعنى المُوَلِّد لمعاني النص الأخرى:

أدرك إبقاء العرادة ظلعها ← فإن تَنْجُ منها، فقد تركت ما خلف ظهرك بلقعَا.

إذ يُبَلور هذا المعنى مغزى القصيدة بوصفها اعتذارًا عن فوات فرصة، أو تعزيةً عن فرصة إتمام إرواء ثأره وثأر قومه.

والبناء النحوي مع هذا التقدير يأبى أن تكون الأبيات حُرَّة في انتقالاتها وإعادة ترتيبها؛ إذ يُعْطَف هذا البيت الذي يمنحنا أساس هذا التقدير — البيت الخامس — على بعض البيت الثاني من خلال فاء السببيَّة:

شربَتْ ماءَ المزادة أجمعَا (د) ← فأدْرَك إبقاءَ العرادةِ ظَلْعُها (ح).

وعلى هذا النحو يُقَدَّم قوله «أنْ قد أُتيتُمُ» (ج) ب (٢) في ضوء البيت السادس بما يُفْتَرَض معه تقديم الأخير على الأوَّل ضِمنيًّا. يقول الشراح: «نادَيْتُه بكذا. فكان الواجب أن يقول: بأن قد أُتيتُمُ. لكنه حَذَفَ الجار مع «أن». وزاد «قد» لأن المكان الذي كانوا فيه كأنه كان يَعِدُهم بما جرى [عليهم]. فلما وقع الموعود به المتوقعُ نادى المنادي: «قد أُتيتُم». ولذلك عاتبهم فقال: «أَمَرْتُكم أَمري».»١٠

تشير معظم الأبيات لأحداثٍ تقع باستثناء البيت الرابع الذي لا يقدِّم حَدثًا في الظاهر، وإنما المقام فيه مقام وَصْفٍ. إذ يقرر أنَّ عنق فرسه من النَّبل كأنه كراث الصَّريم. وإنما هذا الوصف موضوع لغاية أخرى مدارها على بيان «إقباله في الحرب». وهنا يقدم الوصف حَدَثًا بدلالة التبعيَّة. وكذا يخرج الشطر الثاني من البيت السادس والبيت السابع عن مدار السرد الحدثي إلى التعليق:

• … … … … … … …
ولا أَمْرَ للمَعْصِيِّ إلا مُضَيَّعَا
• إذا المَرْءُ لم يَغْشَ الكريهةَ أوشكت
حبالُ الهُوَيْنَا بالفَتَى أن تَقَطَّعَا
وهو نمط يمثل حواشي وتذييلات يعلق بها الشاعر/السارد على المواقف والأحداث؛ يُعَلِّقُ بالأوَّل — على ما يُسْتفاد من السرد — على مخالفة القوم إياه، عندما كان يأمرهم بقصد أعدائهم قَبْل أن يُقْصَدوا، وتحذيرهم الغارة فلم يَحْذروا. ويُعَلِّق بالآخر ب (٧) ربما على الموضوع ذاته، أو على الموضوع بعامة، استكمالًا للتعليق السابق الذي يدور حول التصدي للشدائد. ودفع الشر بالقوَّة والسلاح، يقول الشراح: «وقَصَد الشاعر بهذا الكلام تقريع قومه بما اختاروا من إعفاء أنفسهم من ركوب الشدائد، فيقول: إذا الرجل اختار الراحة، وألِف التودُّع، ولم يصبِر على ما يلحق النفس من غشيان المكاره، فهو خليق بأن تتقطع به حبال الأمَنة والاستنامة إلى الدَّعَة».١١

والتعليق يخرج بالأبيات من حيز السرد عن الشاعر/الفاعل في الأبيات إلى تعميم القضيَّة. ﻓ «أل» في «المعصِي» تدور بين «أل» العهد التي تعود بنا إلى السارد نفسه، وبين «أل» الاستغراقيَّة، لتنطبق العبارة على كل الأفراد الذين يَصْدُق عليهم نُصْحهم للآخرين وعصيان الآخرين لهم.

و«المرء» في البيت السابع يضعنا تمامًا في حيز الحكمة؛ إذ صار المَعْنِيِّ بالكلام الجنس لا فاعل السرد ذاته. ولعل هذا هو ما سَوغ للسرد الانتقال بين «المرء» و«الفتى». يقول التبريزي: «وقوله: «بالفتى» كان الأظهر أن يقول: أوشكت حبال الهوينا به، حتى لا يكون الجواب في صورة الأجنبي من الابتداء، إلا أنه لَما أراد ﺑ «الفتى» ما يريده ﺑ «المرء» صار يفيد الجنس لا الواحد منه».١٢

على أن ثمة خلافًا في الوظيفة التي يمارسها كلٌّ من التعليقين؛ فعلى حين يعمل التعليق بوصفه جزءًا أساسيًّا في بنية السرد بإثباته «عصيانهم» أمره — الذي يشير إليه الشطر الأوَّل من البيت السادس — لا يقدم التعليق الأخير ما يُضاف للأحداث السردية، وإنما فقط يؤكد إقدامَ الفاعل السردي وجُرْأته، وهو ما تَبَيَّنَ فعليًّا من الأحداث التي ساقتها الأبيات السابقة عنه.

(٣) ويقول الجميح ﻣﻔ (٤):

(١) أمْسَتْ، أُمَامةُ صَمْتًا ما تُكلِّمُنَا
مجنُونةٌ أمْ أحَسَّتْ، أهلَ خَرُّوبِ
(٢) مَرَّتْ برَاكِبِ مَلْهُوزٍ فَقَالَ لهَا:
ضُرِّي الجُميْحَ ومُسِّيهِ بتعذيبِ
(٣) ولو أصابتْ، لقالتْ، وهي صادقةٌ
إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِ
(٤) يَأْبَى الذَّكاءُ ويَأبَى أنَّ شَيخَكُمُ
لَن يُعطِيَ الآنَ عن ضربٍ وتأديبِ
(٥) أما إذا حَرَدَتْ حَرْدِي فَمُجْرِيَةٌ
جَرْدَاءُ تَمْنَعُ غِيلًا غيرَ مَقْرُوبِ
(٦) وإن يَكُنْ حادِثٌ يُخْشَى فَذُو عِلَقٍ
تَظَلُّ تَزْبُرُهُ مِن خَشْيَةِ الذِّيبِ
(٧) فإنْ يَكُنْ أهلُها حَلُّوا على قِضةٍ
فإنِّ أهلي الأُلَى حَلُّوا بمَلْحُوبِ
(٨) لمَّا رأتْ إبِلي قَلَّتْ حَلُوبَتُها
وكلُّ عامٍ عليها عامُ تَجْنِيبِ
(٩) أَبْقَى الحوادثُ منها وهْي تَتْبعُها
والحقُّ صِرْمَة راعٍ غيرِ مغلوبِ
(١٠) كأنَّ راعِيَنَا يَحْدُو بها حُمُرًا
بَيْنَ الأبارِقِ مِن مَكْرَانَ فاللُّوبِ
(١١) فإنْ تَقَرِّي بِنَا عَيْنًا وتَخْتَفِضي
فِينَا وتَنتَظري كَرِّي وتَغْرِيبِي
(١٢) فَاقْنَي لعلَّكِ أَنْ تَحْظَيْ وتَحْتَلِبي
في سَحْبَلٍ مِن مُسُوكِ الضَّأْنِ مُنْجوبِ

يبدأ النص من نقطة انقطاع العلاقة فيما بين الشاعر و«أُمامَة»، وهي وإن كانت دومًا تعود لا تُغْني غناء الصَّبي الصغير إزاء ما يعترضها من حوادث، فقد أعْلت راية التمرد الكامل عليه، والانصراف عنه، والقطع المبين: «أمست أُمامَةُ صمتًا». لقد وُصِفَتْ «أُمامَة» بالمصدر عوضًا عن المشتق (صامتة) ليكون أدَل على ثبوت الصفة، فهي لم تنقطع عنه بُرهَةً، تتدللُ وتعود فتصفو، وإنما دخلت في سكون طويل. وكان قوله «ما تُكلِّمنا» في موضع الصفة كذلك، وهو وصفٌ لا يضيف جديدًا إلى الدلالة المحورية لفعلها؛ إذ هي صامتة، غير أنه يُعَيِّنُ هذا الصمت تجاهه، وهنا يحقق الوصف وظيفةً انفعاليَّة أكثر من كونه يحقق وظيفة تواصليَّة؛ إذ به يَسْتعظِمُ فِعْلَها، الذي يَغْدو «جُرْمَها».

ولعل الوصف على هذا النحو يُضْمِرُ حالات متكررة من مبادرات التقرُّب والتودُّد قُوْبِلَتْ جميعُها بالصمتِ والإعراضِ المصحوب بالتغضُّب. والفعل «أمسى» الذي يتصدر البيت يقدم هذا التحول عبر الزمن وما يكتنفه من غموض الدواعي والأسباب، أو على الأقل رفضها. إن حدث الرفض والانقطاع واستمرار الصمت يستغرق هنا وقت المساء، غير أنه لا يعيِّنُ مدى قربنا أو بعدنا عنه، وإن كان على كل حال يقرر هذا الانقطاع إلى الحال، إلى وقت السرد.

وهنا يبحث السارد في دواعي هذا الحدث، هذا التصرف، بحثًا عن علاقات سببيَّة أو عِلِّيَّة.١٣ «مجنونةٌ أم أَحَسَّتْ أهلَ خَرُّوب»؛ وَصْفُها بالجنون عِلَّة لا يسوغ بها الحدث، إنما سبيلٌ لأن ينكر عليها فِعْلها، فهو وصفٌ يمتد زمانه لتغطية الوقت الذي يجري فيه التحول، ويمتد أيضًا إلى ما قبله ليكون وصفًا لها على وجه اللزوم. ثم يكون تخمينه بحدثٍ، ربما رآه سببًا للإعراض: «أحَسَّتْ أهْلَ خَرُّوب». ورواية «مجنونةٌ» بالرفع على الاستئناف، كما يقول الشارح، كأنه بين حالين: مجنونةٌ أم أَحَست …؟ أيهما عَرَضَ لها فكانت كذلك؟ وروايتها بالفتح «مجنونةً» يجريها على الوصف، على نحو ما قبلها، وتصير «أمْ» بعدها منقطعة، ويكون قد عَدلَ بها الكلامُ عن الإخبار إلى الاستفهام على طريق التقريع.١٤
وهذا الحدث الذي قَدَّمه مُجْملًا:١٥ «أحَست أهل خَروب» سببٌ خَمنَ به صمتها وإعراضها، ويُقَدمُ له بعد ذلك السيناريو الخاص به، والمُخَمَّن أيضًا وقوعه، فيكون البيت الثاني وما ينبني عليه من الأبيات (٢–٤) عوامل تُوهِم بلقاءٍ تَمَّ بين «أُمامة» ورجل آخر: «راكب ملهوز»، هذا وصفه، رجلٌ يعلمه السارد تمامًا، وتعلمه على الأقل «أُمامة»، وربما يَعلمه بعض الآخرين، لعله أبوها أو أخوها أو أحد قومها. إنه أحدٌ من هؤلاء لا يراه الشاعر/السارد كُفئًا لها. وربما كان حبيبًا قديمًا غاله أن تكون لغيره «فأمرها بمُضارَّة زوجها وسوء عشرتها، ليتَبَرمَ بها فيُطلِّقها».١٦

والفعلان «أَمْست، مَرَّتَ ﺑ …» كلاهما يجعلنا نفترض أحداثًا أخرى ربما تخطَّاها السرد أو تخطى مثلها، فنعتقد بأن «أُمامة» كانت في سَفْرةٍ إلى أهْلِها، وهذه السَّفْرة نفسها يمكن لها أن تشكل لنا متواليات افتراضيَّة عِدَّة، منها أنها كانت في سَفَرٍ مُعْتادٍ لأهْلها، على افتراض أن «أهل خَرُّوب» هم قومها، أو أنها غَضِبَت لأمرٍ ما، ربما تبينُ الأبيات (٨–١٠) عن بعضه، أو أنها أُغْضِبَت فذهبت لقومها، وربما عادت هي من عندهم بعد فترة قصيرةٍ أو غير مُحَدَّدة، وربما أعادها قومها إليه … أمورٌ كثيرة في السرد تسمح لنا بها فجواته. ومما هو جديرٌ بالاهتمام أيضًا ما يرويه التبريزي؛ إذ يقول: «وحُكي عن أبي عمرو — أو غيره — أنه قال: لم يكن لما يُذكر من شأنها مع الجُمَيح، ومرورها براكب الملهوز، وإغوائه لها أصْلٌ، وإنما كانت افتقرت وأضاقت ورأت الجِدَة في غيرها متسعة، فحملها الحَسَدُ وما تعانيه من الضُّر على شبابها، واعتيادها الخفضَ والدعة، إلى إظهار الضجر والسُّخط، يدل على ذلك قوله:

لمَّا رَأَت إِبِلي قَلَّتْ حَلُوبَتُها
وكل عامٍ عليها عامُ تَجنيبِ».١٧

ويُقَدِّمُ السارد كلام راكب الملهوز في صيغة الخطاب المباشر، لتكون النبرةُ أكثر إيهامًا بصدوره تمامًا عن المتكلم، دونما وساطة من أحد.

وكما يضع الجُمَيح الكلام الذي يسوءه على لسان راكب الملهوز يجعل الرَّد الأبيَنَ الذي ينتصف له على لسان «أمامة». والجميح على بَيِّنةٍ بما قاله الرجل، أو يمكن أن يقوله، وهو ليس بحاجة لأن يحكي رَد أُمامة؛ إذ بانَ الرَّدُّ من فِعالها. إنها على كل حال لم تُجِب بما يُنْصِفُه أو يَرُد غيبته. ومن هنا جعل «الجميح» كلامه في الشطر الثاني من البيت الثالث مُوَجَّهًا في الظاهر إلى راكب الملهوز، ومُتوجِّهًا في الحقيقة إلى «أُمامة» ذاتها، على الرغم من أنه وُضِعَ على لسانها. ولكنه بدا كأنه الحقيقة التي تناستها أو تغافلت عنها. ويعود البيت الرابع ليفصل بين الجبهتين فعليًّا فيخاطبهما السارد معًا متحولًا في ذلك من السرد إلى الخطاب، وإلى مخاطبة الاثنين معًا على سبيل التوبيخ.

وعندما يستغرقُ الحوار البيتَ فإن زمن الحكاية حينئذٍ يكاد يتعادل مع زمن القصَّة (أو بتعبير آخر يتعادل زمن السرد مع زمن الفعل). ومن هنا فالزمن في الشطر الثاني في كُلٍّ من البيتَين الثاني والثالث هو زمن الحوار بين «أمُامة» وراكب الملهوز. وزمن الحكاية في البيت الرابع يماثل تمامًا زمن القصة وهو الزمن الذي يستغرقه خطاب السارد لكلٍّ من «أُمامة» وراكب الملهوز معًا. وما يقوله السارد حينئذٍ ينسحب من خلال الظرف «الآن» ليس على مجرد هذا الحاضر الواقع لحظة التكلُّم، وليس فقط ما يمتد أيضًا من لحظة التكلم إلى الماضي عندما أوقع راكب الملهوز بينه وبين زوجته بِنُصْحه المشئوم، إنما هو يمتد إلى لحظةٍ أبْعَد، غير محدَّدة، غير أنها تقترن — على كل حال — بِنُضجه وتَحَدُّدِ انتهائه في السن والعقل.

ولعله مما سبق يتبيَّن بعض منطق بناء النص؛ إذ بدأ بالسرد عن «أمُامة» وفِعالها تجاه السارد الذي يملكُ حينئذٍ إمكانيَّة التعليق على فعالها التي يَسْرُدها، ثم يَسْرُد عنها وعن راكب الملهوز في علاقتهما، وحينئذٍ يُفسَح المجال بعض الشيء لصوت شخصيَّة أخرى — خلافه — تُظْهِر كلامها، ويُسْمَعُ صوتها في النص، بل لا يكاد يتمثَّل حضورها، أو نحدد بعض معالمها إلا من خلال هذا المقول.

والنص الذي يقفز على رَد «أمامة» على راكب الملهوز يسجل إجمالًا اعتراضه على قولها بعامة، ويقترح إجابة أخرى يُؤَمِّلُ لو أنها كانت قد قالتها. إنه جوابٌ لم يقع، ولكنه حَدَثٌ يَوَد لو أنه كان.

ثم يتوجه السارد إليهما معًا ب (٤) بالرفض والإنكار، متحدثًا عن نفسه بما يوهم المغايرة، والانفصال عن المُتَحَدَّث عنه: «أن شيخكم لن يعطي …» ويعود النص بعد ذلك لِيَسْرُد ثانيةً عن «أُمامة» وكأن الحديث عنها لم ينقطع، لا يوهم بذلك الاتصال مجرد اتحاد الموضوع فقط، بل يُرْبَط السابقُ باللاحق ﺑ «أما». وهي هنا في هذا الموضع، على هذا النحو، ذات وضع مُشْكل بعض الشيء؛ إذ هي «حرف اختصاص» وأكثر ما يجيء مكررًا في تفصيل مهمات … وفي هذا الموضع ناب عن التكرار الشرطُ الذي صُدِّرَ به البيت الذي يليه، وهو قول: «وإن يكن حادث» فكأنه قال: وأما إذا حدثت حادثة فذو عِلَق. وعلى هذا النحو يفترضُ الشارح — ضِمنيًّا — قراءة البيت الخامس — نَحْويًّا — في ضوء البيت السادس، وهنا يتشعث السرد ويتشعث خطاب السارد المتوفز الذي يحكي عن نفسه، فتنفصم الجملة — تركيبيًّا — ويتقدم لاحقُها على سابقها، وبخاصَّة أن هذا اللاحق — البيت الخامس — هو ما يُقَدم أزمته الملازمة مع «أمامة». وربما غاب عن «أما» هنا ما هي تفصيلٌ له، أو أضحت للتوكيد.١٨ وحينئذٍ يُوْصَل سَرْدٌ انقطعَ، عبر تركيبٍ نحويٍّ يوهم الفصل والانقطاع. والبيت هنا يروي لمرَّةٍ واحدة ما حدث مرارًا وتكرارًا، ولا يمنع شيءٌ وقوعه في الحاضر أيضًا أو المستقبل.

وعند البيت الثامن يتبيَّن لنا ركنٌ رَكِين في بناء النص ودلالته؛ إذ تبدو الأبيات (٨–١٠) وحدة تم تأجيلها للنهاية، يعرض لنا من خلالها الأسباب العميقة التي تقف دليلًا لا يُدْفَع للتحول، والتفسير الأصيل الذي يقف خلف التخمينات والتفسيرات الفرعيَّة، ويجعل من فِعْل راكب الملهوز مجرد مؤجِّج لنار الضجر التي أضرمتها هذه الدواعي التي تقدمها الأبيات، التي تدور على ضيق العيش وتَحَوُّل الرخاء. وهي معلومات ذات ثقل موضوعي كبير في تحديد توجهات الشخوص ودواعي الأحداث يؤخرها النص للنهاية، ربما لنظل مشدودين بقوة إلى أسباب الحكي.

إن المتوالية السردية التي تشغل هذه الأبيات تقدم سوء العيش وتقدم أيضًا سوء تقديرها، وبُعْده عن أن يكون غير مُوَفقٍ فيما يتخذ من خطوات لتدبير أمور الحياة، فما ضيق العيش إلا لنازلةٍ ألَمَّت به، أو أداءً لواجب — كما يليق بكل الكرام «هبة لكفء، أو نحرًا لضيفٍ، أو منحةً لجار.»١٩ كما تقول الشروح. وتعامُل الشاعر مع الزمن يؤكد هذا المعنى؛ إذ التشكيل النحوي والسياقي للبيت الثامن يقدم لنا بيتًا يروي في الحاضر ما كان متكرر الحدوث في الماضي. وكذا قَدَّم البيت التاسع حدثًا بدأ في الماضي وظل مستمرَّ الحدوث إلى الحاضر، أو ظلت نتائجه للحاضر على ما آلت إليه عند أقرب لحظة في الماضي.

والمخطَّط يبيِّن كيف يتم وصف هذه الإبل بموصوفات تخلصُ عند «أمامة» إلى ضيق العيش في اللحظة التي تجعل مما لحق «الجميح» خارجًا عن دائرة سيطرته، أو واقعًا في حيز الواجب الأخلاقي الاجتماعي الذي لا يُتَغَافَل عنه:

والشراح يلتفتون إلى ترابط هذه الأبيات الثلاثة نحويًّا. يقول التبريزي: «وقوله: قَلَّتْ حلوبَتُها. في موضع الصفة لقوله «إبلي»، وكذلك كل جملة معطوفة عليها أو غير معطوفة، إلى آخر البيت الثالث، وهو قوله «من مُكْرانَ فاللُّوبِ».»٢٠ مع أخذ الصفة على معنى الوصف وإضافة صفات تحددها بقطع النظر عن الوظيفة النحويَّة.
والعجيب أن النص لا يطرح هذه الأبيات على أنها مؤلفة زمنيًّا وتركيبيًّا بحيث تأتي بالفعل — على نحو ما هي عليه — في النهاية، وإنما تبدو نحويًّا ومنطقيًّا كما لو كانت قد انتقلت من أوَّل النص إلى آخره. إنها تبدأ ﺑ «لَمَّا». ومن وجوه «لَمَّا» أنها «تختص بالماضي؛ فتقتضي جملتين وُجِدَتْ ثانيتُهما عند وجود أُوْلاهما … ويقال فيها: حرف وجود لوجود، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجود.»٢١ وهي في هذا الموضع — كما يقول الشارح — «عَلَمٌ للظرف … يفيد وقوع الشيء لوقوع غيره، ولذلك لم يكن له بُدٌّ من جواب، وجوابه هنا متقدِّمٌ، وهو ما صُدِّر به القصيدة.»٢٢ فجواب لما في الأبيات هو جملة «أَمْسَت» في البيت الأوَّل، لقد وُجِدَت الجملةُ حين وُجدَت الجملة الأولي (رأت …) وتقدمت الثانية على الأولى في السرد. ليبدأ السرد وكأنه يقدم حدثًا مقطوعًا عن دوافعه، منزوعًا عن مُسوِّغاته، أو بالأحرى آخر هذه الدوافع؛ إذ لم يعُد معنيًّا بارتباط المقدمات (لما رأت إبلي …) بالنتائج (أمست صمتًا …) قدر ما يعنيه التصرُّف ذاته، وإزاءه أيضًا‍! فأن تتغير امرأة لتغيُّر أحوال الرجل مألوف، لكن أن تتغير معه هو وتسلك هذا السلوك، فلا! ويصبح تقدير البناء على النحو السابق: لما رأت (أُمامَةُ) إبلي … ب (٨–١٠) ← أمست صمتًا … (١–٦)، (١١، ١٢). ولكن الأمر ليس على هذا النحو البسيط من النقل والتقديم والتأخير؛ إذ احتفظ الجواب الذي تَقَدَّم بالاسم العَلَم «أُمامَة»، في حين احتفظ التركيب بعد «لما» بالضمير الذي يحيل إليه.

والمخطط التالي يبين بَصَريَّا كيف يلتف النص حول أُمامة وكيف ينبني مُتقدِّمةً فيه بعض مكوناته ومتأخرةً أخرى، ومتفرِّعةً بعضها عن بعض:

وهنا يغدو النص محصلة قُوى تشعيثٍ يعمل بعضها على سَرْد الأحداث مسلسلةً مُتَّسِقةً نحويًّا وزمنيًّا، وهي قُوى تعمل بمنطق واضح مُرَتب، منطقي. وقوي أخرى تدفع بالمواقف الانفعاليَّة، والتهديدات ومجابهة الادعاءات إلى الصدارة.

أما الأبيات (١١، ١٢) فتقدم محاولة استرضائها، عبر مخاطبتها في حديثٍ مباشرٍ. وهنا يندرج زمن فعل الخطاب في الزمن الحاضر بالنسبة للنص، وهو الذي يندرج فيه أيضًا فعل السرد عن «أُمامة»؛ فالنص يروي عنها في الأبيات (١–١٠) ويخاطبها في الأبيات (١١، ١٢). وكلاهما في الحاضر الذي هو حاضر التكلم بالنسبة للسارد. وربما قُدِّرَ هذان البيتان أنهما مندرجان داخل المحكي السردي نفسه، على تقدير الفعل «قُلْتُ» قبلهما، بعَدِّهما مقولَ قَوْلٍ تكررت حكايته دونما أي تغيير، فَيُعَد حكايةً لخطابٍ مباشرٍ. وهنا يَنْدَرِجُ فِعلُ التلفُّظ بالبيتين في الماضي، فيدرجان داخل السَّرد عنها — عن «أُمامة» — على تقدير أن هذا الوعد والاسترضاء كان من فِعاله وأقواله معها.

(٤) وننتقل لنصٍّ آخر أكثر طُولًا وأكثر تعقيدًا على مستوى التعالُق الدِّلالي، يكشف أيضًا عن بعضٍ من تعامل السرد الشعري مع الزمن:

(١) يا عيدُ ما لَكَ مِن شَوْقٍ وإيرَاقِ
ومَرِّ طَيْفٍ علَى الأَهْوالِ طَرَّاقِ
(٢) يَسْرِي على الأيْنِ والحَيَّاتِ مُحْتَفِيًا
نَفْسِي فِداؤكَ مِن سَارٍ على سَاقِ
(٣) إني إذا خُلَّةٌ ضَنَّتْ بِنَائِلِها
وأَمْسكَت بضَعِيفِ الوَصْلِ أَحذَاقِ
(٤) نَجَوْتُ منها نَجَائي مِن «بَجِيلةَ» إذْ
أَلْقَيْتُ ليلةَ خَبْتِ «الرَّهْطِ» أَرْوَاقي
(٥) ليلةَ صاحُوا وأغْرَوْا بِي سِرَاعَهُمُ
«بِالعَيْكَتَيْنِ» لَدَى مَعْدَى «ابنِ بَرَّاقِ»
(٦) كَأنَّما حَثْحَثُوا حُصًّا قَوَادِمُه
أو أُمَّ خِشْفٍ بِذِي شَثٍّ وطُبَّاقِ
(٧) لا شيء أسَرعُ مِنِّي ليسَ ذا عُذَرِ
وذا جَناحٍ بِجنْبِ الرَّيدِ خَفَّاقِ
(٨) حتى نَجَوتُ ولمَّا ينْزِعُوا سَلَبي
بِوَالِهٍ مِن قَبِيضِ الشَّدِّ غَيْدَاقِ
(٩) ولا أقولُ إذا ما خُلَّةٌ صَرَمَتْ
يا وَيحَ نَفسِيَ مِن شَوقٍ وإشْفاقِ
(١٠) لكِنَّما عِوَلي إنْ كنْتُ ذا عِوَلٍ
علَى بَصِيرٍ بِكَسْبِ الحَمْدِ سَبَّاقِ
(١١) سَبَّاقِ غاياتِ مَجدٍ في عَشِيرَتِه
مُرَجِّعِ الصَّوتِ هَدًّا بينَ أَرْفَاقِ
(١٢) عارِي الظَّنَابِيبِ، مُمْتدٍّ نَوَاشِرُهُ
مِدْلاجِ أَدْهَمَ وَاهِي الماءِ غَسَّاقِ
(١٣) حَمَّالِ أَلْوِيةٍ، شَهَّادِ أَنْدِيةٍ
قَوَّالِ مُحْكَمَةٍ، جَوَّابِ آفاقِ
(١٤) فَذَاكَ هَمِّي وغَزْوِي أَسْتَغِيثُ به
إذا استَغَثْتَ بِضَافِي الرَّأْسِ نَغَّاقِ
(١٥) كالحِقْفِ حَدَّأَهُ النَّامُونَ قلتُ له:
ذُو ثَلَّتَيْنِ وذُو بَهْمٍ وأَرْبَاقِ
(١٦) وقُلَّةٍ كَسِنَانِ الرُّمْحِ بارِزَةٍ
ضَحْيَانَةٍ في شُهورِ الصَّيفِ مِحرَاقِ
(١٧) بادَرْتُ قُنَّتَهَا صَحْبِي ومَا كَسِلُوا
حتَّى نَمَيْتُ إليها بَعدَ إشْراقِ
(١٨) لا شيءَ في رَيْدِها إلَّا نَعَامتُهَا
منهَا هَزِيمٌ ومنها قائمٌ باقِ
(١٩) بِشَرْثَةٍ خَلَقٍ يُوقَى البَنَانُ بها
شدَدْتُ فيها سَرِيحًا بعدَ إطْرَاقِ
(٢٠) بَلْ من لِعَذَّالةٍ خَذَّالةٍ أَشِبٍ
حَرَّقَ باللَّومِ جِلدِي أَيَّ تَحْرَاقِ
(٢١) يقولُ أَهلكْتَ مالًا لو قَنِعْتَ به
مِن ثَوبِ صِدقٍ ومن بَزٍّ وأَعلاقِ
(٢٢) عاذِلَتي إِنَّ بعضَ اللَّومِ مَعْنَفَةٌ
وهَلْ متاعٌ وإنْ أبقَيْتُهُ باقِ
(٢٣) إِنِّي زَعِيمٌ لئِن لم تتركُوا عَذَلي
أَنْ يَسْألَ الحيُّ عنِّي أَهلَ آفاقِ
(٢٤) أَن يَسْألَ القومُ عني أَهلَ مَعْرِفَةٍ
فلا يُخَبِّرُهُمْ عنْ «ثابتٍ» لاقِ
(٢٥) سَدِّدْ خِلالَكَ من مالٍ تُجَمِّعهُ
حتَّى تُلاقِي الذي كلُّ امرئٍ لاقِ
(٢٦) لَتَقْرَعنَّ عليَّ السِّنَّ من نَدَمٍ
إذا تذكَّرتَ يومًا بعضَ أخْلاقِي
القصيدة كلها مقولٌ واحدٌ يعود إلى بؤرة واحدة هي الذات في سَرْدها عن نفسها وتأملها لأوصافها وسلوكها بما يجعلها سَرْدًا سِيَرِيًّا ذاتيًّا — على ما سنُبين بعد ذلك — وهذا السرد يأتي في إطار تَعَجُّبٍ وشكوى مما يعتادها من:
  • (١)

    شوقٍ وأَرَقٍ ومَرِّ طيفٍ وقطع وَصْلٍ: ب (١–٣)، (٩)

  • (٢)

    لوم العاذل وخُذْلانه: ب (٢٠–٢١)

وكل منهما بؤرة فَعَّالة في ضوئها يتخلَّق السرد الشعري في النص.

والطيف والعاذل هنا كِلاهُما تقليد فَنِّي يُتَّخَذُ غالبًا تَعِلَّةً للسرد عن أشياء مجاورة؛ فالطيفُ تعلةٌ للسرد عن الشوق والهجر والانبتات والحاجة للآخر؛ الأنثى غالبًا. والعاذل كثيرًا ما يكون مَدْعاةً للسرد عن الكرم وإنفاق المال، وتقديمه الخصال الكريمة والمحامدَ على المكاسب الماديَّة. وعلى هذا النحو لا يدين النص للتقاليد الكبرى في بناء القصيدة من حيث موضوعاتها المشهورة؛ كالأطلال والرحلة والغزل والسفر … إلا بهذين المحورين.

والنص ينداحُ عما يعتاد الذات من شوقٍ وإيراقٍ ومَرِّ طيفٍ وضنِّ الخُلَّةِ بنائلها وتَحْراق لوم العاذل. ويُعْطَفُ الأخيرُ على ما يعتاد الذات — مما ورد قَبْلًا على رواية الأنباري «بل مَنْ لعذالة» — فتكون «بل» للإضراب، ويغدو الإضراب هنا إضرابًا انتقاليًّا،٢٣ لا يلغى فيه الحكم السابق باعتياد الشوق والطيف والإيراق وإنما يثبت إلى جواره اعتياد لوم العاذل والعجز عن معالجته.

وإزاء هاتين البؤرتين يقف الشاعر متصديًا بِسَرْدٍ طويل يشكل جُل النَّصِّ. إزاء البؤرة الأولي يقف بسرده ابتداءً من البيت الثالث وحتى التاسع عشر. وإزاء الأخرى يقف بسرده ابتداءً من البيت الثاني والعشرين وحتى السادس والعشرين الذي تنتهي به القصيدة.

والمخطط التالي يبين تعالُقات النص وتفرُّعات السرد:

يمكننا تقسيم أزمنة النص الكبرى بحسب ترتيب أبيات النص على النحو الآتي:
  • (١)

    ب (١–٤) حال.

  • (٢)

    ب (٤–٨) ماض.

  • (٣)

    ب (٩–١٥) حال.

  • (٤)

    ب (١٦–١٩) ماض.

  • (٥)

    ب (٢٠–٢٤) ماض مستمر في الحاضر.

  • (٦)

    ب (٢٥، ٢٦) حال.

المنطلق الأساسي للنص هو «الحال» الذي هو حدث التَّعَجُّب والشكوى والضجر مما يلاقيه على نحو ما يبدو في ب (١)، ب (٢٠) لما فيها من نداء وشكوى.

هو زمن خطاب ما يعتاده من شوق ب (١)، وخطاب الطيف ب (٢)، وزمن الحديث عن النفس ب (٣). وهو كذلك زمن خطاب العاذلة والرد عليها في الأبيات (٢٥، ٢٦) وهنا نُفَرِّق بين زمن المقطع السردي وزمن الفعل السردي أو الخطابي ذاته.

فالأبيات (٢٥، ٢٦) مقطع ينتمي إلى «الحال» بما هو مقطع يمثل خطاب الذات/السارد للعاذلة، في حين ينتمى الفعل السرد نفسه في الشطر الأوَّل من ب (٢٥) إلى الحال ويستمر إلى المستقبل، أما الشطر الثاني فيقع الحدث فيه في إطار المستقبل. وكذلك حدثا ب (٢٦) حدثان في المستقبل أحدهما شرط لوقوع الآخر. وما خلاف ذلك في النص يندرج في حيز السرد.

ومن ثم يأتي زمن النص إجمالًا في الحاضر، ويعود من خلال بعض الاسترجاعات إلى الماضي، وتتضمن هذه الاسترجاعات الاستطرادات السردية التالية.

  • سردُه عن نجاته من «بُجَيْلة»

  • سرده عن ارتقائه قمة الجبل وبلوغه قُنَّتها.

  • سرده عن العاذلة وحديثها ورده عليها.

أما سرده عن هذا الفتي الذي يُعَول عليه فإنه يأتي بصيغة الحال. ويمثل الاستطراد السردي الأول مشاهد عدوه ونجاته من «بُجَيْلة» ب (٤–٨)، التي تُقَدَّم من خلال مُجْمَلٍ سَرْديٍّ يُقَدِّم موضوع السرد دونما تفاصيل أعمالٍ أو أقوالٍ: «إذ ألقيتُ ليلةَ خَبْتِ الرَّهْطِ أرواقي». ويُطْرَح هذا المُجْمَل عَبْر حركة استعاديَّة يعود فيها الزمن السردي للخلف ليحكي بعضًا من الوقائع القصصيَّة السابقة على لحظة الحكي، هذه الحركة الاستعاديَّة يتم تعميقها أكثر بتفاصيل تالية تُقَدِّمُ أقوالًا من نحو: «ليلة صاحوا – وأَغْرَوا بي سراعهم»، أو أعمالًا من نحو: «أغْرَوا – كأنما حثحثوا – [عدوتُ] لا شيء أسرعُ مِنِّي – لمَّا ينزعوا سَلَبي».

ويُقَدَّم مَشهد العَدْو في الأبيات من خلال:
  • مشهد غير مَجازِي التفت فيه القوم إليه وطاردوه ب (٥)

  • مشهد مجازي لسرعته ب (٦)

  • مشهد مجازي لعجز الآخرين عن طلبه واللحاق به ب (٧)

  • مشهد غير مجازي لنجاته ب (٨)

ويشتمل النص سَرْديًّا على قدْرٍ من «المُعْلِمات» و«المخبرات» بما يكفل، إلى جانب تعيين الشخوص وتحديد الموضوع، تحديدَ الزمان والمكان. إنه يُعين الفاعل السَّرْدي ممثلًا في «تأبَّط شَرًّا» المتحدث بالنص، الذي يُصَرِّح باسمه العَلَم في نهاية النص: «ثابت». وكذا يحدد من أغار عليهم: قبيلة «بُجَيْلة»، وكذا موضوع الفعل السردي: الإغارة والسلب. ويُحَدِّدُ المكانَ: خَبْتِ «الرَّهْط». فالرَّهْط: موضع، والخبت هو المنخفض من الأرض المستوي، أضافه إليه للتحديد والتعيين. ويتحددُ الزمانُ أيضًا بالمكان، فيتعين زمان هذه الغارة بالتواجد في المكان: «ليلة خَبْت الرَّهْط»، بل يتحدد أيضًا بالفعل: «إذ ألْقَيْتُ أرواقي» ﻓﺒ «إذ» الظرفية وما بعدها من فعل ماضٍ لفظًا ومعنًى يتعين الزمان في الماضي، ويعود النص لِيُحَدِّدَ هذه الليلة مَرَّة أخرى بالفعل، ولكنه هنا ليس فِعْله هو كما سبق في ب (٤)، وإنما بفعلهم (هُمْ): «ليلة صاحوا»، «ليلة أغروا بي سِراعَهُمُ». ويعود الفعل ليتعَين بالمكان: «بالعَيْكتين»، «لدى مَعْدَى بن بَرَّاق». والمكان الأخير يعود أيضًا ليتعين بالشخص: «ابن بَرَّاقِ»، وبفعله (عَدْوه). وعلى هذا النحو يُقَدَّمُ الحدث مرتكزًا على قوائم الزمان والمكان.

والنص مَعْنِيُّ ببيان هيئة هذا العدو وسرعة هذا الانفلات وذلك الفرار، ومن هنا يماثل بين عَدْوه وعَدْوِ الظَّلِيم الذي تناثر ريشُه، أو الظبيةِ أُمِّ ولدٍ رَعَت مَنْبِتَ الشثِّ والطباق، فقَوِيت وضَمَرت فكان أشدَّ لعدوها. ومدار المماثلة هنا على «السرعة»؛ إذ جعل النصُّ السُّرعة مشروطةً بدفع القوم الظليمَ أو الظبية؛ حالَ حثحثتهما.

وهنا يخرج الزمن عن قبضة التحديد، فقط يُتَصَوَّر في أدْنى حدودٍ يمكن للفعل أن يستغرقها. ولا يصبح الزمن فقط مؤطِّرًا للحدث، وإنما هو بعض الموضوع نفسه. فمدار «ألقيتُ أرواقي» أي استفرغت مجهودي في العَدْو، وكذا ما يُشَبه به من عدو الفرس أو عدو الطير الجارح؛ على محاصرة فكرة «السرعة» بوصفها موضوعًا للحدث. ولا يُثْبِتُ له النصُّ هذه السرعة المُلْفِتة في كل لحظة وحين، وإلا لما كان ثمة مزية في الموقف، ولما كانت نجاته عجيبةً أو شيئًا لافتًا. فتعلق الموقف على حثحثتهم وإغراء سراعهم.

وقد يحيل ظاهر التركيب في ب (٧) على إطلاق الزمن وإطلاق سرعته:

لا شيءَ أسرعُ مِنِّي ليسَ ذا عُذَرٍ
وذا جَناحٍ بِجنْبِ الرَّيْدِ خَفَّاقِ
ولكن سياق النص يَشُد العبارة إلى المشهد السابق ب (٥، ٦) فيقترن به هذا الإطلاق، ومن ثم يتقيد الزمن والسرعة بمطاردة بجيلة وفتيانها له. ولكن الشاعر جعل من سرعته وعدوه شيئًا فَذًّا عندما أعْرَض عن تفصيل مطاردة فتيان بجيلة له أو وصف عدوهم، واكتفى بالمقارنة مع «ذكر النَّعام، والظبية، والفرس، والطائر الجارح»، وهم بالأصالة نماذج عليا للعَدْو والسرعة. والقصة بكاملها تمثيلٌ رمزي يقدمه السارد ليتوصل في الظاهر إلى قيمة عليا واحدة هي «السرعة»، ومن هنا انتخب من الأحداث ما يُفضي إلى هذه الصفة، فلم يحدثنا مثلًا عن سبب غَزوِه «بُجَيْلة»، ولا ملابساته، ولا تفصيلاته التي ذكرتها كتب الأخبار والشروح.٢٤ هذه القيمة التي يتوصل إليها يعود ليمثل بها في فِراره ممن يخلف وعده معه ويضِنُّ بنواله. يقول التبريزي في معنى البيت: «إذا مَلَّتْني صديقةٌ لي، فصارت تنقض حبل الوصل بيني وبينها، وتنكث العهدَ الذي عليه عاهدتها، أطلقتُ نفسي من إسارها، وتخلصْتُ منها تَخَلُّصي من أعدائي بني بُجَيْلة، ليلة صارت بالمرصاد، تطلب على الماء الذي وردتُه حتفي، وتَجْهَدُ في أسري وأسر صَحْبي».٢٥ ويجعلنا تأبَّط شرًّا رغم إثباته هذه السرعة. مقدِّرين لعنائه ومجهوده. والبيت الثامن، كما يعبر عن نجاته، يعبر عن مُشارفة القوم الإمساكَ به، وإن لم يحدث، وهذا من خلال غرس ما يدعو إلى التناقض. ففي الوقت الذي يعبر به عما يقربه من الأسر والإيقاع به، يعبر بما يثبت شدة عَدْوه بما قد لا يدع مجالًا للإمساك به. ولعل هذه الحالة الشديدة التأزم وذلك الضيق يُبينان هذا المجهود المُسْتَفرَغ للنجاة؛ ففي الوقت الذي يُقِرُّ فيه بنجاته يعبر عن نفسه بوصفه مظفورًا به؛ ﻓ «لما» تُقَرِّبُ الفعلَ من المستقبل الذي لم يحدث. تقول الشروح إن الشاعر أتى ﺑ «لما» قبل الفعل «لأن فيه تقريبًا لحصول الفعل وإن لم يقع».٢٦ وكذا يُعَبرُ عن السلاح بالسَّلَب، ولم يُسْلَب «إطلاقًا بما كان يئُول إليه لو ظفروا به».٢٧ ويُقَدِّرُ الشراح قوله «بِوَالهٍ» على تقدير: «بعدوٍّ والهٍ» أو برجلٍ والهٍ من شِدَّة عدوه.٢٨ والتقدير الثاني يُجَسِّدُ به الشاعر من نفسه شخصًا آخر يتطابق معه، أو أنه يعبر عن نفسه كما يعبر عن الغائب. ويصبح قد نجا بَعْدَ أن جُنَّ جُنُونُه من شِدَّة عدوه، فهو يَعْدو عدوًا واسعًا «صاحبُه منخوب القلب، قد رمى بنفسه كُلَّ مَرمًى، فهو ذاهِلُ العقل».٢٩ ففضلًا عن بيان شِدَّة عدوه وحرْصه عليه يُقَدِّمُ فُقْدان عقله ثمنًا لنجاته، ثمنًا لاستعادته حياته.
وتقدم الأبيات (١٦–١٩) سَرْد تأبط شَرًّا عن قمة الجبل، تلك اﻟ «قُلَّة» البارزة كسِنان الرُّمح، لِدِقتها وطولها وخطرها، فلا يتعرض لها إلا موقنٌ بالقَتْل. لا تفارقها الشمس، تُحَرِّق المرتقي إليها في شهور الصيف لدُنُوِّها من قرنها. هذه القُلَّة التي يصفُ، يقرر صعودَه إليها، التجاءَه إلى قمتها؛ حيث لا أحد يكاد يصل إليها، فضلًا عن سبقه صحابه إليها وسرعته في اعتلائها دون بقية المتمرسين بذلك. تلك هي لُب الحكاية التي تسْرُدها الأبيات موصولةً بدواعي السرد عنها، أو بالأحرى بوظيفة وصف اﻟ «قُلَّة»؛ إذ يتم السرد عن الذات المرتقية من خلال السرد عن الشيء المُرْتَقَى. بمعنى تحويل «الفعل» إلى «وصف». بعبارة أخرى محاولة لتنحية «الوظيفيَّة» في السرد لصالح «القرينيَّة»، فَيدْرَج فعل «الارتقاء» بوصفه قرينة تصف «القُنَّة» أو «القُلة». وتُقَدَّم القُنَّة من خلال:
  • ملفوظ حالة:٣٠ «لا شيء في رَيْدها إلا نعامتها، منها هزيم ومنها قائمٌ باقِ»
  • وملفوظَي فعلٍ:٣١⋆⋆ «بادَرْت صَحْبي [إليها] وما كسِلُوا»

    : «نميتُ إليها بعد إشراق، بشرثةٍ خَلَقٍ يُوقَى البنَانُ بها شَدَدْت فيها سريحًا بعدَ إطْراقِ».

ويعود ملفوظا الفعل في النهاية — بالنسبة للقُنَّة — ملفوظَي حالةٍ؛ إذ يُقَدِّمان في التحليل الأخير «حالة» المفعول الدلالي (القُلَّة)، لا حالة الفاعل (السارد/تأبَّط شرًّا)

ففي الملفوظات السابقة:
  • سابَقَ أصحابه إلى القمة، فسبقهم، ولم يؤتوا عجزًا ولا كسلًا، وإنما هو حِرْصه على التقدم وسبقه إياهم إليها. إنه يجعلها الهدف والغاية في حين أن مدار الأمر لازم الهدف.

  • نما إلى القمة حيث لا أحد، حيث تكسرت خشبات الطلائع (١٨).٣٢⋆⋆⋆ فالمكان مُقْفِرٌ لا يأتيه أحد، وأنَّى لأحدٍ أن يعلو إلى هذا الموضع أو يبلغه إلا «تأبَّط شرًّا».
  • وأيضًا عَرَّج على وصف نعله (شرثةٍ – خَلَقٍ – يُوقَى البنان بها)؛ فهي ممزقة من شِدَّة عدوه، وأثر فِعاله، كذا لا اتساع فيها؛ إذ هي أقل القليل الذي يقي أقدمه بعض الشيء ويعينه على تسلق القمم، دون أن يعيقه عن شدَّة العدو. لقد شَدَّ فيها سريحًا فهي خلقة بالية، وفوق ذلك هو يتولى أعماله بنفسه، لا يوكلها إلى أحد، ليكون الإنجاز على الوجه الذي يرضى. يقول التبريزي: «وإنما تولى إصلاح نعله بنفسه دلالة على تبذُّلِه، وأنه جارٍ على عادة الصعاليك: يلزم القفْرَ، ويجانب الإنس، ويتولى كل عمل بنفسه، ولا يتَّكِل على غيره».٣٣
ويُتابَع في الأبيات (١٠–١٥) وصف هذا الفتى الذي يُعَوَّلُ عليه عند الشدائد ويُسْتغاث به، الذي هو كما يقول الشارح: «رجل يبادر نهايات المجد، فيحرز قَصَبات السبق، آمرًا وناهيًا فيما بين أصحابه وشيعته … لا يُهِمُّه بطنه، وإنما هَمُّه مصروف إلى كسب المحامد، ركَّاب للَّيل في [طلبه].٣٤ أشد ما يكون ظلمة ومشقة … لا يعرف التصوُّنَ والترفُّه، بل يتمرنُ بشدائد الأسفار».٣٥

إن مدار الأوصاف هنا بالفعل على الرجل الكامل، ولكنها تبدو صفات مقِيسة إلى فروسية الصعاليك — إن جاز التعبير — إذ تعود هذه المحامد على شخص هو أقرب لكونه «صعلوكًا»، فهو على نحو ما تبين سابقًا «عاري الظنابيب»، «ممتد النواشر» وهي أوصاف من أوصاف الصعاليك؛ إذ هي ما يلزم العَدَّاء ويتصف به في حياته وممارساته. هو أيضًا «مِدلاج أدْهَم واهي الماء غَسَّاق»، فلم يَرْضَ فقط بأن يكون كثير الإدْلاج في الليل حتى جعله مظلمًا شديد الظلمة مطيرًا.

والتبريزي الذي يُثبت «استغَثْتُ» بالضم يشرح البيت بما يوحي بصورة أقرب إلى ذلك. يقول: «والمعنى: إذ استغثتُ برجلٍ لا يعرف التصوُّنَ، والترفُّهَ، بل يَتَمرن بشدائد الأسفار ويتبذَّل فيها، فيكثر شعر رأسه، ويطول نعيقه في أثر الطرائد التي يسوقها. فذاك هَمِّي الذي أهتم له وأغتنمُ صُحْبَتَه».٣٦
ولا أتصور في هذه الأبيات أن هذا الفتى المستغاث به عند الشدائد، هذا المعوان على المصائب، هذا الفتى الذي يُتَحَزَّنُ، عليه؛ يَبْعُد عن أن يكون تأبَّط شَرًّا نفسه،٣٧ هذا الذي لا يُعَوِّلُ — حتى إن كان ذا عَولٍ — إلا على نفسه. فما أخلاق الصعاليك وفروسيتهم إلا كذلك، إنه يقوم في كل عملٍ بنفسه، ولا يتكِل على غيره، كما يقول التبريزي في شرح ب (١٩).

وعلى هذا أعود فأربط بين هذه الأوصاف المتجمعة حول هذا الرجل الكامل ب (١٠–١٥) وهذه الأبيات (١٦–١٩) في وصف «القُلَّة»، أربط بين كل ذلك والمصدر «عَولي»، بمعنى أن تصبح «قلة» ليست مجرورًا ﺑ «رُبَّ» وإنما معطوفة على «بصيرٍ» المجرورة بحرف الجر «على»، ليصبح أساس التركيب: «لكنما عِوَلي على بصيرٍ … وعلى قُلَّةٍ …»

وهنا لا يُعَوِّل تأبَّط شرًّا — إذا أعوزته الحاجة — إلا على نفسه، وعلى «قُلَّةٍ» يركن إليها بعيدًا عن الناس، لا يصلها أحد إلا هو.

ولعلنا نلحظ تناظُرًا بين مكونات الأبيات (١٦–١٩) والأبيات (١٠–١٥) وإذ «السعي» قاسم مشترك بين ب (١٠، ١١) والبيت (١٧). وكذلك غايات المجد والمحامد التي تُذْكَر في البيت (١١) تُجَسَّد من خلال القُلَّة والقُنَّة ب (١٦، ١٧)، إنها بعض تلك الآفاق «جَوَّاب آفاق» ب (١٣)، التي لم يصلها أحدٌ قبله «سبَّاق غايات مجدٍ» ب (١١). ولَمْ يُحَدَّد في حدث الارتقاء ومبادرة الصِّحاب إلى قُنَّة الجبل زمنُ الصعود، ولا مُدَّته، وما يُحَدَّدُ فقط هو زمن «النمو» إليها: «بعد إشراقِ» ولعله هو نَفْسُهُ زمن الصيد والطرائد وزمن مكاشفة العدو في الحروب والالتحام بهم. وفوق ذلك يرتبط الوصول بسطوع الشمس وغمر ضيائها الأشياء، يرتبط الوصول بهذا اليوم الجديد على الولادة الثانية، بهذا البعث الذي يتجدد كل يوم.

وليس الأمر مقصورًا فقط على هذه الأبيات التي يَسْرُدُ فيها عن نفسه بتصريح أو بتأولٍ، فَسَرْدُه أيضًا عن «الطيف» ب (١، ٢) هو سَرْدٌ عن صعلوك!

يا عِيدُ مالَكَ من شَوقٍ وإيراقِ
ومَرِّ طَيْفٍ على الأهْوالِ طَرَّاقِ
يسري على الأَيْنِ والحياتِ مُحتَفِيًا
نَفْسي فِداؤكَ مِن سارٍ على ساقِ
لن نتوقف كثيرًا عند «طَرَّاق» وبنائها على المبالغة (فَعَّال) من الإتيان ليلًا؛ إذ الطيف قرينُ الليل في كثير وإن لم يمتنع مجيئه نهارًا. لكن ما يتوجَّب الوقوف عنده هو هذا الوصف «مُحتفِيًا»، إننا أمام «طيفٍ حافٍ»! وأهوال تُجْمَل في البيت الأوَّل، ويُذكر بعضها في البيت الثاني: «الأينِ والحيَّات».٣٨ ويُفَسَّر الأينُ بالإعياء كما يُفَسَّر ﺑ «الجانِّ من الحيات»، الذي يكون قد ذكره هنا على الرغم من اشتمال قول «الحيات» على أجناسها كلِّها؛ تخصيصًا إياه بالذكر على طريق التهويل إذ الجانُّ أخبثها.٣٩
وعندما يفتدي الشاعرُ الطيفَ الذي يطرقه يومئ كذلك للحفاة الرَّجالة، وهو ما يُسْتفاد من تفسير كلمة «ساق» في قوله: «نَفْسي فداؤُكَ من سارٍ على ساقِ» إذ محتملٌ أن يكون المراد ﺑ «الساق»: الشِّدَّة، ﻓ «يكون معنى البيت: يسري هذا الخيال – على ما يعرض له من تعب وإعياء ووطء حيات – حافيًا، ثم التفت إليه فقال: تفديك نفسي من سارٍ على شِدَّة. ويجوز أن يكون المراد بالساق: واحد الأسْوُق؛ لأنه كما قال «يسرِي»، وصَفَه بما يوصف به ذو الساق، ويكون المرادُ به الجنس. والمعنى: تفديك نفسي من سارٍ على قدمٍ، والمعنى: من الناس كلِّهم. ويجوز أن يقصد بالكلام إلى الحُفاة الرَّجالة خاصَّةً دون الركبان، لقوله «مُحتَفِيًا»، وهو الذي لا حذاء عليه».٤٠

وعلى هذا النحو استخدم «تأبَّط شَرًّا» «الطيفَ» — الذي هو تقليدٌ فَني — أداةً غير شفافةٍ للسَّردِ عن بعض قيم الصعلوك الحافي المخاطِر وملامحه.

وعلى هذا النحو تغدو القصيدة سَرْدًا سِيريًّا ذاتيًّا، وبخاصة عندما يمهرُ «تأبَّط شَرًّا» قصيدته في البيت (٢٤) باسمه:

إنِّي زعيم لئِن لم تتركوا عَذَلي
أن يَسْأَلَ الحَيُّ عنِّي أهلَ آفاقِ
أن يَسْألَ القومُ عنِّي أهْلَ مَعرِفةٍ
فلا يُخَبِّرُهُمْ عن «ثابتٍ» لاقِ

هنا تتحول — صراحةً — هذه الأنا الكتابيَّة التي تتحرك في النص من أنا المؤلف الضمني لتَتَماهى مع أنا المؤلف الحقيقي «ثابت بن جابر بن سفيان بن عَدِيٍّ» الملقب ﺑ «تأبَّط شَرًّا». بعبارة أخرى تتطابق الشخصيَّة مع السارد مع المؤلف الذي يقترن النص به بوصفه مؤلفًا له، ويَبْسُط اسمه داخله أيضًا بوصفه السارد وأيضًا الشخصية المسرود عنها. إنه يمهرُ سَرْده عن ذاته باسمه العَلَم لئلا تذهب هذه الأوصاف التي تتقرر في الهواء، لئلا يُذَوِّبَ التخييل هذه الشخصيات التي يَسْرُدُ عنها في شخصيات أخرى عبر القراءات اللانهائية للمتلقِّين. إن «تأبَّط شَرًّا». يُثبِّتُ سَرْدَه بذاته الشخصية عبر «أنا» السارد الذي يحكي عن نفسه.

وهنا لم يكن استعمال ضمير المتكلم دومًا هو الشرط الوحيد لتطابق السارد مع الشخصيَّة؛ إذ وقَعَ هذا التطابق أيضًا بعيدًا عن ضمير المتكلم، وعبر ضمير الغائب ب (١٠–١٥) إذ أحالَ سياقُ النص ومنظومة قيم العالم الذي يَسْرُد «تأبَّط شَرًّا» عنه، وتأويل الباحث للنص؛ أحال كل ذلك إلى تمييز تطابق إحالة ضمير الغائب في الأبيات (١٠–١٥) مع إحالة ضمير المتكلم في سائر النص.

وربما كان ميثاق هذا السرد عن الذات جليًّا عن بعضهم من البيت الأوَّل، باعتبار جنس الشكل الكتابي — الذي هو الشعر — ولكن التقرير الصريح له في نهايات النص يجعل كُلَّ تأويلٍ للشخصيَّة يمر عبر المؤلف الحقيقي للنص — تأبَّط شَرًّا — الذي هو السارد نفسه.

ويتعين التشكيل الزمني للأبيات (١٠–١٥) عبر متابعة اثنتي عشرة صيغة من المشتقات بين «اسم فاعل وصفة مشبهة واسم مفعول وصيغة مبالغة ومصدر»، عن هذه الصيغ يصدُرُ زمن أوصاف هذا الفتى، وهو ما يشير إلى زمن الدلالة المطابقة لها من الفعل. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المشتقات، التي هي مشبهات أفعال، لا تحمل الزمان في بِنيتها الصرفية، وإنما تحمله في سياقها النحوي.٤١

والزمن هنا إجمالًا هو زمن الحال الذي هو زمن السرد، زمن التحدث، أما زمن أوصاف هذا المسرود عنه فيختلط بين الحال والماضي المستمر إلى الحال، سواء أكان متقطعًا لإفادة التكرار والحدوث أم مستمرًّا لإفادة الثبوت.

فقوله «عاري الظنابيب» الصفة المشبهة فيه دالةٌ — زمنيًّا — على أمرٍ مستقر ثابتٍ متصل بحال الإخبار، حال السرد؛ إذ «الظنابيب جمع ظنبوب. وهي حرف عظم الساق. والعرب تمدحُ الهُزال وتهجو السِّمَن … وقوله: «عاري الظنابيب» يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد تعرِّيه من اللحم، والثاني أن يريد أنه مُشَمَّرُ الثياب».٤٢ ومن ثَم تجعل الصفةُ المشبهةُ قِلَّة اللحم والشحم في أقدامِهِ صفةً لازمةً له، وكذلك تحكم على تشميره ثيابه وإطلاق رجليه للريح استفراغًا لمجهوده في العدو.

وربما عُدَّ المشتق «عاري» على هذا المعنى الأخير من قبيل اسم الفاعل لا الصفة المشبهة. ولكن الصيغة حينئذٍ ستظل توحي سياقيًّا بالحال المستمر.

وكما يتردد الوصف: «عاري الظنابيب» بين الصفة المشبهة واسم الفاعل يتردد وصفه «ممتدٍّ نواشرُه» بين الصفة المشبهة واسم المفعول. إذ «النواشر: عروق ظاهر الذراع، الواحدة: ناشرة … وقوله «ممتد النواشر» يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن يريد قلة اللحم على الذراع حتى تظهر العروق، والثاني: أن يريد بامتدادها طولَ الذراع، واستكمالَ الأعضاءِ؛ لأن النواشر تمتد بطولها».٤٣ فالوصف دالٌّ زمنيًّا على الثبوت، من حيث هو صفة مشبهة، ودال على الحدوث في الحال من حيث هو اسم مفعول؛ إذ قلةُ اللحم في الذراع مما هو عُرْضه للتغيُّر. أما اسم الفاعل «مُرَجِّع الصَّوت» فيشير — زمنيًّا — إلى الحال والاستمرار، فهو لا يفتأ يصيح بأصحابه آمرًا ناهيًا. ووصفه بكونه «هَدًّا بين أَرْفاقِ» المشتق فيه مصدرٌ وقع حالًا، وهي صيغة تثبت الوصفَ دونما تقييد بزمان خاص؛ إذ لم تَقُم قرينةٌ على تخصيصه، ومن هنا صار ثابتًا في جميع الأزمنة ولزمَ ثبوتُه — قولًا واحدًا — على الأقل وقت الحديث، وقت السرد.
أما تعبيره بصيغة المبالغة «فَعَّال» من نحو: «سَبَّاق»، «سَبَّاقِ غاياتِ مَجْدٍ في عشيرتِهِ»، «حَمَّال ألوية»، «شَهَّاد أَنْديةٍ»، قَوَّال مُحْكَمَةٍ، «جَوَّاب آفاقِ»؛ فإنه يقتضي — زمنيًّا — تكرر الحدث واستمراره، وكذا صيغة «فَعِيل»: «بصيرٍ بكسْبِ الحَمْد». وتبدو في صيغة «مِفْعال» في قوله «مِدْلاج أدْهم واهي الماء غَسَّاقِ» دلالة الماضي المستمر للحاضر. يقول الفارابي: «إن مفعالًا يكون لمن دام منه الشيء أو جرى على عادة فيه.»٤٤ وبعامة يحيلنا سياق القصيدة ودلالة الأبيات إجمالًا وسياقها إلى عَدِّ زمن هذه الأوصاف هو الماضي المستمر إلى الحاضر، وبما لا يمنع جريانها أيضًا في المستقبل.
١  انظر: رولان بارت: التحليل البنيوي للسرد، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي (دراسات)، لمجموعة مؤلفين، سلسلة ملفات، منشورات اتحاد كُتاب المغرب، الرباط، ط١، ١٩٩٢م، ص١٧، ١٩.
انظر: جيرالد بيرنس، قاموس السرديات، ترجمة: السيد إمام، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، ط١، ٢٠٠٣م، ص٢٩.
٢  سارديَّة Narrativity: مجموعة الخصائص التي تصف السرد narrative، وتميزه عما ليس كذلك، أو هي الملامح الشكلية والسياقيَّة التي تجعل من السرد سَرْدًا.
انظر: جيرالد بيرنس، ص١٣٢.
٣  روبرت شولز، السيمياء والتأويل، ترجمة: سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط١، ١٩٩٤م، ص١١٠، ١١١.
٤  تزفيتان تودروف، الشعرية، ص٦٠ وما بعدها.
٥  جيرار جنيت، خطاب الحكاية، ص٤٧.
٦  انظر: السابق، ص٥٨ وما بعدها.
٧  الزجاجي، الإيضاح في علل النحو، تحقيق: د. مازن المبارك، دار النفائس، ط٦، ١٤١٦ﻫ/١٩٩٦م، ص٨٧.
٨  مريم فرنسيس، في بناء النص ودلالته (محاور الإحالة الكلاميَّة)، وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٩٨م، ص١٩.
٩  انظر: علي توفيق الحمد، يوسف جميل الزعبي، ص٢٢٠.
١٠  التبريزي، ١: ١٤٣ وما بعدها.
١١  السابق، ١: ١٥٠.
١٢  السابق، ١: ١٤٩.
١٣  يُعَدُّ الحدث ح١ عِلَّة cause للحدث ح٢ إذا كان ح١ يُوْجد الظروفَ الضروريَّة لحدوث ح٢.
ويُعَد الحدث ح١ سببًا reason للحدث ح٢ إذا كان فاعل ح٢ أو مُوْجِدُه قد استجاب عقليًّا للحدث ح١.
انظر: روبرت دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، ترجمة: د. تمام حَسَّان، عالم الكتب، القاهرة، ط١، ١٤١٨ﻫ/١٩٩٨م، ص٢٠٩.
١٤  التبريزي، ١: ١٥٢.
١٥  المُجْمَل أو التلخيص summary: يمثل أحد سرعات السَّرد؛ حيث يكون زمن الحكاية أقل كثيرًا من زمن القصة؛ حيث يُقَدَّم السَّرْد غالبًا دون تفاصيل أعمال أو أقوال. انظر: جيرار جنيت، خطاب الحكاية، ص١٠٩–١١١؛ جيرالد برنس، ص١٩٣.
١٦  السابق، ١: ١٥٣.
١٧  السابق، ١: ١٥٨ وما بعدها.
١٨  نقل ابن هشام عن الزمخشري قوله: فائدة «أما» في الكلام أن تُعطيه فضل توكيد، تقول زيدٌ ذاهب، فإذا قَصَدْتَ توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة، قلت: أما زيْدٌ فذاهبٌ. ولذلك قال سيبويه في تفسيره: «مهما يكن من شيء فزَيدٌ ذاهب».
انظر: ابن هشام، مُغْني اللبيب، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، ١٤١١ﻫ/١٩٩١م، ١: ٦٩.
١٩  التبريزي، ١: ١٦٠.
٢٠  التبريزي، ١: ١٥٩.
٢١  ابن هشام، ١: ٣٠٩.
٢٢  التبريزي، ١: ١٥٩.
٢٣  الإضراب في «بل» إضراب انتقالي وإضراب إبطالي، والأخير يفيد نفي الحكم السابق قبل «بل» أو تكذيبه ثم الإتيان بحكمٍ جديد. انظر: علي توفيق الحمد، يوسف جميل الزعبي، المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص١١٥ وما بعدها.
٢٤  انظر: التبريزي، ١: ١٠٦–١٠٨.
انظر: الأصفهاني، ٢٣: ٨٣٣٠–٨٣٣٣.
انظر: البغدادي، خزانة الأدب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ٣: ٣٤٤ وما بعدها.
٢٥  التبريزي، ١: ١٠٥.
٢٦  التبريزي، ١: ١١٦.
٢٧  السابق، نفسه.
٢٨  نفسه.
٢٩  نفسه.
٣٠  ملفوظ حالة Statis statement: ملفوظ سردي narrative statement في صيغة «يكون»، ملفوظ يقدِّم حالة state، أو على نحو أكثر تحديدًا، تأسيس وجود الكينونات بتعيينها أو وصفها.
٣١  ⋆⋆ ملفوظ فعل process statement: ملفوظ سردي في صيغة «يفعل» أو «يحدث». ملفوظ يقدم حَدَثًا، وبالأخَصِّ «عمل act» أو حدث عارض happening وملفوظَا الفعل والحالة نمطَا تقديمِ الخطاب للقصة story عند تشاتمان. انظر: قاموس السرديات، ص١٥٨، ١٨٥.
٣٢  ⋆⋆⋆ «لا شيء في رَيْدها إلا نعامتها»، إذ النعامة: ظُلَّة أو عَلَمٌ يُتَّخَذُ من خشب، ربما اسْتُظِلَّ به، وربما اهتُدِي به.
انظر: التبريزي، ١: ١٢٧.
انظر: تاج العروس، مادة «نعم».
٣٣  التبريزي، ١: ١٣٠.
٣٤  في الأصل «طلبها» ومعها لا يَسْلُسُ لنا المعنى ولا يستقيم.
٣٥  التبريزي، ١: ١١٩–١٢٣. واختار الباحث الرواية التي تضبط التاء في «استغثت» ب (١٤) بالفتح، وهي إحدى روايتَي المرزوقي، وإحدى نُسَخ شرح التبريزي، وهي ما اختارها محققا المُفَضليات؛ شاكر وهارون دون غيرها. والمعنى عليها أجود وأبلغ؛ فهو يستغيث بهذا الفتى الذي هذا وصفه إذا استغثت أنت — أو استغاث الآخرون — بمثل هذا الراعي، الذي لا علاقة له بالحرب البتة.
٣٦  التبريزي، ج١، ص١٢٣.
٣٧  يلمس هذا التقارب الأخير أيضًا د. حسن البنا عز الدين، في ثنايا تحليله للطيف في النص، عندما يقول: «يقدم الشاعر صورة للبطل الذي يُعَوَّلُ عليه في حل المشكلة. والصورة مثاليَّة حقًّا، ولكنها تقترب كثيرًا من الشاعر المخاطر في صورة الطيف والناجي بنفسه من أسر بجيلة».
انظر: د. حسن البنا عز الدين، الطيف والخيال في الشعر العربي القديم، ص١٣٧.
٣٨  يقول الشريف المرتضى: «وقد تَعَجَّب الشعراءُ كثيرًا من زيارة الطيف على بُعدِ الدار وشَحْطِ المزار، وَوَعْرَةِ الطُّرُق، واشتباهِ السُّبُلِ؛ واهتدائه إلى المضاجع من غير هادٍ يُرشِده، وعاضدٍ يَعْضُدُه؛ وكيف قطَعَ بَعيدَ المسافةِ بلا حافر ولا خُفٍّ، في أقرب مُدَّة وأسرع زمان، لأنَّ الشعراءَ فَرَضَتْ أن زيارة الطيف حقيقة، وأنها في النوم كاليقظة، فلا بُدَّ مع ذلك من العجب مما تعجبوا منه من طيِّ البعيد بغير رِكاب، وَجَوْبِ البلاد بلا صِحاب».
انظر: الشريف المُرْتضى، طيف الخيال، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، مراجعة: إبراهيم الإبياري، سلسلة تراثنا، نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مطبوعات دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط١، ١٣٨١ﻫ/١٩٦٢م، ص٦.
٣٩  التبريزي، ١: ٩٩.
٤٠  السابق، ١: ١٠٠ وما بعدها.
٤١  انظر: د. محمد عبد الرحمن الريحاني، اتجاهات التحليل الزمني في الدراسات اللغوية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٨م، ص١٣٥.
٤٢  التبريزي، ١: ١١٩.
٤٣  السابق، ١: ١١٩–١٢١.
٤٤  الفارابي، ديوان الأدب، تحقيق: د. أحمد مختار عمر، نشر: مجمع اللغة العربية، القاهرة، ١٩٧٤م، ١: ٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤